{ 6 - 9 } { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ * خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
أي : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ } هو محروم مخذول { يَشْتَرِي } أي : يختار ويرغب رغبة من يبذل الثمن في الشيء . { لَهْوَ الْحَدِيثِ } أي : الأحاديث الملهية للقلوب ، الصادَّة لها عن أجلِّ مطلوب . فدخل في هذا كل كلام محرم ، وكل لغو ، وباطل ، وهذيان من الأقوال المرغبة في الكفر ، والفسوق ، والعصيان ، ومن أقوال الرادين على الحق ، المجادلين بالباطل ليدحضوا به الحق ، ومن غيبة ، ونميمة ، وكذب ، وشتم ، وسب ، ومن غناء ومزامير شيطان ، ومن الماجريات الملهية ، التي لا نفع فيها في دين ولا دنيا .
فهذا الصنف من الناس ، يشتري لهو الحديث ، عن هدي الحديث { لِيُضِلَّ } الناس { بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي : بعدما ضل بفعله ، أضل غيره ، لأن الإضلال ، ناشئ عن الضلال .
وإضلاله في هذا الحديث ؛ صده عن الحديث النافع ، والعمل النافع ، والحق المبين ، والصراط المستقيم .
ولا يتم له هذا ، حتى يقدح في الهدى والحق ، ويتخذ آيات اللّه هزوا ويسخر بها ، وبمن جاء بها ، فإذا جمع بين مدح الباطل والترغيب فيه ، والقدح في الحق ، والاستهزاء به وبأهله ، أضل من لا علم عنده وخدعه بما يوحيه إليه ، من القول الذي لا يميزه ذلك الضال ، ولا يعرف حقيقته .
{ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } بما ضلوا وأضلوا ، واستهزءوا [ بآيات اللّه ]{[1]} وكذبوا الحق الواضح .
الأولى- قوله تعالى : " ومن الناس من يشتري لهو الحديث " " من " في موضع رفع بالابتداء . و " لهو الحديث " : الغناء ، في قول ابن مسعود وابن عباس وغيرهما . وهو ممنوع بالكتاب والسنة . والتقدير : من يشتري ذا لهو أو ذات لهو ، مثل : " واسأل القرية " {[12549]} [ يوسف : 82 ] . أو يكون التقدير : لما كان إنما اشتراها يشتريها ويبالغ في ثمنها كأنه اشتراها للهو{[12550]} .
قلت : هذه إحدى الآيات الثلاث التي استدل بها العلماء على كراهة الغناء والمنع منه . والآية الثانية قوله تعالى : " وأنتم سامدون " {[12551]} [ النجم : 61 ] . قال ابن عباس : هو الغناء بالحميرية ، اسمدي لنا ، أي غني لنا . والآية الثالثة قوله تعالى : " واستفزز من استطعت منهم بصوتك " {[12552]} [ الإسراء : 64 ] قال مجاهد : الغناء والمزامير . وقد مضى في " الإسراء " {[12553]} الكلام فيه . وروى الترمذي عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام ، في مثل هذا أنزلت هذه الآية : " ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله " ) إلى آخر الآية . قال أبو عيسى : هذا حديث غريب ، إنما يروى من حديث القاسم عن أبي أمامة ، والقاسم ثقة وعلي ابن يزيد يضعّف في الحديث . قاله محمد بن إسماعيل . قال ابن عطية : وبهذا فسر ابن مسعود وابن عباس وجابر بن عبدالله ومجاهد ، وذكره أبو الفرج الجوزي عن الحسن وسعيد بن جبير وقتادة والنخعي .
قلت : هذا أعلى ما قيل في هذه الآية ، وحلف على ذلك ابن مسعود بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات إنه الغناء . روى سعيد بن جبير عن أبي الصهباء البكري قال : سئل عبد الله بن مسعود عن قوله تعالى : " ومن الناس من يشتري لهو الحديث " فقال : الغناء والله الذي لا إله إلا هو ؛ يرددها ثلاث مرات . وعن ابن عمر أنه الغناء ، وكذلك قال عكرمة وميمون بن مهران ومكحول . وروى شعبة وسفيان عن الحكم وحماد عن إبراهيم قال : قال عبد الله بن مسعود : الغناء ينبت النفاق في القلب ، وقاله مجاهد . وزاد : إن لهو الحديث في الآية الاستماع إلى الغناء وإلى مثله من الباطل . وقال الحسن : لهو الحديث المعازف والغناء . وقال القاسم بن محمد : الغناء باطل والباطل في النار . وقال ابن القاسم سألت مالكا عنه فقال : قال الله تعالى : " فماذا بعد الحق إلا الضلال " {[12554]} [ يونس : 32 ] أفحق هو ؟ ! وترجم البخاري{[12555]} ( باب كل لهو باطل إذا شغل عن طاعة الله ، ومن قال لصاحبه تعالى أقامرك ) ، وقوله تعالى : " ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا " فقوله : ( إذا شغل عن طاعة الله ) مأخوذ من قوله تعالى : " ليضل عن سبيل الله " . وعن الحسن أيضا : هو الكفر والشرك . وتأوله قوم على الأحاديث التي يتلهى بها أهل الباطل واللعب . وقيل : نزلت في النضر بن الحارث ؛ لأنه اشترى كتب الأعاجم : رستم ، واسفنديار ، فكان يجلس بمكة ، فإذا قالت قريش إن محمدا قال كذا ضحك منه ، وحدثهم بأحاديث ملوك الفرس ويقول : حديثي هذا أحسن من حديث محمد . حكاه الفراء والكلبي وغيرهما . وقيل : كان يشتري المغنيات فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول : أطعميه واسقيه وغنيه . ويقول : هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه . وهذا القول والأول ظاهر في الشراء . وقالت طائفة : الشراء في هذه الآية مستعار ، وإنما نزلت الآية في أحاديث قريش وتلهيهم بأمر الإسلام وخوضهم في الباطل . قال ابن عطية : فكان ترك ما يجب فعله وامتثال هذه المنكرات شراء لها ، على حد قوله تعالى : " أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى " {[12556]} [ البقرة : 16 ] ؛ اشتروا الكفر بالإيمان ، أي استبدلوه منه واختاروه عليه . وقال مطرف : شراء لهو الحديث استحبابه . قتادة : ولعله لا ينفق فيه مالا ، ولكن سماعه شراؤه .
قلت : القول الأول أولى ما قيل به في هذا الباب ؛ للحديث المرفوع فيه ، وقول الصحابة والتابعين فيه . وقد زاد الثعلبي والواحدي في حديث أبي أمامة : ( وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين : أحدهما : على هذا المنكب [ والآخر على هذا المنكب ]{[12557]} فلا يزالان يضربان بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت ) . وروى الترمذي وغيره من حديث أنس وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( صوتان ملعونان فاجران أنهى عنهما : صوت مزمار ورنة شيطان عند نغمة ومرح ورنة عند مصيبة لطم خدود وشق جيوب ) . وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بعثت بكسر المزامير ) خرجه أبو طالب الغيلاني . وخرج ابن بشران عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( بعثت بهدم المزامير والطبل ) . وروى الترمذي من حديث علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء - فذكر منها : إذا اتخذت القينات والمعازف ) . وفي حديث أبي هريرة : ( وظهرت القيان والمعازف ) . وروى ابن المبارك عن مالك بن أنس عن محمد بن المنكدر عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من جلس إلى قينة يسمع منها صب في أذنه الآنك{[12558]} يوم القيامة ) . وروى أسد بن موسى عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن محمد بن المنكدر قال : بلغنا أن الله تعالى يقول يوم القيامة : ( أين عبادي الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان أحلوهم رياض{[12559]} المسك وأخبروهم أني قد أحللت عليهم رضواني ) . وروى ابن وهب عن مالك عن محمد بن المنكدر مثله ، وزاد بعد قوله ( المسك : ثم يقول للملائكة أسمعوهم حمدي وشكري وثنائي ، وأخبروهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) . وقد روي مرفوعا هذا المعنى من حديث أبي موسى الأشعري أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من استمع إلى صوت غناء لم يؤذن له أن يسمع الروحانيين ) . فقيل : ومن الروحانيون يا رسول الله ؟ قال : ( قراء أهل الجنة ) خرجه الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول ، وقد ذكرنا في كتاب التذكرة مع نظائره : ( فمن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة ، ومن لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ) . إلى غير ذلك . وكل ذلك صحيح المعنى على ما بيناه هناك . ومن رواية مكحول عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من مات وعنده جارية مغنية فلا تصلوا عليه ) .
ولهذه الآثار وغيرها قال العلماء بتحريم الغناء .
الثانية- وهو الغناء المعتاد عند المشتهرين به ، الذي يحرك النفوس ويبعثها على الهوى والغزل ، والمجون الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن ، فهذا النوع إذا كان في شعر يشبب فيه بذكر النساء ووصف محاسنهن وذكر الخمور والمحرمات لا يختلف في تحريمه ؛ لأنه اللهو والغناء المذموم بالاتفاق . فأما ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه في أوقات الفرح ، كالعرس والعيد وعند التنشيط على الأعمال الشاقة ، كما كان في حفر الخندق وحدو أنجشة{[12560]} وسلمة بن الأكوع . فأما ما ابتدعته الصوفية اليوم من الإدمان على سماع المغاني بالآلات المطربة من الشبابات{[12561]} والطار والمعازف والأوتار فحرام .
قال ابن العربّي : فأما طبل الحرب فلا حرج فيه ؛ لأنه يقيم النفوس ويرهب العدو . وفي اليراعة{[12562]} تردد . والدف مباح . [ الجوهريّ : وربما سّموا قصبة الراعي التي يزمر بها هيرعة ويراعة ]{[12563]} . قال القشيريّ : ضرب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل المدينة ، فهم أبو بكر بالزجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( دعهن يا أبا بكر حتى تعلم اليهود أن ديننا فسيح ) فكن يضربن ويقلن : نحن بنات النجار ، حبذا محمد من جار . وقد قيل : إن الطبل في النكاح كالدف ، وكذلك الآلات المشهرة للنكاح يجوز استعمالها فيه بما يحسن من الكلام ولم يكن فيه رفث .
الثالثة- الاشتغال بالغناء على الدوام سفه ترد به الشهادة ، فإن لم يدم لم ترد . وذكر إسحاق بن عيسى الطباع قال : سألت مالك بن أنس عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال : إنما يفعله عندنا الفساق . وذكر أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبريّ قال : أما مالك بن أنس فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه ، وقال : إذا اشترى جارية ووجدها مغنية كان له ردها بالعيب ، وهو مذهب سائر أهل المدينة ، إلا إبراهيم بن سعد فإنه حكى عنه زكريا الساجي أنه كان لا يرى به بأسا . وقال ابن خويز منداد : فأما مالك فيقال عنه : إنه كان عالما بالصناعة وكان{[12564]} مذهبه تحريمها . وروي عنه أنه قال : تعلمت هذه الصناعة وأنا غلام شاب ، فقالت لي أمي : أي بني ! إن هذه الصناعة يصلح لها من كان صبيح الوجه ولست كذلك ، فاطلب العلوم الدينية ، فصحبت ربيعة فجعل الله في ذلك خيرا . قال أبو الطيب الطبري : وأما مذهب أبي حنيفة فإنه يكره الغناء مع إباحته شرب النبيذ ، ويجمل سماع الغناء من الذنوب . وكذلك مذهب سائر أهل الكوفة : إبراهيم والشعبي وحماد والثوري وغيرهم ، لا اختلاف بينهم في ذلك . وكذلك لا يعرف بين أهل البصرة خلاف في كراهية ذلك والمنع منه ، إلا ما روي عن عبيد الله بن الحسن العنبري أنه كان لا يرى به بأسا . قال : وأما مذهب الشافعي فقال : الغناء مكروه يشبه الباطل ، ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته . وذكر أبو الفرج الجوزي عن إمامه أحمد بن حنبل ثلاث روايات قال : وقد ذكر أصحابنا عن أبي بكر الخلال وصاحبه عبد العزيز إباحة الغناء ، وإنما أشاروا إلى ما كان في زمانهما من القصائد الزهديات ، قال : وعلى هذا يحمل ما لم يكرهه أحمد ، ويدل عليه أنه سئل عن رجل مات وخلف ولدا وجارية مغنية فاحتاج الصبي إلى بيعها فقال : تباع على أنها ساذجة لا على أنها مغنية . فقيل له : إنها تساوي ثلاثين ألفا ، ولعلها إن بيعت ساذجة تساوي عشرين ألفا ؟ فقال : لا تباع إلا على أنها ساذجة . قال أبو الفرج : وإنما قال أحمد هذا لأن هذه الجارية المغنية لا تغني بقصائد الزهد ، بل بالأشعار المطربة المثيرة إلى العشق .
وهذا دليل على أن الغناء محظور ؛ إذ لو لم يكن محظورا ما جاز تفويت المال على اليتيم . وصار هذا كقول أبي طلحة للنبي صلى الله عليه وسلم : عندي خمر لأيتام ؟ فقال : ( أرِقْها ) . فلو جاز استصلاحها لما أمر بتضييع مال اليتامى . قال الطبري : فقد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه . وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد وعبيد الله العنبري ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بالسواد الأعظم . ومن فارق الجماعة مات ميتة جاهلية ) . قال أبو الفرج : وقال القفال من أصحابنا : لا تقبل شهادة المغني والرقاص .
قلت : وإذ قد ثبت أن هذا الأمر لا يجوز فأخذ الأجرة عليه لا تجوز . وقد ادعى أبو عمر بن عبد البر الإجماع على تحريم الأجرة على ذلك . وقد مضى في الأنعام عند قوله : " وعنده مفاتح الغيب " {[12565]} [ الأنعام : 59 ] وحسبك .
الرابعة- قال القاضي أبو بكر بن العربي : وأما سماع القينات فيجوز للرجل أن يسمع غناء جاريته ؛ إذ ليس شيء منها عليه حراما لا من ظاهرها ولا من باطنها ، فكيف يمنع من التلذذ بصوتها . أما أنه لا يجوز انكشاف النساء للرجال ولا هتك الأستار ولا سماع الرفث ، فإذا خرج ذلك إلى ما لا يحل ولا يجوز منع من أوله واجتث من أصله . وقال أبو الطيب الطبري : أما سماع الغناء من المرأة التي ليست بمحرم فإن أصحاب الشافعي قالوا لا يجوز ، سواء كانت حرة أو مملوكة . قال : وقال الشافعي : وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته ؛ ثم غلظ القول فيه فقال : فهي دياثة . وإنما جعل صاحبها سفيها لأنه دعا الناس إلى الباطل ، ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيها .
الخامسة- قوله تعالى : " ليضل عن سبيل الله " قراءة العامة بضم الياء ، أي ليضل غيره عن طريق الهدى ، وإذا أضل غيره فقد ضل . وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وأبو عمرو ورويس وابن أبي إسحاق ( بفتح الياء ) على اللازم ، أي ليضل هو نفسه . " ويتخذها هزوا " قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم بالرفع عطفا على " من يشتري " ويجوز أن يكون مستأنفا . وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي : " ويتخذها " بالنصب عطفا على " ليضل " . ومن الوجهين جميعا لا يحسن الوقف على قوله : " بغير علم " والوقف على قوله : " هزوا " ، والهاء في " يتخذها " كناية عن الآيات . ويجوز أن يكون كناية عن السبيل ؛ لأن السبيل يؤنث ويذكر . " أولئك لهم عذاب مهين " أي شديد يهينهم قال الشاعر :
ولقد جزعت إلى النصارى بعدما*** لَقِيَ الصليب من العذاب مهينا{[12566]}
ولما كان فطم النفس عن الشهوات . أعظم هدى قائد{[53629]} إلى حصول المرادات ، وكان اتباعها{[53630]} الشهوات أعظم قاطع عن الكمالات ، وكان في ختام الروم أن{[53631]} من وقف مع الموهومات عن طلب المعلومات مطبوع على قلبه ، وكان ما دعا إليه الكتاب هو{[53632]} الحكمة التي نتيجتها الفوز ، وما دعا إليه اللهو هو السفه المضاد للحكمة ، بوضع الأشياء في غير مواضعها ، المثمر للعطب{[53633]} ، قال تعالى معجباً ممن يترك الجد إلى اللهو ، ويعدل
عن{[53634]} جوهر العلم إلى صدق{[53635]} السهو ، عاطفاً على ما تقديره : فمن الناس من يتحلى بهذا الحال فيرقى إلى حلبة{[53636]} أهل الكمال : { ومن } ويمكن أن يكون حالاً من فاعل الإشارة . أي أشير إلى آيات الكتاب الحكيم حال كونه هدى لمن ذكر والحال أن من { الناس } أي الذين هم في أدنى رتبة{[53637]} الإحساس ، لم يصلوا إلى رتبة أهل الإيمان ، فضلاً عن مقام أولي الإحسان .
ولما كان التقدير : من يسير بغير هذا السير ، فيقطع{[53638]} نفسه عن كل خير ، عبر عنه بقوله : { من يشتري } أي{[53639]} غير مهتد{[53640]} بالكتاب ولا مرحوم{[53641]} به { لهو الحديث } أي ما يلهي من الأشياء المتجددة التي تستلذ فيقطع بها{[53642]} الزمان من الغناء والمضحكات وكل شيء لا اعتبار فيه ، فيوصل النفس بما أوصلها إليه من اللذة إلى مجرد الطبع البهيمي فيدعوها إلى العبث{[53643]} من اللعب كالرقص{[53644]} ونحوه مجتهداً{[53645]} في ذلك معملاً الحيل في تحصيله باشتراء سببه ، معرضاً عن اقتناص العلوم وتهذيب النفس بها{[53646]} عن الهموم{[53647]} والغموم ، فينزل إلى أسفل سافلين {[53648]}كما علا الذي{[53649]} قبله بالحكمة إلى أعلى عليين - قال{[53650]} ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في رجل اشترى جارية تغنيه ليلاً ونهاراً ، وقال مجاهد{[53651]} : في شرى القيان والمغنين والمغنيات ، وقال{[53652]} ابن مسعود : اللهو الغناء ، وكذا قال ابن عباس وغيره .
ولما كان من المعلوم أن عاقبة هذه الملاهي الضلال ، بانهماك النفس في ذلك ، لما طبعت عليه من الشهوة لمطلق البطالة ، فكيف مع ما يثير ذلك ويدعو إليه من اللذاذة ، فتصير أسيرة{[53653]} الغفلة عن الذكر ، وقبيلة الإعراض عن الفكر ، وكان المخاطب بهذا الكتاب قوماً{[53654]} يدعون العقول الفائقة ، والأذهان الصافية{[53655]} الرائقة قال تعالى : { ليضل } من الضلال والإضلال على القراءتين{[53656]} ، ضد{[53657]} ما كان عليه المحسنون من الهدى { عن سبيل الله } أي الطريق {[53658]}الواضح الواسع{[53659]} الموصل إلى رضى الملك الأعلى المستجمع لصفات{[53660]} الكمال والجلال والجمال التي هم مقرّون بكثير منها ، منبهاً لهم{[53661]} على أن هذا مضل عن السبيل ولا بد ، وأن ذلك بحيث لا يخفى عليهم ، فإن كان {[53662]}مقصوداً لهم{[53663]} فهو ما لا يقصده من له عداد البشر ، وإلا كانوا من الغفلة وسوء النظر وعمى البصيرة بمنزلة هي دون ذلك بمراحل .
ولما كان المراد : من قصد الضلال عن الشيء ، ترك ذلك الشيء ، وكان العاقل لا يقدم على ترك شيء إلا {[53664]}وهو عالم{[53665]} بأنه لا خير فيه قال : { بغير علم } ونكره ليفيد السلب العام لكل نوع من أنواع العلم ، أي لأنهم لا علم لهم بشيء من حال السبيل ولا حال غيرها ، علماً يستحق إطلاق العلم عليه بكونه يفيد ربحاً أو يبقى على رأس مال من دين أو دنيا ، فإن هذا حال{[53666]} من استبدل الباطل بالحق والضلال بالهدى .
ولما كان المستهزئ بالشيء المحتقر له لا يتمكن{[53667]} من ذلك إلا بعد الخبرة التامة بحال ذلك الشيء وأنه لا يصلح لصالحه{[53668]} ولا يروج له حال بحال قال{[53669]} معجباً تعجيباً آخر أشد من الأول بالنصب عطفاً{[53670]} على " يضل " في قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ، وبالرفع للباقين عطفاً على { يشتري } : { ويتخذها } أي يكلف نفسه ضد ما تدعوه إليه فطرته الأولى{[53671]} أن يأخذ السبيل التي لا أشرف منها مع ما ثبت له من الجهل الطلق { هزواً } .
ولما أنتج له{[53672]} هذا الفعل الشقاء الدائم . بينه بقوله ، جامعاً حملاً{[53673]} على معنى " من " بعد أن{[53674]} أفرد حملاً على لفظها ، لأن الجمع في مقام الجزاء أهول ، والتعجيب من الواحد أبلغ{[53675]} { أولئك } أي{[53676]} الأغبياء البعيدون عن{[53677]} رتبة الإنسان ، وتهكم{[53678]} بهم التعبير باللام الموضوعة لما يلائم{[53679]} فقال : { لهم عذاب مهين * } أي يثبت لهم الخزي الدائم ضد ما كان للمحسنين{[53680]} من الرحمة .