تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لِلۡفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحۡصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ ضَرۡبٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ يَحۡسَبُهُمُ ٱلۡجَاهِلُ أَغۡنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعۡرِفُهُم بِسِيمَٰهُمۡ لَا يَسۡـَٔلُونَ ٱلنَّاسَ إِلۡحَافٗاۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ} (273)

ثم ذكر مصرف النفقات الذين هم أولى الناس بها فوصفهم بست صفات أحدها الفقر ، والثاني قوله : { أحصروا في سبيل الله } أي : قصروها على طاعة الله من جهاد وغيره ، فهم مستعدون لذلك محبوسون له ، الثالث عجزهم عن الأسفار لطلب الرزق فقال : { لا يستطيعون ضربا في الأرض } أي : سفرا للتكسب ، الرابع قوله : { يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف } وهذا بيان لصدق صبرهم وحسن تعففهم . الخامس : أنه قال : { تعرفهم بسيماهم } أي : بالعلامة التي ذكرها الله في وصفهم ، وهذا لا ينافي قوله : { يحسبهم الجاهل أغنياء } فإن الجاهل بحالهم ليس له فطنة يتفرس بها ما هم عليه ، وأما الفطن المتفرس فمجرد ما يراهم{[150]}  يعرفهم بعلامتهم ، السادس قوله : { لا يسألون الناس إلحافا } أي : لا يسألونهم سؤال إلحاف ، أي : إلحاح ، بل إن صدر منهم سؤال إذا احتاجوا لذلك لم يلحوا على من سألوا ، فهؤلاء أولى الناس وأحقهم بالصدقات لما وصفهم به من جميل الصفات ، وأما النفقة من حيث هي على أي شخص كان ، فهي خير وإحسان وبر يثاب عليها صاحبها ويؤجر ، فلهذا قال : { وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم }


[150]:- في النسختين: يراه.
 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{لِلۡفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحۡصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ ضَرۡبٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ يَحۡسَبُهُمُ ٱلۡجَاهِلُ أَغۡنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعۡرِفُهُم بِسِيمَٰهُمۡ لَا يَسۡـَٔلُونَ ٱلنَّاسَ إِلۡحَافٗاۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ} (273)

وقوله : { لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } يعني : المهاجرين الذين قد انقطعوا إلى الله وإلى رسوله ، وسكنوا المدينة وليس لهم سبب يردون به على أنفسهم ما يغنيهم{[4518]} و{ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرْض } يعني : سفرًا للتسبب في طلب المعاش . والضرب في الأرض : هو السفر ؛ قال الله تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } [ النساء : 101 ] ، وقال تعالى : { عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه } الآية [ المزمل : 20 ] .

وقوله : { يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ } أي : الجاهلُ بأمْرهم وحالهم يحسبهم أغنياء ، من تعففهم في لباسهم وحالهم ومقالهم . وفي هذا المعنى الحديث المتفق على صحته ، عن أبي هريرة قال :

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان ، واللقمة واللقمتان ، والأكلة والأكلتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يُفْطَنُ له فَيُتَصَدقَ عليه ، ولا يسأل الناس شيئا " {[4519]} . وقد رواه أحمد ، من حديث ابن مسعود أيضًا{[4520]} .

وقوله : { تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ } أي : بما يظهر لذوي الألباب من صفاتهم ، كما قال [ الله ]{[4521]} تعالى : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ } [ الفتح : 29 ] ، وقال : { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْل } [ محمد : 30 ] . وفي الحديث الذي في السنن : " اتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله " ، ثم قرأ : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } [ الحجر : 75 ] . {[4522]} .

وقوله : { لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا } أي : لا يُلحْون في المسألة ويكلفون الناس ما لا يحتاجون إليه ، فإن من سأل وله ما يغنيه عن السؤال ، فقد ألحف في المسألة ؛ قال البخاري :

حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شريك بن أبي نمر : أن عطاء بن يَسَار وعبد الرحمن بن أبي عَمْرَة الأنصاري قالا سمعنا أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس المسكينُ الذي ترده التمرة والتمرتان ، ولا اللقمة واللقمتان ، إنما المسكين الذي يتعفَّفُ ؛ اقرؤوا إن شئتم - يعني قوله - : { لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا }{[4523]} .

وقد رواه مُسْلِم ، من حديث إسماعيل بن جعفر المديني ، عن شريك بن عبد الله بن أبي نَمر ، عن عطاء بن يسار - وحده - عن أبي هريرة ، به{[4524]} .

وقال أبو عبد الرحمن النسائي{[4525]} : أخبرنا علي بن حجر ، حدثنا إسماعيل ، أخبرنا شريك - وهو ابن أبي نمر - عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان ، واللقمة واللقمتان ، إنما المسكين المتعفف ؛ اقرؤوا إن شئتم : { لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا } " {[4526]} .

وروى البخاري من حديث شعبة ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحوه{[4527]} .

وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني ابن أبي ذئب ، عن أبي الوليد ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس المسكين بالطواف عليكم ، فتطعمونه{[4528]} لقمة لقمة ، إنما المسكين المتعفف الذي لا يسأل الناس إلحافا " .

وقال ابن جرير : حدثني معتمر ، عن الحسن بن ماتك{[4529]} عن صالح بن سويد ، عن أبي هريرة قال : ليس المسكين الطواف الذي ترده الأكلة والأكلتان ، ولكن المسكين المتعفف في بيته ، لا يسأل الناس شيئا تصيبه الحاجة ؛ اقرؤوا إن شئتم : { لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا }

وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا أبو بكر الحنفي ، حدثنا عبد الحميد بن جعفر ، عن أبيه ، عن رجل من مزينة ، أنه قالت له أمه : ألا تنطلق فتسأل رسول الله صلى الله عليه سلم كما يسأله الناس ؟ فانطلقت أسأله ، فوجدته قائما يخطب ، وهو يقول : " ومن استعف أعفه الله ، ومن استغنى أغناه الله ، ومن يسأل الناس وله عدل خمس أواق فقد سأل الناس إلحافا " . فقلت بيني وبين نفسي : لناقة لي خير من خمس أواق ، ولغلامه ناقة أخرى فهي خير من خمس أواق فرجعت ولم أسأل{[4530]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال ، عن عمارة بن غزية ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد ، عن أبيه قال : سرحتني أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أسأله ، فأتيته فقعدت ، قال : فاستقبلني فقال : " من استغنى أغناه الله ، ومن استعف أعفَّه الله ، ومن استكف كفاه الله ، ومن سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف " . قال : فقلت : ناقتي الياقوتة خير من أوقية . فرجعت ولم أسأله .

وهكذا رواه أبو داود والنسائي ، كلاهما عن قتيبة . زاد أبو داود : وهشام بن عمار كلاهما عن عبد الرحمن بن أبي الرجال بإسناده ، نحوه{[4531]} .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الجماهير ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال ، عن عمارة بن غزية ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد قال : قال أبو سعيد الخدري : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سأل وله قيمة وقية فهو ملحف " والوقية : أربعون درهما{[4532]} .

وقال أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن رجل من بني أسد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سأل وله أوقية - أو عدلها - فقد سأل إلحافا " {[4533]} .

وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن حكيم بن جبير ، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد ، عن أبيه ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سأل وله ما يغنيه ، جاءت مسألته يوم القيامة خدوشا - أو كدوحا - في وجهه " . قالوا : يا رسول الله ، وما غناه ؟ قال : " خمسون درهما ، أو حسابها من الذهب " .

وقد رواه أهل السنن الأربعة ، من حديث حكيم بن جبير الأسدي الكوفي{[4534]} . وقد تركه شعبة بن الحجاج ، وضعفه غير واحد من الأئمة من جراء هذا الحديث .

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، حدثنا أبو حصين{[4535]} عبد الله بن أحمد بن يونس ، حدثني أبي ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين قال : بلغ الحارث - رجلا كان بالشام من قريش - أن أبا ذر كان به عوز ، فبعث إليه ثلاثمائة دينار ، فقال : ما وجد عبد الله رجلا هو أهون عليه مني ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من سأل وله أربعون فقد ألحف " ولآل أبي ذر أربعون درهما وأربعون شاة وماهنان . قال أبو بكر بن عياش : يعني خادمين{[4536]} .

وقال ابن مَرْدُوَيه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، أخبرنا إبراهيم بن محمد ، أنبأنا عبد الجبار ، أخبرنا سفيان ، عن داود بن سابور ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من سأل وله أربعون درهمًا فهو مُلْحِف ، وهو مثل سف الملة " يعني : الرمل .

ورواه النسائي ، عن أحمد بن سليمان ، عن يحيى بن آدم ، عن سفيان - وهو ابن عيينة - بإسناده نحوه{[4537]} .

قوله{[4538]} : { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } أي : لا يخفى عليه شيء منه ، وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمه يوم القيامة ، أحوج ما يكونون إليه .


[4518]:في أ: "بأنفسهم".
[4519]:صحيح البخاري برقم (4539) وصحيح مسلم برقم (1039).
[4520]:المسند (1/384).
[4521]:زيادة من جـ.
[4522]:رواه الترمذي في السنن برقم (3127) من طريق عمرو بن قيس، عن عطية، عن أبي سعيد، رضي الله عنه، به مرفوعا، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب إنما نعرفه من هذا الوجه، وقد روي عن بعض أهل العلم".
[4523]:صحيح البخاري برقم (4539).
[4524]:صحيح مسلم برقم (1039).
[4525]:في و: "ورواه النسائي ولفظه".
[4526]:سنن النسائي الكبرى برقم (11053).
[4527]:صحيح البخاري برقم (1476).
[4528]:في جـ، أ، و: "فتعطونه".
[4529]:في جـ، أ: "الحسن بن بابل"، وفي و: "أيمن بن نابل".
[4530]:المسند (4/138).
[4531]:المسند (3/9) وسنن أبي داود برقم (1628) وسنن النسائي (5/98).
[4532]:ورواه ابن خزيمة في صحيحه برقم (2447) وابن حبان في صحيحه برقم (846) من طريق عبد الله بن يوسف، عن عبد الرحمن ابن أبي الرجال به.
[4533]:المسند (4/36).
[4534]:المسند (1/388) وسنن أبي داود برقم (1626) وسنن الترمذي برقم (650) وسنن النسائي (5/97) وسنن ابن ماجة برقم (1840).
[4535]:في هـ: "أبو حصن" وهو خطأ.
[4536]:المعجم الكبير (2/150) وقال الهيثمي في المجمع (9/331): "رجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن يونس وهو ثقة".
[4537]:سنن النسائي الكبرى برقم (2375).
[4538]:في جـ: "وقوله".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{لِلۡفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحۡصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ ضَرۡبٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ يَحۡسَبُهُمُ ٱلۡجَاهِلُ أَغۡنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعۡرِفُهُم بِسِيمَٰهُمۡ لَا يَسۡـَٔلُونَ ٱلنَّاسَ إِلۡحَافٗاۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ} (273)

{ للفقراء } متعلق بمحذوف أي اعمدوا للفقراء ، أو اجعلوا ما تنفقونه للفقراء ، أو صدقاتكم للفقراء . { الذين أحصروا في سبيل الله } أحصرهم الجهاد . { لا يستطيعون } لاشتغالهم به . { ضربا في الأرض } ذهابا فيها للكسب . وقيل هم أهل الصفة كانوا نحوا من أربعمائة من فقراء المهاجرين يسكنون صفة المسجد يستغرقون أوقاتهم بالتعلم والعبادة ، وكانوا يخرجون في كل سرية بعثها رسول الله { يحسبهم الجاهل } بحالهم ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين . { أغنياء من التعفف } من أجل تعففهم عن السؤال ، { تعرفهم بسيماهم } من الضعف ورثاثة الحال ، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، أو لكل أحد . { لا يسألون الناس إلحافا } إلحاحا ، وهو أن يلازم المسؤول حتى يعطيه ، من قولهم لحفي من فضل لحافه ، أي أعطاني من فضل ما عنده ، والمعنى أنهم لا يسألون وإن سألوا عن ضرورة لم يلحوا . وقيل : هو نفي للأمرين كقوله :

على لاحب أن يهتدي بمناره *** . . .

فنصبه على المصدر فإنه كنوع من السؤال ، أو على الحال . { وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم } ترغيب في الإنفاق وخصوصا على هؤلاء .