{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا } أي : سماع قبول وطاعة واستجابة ، { قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } أي : صارت هذه حالتهم { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ }{[94]} بسبب كفرهم .
{ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي : أنتم تدعون الإيمان وتتمدحون بالدين الحق ، وأنتم قتلتم أنبياء الله ، واتخذتم العجل إلها من دون الله ، لما غاب عنكم موسى ، نبي الله ، ولم تقبلوا أوامره ونواهيه إلا بعد التهديد ورفع الطور فوقكم ، فالتزمتم بالقول ، ونقضتم بالفعل ، فما هذا الإيمان الذي ادعيتم ، وما هذا الدين ؟ .
فإن كان هذا إيمانا على زعمكم ، فبئس الإيمان الداعي صاحبه إلى الطغيان ، والكفر برسل الله ، وكثرة العصيان ، وقد عهد أن الإيمان الصحيح ، يأمر صاحبه بكل خير ، وينهاه عن كل شر ، فوضح بهذا كذبهم ، وتبين تناقضهم .
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطّورَ خُذُواْ مَآآتَيْنَاكُم بِقُوّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ }
يعني بقوله جل ثناؤه : { وَإذْ أخَذْنَا مِيثاقَكُمْ } : واذكروا إذ أخذنا عهودكم بأن خذوا ما آتيناكم من التوراة التي أنزلتها إليكم أن تعملوا بما فيها من أمري ، وتنتهوا عما نهيتكم فيها بجدّ منكم في ذلك ونشاط ، فأعطَيْتُمْ على العمل بذلك ميثاقكم ، إذْ رفعنا فوقكم الجبل . أما قوله : وَاسْمَعُوا فإن معناه : واسمعوا ما أمرتكم به ، وتقبلوه بالطاعة كقول الرجل للرجل يأمره بالأمر : سمعت وأطعت ، يعني بذلك : سمعت قولك وأطعت أمرك . كما قال الراجز :
السّمْعُ والطّاعَةُ والتّسْلِيمُ *** خَيْرٌ وأعْفَى لِبَنِي تَمِيمْ
يعني بقوله السمع : قبول ما يسمع والطاعة لما يؤمر . فكذلك معنى قوله : وَاسْمَعُوا اقبلوا ما سمعتم واعملوا به .
قال أبو جعفر : فمعنى الآية : وإذ أخذنا ميثاقكم أن خذوا ما آتيناكم بقوّة ، واعملوا بما سمعتم ، وأطيعوا الله ، ورفعنا فوقكم الطور من أجل ذلك .
وأما قوله : قالُوا سَمِعْنا فإن الكلام خرج مخرج الخبر عن الغائب بعد أن كان الابتداء بالخطاب ، فإن ذلك كما وصفنا من أن ابتداء الكلام إذا كان حكاية فالعرب تخاطب فيه ثم تعود فيه إلى الخبر عن الغائب وتخبر عن الغائب ثم تخاطب كما بينا ذلك فيما مضى قبل . فكذلك ذلك في هذه الآية لأن قوله : { وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَكُمْ } بمعنى : قلنا لكم فأجبتمونا . وأما قوله : قالُوا سَمِعْنا فإنه خبر من الله عن اليهود الذين أخذ ميثاقهم أن يعملوا بما في التوراة وأن يطيعوا الله فيما يسمعون منها أنهم قالوا حين قيل لهم ذلك : سمعنا قولك وعصينا أمرك .
القول في تأويل قوله تعالى : { وأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهُمُ العِجْلَ بكُفْرِهِمْ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : { وأشربوا في قلوبهم }حبّ العجل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا معمر ، عن قتادة : { وأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهمُ العِجْلَ } قال : أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : { وأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ }قال : أشربوا حبّ العجل بكفرهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع : { وَأُشْرِبُوا في قُلُوبِهِمُ العِجْلَ } قال : أشربوا حبّ العجل في قلوبهم .
وقال آخرون : معنى ذلك أنهم سقوا الماء الذي ذُرّي فيه سحالة العجل . ذكر من قال ذلك .
حدثني موسى بن هارون . قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : لما رجع موسى إلى قومه أخذ العجل الذي وجدهم عاكفين عليه فذبحه ، ثم حَرَقَه بالمبرد ، ثم ذراه في اليمّ ، فلم يبق بحر يومئذ يجري إلا وقع فيه شيء منه . ثم قال لهم موسى : اشربوا منه فشربوا منه ، فمن كان يحبه خرج على شاربه الذهب فذلك حين يقول الله عزّ وجل : { وأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ بِكُفْرِهِمْ } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج عن ابن جريج ، قال : لما سُحِل فألقي في اليمّ استقبلوا جرية الماء ، فشربوا حتى ملئوا بطونهم ، فأورث ذلك من فعله منهم جُبْنا .
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين اللذين ذكرت بقول الله جل ثناؤه : { وأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ } تأويل من قال : وأشربوا في قلوبهم حبّ العجل لأن الماء لا يقال منه : أشرب فلان في قلبه ، وإنما يقال ذلك في حبّ الشيء ، فيقال منه : أشرب قلب فلان حبّ كذا ، بمعنى سقي ذلك حتى غلب عليه وخالط قلبه كما قال زهير :
فَصَحَوْتُ عَنْهَا بَعْدَ حُبّ داخِلٍ *** والحُبّ يُشْرَبُهُ فُؤَادُكَ دَاءُ
قال : ولكنه ترك ذكر الحبّ اكتفاءً بفهم السامع لمعنى الكلام ، إذ كان معلوما أن العجل لا يشرب القلب ، وأن الذي يشرب القلب منه حبه ، كما قال جل ثناؤه : { وَاسألْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ الّتي كانَتْ حاضرَةَ البَحْرِ } ، { وَاسْألِ القَرْيَةَ الّتِي كُنّا فِيهَا وَالْعِيرَ الّتِي أقْبَلْنَا فِيهَا } ، وكما قال الشاعر :
* ألا إنّني سُقّيتُ أسودَ حالِكا *** أَلاَ بَجَلي مِنَ الشّرَابِ أَلا بَجَلْ
يعني بذلك سَمّا أسود ، فاكتفى بذكر أسود عن ذكر السم لمعرفة السامع معنى ما أراد بقوله : «سُقيت أسود » ، ويروى :
*** ألا إنّني سُقِيتُ أسْوَدَ سالخا ***
وقد تقول العرب : إذا سرّك أن تنظر إلى السخاء فانظر إلى هَرِم أو إلى حاتم ، فتجتزىء بذكر الاسم من ذكر فعله إذا كان معروفا بشجاعة أو سخاء أو ما أشبه ذلك من الصفات . ومنه قول الشاعر :
يَقُولُونَ جاهِدْ يا جَمِيلُ بِغَزْوَةٍ *** وَإنّ جِهادا طَيّءٌ وَقِتالُهَا
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ بِئْسَما يأْمُرُكُمْ بِهِ إيمانُكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } .
يعني بذلك جل ثناؤه : قل يا محمد ليهود بني إسرائيل : بئس الشيء يأمركم به إيمانكم إن كان يأمركم بقتل أنبياء الله ورسله ، والتكذيب بكتبه ، وجحود ما جاء من عنده . ومعنى إيمانهم تصديقهم الذي زعموا أنهم به مصدّقون من كتاب الله ، إذ قيل لهم : آمنوا بما أنزل الله ، فقالوا : نؤمن بما أنزل علينا .
وقوله : { إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي إن كنتم مصدقين كما زعمتم بما أنزل الله عليكم . وإنما كذّبهم الله بذلك لأن التوراة تنهى عن ذلك كله وتأمر بخلافه ، فأخبرهم أن تصديقهم بالتوراة إن كان يأمرهم بذلك فبئس الأمر يأمر به . وإنما ذلك نفي من الله تعالى ذكره عن التوراة أن تكون تأمر بشيء مما يكرهه الله من أفعالهم ، وأن يكون التصديق بها يدلّ على شيء من مخالفة أمر الله ، وإعلام منه جل ثناؤه أن الذي يأمرهم بذلك أهواؤهم ، والذي يحملهم عليه البغيُ والعدوانُ .
عطف على قوله : { فلم تقتلون أنبياء الله } [ البقرة : 91 ] والقصد منه تعليم الانتقال في المجادلة معهم إلى ما يزيد إبطال دعواهم الإيمان بما أنزل إليهم خاصة ، وذلك أنه بعد أن أكذبهم في ذلك بقوله : { فلم تقتلون أنبياء الله من قبل } كما بينا ، ترقى إلى ذكر أحوالهم في مقابلتهم دعوة موسى الذي يزعمون أنهم لا يؤمنون إلا بما جاءهم به فإنهم مع ذلك قد قابلوا دعوته بالعصيان قولاً وفعلاً فإذا كانوا أعرضوا عن الدعوة المحمدية بمعذرة أنهم لا يؤمنون إلا بما أنزل عليهم فلماذا قابلوا دعوة أنبيائهم بعد موسى بالقتل ؟ ولماذا قابلوا ؟ دعوة موسى بما قابلوا . فهذا وجه ذكر هذه الآيات هنا وإن كان قد تقدم نظائرها فيما مضى ، فإن ذكرها هنا في محاجة أخرى وغرض جديد ، وقد بينتُ أن القرآن ليس مثل تأليف في علم يُحال فيه على ما تقدم بل هو جامع مواعظ وتذكيرات وقوارع ومجادلات نزلت في أوقات كثيرة وأحوال مختلفة فلذلك تتكرر فيه الأغراض لاقتضاء المقام ذكرها حينئذ عند سبب نزول تلك الآيات .
وفي « الكشاف » أن تكرير حديث رفع الطور هنا لما نيط به من الزيادة على ما في الآية السابقة معنى في قوله : { قالوا سمعنا وعصينا } الآية وهي نكتة في الدرجة الثانية .
وقال البيضاوي إن تكرير القصة للتنبيه على أن طريقتهم مع محمد صلى الله عليه وسلم طريقة أسلافهم مع موسى وهي نكتة في الدرجة الأولى وهذا إلزام لهم بعمل أسلافهم بناءً على أن الفرع يَتْبَع أصله والولد نسخة من أبيه ، وهو احتجاج خطابي .
والقول في هاته الآيات كالقول في سابقتها [ البقرة : 63 ] وكذلك القول في { البينات } . إلا أن قوله : { واسمعوا } مراد به الامتثال فهو كناية كما تقول فلان لا يسمع كلامي أي لا يمتثل أمري إذ ليس الأمر هنا بالسماع بمعنى الإصغاء إلى التوراة فإن قوله : { خذوا ما آتيناكم بقوة } يتضمنه ابتداء لأن المراد من الأخذ بالقوة الاهتمام به وأول الاهتمام بالكلام هو سماعه والظاهر أن قوله : { خذوا ما آتيناكم بقوة } لا يشمل الامتثال فيكون قوله : { واسمعوا } دالاً على معنى جديد وليس تأكيداً ، ولك أن تجعله تأكيداً لمدلول { خذوا ما آتيناكم بقوة } بأن يكون الأخذ بقوة شاملاً لنية الامتثال وتكون نكتة التأكيد حينئذ هي الإشعار بأنهم مظنة الإهمال والإخلال حتى أكد عليهم ذلك قبل تبين عدم امتثالهم فيما يأتي ففي هذه الآية زيادة بيان لقوله في الآية الأولى : { واذكروا ما فيه } [ البقرة : 63 ] .
واعلم أن من دلائل النبوة والمعجزات العلمية إشارات القرآن إلى العبارات الني نطق بها موسى في بني إسرائيل وكتبت في التوراة فإن الأمر بالسماع تكرر في مواضع مخاطباتِ موسى لملإ بني إسرائيل بقوله : اسمع يا إسرائيل ، فهذا من نكت اختيار هذا اللفظ للدلالة على الامتثال دون غيره مما هو أوضح منه وهذا مثل ما ذكرنا في التعبير بالعهد .
وقوله : { قالوا سمعنا وعصينا } يحتمل أنهم قالوه في وقت واحد جواباً لقوله : { واسمعوا } وإنما أجابوه بأمرين لأن قوله : { اسمعوا } تضمن معنيين معنى صريحاً ومعنى كنائياً فأجابوا بامتثال الأمر الصريح وأما الأمر الكنائي فقد رفضوه وذلك يتضمن جواب قوله : { خذوا ما آتيناكم بقوة } أيضا لأنه يتضمن ما تضمنه { واسمعوا } وفي هذا الوجه بعد ظاهر إذ لم يعهد منهم أنهم شافهوا نبيهم بالعزم على المعصية وقيل : إن قوله : { سمعنا } جواب لقوله : { خذوا ما آتيناكم } أي سمعنا هذا الكلام ، وقوله : { وعصينا } جواب لقوله : { واسمعوا } لأنه بمعنى امتثلوا ليكون كل كلام قد أجيب عنه ويبعده أن الإتيان في جوابهم بكلمة { سمعنا } مشير إلى كونه جواباً لقوله : { اسمعوا } لأن شأن الجواب أن يشتمل على عبارة الكلام المجاب به وقوله : ليكون كل كلام قد أجيب عنه قد علمت أن جعل { سمعنا وعصينا } جواباً لقوله : { واسمعوا } يغني عن تطلب جواب لقوله : { خذوا } ففيه إيجاز ، فالوجه في معنى هذه الآية هو ما نقله الفخر عن أبي مسلم أن قولهم : { عصينا } كان بلسان الحال يعني فيكون { قالوا } مستعملاً في حقيقته ومجازه أي قالوا : سمعنا وعصوا فكأن لسانهم يقول عصينا . ويحتمل أن قولهم { عصينا } وقع في زمن متأخر عن وقت نزول التوراة بأن قالوا عصينا في حثهم على بعض الأوامر مثل قولهم لموسى حين قال لهم : ادخلوا القرية { لن ندخلها أبداً } [ المائدة : 24 ] وهذان الوجهان أقرب من الوجه الأول . وفي هذا بيان لقوله في الآية الأولى : { ثم توليتم من بعد ذلك } [ البقرة : 64 ] .
والإشراب هو جعل الشيء شارباً ، واستعير لجعل الشيء متصلاً بشيء وداخلاً فيه ووجه الشبه هو شدة الاتصال والسريان لأن الماء أسرى الأجسام في غيره ولذا يقول الأطباء الماء مطية الأغذية والأدوية ومَركبها الذي تسافر به إلى أقطار البدن فلذلك استعاروا الإشراب لشدة التداخل استعارة تبعية قال بعض الشعراء :
تغلغل حب عثمة في فؤادي *** فباديه مع الخافي يسيـر{[152]}
تغلغل حيث لم يبلغ شـراب *** ولا حزن ولم يبلغ سرور
ومنه قولهم أشرب الثوب الصبغ ، قال الراغب : من عادتهم إذا أرادوا مخامرة حب وبغض أن يستعيروا لذلك اسم الشراب اه . وقد اشتهر المعنى المجازي فهجر استعمال الإشراب بمعنى السقي وذكر القلوب قرينة على أن إشراب العجل على تقدير مضاف من شأن القلب مثل عبادة العجل أو تأليه العجل . وإنما جعل حبهم العجل إشراباً لهم للإشارة إلى أنه بلغ حبهم العجل مبلغ الأمر الذي لا اختيار لهم فيه كأن غيرهم أشربهم إياه كقولهم أُولِع بكذا وشُغِف .
والعجلَ مفعول { أشربوا } على حذف مضاف مشهور في أمثاله من تعليق الأحكام وإسنادها إلى الذوات مثل
{ حُرِّمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] أي أكل لحمها . وإنما شغفوا به استحساناً واعتقاداً أنه إلههم وأن فيه نفعهم لأنهم لما رأوه من ذهب قدسوه من فرط حبهم الذهب . وقد قوي ذلك الإعجاب به بفرط اعتقادهم ألوهيته ولذلك قال تعالى : { بكفرهم } فإن الاعتقاد يزيد المعتقد توغلاً في حب معتقده .
وإسناد الإشراب إلى ضمير ذواتهم ثم توضيحه بقوله : { في قلوبهم } مبالغة وذلك مثل ما يقع في بدل البعض والاشتمال وما يقع في تمييز النسبة . وقريب منه قوله تعالى : { إنما يأكلون في بطونهم ناراً } [ النساء : 10 ] وليس هو مثل ما هنا لأن الأكل متمحض لكونه منحصراً في البطن بخلاف الإشراب فلا اختصاص له بالقلوب .
وقوله : { قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين } تذييل واعتراض ناشىء عن قولهم { سمعنا وعَصَيْنا } هو خلاصة لإبطال قولهم : { نؤمن بما أنزل علينا } [ البقرة : 91 ] بعد أن أبطل ذلك بشواهد التاريخ وهي قوله : { قل فلم تقتلون أنبئاء الله } [ البقرة : 91 ] وقوله : { ولقد جاءكم موسى بالبينات } وقوله : { قالوا سمعنا وعصينا } ولذلك فَصَله عن قوله : { قل فلم تقتلون أنبئاء الله } لأنه يجري من الأول مجرى التقرير والبيان لحاصله ، والمعنى قل لهم إن كنتم مؤمنين بما أنزل عليكم كما زعمتم يعني التوراة فبئسما أمركم به هذا الإيمان إذ فعلتم ما فعلتم من الشنائع من قتل الأنبياء ومن الإشراك بالله في حين قيام التوراة فيكم فكيف وأنتم اليوم لا تعرفون من الشريعة إلا قليلاً ، وخاصة إذا كان هذا الإيمان بزعمهم يصدهم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فالجملة الشرطية كلها مقول { قل } والأمر هنا مستعمل مجازاً في التسبب .
وإنما جعل هذا مما أمرهم به إيمانهم مع أنهم لم يدعوا ذلك لأنهم لما فعلوه وهم يزعمون أنهم متصلبون في التمسك بما أنزل إليهم حتى أنهم لا يخالفونه قيد فتر ولا يستمعون لكتاب جاء من بعده فلا شك أن لسان حالهم ينادي بأنهم لا يفعلون فعلاً إلا وهو مأذون فيه من كتابهم ، هذا وجه الملازمة وأما كون هذه الأفعال مذمومة شنيعة فذلك معلوم بالبداهة فأنتج ذلك أن إيمانهم بالتوراة يأمرهم بارتكاب الفظائع وهذا ظاهر الكلام والمقصود منه القدح في دعواهم الإيمان بالتوراة وإبطال ذلك بطريق يستنزل طائرهم ويرمي بهم في مهواة الاستسلام للحجة فأظهر إيمانهم المقطوع بعدمه في مظهر الممكن المفروض ليتوصل من ذلك إلى تبكيتهم وإفحامهم نحو : { قل إن كان للرحمن من ولد فأنا أول العابدين } [ الزخرف : 81 ] ولهذا أضيف الإيمان إلى ضميرهم لإظهار أن الإيمان المذموم هو إيمانهم أي الذي دخله التحريف والاضطراب لما هو معلوم من أن الإيمان بالكتب والرسل إنما هو لصلاح الناس والخروج بهم من الظلمات إلى النور فلا جرم أن يكون مرتكبو هاته الشنائع ليسوا من الإيمان بالكتاب الذي فيه هدى ونور في شيء فبطل بذلك كونهم { مؤمنين } وهو المقصود فقوله : { بئسما يأمركم } جواب الشرط مقدم عليه أو { قل } دليل الجواب ولأجل هذا جيء في هذا الشرط بإن التي من شأن شرطها أن يكون مشكوك الحصول وينتقل من الشك في حصوله إلى كونه مفروضاً كما يفرض المحال وهو المراد هنا ؛ لأن المتكلم عالم بانتفاء الشرط ولأن المخاطبين يعتقدون وقوع الشرط فكان مقتضى ظاهر حال المتكلم أن لا يؤتى بالشرط المتضمن لكونهم { مؤمنين } إلا منفياً ومقتضى ظاهر حال المخاطب أن لا يؤتى به إلا مع إذا ولكن المتكلم مع علمه بانتفاء الشرط فرضه كما يفرض المحال استنزالاً لطائرهم .
وفي الإتيان بإن إشعار بهذا الفرض حتى يقعوا في الشك في حالهم وينتقلوا من الشك إلى اليقين بأنهم غير مؤمنين حين مجيء الجواب وهو { بئسما يأمركم } وإلى هذا أشار صاحب « الكشاف » كما قاله التفتزاني وهو لا ينافي كون القصد التبكيت لأنها معان متعاقبة يفضي بعضها إلى بعض فمن الفرض يتولد التشكيك ومن التشكيك يظهر التبكيت .
ولا معنى لجعل { إن كنتم مؤمنين } ابتداء كلام وجوابه محذوفاً تقديره فإيمانكم لا يأمركم بقتل الأنبياء وعبادة العجل إلخ لأنه قطع لأواصر الكلام وتقدير بلا داع مع أن قوله : { قل بئسما يأمركم به إيمانكم } إلخ يتطلبه مزيد تطلب ونظائره في آيات القرآن كثيرة . على أن معنى ذلك التقدير لا يلاقي الكلام المتقدم المثبت أن إيمانهم أمَرهم بهذا المذام فكيف ينفي بَعْد ذلك أن يكون إميانهم يأمرهم ؟
و { بئسما } هنا نظير بئسما المتقدم في قوله : { بئسما اشتروا به أنفسهم } [ البقرة : 90 ] سوى أن هذا لم يؤت له باسمٍ مخصوص بالذم لدلالة قوله : { وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم } والتقدير بئسما يأمركم به إيمانكم عبادةُ العجل .