تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{قَدۡ كَانَ لَكُمۡ ءَايَةٞ فِي فِئَتَيۡنِ ٱلۡتَقَتَاۖ فِئَةٞ تُقَٰتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخۡرَىٰ كَافِرَةٞ يَرَوۡنَهُم مِّثۡلَيۡهِمۡ رَأۡيَ ٱلۡعَيۡنِۚ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصۡرِهِۦ مَن يَشَآءُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبۡرَةٗ لِّأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ} (13)

{ قد كان لكم آية } أي : عبرة عظيمة { في فئتين التقتا } وهذا يوم بدر { فئة تقاتل في سبيل الله } وهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه { وأخرى كافرة } أي : كفار قريش الذين خرجوا من ديارهم بطرا وفخرا ورئاء الناس ، ويصدون عن سبيل الله ، فجمع الله بين الطائفتين في بدر ، وكان المشركون أضعاف المؤمنين ، فلهذا قال { يرونهم مثليهم رأي العين } أي : يرى المؤمنون الكافرين يزيدون عليها زيادة كثيرة ، تبلغ المضاعفة وتزيد عليها ، وأكد هذا بقوله { رأي العين } فنصر الله المؤمنين وأيدهم بنصره فهزموهم ، وقتلوا صناديدهم ، وأسروا كثيرا منهم ، وما ذاك إلا لأن الله ناصر من نصره ، وخاذل من كفر به ، ففي هذا عبرة لأولي الأبصار ، أي : أصحاب البصائر النافذة والعقول الكاملة ، على أن الطائفة المنصورة معها الحق ، والأخرى مبطلة ، وإلا فلو نظر الناظر إلى مجرد الأسباب الظاهرة والعدد والعدد لجزم بأن غلبة هذه الفئة القليلة لتلك الفئة الكثيرة من أنواع المحالات ، ولكن وراء هذا السبب المشاهد بالأبصار سبب أعظم منه لا يدركه إلا أهل البصائر والإيمان بالله والتوكل على الله والثقة بكفايته ، وهو نصره وإعزازه لعباده المؤمنين على أعدائه الكافرين .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قَدۡ كَانَ لَكُمۡ ءَايَةٞ فِي فِئَتَيۡنِ ٱلۡتَقَتَاۖ فِئَةٞ تُقَٰتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخۡرَىٰ كَافِرَةٞ يَرَوۡنَهُم مِّثۡلَيۡهِمۡ رَأۡيَ ٱلۡعَيۡنِۚ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصۡرِهِۦ مَن يَشَآءُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبۡرَةٗ لِّأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ} (13)

أي : قد كان لكم - أيها اليهود القائلون ما قلتم - { آيَةٌ } أي : دلالة على أن الله معز دينه ، وناصر رسوله ، ومظهر كلمته ، ومعل أمره { فِي فِئَتَيْنِ } أي : طائفتين { الْتَقَتَا } أي : للقتال { فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وهم المسلمون ، { وَأُخْرَى كَافِرَةٌ } وهم مشركو قريش يوم بدر .

وقوله : { يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ } قال بعض العلماء - فيما حكاه ابن جرير : يرى المشركون يوم بدر المسلمين مثليهم في العدد رأي أعينهم ، أي : جعل الله ذلك فيما رأوه سببًا لنصرة الإسلام عليهم . وهذا لا إشكال عليه إلا من جهة واحدة ، وهي أن المشركين بعثوا عمر بن سعد يومئذ قبل القتال يحزر{[4838]} لهم المسلمين ، فأخبرهم بأنهم ثلاثمائة ، يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا . وهكذا كان الأمر ، كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ثم لما وقع القتال أمدّهم الله بألف من خواص الملائكة وساداتهم .

والقول الثاني : " أن المعنى في قوله : { يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ } أي : ترى الفئة المسلمة الفئة الكافرة مثليهم ، أي : ضعفيهم في العدد ، ومع هذا نصرهم{[4839]} الله عليهم . وهذا لا إشكال فيه على ما رواه العوفي ، عن ابن عباس أن المؤمنين كانوا يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا والمشركين{[4840]} كانوا ستمائة وستة وعشرين رجلا . وكأن هذا القول مأخوذ من ظاهر هذه الآية ، ولكنه خلاف المشهور عند أهل التواريخ والسير وأيام الناس ، وخلاف المعروف عند الجمهور من أن المشركين كانوا ما بين التسعمائة إلى الألف كما رواه محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأل ذلك العبد

الأسود لبني الحجاج عن عدّة قريش ، فقال : كثير ، قال : " كم ينحرون كل يوم ؟ " قال : يومًا تسعًا{[4841]} ويومًا عشرًا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " القوم ما بين التسعمائة إلى الألف " {[4842]} .

وروى{[4843]} أبو إسحاق السَّبِيعي ، عن حارثة ، عن علي ، قال : كانوا ألفًا ، وكذا قال ابن مسعود . والمشهور أنهم كانوا ما بين التسعمائة إلى الألف ، وعلى كل تقدير فقد كانوا ثلاثة أمثال المسلمين ، وعلى هذا فيشكل هذا القول والله أعلم . لكن وجه ابن جرير هذا ، وجعله صحيحًا كما تقول : عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها ، وتكون{[4844]} محتاجًا إلى ثلاثة آلاف ، كذا قال . وعلى هذا فلا إشكال .

لكن بقي سؤال آخر وهو وارد على القولين ، وهو أن يقال : ما الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى في قصة بدر : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا } ؟ [ الأنفال : 44 ] والجواب : أن هذا كان في حال ، والآخر كان في حال{[4845]} أخرى ، كما قال السُّدِّي ، عن [ مرة ] الطيب{[4846]} عن ابن مسعود في قوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا [ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ] {[4847]} } الآية ، قال : هذا يوم بدر . قال عبد الله بن مسعود : وقد نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يُضْعَفون علينا ، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدًا ، وذلك قوله{[4848]} تعالى : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ } .

وقال أبو إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جانبي{[4849]} تراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة . قال : فأسرنا رجلا منهم فقلنا : كم كنتم ؟ قال : ألفا . فعندما عاين كل الفريقين الآخر رأى المسلمون المشركين مثليهم ، أي : أكثر منهم بالضعف ، ليتوكلوا ويتوجهوا ويطلبوا الإعانة من ربهم ، عز وجل . ورأى المشركون المؤمنين كذلك ليحصل لهم الرعب والخوف والجزع والهلع ، ثم لما حصل التصاف{[4850]} والتقى الفريقان قلل الله هؤلاء في أعين هؤلاء ، وهؤلاء في أعين هؤلاء ، ليقدم كل منهما على الآخر .

{ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا } أي : ليفرّق بين الحق والباطل ، فيظهر كلمة الإيمان على الكفر ، ويعز المؤمنين ويذل الكافرين ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ } [ آل عمران : 123 ] وقال هاهنا : { وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ } أي : إن في ذلك لمعتبرًا لمن له بصيرة وفهم يهتدي به إلى حكم الله وأفعاله ، وقدره الجاري بنصر عباده المؤمنين في هذه الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد .


[4838]:في أ، و: "يحرز".
[4839]:في أ: "نصر".
[4840]:في جـ، ر، أ: "والمشركون".
[4841]:في جـ، ر، أ: "قال ينحرون يوما تسعا".
[4842]:السيرة النبوية لابن هشام (1/616).
[4843]:في أ: "قال".
[4844]:في أ: "ويكون".
[4845]:في أ، و: "حالة".
[4846]:في هـ: "عن الطيب".
[4847]:زيادة من جـ، ر، أ، و.
[4848]:في جـ، ر، أ، و: "قول".
[4849]:في جـ، ر: "جنبي".
[4850]:في أ، و: "المصاف".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{قَدۡ كَانَ لَكُمۡ ءَايَةٞ فِي فِئَتَيۡنِ ٱلۡتَقَتَاۖ فِئَةٞ تُقَٰتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخۡرَىٰ كَافِرَةٞ يَرَوۡنَهُم مِّثۡلَيۡهِمۡ رَأۡيَ ٱلۡعَيۡنِۚ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصۡرِهِۦ مَن يَشَآءُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبۡرَةٗ لِّأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ} (13)

{ قد كان لكم آية } الخطاب لقريش أو لليهود ، وقيل للمؤمنين . { في فئتين التقتا } يوم بدر . { فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم } يرى المشركون المؤمنين مثلي عدد المشركين ، وكان قريبا من ألف ، أو مثلي عدد المسلمين وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ، وذلك كان بعد ما قللهم في أعينهم حتى اجترؤوا عليهم وتوجهوا إليهم ، قلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا مددا من الله تعالى للمؤمنين ، أو يرى المؤمنون المشركين مثلي المؤمنين وكانوا ثلاثة أمثالهم ليثبتوا لهم ويتيقنوا بالنصر الذي وعدهم الله به في قوله : { فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين } . ويؤيده قراءة نافع ويعقوب بالتاء وقرئ بهما على البناء للمفعول أي يريهم الله ، أو يريكم ذلك بقدرته ، وفئة بالجر على البدل من فئتين والنصب على الاختصاص ، أو الحال من فاعل التفتا . { رأي العين } رؤية ظاهرة معاينة { والله يؤيد بنصره من يشاء } نصره كما أيد أهل بدر . { إن في ذلك } أي التقليل والتكثير ، أو غلبة القليل عديم العدة في الكثير شاكي السلاح ، وكون الواقعة آية أيضا يحتملها ويحتمل وقوع الأمر على ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم . { لعبرة لأولى الأبصار } أي لعظة لذوي البصائر . وقيل لمن أبصرهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قَدۡ كَانَ لَكُمۡ ءَايَةٞ فِي فِئَتَيۡنِ ٱلۡتَقَتَاۖ فِئَةٞ تُقَٰتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخۡرَىٰ كَافِرَةٞ يَرَوۡنَهُم مِّثۡلَيۡهِمۡ رَأۡيَ ٱلۡعَيۡنِۚ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصۡرِهِۦ مَن يَشَآءُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبۡرَةٗ لِّأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ} (13)

وقوله تعالى : { قد كان لكم آية في فئتين } الآية تحتمل أن يخاطب بها المؤمنون وأن يخاطب بها جميع الكفار وأن يخاطب بها يهود المدينة ، وبكل احتمال منها قد قال قوم ، فمن رأى أن الخطاب بها للمؤمنين فمعنى الآية تثبيت النفوس وتشجيعها ، لأنه لما قال للكفار ما أمر به أمكن أن يستبعد ذلك المنافقون وبعض ضعفة المؤمنين ، كما قال قائل يوم الخندق : يعدنا محمد أموال كسرى وقيصر ، ونحن لا نأمن على أنفسنا في المذهب ، وكما قال عدي بن حاتم حين أخبره النبي عليه السلام بالأمنة التي تأتي ، فقلت في نفسي : وأين دعار طيىء الذين سعروا البلاد ؟ الحديث بكماله{[2984]} ، فنزلت الآية مقوية لنفوس المؤمنين ومبينة صحة ما أخبر به بالمثال الواقع ، فمن قرأ «ترونهم » بالتاء من فوق فهي مخاطبة لجميع المؤمنين إذ قد رأى ذلك جمهور منهم ، والهاء والميم في «ترونهم » تجمع المشركين ، وفي «مثلهم » لجميع المؤمنين{[2985]} ، ومن قرأ بالياء من تحت فالمعنى يرى الجمع من المؤمنين جمع الكفار مثلي جمع المؤمنين ، ومن رأى أن الخطاب لجميع الكفار ومن رأى أنه لليهود فالآية عنده داخلة فيما أمر محمد عليه السلام أن يقوله لهم احتجاجاً عليهم ، وتبييناً لصورة الوعيد المتقدم في أنهم سيغلبون ، فمن قرأ بالياء من تحت ، فالعنى يرى الجمع من المؤمنين جمع الكفار مثلي جمع المؤمنين ، ومن قرأ بالتاء فالمعنى لو حضرتم أو إن كنتم حضرتم وساغت العبارة لوضوح الأمر في نفسه ووقوع اليقين به لكل إنسان في ذلك العصر ، ومن قرأ بضم التاء أو الياء فكأن المعنى ، أن اعتقاد التضعيف في جميع الكفار إنما كان تخميناً وظناً لا يقيناً ، فلذلك ترك في العبارةضرب من الشك وذلك أن أرى بضم الهمزة تقولها فيما بقي عندك فيه نظر و-أرى- بفتح الهمزة تقولها فيما قد صح نظرك فيه ، ونحا هذا المنحى أبو الفتح وهو صحيح ، قال أبو علي : والرؤية في هذه الآية عين ، ولذلك تعدت إلى مفعول واحد ، و { مثليهم } نصب على الحال من الهاء والميم في { ترونهم } وأجمع الناس على الفاعل ب { ترونهم } المؤمنون والضمير المتصل هو للكفار ، إلا ما حكى الطبري عن قوم أنهم قالوا : بل كثر الله عدد المؤمنين في عيون الكفار حتى كانوا عندهم ضعفيهم ، وضعف الطبري هذا القول ، وكذلك هو مردود من جهات ، بل قلل الله كل طائفة في عين الأخرى ، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ، فقلل الكفار في عيون المؤمنين ليقع التجاسر ويحتقر العدو ، وهذا مع اعتقاد النبي وقوله ، واعتقاد أولي الفهم من أصحابه أنهم من التسعمائة إلى الألف{[2986]} ، لكن أذهب الله عنهم البهاء وانتشار العساكر وفخامة الترتيب ، حتى قال ابن مسعود في بعض ما روي عنه : لقد قلت لرجل إلى جنبي أتراهم سبعين ؟ فقال : أظنهم مائة ، فلما أخذنا الأسرى أخبرونا أنهم كانوا ألفاً ، وقلل الله المؤمنين في عيون الكفار ليغتروا ولا يحزموا ، وتظاهرت الروايات أن جمع الكفار ببدر كان نحو الألف فوق التسعمائة وأن جمع المؤمنين كان ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً وقيل وثلاثة عشر ، فكان الكفار ثلاثةاثلاث من المؤمنين ، لكن رجع بنو زهرة مع الأخنس بن شريق ، ورجع طالب بن أبي طالب{[2987]} وأتباع وناس كثير حتى بقي للقتال من يقرب من المثلين ، وقد ذكر النقاش نحواً من هذا فذكر الله تعالى المثلين ، إذ أمرهما متيقن لم يدفعه قط أحد ، وقد حكى الطبري عن ابن عباس : أن المشركين في قتال بدر كانوا ستمائة وستة وعشرين رجلاً ، وقد ذهب الزجاج وبعض المفسرين ، أنهم كانوا نحو الألف وأراهم الله للمؤمنين مثليهم فقط ، قال : فهذا التقليل في الآية الأخرى ، ثم نصرهم عليهم مع علمهم بأنهم مثلاهم في العدد ، لأنه كان أعلم المسلمين أن المائة منهم تغلب المائتين من الكفار ، وروى علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي عليه السلام أنه قال يوم بدر : القوم ألف{[2988]} ، وقوله تعالى : { لكم آية } يريد علامة وأمارة ومعتبراً ، والفئة : الجماعة من الناس سميت بذلك لأنها يفاء إليها ، أي يرجع في وقت الشدة ، وقال الزجاج : الفئة الفرقة ، مأخوذة من فأوت رأسه بالسيف ، ويقال : فأيته إذا فلقته ، ولا خلاف أن الإشارة بهاتين الفئتين هي إلى يوم بدر ، وقرأ جمهور الناس «فئةٌ تقاتل » برفع «فئةٌ » على خبر ابتداء ، تقديره إحداهما فئة ، وقرأ مجاهد والحسن والزهري وحميد : : فئةٍ «بالخفض على البدل ، ومنهم من رفع » كافرةٌ «ومنهم من خفضها على العطف ، وقرأ ابن أبي عبلة : » فئةً «بالنصب وكذلك » كافرة «قال الزجاج : يتجه ذلك على الحال كأنه قال : التقتا مؤمنة وكافرة ، ويتجه أن يضمر فعل أعني ونحوه و { رأي العين } نصب على المصدر ، و { ويؤيد } معناه يقوي من الأيد وهو القوة .


[2984]:- الحديث المشار إليه ذكره ابن الأثير في النهاية (2/ 341) لغرابته، وورد في مادة (دعر) من لسان العرب أنه لعلي بن أبي طالب، وأنه أراد بهم قطاع الطرق، والأمنة بفتحات هي: سكون النفس وطمأنينتها.
[2985]:- ما بين معقفين سقط في بعض النسخ.
[2986]:- يشير بهذا إلى ما رواه محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأل ذلك العبد الأسود لبني الحجاج عن عدة قريش قال: كثير، قال صلى الله عليه وسلم: كم ينحرون كل يوم؟ قال: يوما تسعا، ويوما عشرا، قال النبي صلى الله عليه وسلم؛ القوم ما بين تسعمائة إلى ألف (ابن كثير. 350/1).
[2987]:- هو من أولاد أبي طالب وأكبر سنا من أخيه عقيل بعشر سنين، أتى غزوة بدر فوقعت بينه وبين بعض القرشين محاورة فرجع إلى مكة مع من رجع فأنشأ يقول: لا هم إما يغزون طـالب في عصبة مخالف محارب في مقنب من هذه المقانب فليكن المسلوب غير السالب وليكن المغلوب غير الغالب "سيرة ابن هشام 451/2" وَالمِقْنَبُ: جماعة من الفرسان والخيل دون المائة تجتمع للغارة، وجمعه: مقانب
[2988]:- أخرجه عنه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود (مجمع الزوائد: 6/75)، وروى أبو إسحاق السبيعي عن جارية عن علي قال: كانوا ألفا، وكذلك قال ابن مسعود، ولكن المشهور أنهم كانوا بين التسعمائة إلى الألف، وهو ما يؤيده الحديث الذي رواه ابن إسحاق عن ابن رومان عن عروة.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَدۡ كَانَ لَكُمۡ ءَايَةٞ فِي فِئَتَيۡنِ ٱلۡتَقَتَاۖ فِئَةٞ تُقَٰتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخۡرَىٰ كَافِرَةٞ يَرَوۡنَهُم مِّثۡلَيۡهِمۡ رَأۡيَ ٱلۡعَيۡنِۚ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصۡرِهِۦ مَن يَشَآءُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبۡرَةٗ لِّأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ} (13)

الخطاب في قوله : { قد كان لكم آية } خطاب للذين كفروا ، كما هو الظاهر ؛ لأنّ المقام للمحاجّة ، فأعقب الإنذار والوعيد بإقامة الحجّة . فيكون من جملة المقول ، ويجوز أن يكون الخطاب للمسلمين ، فيكون استئنافاً ناشئاً عن قوله ستُغلبون ؛ إذ لعلّ كثرة المخاطبين من المشركين ، أو اليهود ، أو كليهما ، يثير تعجّب السامعين من غلبهم فذكرهم الله بما كان يوم بدر .

والفئتان هما المسلمون والمشركون يوم بدر .

والالتقاء : اللقاء ، وصيغة الافتعال فيه للمبالغة ، واللقاء مصادفة الشخصصِ شخصاً في مَكان واحد ، ويطلق اللقاء على البروز للقتال كما في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار } وسيأتي . والالتقاء يطلق كذلك كقول أنيف بن زبان :

فلما التقينا بين لسيف بيننا *** لسائلة عنا حفي سؤالها .

وهذه الآية تحتمل المعنيين .

وقوله { فئة تقاتل } تفصيل للفئتين ، وهو مرفوع على أنه صدر جملة للاستئناف في التفصيل والتقسيم ، الوارد بعد الإجمال والجمع .

والفئة : الجماعة من الناس ، وقد نقدم الكلام عليها في قوله تعالى { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } في سورة البقرة .

والخطاب في { ترونهم } كالخطاب في قوله : { قد كان لكم } .

والرؤية هنا بصرية بقوله { رأي العين } والظاهر أن الكفار رأو المسلمين يوم بدر عند اللقاء والتلاحم مثلي عددهم ، فوقع الرعب في قلوبهم فانهزموا . فهذه الرؤية جعلت آية لمن رأوها وتحققوا بعد الهزيمة أنهم كانوا واهمين فيما رأوه ليكون ذلك أشد حسرة لهم ، وتكون هذه الرؤية غير الرؤية المذكورة في الأنفال بقوله : { ويقللكم في أعينهم } فإن تلك يناسب أن تكون وقعت قبل التلاحم ، حتى يستخف المشركون بالمسلمين ، فلا يأخذوا أهميتهم للقائهم ، فلما لاقوهم رأوهم مثلي عددهم فدخلهم الرعب والهزيمة ، وتحققوا قلة المسلمين بعد انكشاف الملحمة فقد كانت إرادة القلة وإرادة الكثرة سببي نصر المسلمين بعجيب صنع الله تعالى . وجوز أن يكون المسلمون رأوا المشركين مثلي عدد المؤمنين ، وكان المشركون ثلاثة أمثالهم ، فقللهم الله في أعين المسلمين لئلا يفشلوا لأنهم قد علموا من قبل أن المسلم يغلب كافرَين فلو علموا أنهم ثلاثة أضعافهم لخافو الهزيمة ، وتكون هذه الإراءة هي الإراءة المذكورة في سورة الأنفال { وإذ يريكموهم إذ القتيتم في أعينكم قليلا } ويكون ضمير الغيبة في قوله { مثليهم } راجعا للمسلمين على طريقة الالتفات ، وأصله ترونهم مثليكم على أنه من المقول .

وقرأ نافع وأبو جعفر ويعقوب : ترونهم – بناء الخطاب – وقرأه الباقون بياء الغيبة : على أنه حال من { أخرى كافرة } ، أو من { فئة تقاتل في سبيل الله } أي مثلي عدد المرئين . إن كان الراءون هم المشركون ، أو مثلي عدد الرائين ، إن كان الراءون هم المسلمين . لأن كليهما جرى ضميره على الغيبة وكلتا الرؤيتين قد وقعت يوم بدر وكل فئة علمت رؤيتها وتُحديت بهاته الآية ، وعلى هذه القراءة يكون العدول عن التغيير بفئتكم إلى قوله { فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة } لقصد صلوحية ضمير الغيبة لكلتا الفئتين ، فيفيد اللفظ آيتين على التوزيع بطريقة التوجيه .

و { رأي العين } مصدر مبين لنوع الرؤية : إذ كان فعل رأى يحتمل البصر والقلب وإضافته إلى العين دليل على أنه يستعمل مصدرا لرأى القلبية . كيف والرأي اسم للعقل ، وتشار فيها رأى البصرية ، بخلاف الرؤية فخاصة بالبصرية .

وجملة { والله يؤيد بنصره من يشاء } تذييل لأن تلك الرؤية كيفما فسرت تأييد للمسلمين . قال تعالى { إذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا } .