وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا بأن نوفقه للعمل بها ، فيرتفع في الدنيا والآخرة ، فيتحصن من أعدائه . وَلَكِنَّهُ فعل ما يقتضي الخذلان ، فَأَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ ، أي : إلى الشهوات السفلية ، والمقاصد الدنيوية . وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وترك طاعة مولاه ، فَمَثَلُهُ في شدة حرصه على الدنيا وانقطاع قلبه إليها ، كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ أي : لا يزال لاهثا في كل حال ، وهذا لا يزال حريصا ، حرصا قاطعا قلبه ، لا يسد فاقته شيء من الدنيا .
ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا بعد أن ساقها اللّه إليهم ، فلم ينقادوا لها ، بل كذبوا بها وردوها ، لهوانهم على اللّه ، واتباعهم لأهوائهم ، بغير هدى من اللّه .
فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ في ضرب الأمثال ، وفي العبر والآيات ، فإذا تفكروا علموا ، وإذا علموا عملوا .
وقوله تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } يقول تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } أي : لرفعناه من التدنس عن{[12393]} قاذورات الدنيا بالآيات التي آتيناه إياها ، { وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ } أي : مال إلى زينة الدنيا وزهرتها ، وأقبل على لذاتها ونعيمها ، وغرّته كما غرت غيره من غير أولي البصائر{[12394]} والنهى .
وقال أبو الزاهرية في قوله تعالى : { وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ } قال : تراءى له الشيطان على غَلْوة من قنطرة بانياس ، فسجدت الحمارة لله ، وسجد بلعام للشيطان . وكذا قال عبد الرحمن بن جُبَيْر بن نُفَير ، وغير واحد .
وقوله تعالى : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ } اختلف المفسرون في معناه{[12395]} فأما على سياق ابن إسحاق ، عن سالم بن أبي النضر : أن بلعاما اندلع لسانه على صدره - فتشبيهه بالكلب في لهثه{[12396]} في كلتا حالتيه إن زجر وإن ترك . وقيل : معناه : فصار مثله في ضلاله واستمراره فيه ، وعدم انتفاعه بالدعاء إلى الإيمان وعدم الدعاء ، كالكلب في لهثه{[12397]} في حالتيه ، إن حملت عليه وإن تركته ، هو يلهث في الحالين ، فكذلك هذا لا ينتفع بالموعظة والدعوة إلى الإيمان ولا عدمه ؛ كما قال تعالى : { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 6 ] ، { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } [ التوبة : 80 ] ونحو ذلك .
وقيل : معناه : أن قلب الكافر والمنافق والضال ، ضعيف فارغ من الهدى ، فهو كثير الوجيب{[12398]} فعبر عن هذا بهذا ، نقل نحوه عن الحسن البصري وغيره .
وقوله تعالى : { فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ } أي : لعل بني إسرائيل العالمين بحال بلعام ، وما جرى له في إضلال الله إياه وإبعاده من رحمته ، بسبب أنه استعمل نعمة الله عليه - في تعليمه الاسم الأعظم الذي إذا سئل به أعطى ، وإذا دعي به أجاب - في غير طاعة ربه ، بل دعا به على حزب الرحمن ، وشعب الإيمان ، أتباع عبده ورسوله في ذلك الزمان ، كليم الله موسى بن عمران ، [ عليه السلام ]{[12399]} ؛ ولهذا قال : { لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } أي : فيحذروا أن يكونوا مثله ؛ فإن الله قد أعطاهم علمًا ، وميزهم على من عداهم من الأعراب ، وجعل بأيديهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم يعرفونها كما يعرفون أبناءهم ، فهم أحق الناس وأولاهم باتباعه ومناصرته ومؤازرته ، كما أخبرتهم أنبياؤهم بذلك وأمرتهم به ؛ ولهذا من خالف منهم ما في كتابه وكتمه فلم يعلم به العباد ، أحل الله به ذلا في الدنيا موصولا بذل الآخرة .
يقول الله عز وجل : { ولو شئنا لرفعناه } قالت فرقة معناه لأخذناه كما تقول رفع الظالم إذا هلك ، والضمير في : { بها } عائد على المعصية في الانسلاخ وابتدأ وصف حاله بقوله تعالى : { ولكنه أخلد إلى الأرض } فهي عبارة عن إمهاله وإملاء الله له ، وقال ابن أبي نجيح { لرفعناه } معناه لتوفيناه قبل أن يقع في المعصية ورفعناه عنها ، والضمير على هذا عائد على الآيات ، ثم ابتدأ وصف حاله ، وقال ابن عباس وجماعة معه معنى { لرفعناه } أي لشرفنا ذكره ورفعنا منزلته لدينا بهذه الآيات التي آتيناه ، { ولكنه أخلد إلى الأرض } فالكلام متصل ، ذكر فيه السبب الذي من أجله لم يرفع ولم يشرف كما فعل بغيره ، ممن أوتي هدى . و { أخلد } معناه لازم وتقاعس وثبت ، والمخلد الذي يثبت شبابه فلا يغشاه الشيب ومنه الخلد ، ومنه قول زهير : [ الكامل ]
لمن الديار غشيتها بالفدفد*** كالوحي في حجر المسيل المخلد
وقوله : { إلى الأرض } يحتمل أن يرد إلى شهواتنا ولذاتها وما فيها من الملاذ ، قاله السدي وغيره ، ويحتمل أن يريد بها العبارة عن الأسفل والأخس كما يقال فلان في الحضيض ، ويتأيد ذلك من جهة المعنى المعقول وذلك أن الأرض وما ارتكز فيها هي الدنيا وكل ما عليها فان ، من أخلد إليه فقد حرم حظ الآخرة الباقية ، وقوله : { فمثله كمثل الكلب } قال السدي وغيره : إن هذا الرجل عوقب في الدنيا بأنه يلهث كما يلهث الكلب فشبه به صورة وهيئة ، وقال الجمهور إنما شبه به في أنه كان ضالاً قبل أن يؤتى الآيات ثم أوتيها فكان أيضاً ضالاً لم تنفعه ، فهو كالكلب في أنه لا يفارق اللهث في حال حمل المشقة عليه ، وتركه دون حمل عليه ، وتحرير المعنى فالشيء الذي تتصوره النفوس من حاله هو كالذي تتصور من حال الكلب ، وبهذا التقدير يحسن دخول الكاف على «مثل » ، واللهث تنفس بسرعة وتحرك أعضاء الفم معه وامتداد اللسان ، وأكثر ما يعتري ذلك مع الحر والتعب ، وهو في الفرس : ضبح ، وخلقة الكلب أنه يلهث على كل حال ، وذكر الطبري أن معنى { إن تحمل عليه } أي تطرده وحكاه عن مجاهد وابن عباس .
قال القاضي أبو محمد : وذلك داخل ي جملة المشقة التي ذكرنا ، وقوله : { ذلك مثل القوم } أي هذا المثل يا محمد مثل هؤلاء القوم الذين كانوا ضالين قبل أن تأتيهم بالهدى والرسالة ثم جئتهم بذلك فبقوا على ضلالتهم ولم ينتفعوا بذلك ، فمثلهم كمثل الكلب ، وقوله : { فاقصص القصص } أي اسرد ما يعلمون أنه من الغيوب التي لا يعلمها إلا أهل الكتب الماضية ولست منهم { لعلهم يتفكرون } في ذلك فيؤمنون .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.