{ قد كان لكم آية } أي : عبرة عظيمة { في فئتين التقتا } وهذا يوم بدر { فئة تقاتل في سبيل الله } وهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه { وأخرى كافرة } أي : كفار قريش الذين خرجوا من ديارهم بطرا وفخرا ورئاء الناس ، ويصدون عن سبيل الله ، فجمع الله بين الطائفتين في بدر ، وكان المشركون أضعاف المؤمنين ، فلهذا قال { يرونهم مثليهم رأي العين } أي : يرى المؤمنون الكافرين يزيدون عليها زيادة كثيرة ، تبلغ المضاعفة وتزيد عليها ، وأكد هذا بقوله { رأي العين } فنصر الله المؤمنين وأيدهم بنصره فهزموهم ، وقتلوا صناديدهم ، وأسروا كثيرا منهم ، وما ذاك إلا لأن الله ناصر من نصره ، وخاذل من كفر به ، ففي هذا عبرة لأولي الأبصار ، أي : أصحاب البصائر النافذة والعقول الكاملة ، على أن الطائفة المنصورة معها الحق ، والأخرى مبطلة ، وإلا فلو نظر الناظر إلى مجرد الأسباب الظاهرة والعدد والعدد لجزم بأن غلبة هذه الفئة القليلة لتلك الفئة الكثيرة من أنواع المحالات ، ولكن وراء هذا السبب المشاهد بالأبصار سبب أعظم منه لا يدركه إلا أهل البصائر والإيمان بالله والتوكل على الله والثقة بكفايته ، وهو نصره وإعزازه لعباده المؤمنين على أعدائه الكافرين .
( قد كان لكم آية في فئتين التقتا : فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة ، يرونهم مثليهم رأي العين . والله يؤيد بنصره من يشاء . إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) . .
وقوله تعالى : ( يرونهم مثليهم رأي العين ) يحتمل تفسيرين : فإما أن يكون ضمير( يرون ) راجعا إلى الكفار ، وضمير( هم ) راجعا إلى المسلمين ، ويكون المعنى أن الكفار على كثرتهم كانوا يرون المسلمين القليلين( مثليهم ) . . وكان هذا من تدبير الله حيث خيل للمشركين أن المسلمين كثرة وهم قلة ، فتزلزلت قلوبهم وأقدامهم .
وإما أن يكون العكس ، ويكون المعنى أن المسلمين كانوا يرون المشركين ( مثليهم ) هم - في حين أن المشركين كانوا ثلاثة أمثالهم - ومع هذا ثبتوا وانتصروا .
والمهم هو رجع النصر إلى تأييد الله وتدبيره . . وفي هذا تخذيل للذين كفروا وتهديد . كما أن فيه تثبيتا للذين آمنوا وتهوينا من شأن أعدائهم فلا يرهبونهم . . وكان الموقف - كما ذكرنا في التمهيد للسورة - يقتضي هذا وذاك . . وكان القرآن يعمل هنا وهناك . .
وما يزال القرآن يعمل بحقيقته الكبيرة . وبما يتضمنه من مثل هذه الحقيقة . . إن وعد الله بهزيمة الذين يكفرون ويكذبون وينحرفون عن منهج الله ، قائم في كل لحظة . ووعد الله بنصر الفئة المؤمنة - ولو قل عددها - قائم كذلك في كل لحظة . وتوقف النصر على تأييد الله الذي يعطيه من يشاء حقيقة قائمة لم تنسخ ، وسنة ماضية لم تتوقف .
وليس على الفئة المؤمنة إلا أن تطمئن إلى هذه الحقيقة ؛ وتثق في ذلك الوعد ؛ وتأخذ للأمر عدته التي في طوقها كاملة ؛ وتصبر حتى يأذن الله ؛ ولا تستعجل ولا تقنط إذا طال عليها الأمد المغيب في علم الله ، المدبر بحكمته ، المؤجل لموعده الذي يحقق هذه الحكمة .
( إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) . .
ولا بد من بصر ينظر وبصير تتدبر ، لتبرز العبرة ، وتعيها القلوب . وإلا فالعبرة تمر في كل لحظة في الليل والنهار !
أي : قد كان لكم - أيها اليهود القائلون ما قلتم - { آيَةٌ } أي : دلالة على أن الله معز دينه ، وناصر رسوله ، ومظهر كلمته ، ومعل أمره { فِي فِئَتَيْنِ } أي : طائفتين { الْتَقَتَا } أي : للقتال { فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وهم المسلمون ، { وَأُخْرَى كَافِرَةٌ } وهم مشركو قريش يوم بدر .
وقوله : { يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ } قال بعض العلماء - فيما حكاه ابن جرير : يرى المشركون يوم بدر المسلمين مثليهم في العدد رأي أعينهم ، أي : جعل الله ذلك فيما رأوه سببًا لنصرة الإسلام عليهم . وهذا لا إشكال عليه إلا من جهة واحدة ، وهي أن المشركين بعثوا عمر بن سعد يومئذ قبل القتال يحزر{[4838]} لهم المسلمين ، فأخبرهم بأنهم ثلاثمائة ، يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا . وهكذا كان الأمر ، كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ثم لما وقع القتال أمدّهم الله بألف من خواص الملائكة وساداتهم .
والقول الثاني : " أن المعنى في قوله : { يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ } أي : ترى الفئة المسلمة الفئة الكافرة مثليهم ، أي : ضعفيهم في العدد ، ومع هذا نصرهم{[4839]} الله عليهم . وهذا لا إشكال فيه على ما رواه العوفي ، عن ابن عباس أن المؤمنين كانوا يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا والمشركين{[4840]} كانوا ستمائة وستة وعشرين رجلا . وكأن هذا القول مأخوذ من ظاهر هذه الآية ، ولكنه خلاف المشهور عند أهل التواريخ والسير وأيام الناس ، وخلاف المعروف عند الجمهور من أن المشركين كانوا ما بين التسعمائة إلى الألف كما رواه محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأل ذلك العبد
الأسود لبني الحجاج عن عدّة قريش ، فقال : كثير ، قال : " كم ينحرون كل يوم ؟ " قال : يومًا تسعًا{[4841]} ويومًا عشرًا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " القوم ما بين التسعمائة إلى الألف " {[4842]} .
وروى{[4843]} أبو إسحاق السَّبِيعي ، عن حارثة ، عن علي ، قال : كانوا ألفًا ، وكذا قال ابن مسعود . والمشهور أنهم كانوا ما بين التسعمائة إلى الألف ، وعلى كل تقدير فقد كانوا ثلاثة أمثال المسلمين ، وعلى هذا فيشكل هذا القول والله أعلم . لكن وجه ابن جرير هذا ، وجعله صحيحًا كما تقول : عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها ، وتكون{[4844]} محتاجًا إلى ثلاثة آلاف ، كذا قال . وعلى هذا فلا إشكال .
لكن بقي سؤال آخر وهو وارد على القولين ، وهو أن يقال : ما الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى في قصة بدر : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا } ؟ [ الأنفال : 44 ] والجواب : أن هذا كان في حال ، والآخر كان في حال{[4845]} أخرى ، كما قال السُّدِّي ، عن [ مرة ] الطيب{[4846]} عن ابن مسعود في قوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا [ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ] {[4847]} } الآية ، قال : هذا يوم بدر . قال عبد الله بن مسعود : وقد نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يُضْعَفون علينا ، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدًا ، وذلك قوله{[4848]} تعالى : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ } .
وقال أبو إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جانبي{[4849]} تراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة . قال : فأسرنا رجلا منهم فقلنا : كم كنتم ؟ قال : ألفا . فعندما عاين كل الفريقين الآخر رأى المسلمون المشركين مثليهم ، أي : أكثر منهم بالضعف ، ليتوكلوا ويتوجهوا ويطلبوا الإعانة من ربهم ، عز وجل . ورأى المشركون المؤمنين كذلك ليحصل لهم الرعب والخوف والجزع والهلع ، ثم لما حصل التصاف{[4850]} والتقى الفريقان قلل الله هؤلاء في أعين هؤلاء ، وهؤلاء في أعين هؤلاء ، ليقدم كل منهما على الآخر .
{ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا } أي : ليفرّق بين الحق والباطل ، فيظهر كلمة الإيمان على الكفر ، ويعز المؤمنين ويذل الكافرين ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ } [ آل عمران : 123 ] وقال هاهنا : { وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ } أي : إن في ذلك لمعتبرًا لمن له بصيرة وفهم يهتدي به إلى حكم الله وأفعاله ، وقدره الجاري بنصر عباده المؤمنين في هذه الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد .
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَىَ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لاُوْلِي الأبْصَارِ }
يعني بذلك جل ثناؤه : قل يا محمد للذين كفروا من اليهود الذين بين ظهراني بلدك : قد كان لكم آية يعني علامة ودلالة على صدق ما أقول إنك ستغلبون وعبرة ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ } عبرة وتفكر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله ، إلا أنه قال : ومتفكّر { في فِئَتَيْنِ } يعني في فرقتين وحزبين . والفئة : الجماعة من الناس التقتا للحرب ، وإحدى الفئتين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان معه ممن شهد وقعة بدر ، والأخرى مشركو قريش ، فئة تقاتل في سبيل الله ، جماعة تقاتل في طاعة الله وعلى دينه ، وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وأخرى كافرة وهم مشركو قريش . كما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَيَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ } أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر ، { وأُخْرَى كافرَةٌ } فئة قريش الكفار .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَيَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ } محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، { وأُخرَى كافرَةٌ } : قريش يوم بدر .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ } قال : في محمد وأصحابه ومشركي قريش يوم بدر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَيَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ } قال ذلك يوم بدر ، التقى المسلمون والكفار .
ورفعت { فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ } وقد قيل قبل ذلك في فئتين ، بمعنى : إحداهما تقاتل في سبيل الله على الابتداء ، كما قال الشاعر :
فكنتُ كَذِي رِجْلَيْنِ : رِجْلٌ صحيحةٌ *** وَرِجْلٌ رَمَى فِيها الزّمانُ فَشَلّتِ
فكنتُ كذِي رِجْلَيْنِ : رِجْلٌ صحيحةٌ *** ورِجْلٌ بِها رَيْبٌ من الحَدَثَانِ
فَأمّا التي صَحّتْ فأزْدُشَنُوءةٍ *** وَأمّا التي شَلّتْ فأزد عُمَانِ
وكذلك تفعل العرب في كل مكرر على نظير له قد تقدمه إذا كان مع المكرر خبر ترده على إعراب الأول مرة وتستأنفه ثانية بالرفع ، وتنصبه في التام من الفعل والناقص ، وقد جُرّ ذلك كلّه ، فخفض على الرد على أول الكلام ، كأنه يعني إذا خفض ذلك فكنت كذي رجلين كذي رجل صحيحة ورجل سقيمة . وكذلك الخفض في قوله : «فئة » ، جائز على الرد على قوله : «في فئتين التقتا » ، في فئة تقاتل في سبيل الله . وهذا وإن كان جائزا في العربية ، فلا أستجيز القراءة به لإجماع الحجة من القراء على خلافه ، ولو كان قوله : «فئة » جاء نصبا كان جائزا أيضا على قوله : قد كان لكم آية في فئتين التقتا مختلفتين .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأيَ العَيْنِ } .
اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته قراء أهل المدينة : «ترونهم » بالتاء ، بمعنى : قد كان لكم أيها اليهود آية في فئتين التقتا ، فئة تقاتل في سبيل الله ، والأخرى كافرة ، ترون المشركين مثلي المسلمين رأي العين . يريد بذلك عظتهم . يقول : إن لكم عبرة أيها اليهود فيما رأيتم من قلة عدد المسلمين ، وكثرة عدد المشركين ، وظفر هؤلاء مع قلة عددهم بهؤلاء مع كثرة عددهم . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة والبصرة وبعض المكيين : { يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ } بالياء ، بمعنى : يرى المسلمون الذين يقاتلون في سبيل الله الجماعة الكافرة مثلي المسلمين في القدر . فتأويل الاَية على قراءتهم : قد كان لكم يا معشر اليهود عبرة ومتفكّر في فئتين التقتا ، فئة تقاتل في سبيل الله ، وأخرى كافرة ، يرى هؤلاء المسلمون مع قلة عددهم هؤلاء المشركين في كثرة عددهم .
فإن قال قائل : وما وجه تأويل قراءة من قرأ ذلك بالياء ، وأي الفئتين رأت صاحبتها مثليها ؟ الفئة المسلمة هي التي رأت المشركة مثليها ، أم المشركة هي التي رأت المسلمة كذلك ، أم غيرهما رأت إحداهما كذلك ؟ قيل : اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : الفئة التي رأت الأخرى مثلي أنفسها الفئة المسلمة ، رأت عدد الفئة المشركة مثلي عدد الفئة المسلمة ، قلّلها الله عز وجل في أعينها حتى رأتها مثلي عدد أنفسها ، ثم قللها في حال أخرى ، فرأتها مثل عدد أنفسها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وأُخْرَى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رأيَ العَيْنِ } قال : هذا يوم بدر ، قال عبد الله بن مسعود : قد نظرنا إلى المشركين ، فرأيناهم يضعفون علينا ، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحدا ، وذلك قول الله عز وجل : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلّلُكُمْ فِي أعْيُنِهِمْ } .
فمعنى الاَية على هذا التأويل : قد كان لكم يا معشر اليهود آية في فئتين التقتا : إحداهما مسلمة ، والأخرى كافرة ، كثير عدد الكافرة ، قليل عدد المسلمة ، ترى الفئة القليل عددها ، الكثير عددها أمثالاً لها أنها تكثرها من العدد بمثل واحد ، فهم يرونهم مثليهم ، فيكون أحد المثلين عند ذلك ، العدد الذي هو مثل عدد الفئة التي رأتهم ، والمثل الاَخر : الضعف الزائد على عددهم ، فهذا أحد معنيي التقليل الذي أخبر الله عز وجل المؤمنين أنه قللهم في أعينهم¹ والمعنى الاَخر منه : التقليل الثاني على ما قاله ابن مسعود ، وهو أن أراهم عدد المشركين مثل عددهم لا يزيدون عليهم ، فذلك التقليل الثاني الذي قال الله جل ثناؤه : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أعْيُنِكُمْ قَلِيلاً } .
وقال آخرون من أهل هذه المقالة : إن الذين رأوا المشركين مثلي أنفسهم هم المسلمون ، غير أن المسلمين رأوهم على ما كانوا به من عددهم ، لم يقللوا في أعينهم ، ولكن الله أيدهم بنصره . قالوا : ولذلك قال الله عز وجل لليهود : قد كان لكم فيهم عبرة¹ يخوفهم بذلك أن يحل بهم منهم ، مثل الذي حل بأهل بدر على أيديهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ } . أنزلت في التخفيف يوم بدر ، فإنّ المؤمنين كانوا يومئذٍ ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، وكان المشركون مثليهم ، فأنزل الله عز وجل : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئْتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رأيَ العَيْنِ } وكان المشركون ستة وعشرين وستمائة ، فأيد الله المؤمنين ، فكان هذا الذي في التخفيف على المؤمنين .
وهذه الرواية خلاف ما تظاهرت به الأخبار عن عدة المشركين يوم بدر ، وذلك أن الناس إنما اختلفوا في عددهم على وجهين ، فقال بعضهم : كان عددهم ألفا ، وقال بعضهم : ما بين التسعمائة إلى الألف . ذكر من قال كان عددهم ألفا :
حدثني هارون بن إسحاق الهمداني ، قال : حدثنا مصعب بن المقدام ، قال : حدثنا إسرائيل ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن حارثة ، عن علي ، قال : سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر ، فسبقنا المشركين إليها ، فوجدنا فيها رجلين ، منهم رجل من قريش ، ومولى لعقبة بن أبي معيط¹ فأما القرشي فانفلت ، وأما مولى عقبة ، فأخذناه ، فجعلنا نقول : كم القوم ؟ فيقول : هم والله كثير شديد بأسهم . فجعل المسلمون إذا قال ذلك صدّقوه ، حتى انتهوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : «كَمِ القَوْمُ ؟ » فقال : هم والله كثير شديد بأسهم . فجهد النبي صلى الله عليه وسلم على أن يخبرهم كم هم ، فأبى . ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله : «كَمْ تَنْحَرُون مِنَ الجُزُرِ ؟ » قال : عشرة كل يوم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «القَوْمُ ألْفٌ » .
حدثني أبو سعيد بن يوشع البغدادي ، قال : حدثنا إسحاق بن منصور ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة عن عبد الله ، قال : أسرنا رجلاً منهم يعني من المشركين يوم بدر فقلنا : كم كنتم ؟ قال : ألفا .
ذكر من قال : كان عددهم ما بين التسعمائة إلى الألف :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : قال ابن إسحاق : ثني يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم نفرا من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له عليه ، فأصابوا راوية من قريش فيها أسلم غلام بني الحجاج ، وعريض أبو يسار غلام بني العاص ، فأتوا بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما : «كَمِ القَوْم ؟ » قالا : كثير . قال : «ما عِدّتُهُمْ ؟ » قالا : لا ندري . قال : «كَمْ تَنْحَرُونَ كُلّ يَوْمٍ ؟ » قالا : يوما تسعا ويوما عشرا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «القَوْمُ مَا بَيْنَ التّسْعِمَائَةِ إلى الألْفِ » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فَئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيهِمْ رأيَ العَيْنِ } ذلكم يوم بدر ألف المشركون ، أو قاربوا ، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ } إلى قوله : { رأيَ العَيْنِ } قال : يضعفون عليهم فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين يوم بدر .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رأيَ العَيْنِ } قال : كان ذلك يوم بدر ، وكان المشركون تسعمائة وخمسين ، وكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وثلاثة عشر .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وبضعة عشر ، والمشركون ما بين التسعمائة إلى الألف .
فكل هؤلاء الذين ذكرنا مخالفون القول الذي رويناه عن ابن عباس في عدد المشركين يوم بدر . فإذا كان ما قاله من حكيناه ممن ذكر أن عددهم كان زائدا على التسعمائة ، فالتأويل الأول الذي قلناه على الرواية التي روينا عن ابن مسعود أولى بتأويل الاَية .
وقال آخرون : كان عدد المشركين زائدا على التسعمائة ، فرأى المسلمون عددهم على غير ما كانوا به من العدد ، وقالوا : أرى الله المسلمين عدد المشركين قليلاً آية للمسلمين . قالوا : وإنما عنى الله عز وجل بقوله : { يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ } المخاطبين بقوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ } قالوا : وهم اليهود غير أنه رجع من المخاطبة إلى الخبر عن الغائب ، لأنه أمر من الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك لهم ، فحسن أن يخاطب مرة ، ويخبر عنهم على وجه الخبر مرة أخرى ، كما قال : { حتى إذَا كُنْتُمْ فِي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيّبَةٍ } .
وقالوا : فإن قال لنا قائل : فكيف قيل : { يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأيَ العَيْنِ } وقد علمتم أن المشركين كانوا يومئذٍ ثلاثة أمثال المسلمين ؟ قلنا لهم : كما يقول القائل وعنده عبد : أحتاج إلى مثله ، أنا محتاج إليه وإلى مثله ، ثم يقول : أحتاج إلى مثليه ، فيكون ذلك خبرا عن حاجته إلى مثله وإلى مثلي ذلك المثل ، وكما يقول الرجل : معي ألف وأحتاج إلى مثليه ، فهو محتاج إلى ثلاثة¹ فلما نوى أن يكون الألف داخلاً في معنى المثل ، صار المثل أشرف والاثنان ثلاثة ، قال : ومثله في الكلام : أراكم مثلكم ، كما يقال : إن لكم ضعفكم ، وأراكم مثليكم ، يعني أراكم ضعفيكم ، قالوا : فهذا على معنى ثلاثة أمثالهم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أن الله أرى الفئة الكافرة عدد الفئة المسلمة مثلي عددهم . وهذا أيضا خلاف ما دل عليه ظاهر التنزيل ، لأن الله جل ثناؤه قال في كتابه : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلّلُكُمْ فِي أعْيُنِهِمْ } فأخبر أن كلاً من الطائفتين قُلل عددهم في مرأى الأخرى .
وقرأ آخرون ذلك : «تُرَوْنَهم » بضم التاء ، بمعنى : يريكموهم الله مثليهم .
( وأولى هذه القراءات بالصواب قراءة من قرأ : { يَرَوْنَهُمْ } بالياء ، بمعنى : وأخرى كافرة ، يراهم المسلمون مثليهم ، يعني : مثلي عدد المسلمين ، لتقليل الله إياهم في أعينهم في حال ، فكان حزرهم إياهم كذلك ، ثم قللهم في أعينهم عن التقليل الأول ، فحزروهم مثل عدد المسلمين ، ثم تقليلاً ثالثا ، فحزروهم أقل من عدد المسلمين . ) كما :
حدثني أبو سعيد البغدادي ، قال : حدثنا إسحاق بن منصور ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله ، قال : لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي : تراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة . قال : فأسرنا رجلاً منهم ، فقلنا كم كنتم ؟ قال : ألفا .
وقد رُوي عن قتادة أنه كان يقول : لو كانت «تُرونهم » ، لكانت «مثليكم » .
حدثني المثنى ، قال : ثني عبد الرحمن بن أبي حماد ، عن ابن المعرك ، عن معمر ، عن قتادة بذلك .
ففي الخبرين اللذين روينا عن عبد الله بن مسعود ما أبان عن اختلاف حزر المسلمين يومئذٍ عدد المشركين في الأوقات المختلفة ، فأخبر الله عز وجل عما كان من اختلاف أحوال عددهم عند المسلمين اليهود على ما كان به عندهم ، مع علم اليهود بمبلغ عدد الفئتين ، إعلاما منه لهم أنه مؤيد المؤمنين بنصره ، لئلا يغتروا بعددهم وبأسهم ، وليحذروا منه أن يحل بهم من العقوبة على أيدي المؤمنين ، مثل الذي أحل بأهل الشرك به من قريش على أيديهم ببدرهم .
وأما قوله : { رأيَ العَيْنِ } فإنه مصدر رأيته ، يقال : رأيته رَأْيا ورؤية ، ورأيت في المنام رؤيَا حسنة غير مُجْراة ، يقال : هو مني رأي العين ورأي العين بالنصب والرفع ، يراد حيث يقع عليه بصري ، وهو من الرائي مثله ، والقوم رأوا إذا جلسوا حيث يرى بعضهم بعضا . فمعنى ذلك : يرونهم حيث تلحقهم أبصارهم ، وتراهم عيونهم مثليهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللّهُ يُوءَيّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنّ فِي ذَلِكَ لَعْبَرَةً لأُولِي الأبْصَارِ } .
يعني بقوله جل ثناؤه : { واللّهُ يُوءَيّد } : يقوّي بنصره من يشاء ، من قول القائل : قد أيدت فلانا بكذا : إذا قويته وأعنته ، فأنا أؤيده تأييدا ، و«فعلت » منه : إدْتُه فأنا أئيده أيدا¹ ومنه قول الله عز وجل : { وَاذْكُرْ عَبْدَنا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ } يعني ذا القوة .
وتأويل الكلام : قد كان لكم آية يا معشر اليهود في فئتين التقتا : إحداهما تقاتل في سبيل الله ، وأخرى كافرة ، يراهم المسلمون مثليهم رأي أعينهم ، فأيدنا المسلمة وهم قليل عددهم ، على الكافرة وهم كثير عددهم حتى ظفروا بهم معتبر ومتفكر ، والله يقوي بنصره من يشاء . وقال جل ثناؤه : إن في ذلك : يعني إن فيما فعلنا بهؤلاء الذين وصفنا أمرهم من تأييدنا الفئة المسلمة مع قلة عددهم ، على الفئة الكافرة مع كثرة عددها { لَعِبْرَةً } يعني لمتفكرا ومتعظا لمن عقل وادّكر فأبصر الحق . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { إِنّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأبْصَارِ } يقول : لقد كان لهم في هؤلاء عبرة وتفكر ، أيدهم الله ونصرهم على عدوهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .
وقوله تعالى : { قد كان لكم آية في فئتين } الآية تحتمل أن يخاطب بها المؤمنون وأن يخاطب بها جميع الكفار وأن يخاطب بها يهود المدينة ، وبكل احتمال منها قد قال قوم ، فمن رأى أن الخطاب بها للمؤمنين فمعنى الآية تثبيت النفوس وتشجيعها ، لأنه لما قال للكفار ما أمر به أمكن أن يستبعد ذلك المنافقون وبعض ضعفة المؤمنين ، كما قال قائل يوم الخندق : يعدنا محمد أموال كسرى وقيصر ، ونحن لا نأمن على أنفسنا في المذهب ، وكما قال عدي بن حاتم حين أخبره النبي عليه السلام بالأمنة التي تأتي ، فقلت في نفسي : وأين دعار طيىء الذين سعروا البلاد ؟ الحديث بكماله{[2984]} ، فنزلت الآية مقوية لنفوس المؤمنين ومبينة صحة ما أخبر به بالمثال الواقع ، فمن قرأ «ترونهم » بالتاء من فوق فهي مخاطبة لجميع المؤمنين إذ قد رأى ذلك جمهور منهم ، والهاء والميم في «ترونهم » تجمع المشركين ، وفي «مثلهم » لجميع المؤمنين{[2985]} ، ومن قرأ بالياء من تحت فالمعنى يرى الجمع من المؤمنين جمع الكفار مثلي جمع المؤمنين ، ومن رأى أن الخطاب لجميع الكفار ومن رأى أنه لليهود فالآية عنده داخلة فيما أمر محمد عليه السلام أن يقوله لهم احتجاجاً عليهم ، وتبييناً لصورة الوعيد المتقدم في أنهم سيغلبون ، فمن قرأ بالياء من تحت ، فالعنى يرى الجمع من المؤمنين جمع الكفار مثلي جمع المؤمنين ، ومن قرأ بالتاء فالمعنى لو حضرتم أو إن كنتم حضرتم وساغت العبارة لوضوح الأمر في نفسه ووقوع اليقين به لكل إنسان في ذلك العصر ، ومن قرأ بضم التاء أو الياء فكأن المعنى ، أن اعتقاد التضعيف في جميع الكفار إنما كان تخميناً وظناً لا يقيناً ، فلذلك ترك في العبارةضرب من الشك وذلك أن أرى بضم الهمزة تقولها فيما بقي عندك فيه نظر و-أرى- بفتح الهمزة تقولها فيما قد صح نظرك فيه ، ونحا هذا المنحى أبو الفتح وهو صحيح ، قال أبو علي : والرؤية في هذه الآية عين ، ولذلك تعدت إلى مفعول واحد ، و { مثليهم } نصب على الحال من الهاء والميم في { ترونهم } وأجمع الناس على الفاعل ب { ترونهم } المؤمنون والضمير المتصل هو للكفار ، إلا ما حكى الطبري عن قوم أنهم قالوا : بل كثر الله عدد المؤمنين في عيون الكفار حتى كانوا عندهم ضعفيهم ، وضعف الطبري هذا القول ، وكذلك هو مردود من جهات ، بل قلل الله كل طائفة في عين الأخرى ، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ، فقلل الكفار في عيون المؤمنين ليقع التجاسر ويحتقر العدو ، وهذا مع اعتقاد النبي وقوله ، واعتقاد أولي الفهم من أصحابه أنهم من التسعمائة إلى الألف{[2986]} ، لكن أذهب الله عنهم البهاء وانتشار العساكر وفخامة الترتيب ، حتى قال ابن مسعود في بعض ما روي عنه : لقد قلت لرجل إلى جنبي أتراهم سبعين ؟ فقال : أظنهم مائة ، فلما أخذنا الأسرى أخبرونا أنهم كانوا ألفاً ، وقلل الله المؤمنين في عيون الكفار ليغتروا ولا يحزموا ، وتظاهرت الروايات أن جمع الكفار ببدر كان نحو الألف فوق التسعمائة وأن جمع المؤمنين كان ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً وقيل وثلاثة عشر ، فكان الكفار ثلاثةاثلاث من المؤمنين ، لكن رجع بنو زهرة مع الأخنس بن شريق ، ورجع طالب بن أبي طالب{[2987]} وأتباع وناس كثير حتى بقي للقتال من يقرب من المثلين ، وقد ذكر النقاش نحواً من هذا فذكر الله تعالى المثلين ، إذ أمرهما متيقن لم يدفعه قط أحد ، وقد حكى الطبري عن ابن عباس : أن المشركين في قتال بدر كانوا ستمائة وستة وعشرين رجلاً ، وقد ذهب الزجاج وبعض المفسرين ، أنهم كانوا نحو الألف وأراهم الله للمؤمنين مثليهم فقط ، قال : فهذا التقليل في الآية الأخرى ، ثم نصرهم عليهم مع علمهم بأنهم مثلاهم في العدد ، لأنه كان أعلم المسلمين أن المائة منهم تغلب المائتين من الكفار ، وروى علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي عليه السلام أنه قال يوم بدر : القوم ألف{[2988]} ، وقوله تعالى : { لكم آية } يريد علامة وأمارة ومعتبراً ، والفئة : الجماعة من الناس سميت بذلك لأنها يفاء إليها ، أي يرجع في وقت الشدة ، وقال الزجاج : الفئة الفرقة ، مأخوذة من فأوت رأسه بالسيف ، ويقال : فأيته إذا فلقته ، ولا خلاف أن الإشارة بهاتين الفئتين هي إلى يوم بدر ، وقرأ جمهور الناس «فئةٌ تقاتل » برفع «فئةٌ » على خبر ابتداء ، تقديره إحداهما فئة ، وقرأ مجاهد والحسن والزهري وحميد : : فئةٍ «بالخفض على البدل ، ومنهم من رفع » كافرةٌ «ومنهم من خفضها على العطف ، وقرأ ابن أبي عبلة : » فئةً «بالنصب وكذلك » كافرة «قال الزجاج : يتجه ذلك على الحال كأنه قال : التقتا مؤمنة وكافرة ، ويتجه أن يضمر فعل أعني ونحوه و { رأي العين } نصب على المصدر ، و { ويؤيد } معناه يقوي من الأيد وهو القوة .