تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَوۡمَ تَرَوۡنَهَا تَذۡهَلُ كُلُّ مُرۡضِعَةٍ عَمَّآ أَرۡضَعَتۡ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمۡلٍ حَمۡلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَٰرَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٞ} (2)

{ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ } مع أنها مجبولة على شدة محبتها لولدها ، خصوصا في هذه الحال ، التي لا يعيش إلا بها .

{ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا } من شدة الفزع والهول ، { وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى } أي : تحسبهم -أيها الرائي لهم- سكارى من الخمر ، وليسوا سكارى .

{ وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ } فلذلك أذهب عقولهم ، وفرغ قلوبهم ، وملأها من الفزع ، وبلغت القلوب الحناجر ، وشخصت الأبصار ، وفي ذلك اليوم ، لا يجزي والد عن ولده ، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا .

ويومئذ { يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ* لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ }

وهناك { يعض الظالم على يديه ، يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا } وتسود حينئذ وجوه وتبيض وجوه ، وتنصب الموازين ، التي يوزن بها مثاقيل الذر ، من الخير والشر ، وتنشر صحائف الأعمال وما فيها من جميع الأعمال والأقوال والنيات ، من صغير وكبير ، وينصب الصراط على متن جهنم ، وتزلف الجنة للمتقين ، وبرزت الجحيم للغاوين . { إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا* وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا } ويقال لهم : { لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا } وإذا نادوا ربهم ليخرجهم منها ، قال : { اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ } قد غضب عليهم الرب الرحيم ، وحضرهم العذاب الأليم ، وأيسوا من كل خير ، ووجدوا أعمالهم كلها ، لم يفقدوا منها نقيرا ولا قطميرا .

هذا ، والمتقون في روضات الجنات يحبرون ، وفي أنواع اللذات يتفكهون ، وفيما اشتهت أنفسهم خالدون ، فحقيق بالعاقل الذي يعرف أن كل هذا أمامه ، أن يعد له عدته ، وأن لا يلهيه الأمل ، فيترك العمل ، وأن تكون تقوى الله شعاره ، وخوفه دثاره ، ومحبة الله ، وذكره ، روح أعماله .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَوۡمَ تَرَوۡنَهَا تَذۡهَلُ كُلُّ مُرۡضِعَةٍ عَمَّآ أَرۡضَعَتۡ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمۡلٍ حَمۡلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَٰرَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٞ} (2)

ثم يأخذ في التفصيل . فإذا هو أشد رهبة من التهويل . . إذا هو مشهد حافل بكل مرضعة ذاهلة عما أرضعت تنظر ولا ترى ، وتتحرك ولا تعي . وبكل حامل تسقط حملها للهول المروع ينتابها . . وبالناس سكارى وما هم بسكارى ، يتبدى السكر في نظراتهم الذاهلة ، وفي خطواتهم المترنحة . . مشهد مزدحم بذلك الحشد المتماوج ، تكاد العين تبصره لحظة التلاوة ، بينما الخيال يتملاه . والهول الشاخص يذهله ، فلا يكاد يبلغ أقصاه . . وهو هول حي لا يقاس بالحجم والضخامة ، ولكن يقاس بوقعه في النفوس الآدمية : في المرضعات الذاهلات عما أرضعن - وما تذهل المرضعة عن طفلها وفي فمه ثديها إلا للهول الذي لا يدع بقية من وعي - والحوامل الملقيات حملهن ، وبالناس سكارى وما هم بسكارى : ( ولكن عذاب الله شديد ) . .

إنه مطلع عنيف مرهوب تتزلزل له القلوب . .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَوۡمَ تَرَوۡنَهَا تَذۡهَلُ كُلُّ مُرۡضِعَةٍ عَمَّآ أَرۡضَعَتۡ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمۡلٍ حَمۡلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَٰرَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٞ} (2)

{ يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت } تصوير لهولها والضمير لل{ زلزلة } ، و { يوم } منصوب ب { تذهل } ، وقرئ { تذهل } و { تذهل } مجهولا ومعروفا أي تذهلها الزلزلة ، والذهول الذهاب عن الأمر بدهشة ، والمقصود الدلالة على أن هولها بحيث إذا دهشت التي ألقمت الرضيع ثديها نزعته من فيه وذهلت عنه ، و { ما } موصولة أو مصدرية { وتضع كل ذات حمل حملها } جنينها . { وترى الناس سكارى } كأنهم سكارى . { وما هم بسكارى } على الحقيقة . { ولكن عذاب الله شديد } فأرهقهم هوله بحيث طير عقولهم وأذهب تمييزهم ، وقرئ { ترى } من أريتك قائما أو رؤيت قائما بنصب الناس ورفعه على أنه نائب مناب الفاعل ، وتأنيثه على تأويل الجماعة وإفراده بعد جمعه لأن الزلزلة يراها الجميع ، وأثر السكر إنما يراه كل أحد على غيره وقرأ حمزة والكسائي " سكرى " كعطشى إجراء للسكر مجرى العلل .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَوۡمَ تَرَوۡنَهَا تَذۡهَلُ كُلُّ مُرۡضِعَةٍ عَمَّآ أَرۡضَعَتۡ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمۡلٍ حَمۡلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَٰرَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٞ} (2)

والضمير في { ترونها } عائد عندهم على الزلزلة وقوى قولهم إن الرضاع والحمل إنما هو في الدنيا ، وقالت فرقة «الزلزلة » في القيامة واحتجت بحديث أنس المذكور آنفاً إذ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية ثم قال «إنه اليوم الذي يقول الله تعالى فيه لآدم أخرج بعث النار » ع وهذا الحديث لا حجة فيه لأنه يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ الآية المتضمنة ابتداء أمر الساعة ثم قصد في تذكيره وتخويفه إلى فصل من فصول يوم القيامة فنص ذكره وهذا من الفصاحة ، والضمير عند هذه الفرقة عائد على { الساعة } أي يوم يرون ابتداءها في الدنيا ، فيصح لهم بهذا التأويل أن لا يلزمهم وجود الرضاع والحمل في يوم القيامة ولو أعادوه على الزلزلة فسد قولهم بما يلزمهم ، على أن النقاش ذكر أن المراد ب { كل ذات حمل } من مات من الإناث وولدها في جوفها . ع وهذا ضعيف و «الذهول » الغفلة عن الشيء بطريان{[8296]} ما يشغل عنه من هم أو وجع أو غيره وقال ابن زيد المعنى تترك ولدها للكرب الذي نزل بها ، وقرأ ابن أبي عبلة «تُذهِل » بضم التاء وكسر الهاء ونصب «كلَّ »{[8297]} وألحق الهاء في «مرضع » لأنه أراد فاعلات ذلك في ذلك اليوم فأجراه على الفعل وأما إذا أخبرت عن المرأة بأن لها طفلاً ترضعه فإنما تقول مرضع مثل حامل{[8298]} قال علي بن سليمان هذه الهاء في { مرضعة } ترد على الكوفيين قولهم إن الهاء لا تكون فيما لا تلبس له بالرجال ، وحكى الطبري أن بعض نحويي الكوفة قال أم الصبي مرضعة ، { وترى الناس سكارى } تشبيه لهم ، أي من الهم ، ثم نفى عنهم السكر الحقيقي الذي هو من الخمر قال الحسن وغيره ، وقرأ جمهور القراء «سُكارى » بضم السين وثبوت الألف وكذلك في الثاني وهذا هو الباب فمرة جعله سيبويه جمعاً ومرة جعله اسم جمع ، وقرأ أبو هريرة بفتح السين فيهما وهذا أيضاً قد يجيء في هذه الجموع قال أبو الفتح هو تكسير ، وقال أبو حاتم هي لغة تميم ، وقرأ حمزة والكسائي «سكرى » في الموضعين ، ورواه عمران بن حصين وأبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي قراءة ابن مسعود وحذيفة وأصحاب عبد الله ، قال سيبويه وقوم يقولون «سكرى » جعلوه مثل مرضى لأنهما شيئان يدخلان على الإنسان ، ثم جعلوا روبى مثل سكرى وهو المستثقلون نوماً من شرب الرائب ، قال أبو علي ويصح أن يكون «سكرى » جمع سكر كزمن وزمنى وقد حكى سيبويه رجل سكر بمعنى سكران فتجيء «سكرى » حينئذ لتأنيث الجمع كعلامة في طائفة لتأنيث الجمع ، وقرأ سعيد بن جبير «وترى الناس سكرى وما هم بسُكارى » بالضم والألف ، وحكى المهدوي عن الحسن أنه قرأ الناس «سكارى وما هم بسكرى » ، وقرأ الحسن{[8299]} والأعرج وأبو زرعة بن عمرو بن جرير في الموضعين «سُكرى » بضم السين ، قال أبو الفتح هو اسم مفرد كالبشرى وبهذا أفتاني أبو علي وقد سألته عن هذا{[8300]} ، وقرأ أبو زرعة بن عمرو بن جرير وأبو هريرة وأبو نهيك «وتُرى » بضم التاء «الناسَ » بالنصب قال وإنما هي محسبة{[8301]} ، ورويت هذه القراءة «تُرى الناسُ » بضم التاء والسين أي ترى جماعة الناس{[8302]} .


[8296]:في الأصل: "بطريان ما يشغل عنه".
[8297]:قال الفراء في (معاني القرآن): "ولو قيل: تذهل كل مرضعة، وأنت يريد الساعة أنها تذهل أهلها كان وجها، ولم أسمع أحدا قرأ به". هذا وقد قرأ به اليماني أيضا مع ابن أبي عبلة كما قال صاحب البحر المحيط.
[8298]:قال الخليل ما خلاصته: إذا وصفت المرأة بفعل هي تفعله قلت مفعلة، كقوله تعالى: {يوم ترونها تذهل كل مرضعة}، أما إذا وصفتها بفعل واقع منها أو لازم لها قلت: مفعل، كقولك: امرأة مطفل، أي ذات طفل، بلا هاء، وعلى هذا نفهم الوجه في قول امرئ القيس: فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع فألهيتها عن ذي تمائم مغيل وقول الآخر: كمرضعة أولاد أخرى وضيعت بني بطنها، هذا الضلال عن القصد
[8299]:لم أجد في كتب التفسير من نسب قراءة [سكرى] بفتح السين إلى الحسن إلا ابن عطية هنا نقلا عن المهدوي، أما قراءته بالضم [سكرى] فقد نسبها له أبو الفتح في المحتسب. وصاحب البحر المحيط. وقد رواها عن الحسن ابن مجاهد.
[8300]:راجع المحتسب (2 ـ 74).
[8301]:أي بحسب ظنه وتخيله، كأنه قال: تظن ويخيل إليك. قال أبو حيان في البحر المحيط: "عدي (ترى) إلى مفاعيل ثلاثة، أحدهما الضمير المستكن في (ترى) وهو ضمير المخاطب مفعول لم يسم فاعله، والثاني والثالث {الناس سكارى}.
[8302]:أي أن التأنيث جاء لمعنى الجماعة من الناس.