{ 5 } { أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }
يخبر تعالى عن جهل المشركين ، وشدة ضلالهم ، أنهم { يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ } أي : يميلونها { لِيَسْتَخْفُوا } من الله ، فتقع صدورهم حاجبة لعلم الله بأحوالهم ، وبصره لهيئاتهم .
قال تعالى -مبينا خطأهم في هذا الظن- { أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ } أي : يتغطون بها ، يعلمهم في تلك الحال ، التي هي من أخفى الأشياء .
بل { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ } من الأقوال والأفعال { وَمَا يُعْلِنُونَ } منها ، بل ما هو أبلغ من ذلك ، وهو : { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : بما فيها من الإرادات ، والوساوس ، والأفكار ، التي لم ينطقوا بها ، سرا ولا جهرا ، فكيف تخفى عليه حالكم ، إذا ثنيتم صدوركم لتستخفوا منه .
ويحتمل أن المعنى في هذا أن الله يذكر إعراض المكذبين للرسول الغافلين عن دعوته ، أنهم -من شدة إعراضهم- يثنون صدورهم ، أي : يحدودبون حين يرون الرسول صلى الله عليه وسلم لئلا يراهم ويسمعهم دعوته ، ويعظهم بما ينفعهم ، فهل فوق هذا الإعراض شيء ؟ "
ثم توعدهم بعلمه تعالى بجميع أحوالهم ، وأنهم لا يخفون عليه ، وسيجازيهم بصنيعهم .
وبعد إعلان خلاصة الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير . . يمضي السياق يعرض كيف يتلقى فريق منهم تلك الآيات ، عندما يقدمها لهم النذير البشير ، ويصور الوضع الحسي الذي يتخذونه والحركة المادية المصاحبة له وهي إحناء رؤوسهم وثني صدورهم للتخفي . ويكشف عن العبث في تلك المحاولة وعلم الله يتابعهم في أخفى أوضاعهم ؛ وكل دابة في الأرض مثلهم يشملها العلم اللطيف الدقيق :
( ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه . ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون ، إنه عليم بذات الصدور . وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ، ويعلم مستقرها ومستودعها . كل في كتاب مبين ) . .
والآيتان الكريمتان تستحضران مشهدا فريدا ترجف له القلوب حين تتدبره وتتصوره !
ويا لها من رهبة غامرة ، وروعة باهرة ، حين يتصور القلب البشري حضور الله - سبحانه - وإحاطة علمه وقهره ؛ بينما أولئك العبيد الضعاف يحاولون الاستخفاء منه وهم يواجهون آياته يتلوها رسوله :
( ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه . ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون . إنه عليم بذات الصدور ) . .
ولعل نص الآية إنما يصور حالة واقعة كانت تصدر من المشركين ورسول الله [ ص ] يسمعهم كلام الله ؛ فيثنون صدورهم ويطأطئون رؤوسهم استخفاء من الله الذي كانوا يحسون في أعماقهم أنه قائل هذا الكلام . . وذلك كما ظهر منهم في بعض الأحيان !
ولا يكمل السياق الآية حتى يبين عبث هذه الحركة ، والله ، الذي أنزل هذه الآيات ، معهم حين يستخفون وحين يبرزون . ويصور هذا المعنى - على الطريقة القرآنية - في صورة مرهوبة ، وهم في وضع خفي دقيق من أوضاعهم . حين يأوون إلى فراشهم ، ويخلون إلى أنفسهم ، والليل لهم ساتر ، وأغطيتهم لهم ساتر . ومعذلك فالله معهم من وراء هذه الأستار حاضر ناظر قاهر . يعلم في هذه الخلوة ما يسرون وما يعلنون :
( ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون ) .
والله يعلم ما هو أخفى . وليست أغطيتهم بساتر دون علمه . ولكن الإنسان يحس عادة في مثل هذه الخلوة أنه وحيد لا يراه أحد . فالتعبير هكذا يلمس وجدانه ويوقظه ، ويهزه هزة عميقة إلى هذه الحقيقة التي قد يسهو عنها ، فيخيل إليه أنه ليس هناك من عين تراه !
عليم بالأسرار المصاحبة للصدور ، التي لا تفارقها ، والتي تلزمها كما يلزم الصاحب صاحبه ، أو المالك ملكه . . فهي لشدة خفائها سميت ذات الصدور . ومع ذلك فالله بها عليم . . وإذن فما من شيء يخفى عليه ، وما من حركة لهم أو سكنة تذهب أو تضيع .
قال ابن عباس : كانوا يكرهون أن يستقبلوا السماء بفروجهم ، وحال وقاعهم ، فأنزل الله هذه الآية . رواه البخاري من حديث ابن جُرَيْج ، عن محمد بن عباد بن جعفر ؛ أن ابن عباس قرأ : " أَلا إِنِّهُمْ تَثْنوني{[14478]} صُدُورهُم " ، فقلت : يا أبا عباس ، ما تثنوني{[14479]} صدورهم ؟ قال : الرجل كان يجامع امرأته فيستحيي - أو : يتخلى فيستحيي فنزلت : " أَلا إِنِّهُمْ تَثْنوني{[14480]} صُدُورهُم " .
وفي لفظ آخر له : قال ابن عباس : أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا ، فيفضوا إلى السماء ، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء ، فنزل ذلك فيهم .
ثم قال : حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو قال : قرأ{[14481]} ابن عباس " أَلا إِنِّهُمْ يَثْنوني صُدُورهُم لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتغْشُونَ ثِيَابَهُم " .
قال البخاري : وقال غيره ، عن ابن عباس : { يَسْتَغْشُونَ } يغطون رءوسهم{[14482]} وقال ابن عباس في رواية أخرى في تفسير هذه الآية : يعني به الشك في الله ، وعمل السيئات ، وكذا روي عن مجاهد ، والحسن ، وغيرهم : أي أنهم كانوا يثنون صدورهم إذا قالوا شيئًا أو عملوه ، يظنون أنهم يستخفون من الله بذلك ، فأعلمهم الله تعالى أنهم{[14483]} حين يستغشون ثيابهم عند منامهم في ظلمة الليل ، { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ } {[14484]} من القول : { وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : يعلم ما تكن صدورهم من النيات والضمائر والسرائر . وما أحسن ما قال زهير بن أبي سلمى في معلقته المشهورة :
فَلا تَكْتُمُنَّ الله ما في نفوسكم *** ليخفى ، فمهما يُكتم{[14485]} الله يَعْلم
يُؤخَر فيوضَع في كتاب فَيُدخَر*** ليوم حساب ، أو يُعَجل فَيُنْقمِ{[14486]}-{[14487]}
فقد اعترف هذا الشاعر الجاهلي بوجود الصانع وعلمه بالجزئيات ، وبالمعاد وبالجزاء ، وبكتابة الأعمال في الصحف ليوم القيامة .
وقال عبد الله بن شداد : كان أحدهم إذا مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ثنى{[14488]} صدره ، وغطى رأسه فأنزل الله ذلك .
وعود الضمير{[14489]} على الله أولى ؛ لقوله : { أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } .
وقرأ ابن عباس : " أَلا إِنِّهُمْ تَثْنوني{[14490]} صُدُورُهُم " ، برفع الصدور على الفاعلية ، وهو قريب المعنى .
قيل : إن هذه الآية نزلت في الكفار الذين كانوا إذا لقيهم رسول الله عليه وسلم تطامنوا وثنوا صدورهم كالمستتر{[6251]} ، وردوا إليه ظهورهم وغشوا وجوههم بثيابهم تباعداً منه وكراهة للقائه ، وهم يظنون أن ذلك يخفى عليه وعلى الله عز وجل فنزلت الآية في ذلك .
و { صدورهم } منصوبة على هذا ب { يثنون } . وقيل : هي استعارة للغل والحقد الذي كانوا ينطوون عليه كما تقول : فلان يطوي كشحه على عداوته ، ويثني صدره عيلها .
فمعنى الآية : ألا إنهم يسرون العداوة ويتكتمون بها لتخفى في ظنهم عن الله ، وهو تعالى حين تغشيهم بثيابهم وإبلاغهم في التستر يعلم ما يسرون .
وقرأ سعيد بن جبير «يُثنُون » بضم الياء والنون من أثنى ، وقرأ ابن عباس «ليثنوه » ، وقرأ ابن عباس أيضاً ومجاهد وابن يعمر{[6252]} وابن بزي ونصر بن عاصم والجحدري وابن إسحاق وابن رزين{[6253]} ، وعلي بن الحسين وأبو جعفر محمد بن علي ويزيد بن علي وجعفر بن محمد وأبو الأسود{[6254]} والضحاك . «تثنوني صدورُهم » برفع الصدور وهي تحتمل المعنيين المتقدمين في { يثنون } وزنها تفوعل على بناء مبالغة لتكرار الأمر ، كما تقول اعشوشبت الأرض واحلولت الدنيا ونحو ذلك{[6255]} . وحكى الطبري عن ابن عباس على هذه القراءة أن هذه الآية نزلت في أن قوماً كانوا لا يأتون النساء والحدث إلا ويتغشون ثيابهم كراهية أن يفضوا بفروجهم إلى السماء . وقرأ ابن عباس - فيما روى ابن عيينة - «تثنو » بتقديم الثاء على النون وبغير نون بعد الواو{[6256]} ، وقال أبو حاتم هذه القراءة غلط لا تتجه{[6257]} ، وقرأ نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق «ينثوي » بتقديم النون على الثاء ، وقرأ عروة وابن أبي أبزى والأعشى «تثنَون » بثاء مثلثة بعدها نون مفتوحة بعدها واو مكسورة ، وقرأ أيضاً هما{[6258]} ومجاهد فيما روي عنه «تثنان » بهمزة بدل الواو وهاتان مشتقة من الثن وهي العشب المثني بسهولة{[6259]} ، فشبه صدورهم به إذ هي مجيبة إلى هذا الانطواء على المكر والخدع : وأصل «تثنون »{[6260]} تثنونن سكنت النون المكسورة ونقلت حركتها إلى الواو التي قبلها وأدغمت في النون التي بعدها ، وأما «تثنان » فأصلها تثنان مثل تحمار ثم قالوا : اثنانت كما قالوا احمار وابياض{[6261]} ، والضمير في { منه } عائد على الله تعالى ، هذا هو الأفصح الأجزل في المعنى وعلى بعض التأويلات يمكن أن يعود على محمد صلى الله عليه وسلم ، و { يستغشون } معناه يجعلونها أغشية وأغطية ومنه قول الخنساء : [ البسيط ]
أرعى النجوم وما كلّفت رعيتها*** وتارة اتَغَشَّى فضل أطماري{[6262]}
وقرأ ابن عباس «على حين يستغشون » ومن هذا الاستعمال قول النابغة : [ الطويل ]
على حين عاتبت المشيب على الصبا*** وقلت ألمّا أصحُ والشيبُ وازع{[6263]}
و { ذات الصدور } : ما فيها ، والذات تتصرف في الكلام على وجوه هذا أحدهما كقول العرب : الذئب مغبوط بذي بطنه{[6264]} أي بالذي فيه من النفخ وكقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه : إنما هو ذو بطن بنت خارجة ، والذات التي هي حقيقة الشيء ونفسه قلقة في هذا الموضع ؛ ويحتمل أن يفرق بين ذي بطنه وبين الذات وإنما يجمع بينهما المعنى .