{ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ } أي : الإعادة للخلق بعد موتهم { أَهْوَنُ عَلَيْهِ } من ابتداء خلقهم وهذا بالنسبة إلى الأذهان والعقول ، فإذا كان قادرا على الابتداء الذي تقرون به كانت{[648]} قدرته على الإعادة التي أهون أولى وأولى .
ولما ذكر من الآيات العظيمة ما به يعتبر المعتبرون ويتذكر المؤمنون ويتبصر المهتدون ذكر الأمر العظيم والمطلب الكبير فقال : { وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وهو كل صفة كمال ، والكمال من تلك الصفة والمحبة والإنابة التامة الكاملة في قلوب عباده المخلصين والذكر الجليل والعبادة منهم . فالمثل الأعلى هو وصفه الأعلى وما ترتب عليه .
ولهذا كان أهل العلم يستعملون في حق الباري قياس الأولى ، فيقولون : كل صفة كمال في المخلوقات فخالقها أحق بالاتصاف بها على وجه لا يشاركه فيها أحد ، وكل نقص في المخلوق ينزه عنه فتنزيه الخالق عنه من باب أولى وأحرى .
{ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحكيم } أي : له العزة الكاملة والحكمة الواسعة ، فعزته أوجد بها المخلوقات وأظهر المأمورات ، وحكمته أتقن بها ما صنعه وأحسن فيها ما شرعه .
قوله تعالى : " وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده " أما بدء خلقه فبعلوقه في الرحم قبل ولادته ، وأما إعادته فإحياؤه بعد الموت بالنفخة الثانية للبعث ، فجعل ما علم من ابتداء خلقه دليلا على ما يخفى من إعادته ، استدلالا بالشاهد على الغائب ، ثم أكد ذلك بقوله " وهو أهون عليه " وقرأ ابن مسعود وابن عمر : " يبدئ الخلق " من أبدأ يبدئ ، دليله قوله تعالى : " إنه هو يبدئ ويعيد " {[12470]} [ البروج : 13 ] . ودليل قراءة العامة قوله سبحانه : " كما بدأكم تعودون " {[12471]} [ الأعراف : 29 ] . و " أهون " بمعنى هين ، أي الإعادة هين عليه ، قاله الربيع بن خثيم والحسن . فأهون بمعنى هين ؛ لأنه ليس شيء أهون على الله من شيء . قال أبو عبيدة : ومن جعل أهون يعبر عن تفضيل شيء على شيء فقوله مردود بقوله تعالى : " وكان ذلك على الله يسيرا " [ النساء :30 ] وبقوله : " ولا يؤوده حفظهما " [ البقرة : 255 ] .
والعرب تحمل أفعل على فاعل ، ومنه قول الفرزدق :
إن الذي سمك السماء بنى لنا *** بيتا دعائمُه أعزُّ وأطْوَلُ
أي دعائمه عزيزة طويلة . وقال آخر{[12472]} :
لعمرك ما أدري وإني لأوجل *** على أينا تعدو المنية أوَّلُ
أراد : إني لوجل . وأنشد أبو عبيدة أيضا :
إني لأمنحك الصدود وإنني *** قَسَمًا إليك مع الصدود لأَمْيَلُ{[12473]}
أراد لمائل . وأنشد أحمد بن يحيى :
تمنَّى رجالٌ أن أموتَ وإن أُمُتْ *** فتلك سبيلٌ لستُ فيهَا بأَوْحَدِ
لعمركَ إن الزِّبْرِقَانَ لباذل *** لمعروفه عند السنينَ وأفضل
أي وفاضل . ومنه قولهم : الله أكبر ، إنما معناه الله الكبير . وروى معمر عن قتادة قال : في قراءة عبد الله بن مسعود " وهو عليه هين " . وقال مجاهد وعكرمة والضحاك : إن المعنى أن الإعادة أهون عليه - أي على الله - من البداية ، أي أيسر ، وإن كان جميعه على الله تعالى هينا ، وقاله ابن عباس . ووجهه أن هذا مثل ضربه الله تعالى لعباده ، يقول : إعادة الشيء على الخلائق أهون من ابتدائه ، فينبغي أن يكون البعث لمن قدر على البداية عندكم ، وفيما بينكم أهون عليه من الإنشاء . وقيل : الضمير في " عليه " للمخلوقين ، أي وهو أهون عليه ، أي على الخلق ، يصاح بهم صيحة واحدة فيقومون ويقال لهم : كونوا فيكونون ، فذلك أهون عليهم من أن يكونوا نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم أجنة ثم أطفالا ثم غلمانا ثم شبانا ثم رجالا أو نساء . وقاله ابن عباس وقطرب . وقيل أهون أسهل ، قال :
وهان على أسماء أن شَطَّتْ النَّوَى *** يحن إليها والهٌ ويتُوقُ
أي سهل عليها ، وقال الربيع بن خثيم في قوله تعالى : " وهو أهون عليه " قال : ما شيء على الله بعزيز . عكرمة : تعجب الكفار من إحياء الله الموتى فنزلت هذه الآية . " وله المثل الأعلى " أي ما أراده جل وعز كان . وقال الخليل : المثل الصفة ، أي وله الوصف الأعلى " في السموات والأرض " كما قال : " مثل الجنة التي وعد المتقون " [ الرعد : 35 ] أي صفتها . وقد مضى الكلام في ذلك{[12474]} . وعن مجاهد : " المثل الأعلى " قول لا إله إلا الله ، ومعناه : أي الذي له الوصف الأعلى ، أي الأرفع الذي هو الوصف بالوحدانية . وكذا قال قتادة : إن المثل الأعلى شهادة أن لا إله إلا الله ، ويعضده قوله تعالى : " ضرب لكم مثلا من أنفسكم " على ما نبينه آنفا إن شاء الله تعالى . وقال الزجاج : " وله المثل الأعلى في السموات والأرض " أي قوله : " وهو أهون عليه " قد ضربه لكم مثلا فيما يصعب ويسهل ، يريد التفسير الأول . وقال ابن عباس : أي ليس كمثله شيء " وهو العزيز الحكيم " {[12475]} تقدم .
قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } الله الذي تجلت قدرته فيما بيناه من الآيات والدلالات والحجج لهو الذي يبدأ الخلق من العدم ثم يعيده يوم البعث للحساب { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } أي بعثُ الخلق يوم القيامة هين على الله فهو سبحانه المبدئ والمعيد . وهو لا يعز عليه أن يعيد الحياة إلى الخلائق يوم القيامة . وقيل : أهون على ما يقوله بعضكم لبعض ؛ لأنه لا شيء أهون على الله من شيء بل كل شيء على الله هين ويسير .
قوله : { وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } { الْمَثَلُ الْأَعْلَى } شهادة أن لا إله إلا الله . وقيل : المثل الأعلى يعني وصفه الأعلى ؛ فالله سبحانه له الوصف بالوحدانية في السماوات والأرض ؛ فهو خالقهما ومبدعهما من غير شريك له في ذلك ولا نديد .
قوله : { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } الله جل جلاله القوي الذي لا يغالَب ، الجبار الذي لا يقهر . وهو سبحانه الحكيم في أقواله وأفعاله ، وفي خلقه وتدبيره وتصريفه للأمور .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.