{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ * لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ * ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ }
يمدح تعالى هذه الأمة ويخبر أنها خير الأمم التي أخرجها الله للناس ، وذلك بتكميلهم لأنفسهم بالإيمان المستلزم للقيام بكل ما أمر الله به ، وبتكميلهم لغيرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتضمن دعوة الخلق إلى الله وجهادهم على ذلك وبذل المستطاع في ردهم عن ضلالهم وغيهم وعصيانهم ، فبهذا كانوا خير أمة أخرجت للناس ، لما كانت الآية السابقة وهي قوله : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } أمرا منه تعالى لهذه الأمة ، والأمر قد يمتثله المأمور ويقوم به ، وقد لا يقوم به ، أخبر في هذه الآية أن الأمة قد قامت بما أمرها الله بالقيام به ، وامتثلت أمر ربها واستحقت الفضل على سائر الأمم { ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم } وفي هذا من دعوته بلطف الخطاب ما يدعوهم إلى الإيمان ، ولكن لم يؤمن منهم إلا قليل ، وأكثرهم الفاسقون الخارجون عن طاعة الله المعادون لأولياء الله بأنواع العداوة ،
وبعد أن أمر الله - تعالى - المؤمنين بالدعوة إلى الخير ونهاهم عن التفرق والاختلاف المفضى إلى العذاب العظيم يوم القيامة ، وبين لهم أن مصير الأمور إليه ، بعد كل ذلك ساق لهم ما يقوى إيمانهم ويثبت يقينهم ، بأن بشرهم بحسن العقبى متى استقاموا على أمره ، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، وأنذر الكافرين من أهل الكتاب بالهزيمة فى الدنيا ، وبغضب الله - تعالى - فى الآخرة فقال - تعالى - : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ . . . } .
قوله - تعالى - { كُنْتُمْ } يصح أن تكون من كان التامة التى بمعنى وجد وهى لا تحتاج إلى خبر فيكون المعنى وجدتم خير أمة أخرجت للناس ، ويكون قوله { خَيْرَ أُمَّةٍ } بمعنى الحال . وبهذا الراى قال جمع من المفسرين .
ويصح أن تكون من كان الناقصة التى هى - كما يقول الزمخشرى - عبارة عن وجود الشىء فى زمان ماض على سبيل الإبهام وليس فيه دليل على عدم سابق ولا على انقطاع طارىء فيكون المعنى : قدرتم فى علم الله - تعالى - خير أمة أخرجت للناس .
ويجوز أن تكون بمعنى صار . أى تحولتم يا معشر المؤمنين الذين عاصرتم النبى صلى الله عليه وسلم من جاهليتكم إلى أن صرتم خير أمة .
وقيل : إن " كان " هنا زائدة ، والتقدير : أنتم خير أمة . ورد هذا القول بأن كان لا تزاد فى أول الكلام .
والظاهر أن الرأى الأول الذى يقول إن { كُنْتُمْ } هنا من كان التامة هو أقرب الأقوال إلى الصواب " ويليه الرأى الثاني الذى يرى أصحابه أن " كنتم " هنا من " كان " الناقصة إلا أنها هنا تدل على تحقق شىء بصفة فى الزمان الماضى من غير دلالة على عدم سابق أو لاحق .
والخطاب فى هذه الآية الكريمة بقوله - تعالى - { كُنْتُمْ } للمؤمنين الذين عاصروا النبى صلى الله عليه وسلم ولمن أتى بعدهم واتبع تعاليم الإسلام إلى يوم الدين .
ولذا قال ابن كثير : والصحيح أن هذه الآية عامة فى جميع الأمة . كل قرن بحسبه ، وخير قرونهم الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم ، كما قال - سبحانه - فى الآية الأخرى { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً } وقد وردت أحاديث متعددة فى فضل هذه الأمة الإسلامية ، منها : ما جاء فى مسند الإمام أحمد وفى سنن الترمذى وابن ماجه من رواية حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله - تعالى - " .
والمعنى : وجدتم يا معشر المسلمين العالمين بتعاليم الإسلام وآدابه وسنته وشريعته خير أمة أخرجت وأظهرت للناس ، من أجل إعلاء كلمة الحق وإزهاق كلمة الباطل ، ونشر الإصلاح والنفع فى الأرض .
وقوله { خَيْرَ أُمَّةٍ } خبر كنتم على أنها من كان الناقصة .
وجملة { أُخْرِجَتْ } صفة لأمة ، وقوله { لِلنَّاسِ } متعلق بأخرجت ، وحذف الفاعل من { أُخْرِجَتْ } للعلم به أى : خرجها الله - تعالى - لنفع الناس وهداءتهم إلى الصراط المستقيم .
فالجملة الكريمة تنوه بشأن الأمة الإسلامية وتعلى من قدرها ، فهل تعى الأمة الإسلامية هذا التنويه من شأنها وذلك لإعلاء من قدرها فتقوم بدورها الذى اختاره الله لها ، وهو نشر كلمة التوحيد فى الأرض واحقاق الحق وإبطال الباطل شكراً لله - تعالى - على جعله إياها خير أمة أخرجت للناس ؟ ؟
إن واقع المسلمين الملىء بالضعف والهوان ، والفسوق والعصيان يدمى قلوب المؤمنين الصادقين ، ويحملهم على أن يبلغوا رسالات الله دون أن يخشوا أحدا سواه حتى تكون كلمته هى العليا وكلمة الذين كفروا هى السفلى .
ثم بين - سبحانه - الأسباب التى جعلت الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس فقال : { تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله } .
والمعروف : هو كل قول أو عمل حسنه الشرع ، وأيدته العقول السليمة ، والمنكر بعكسه .
والمعنى : وجدتم خير أمة أخرجت للناس ، لانكم تأمرون بالمعروف أى بالقول أو الفعل الجميل المستحسن فى الشرائع والعقول . { وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } أى كل قول أو فعل قبيح تستنكره الشرائع ويأباه أهل الإيمان القويم ، والعقل السليم .
و { وَتُؤْمِنُونَ } بالله أى تصدقون وتذعنون بأنه لا معبود بحق سواه ، وتخلصون له العبادة والخضوع ، وتطيعونه فى كل ما أمركم به أو نهاكم عنه على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم .
فأنت ترى أن الخيرية للأمة الإسلامية منوطة بتحقيق أصلين أساسيين :
أولهما : الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لأنهما سياج الدين ، ولا يمكن أن يتحقق بنيان أمة على الخير والفضيلة إلا بالقيام بهما ، فهما من الأسباب التى استحق بنو إسرائيل اللعنة من أجل تركهما ، فقد أخرج أبو داود فى سننه عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أول ما دخل النقص على بنى إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول له : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل له ، ثم يلقاه من الغد على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشربيه وقعيده ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال صلى الله عليه وسلم ( لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بني إِسْرَائِيلَ على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ ذلك بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ) ثم قال : " كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذون على يد الظالم ، ولتأطرنه على الحق اطرا - ولتحملنه على اتباع الحق حملا - أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ، ثم ليلعنكم كما لعنهم " .
وثانيهما : الإيمان بالله - تعالى - وبجميع ما أمر الله - تعالى - بالإيمان به .
هذان هما الأمران الذان يجب أن يتحققا لتكون هذه الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس لأن الأمة التي تهمل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ولا تؤمن بالله لا يمكن أن تكون خير أمة بل لا توصف بالخيرية قط ، لأنه لا خير إلا فى الفضائل والحق والعدل ، ولا تقوم هذه الأمور إلا مع وجود الإيمان بالله وكثرة الدعاة إلى الخير والناهين عن الشر ، ويكون لدعوتهم آثارها القوية التى تحيا معها الفائل وتزول بها الرذائل .
وكأنه - سبحانه - قد أخر " الإيمان بالله " عن " الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر " ليكون كالباعث عليهما لأنه لا يصبر على تكاليفهما ومتاعبهما إلا مؤمن يبتغى وجه الله ويركن فى كفاحه إليه . فهذا الإيمان بالله هو الباعث للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، على أن يبلغوا رسالات الله ، دون أن يخشوا أحدا سواه .
وقيل : إنما أخر الإيمان على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مع تقدمه عليهما وجودا ورتبة كما هو الظاهر ، لأن الإيمان مشترك بين جميع الأمم دون الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، فهما أظهر فى الدلالة على الخيرية للأمة الإسلامية .
وجملة { تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } يجوز أن تكون حالية من ضمير الخطاب فى { كُنْتُمْ } ويجوز أن تكون مستأنفة للتعليل ، وهذا ما ذهب إليه الفخر الرازى ، فقد قال : " واعلم أن هذا الكلام مستأنف والمقصود منه بيان علة تلك الخيرية ، كما تقول : زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقم بما يصلحهم ، وتحقيق الكلام أنه ثبت فى أصول الفقه أن ذكر الحكم مقرونا بالوصف المناسب له يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف فههنا حكم الله - بثبوت وصف الخيرية لهذه الأمة . ثم ذكر عقيب هذا الحكم هذه الطاعات أعنى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والإيمان ، فوجب كون تلك الخيرية معللة بهذه العبارات .
وقال الإمام ابن كثير - بعد أن ساق بضعة عشر حديثاً فى فضل هذه الأمة : فهذه الأحاديث فى معنى قوله - تعالى - { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله } فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم فى هذا المدح ، كما قال قتادة ، بلغنا أن عمر بن الخطاب رأى من الناس دعة فى حجة حجها فقرأ هذه الآية : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } ، ثم قال : من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها " ، رواه ابن جرير ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله : { كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ } الآية .
وبعد أن مدح - سبحانه - هذه الأمة على هذه الصفات شرع فى ذم أهل الكتاب وتأنيبهم فقال - تعالى - { وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب } أى بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } أى لكان إيمانهم خيرا لهم فى دنياهم وآخرتهم ولنالوا الخيرية التى ظفرت بها الأمة الإسلامية ولكنهم لم يؤمنوا فامتنع الخير فيهم لامتناع الإيمان الصحيح منهم ، ولإيثارهم الضلالة على الهداية فهذه الجملة الكريمة معطوفة على قوله - تعالى - { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } . . . . ومرتبطة بها .
ولم يذكر متعلق { آمَنَ } هنا لأن المراد لو اتصفوا بالإيمان الذى هو لقب وشعار للإيمان بدين الإسلام الذى أتى به محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو الذى منه أطلقت صفة الذين آمنوا على المسلمين فصار كالعلم بالغلبة .
وقال - سبحانه - { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } أى : لو آمنوا لكان إيمانهم خيرا لهم بدون تفصيل لهذه الخيرية لتذهب نفوسهم كل مذهب فى الرجاء والإشفاق .
ثم أخبر - سبحانه - بأن قلة من أهل الكتاب اختاروا الإيمان على الكفر فقال - تعالى - { مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون } .
أى : من أهل الكتاب أمة آمنت بالله وصدقت رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم واتبعت ما جاء به من الحق وأكثرهم معرضون عن الإيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وخارجون عن الطريق المستقيم الذى أمرت باتباعه الشرائع والعقول السليمة .
فالجملة الكريمة إنصاف للقلة المؤمنة التى آمنت من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وغيره ممن دخل فى الإسلام . وذم لأكثر أهل الكتاب الذين جحدوا الحق . وخرجوا عن الطريق القويم .
وقوله { مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون } جملة مستأنفة استثنافا بيانيا ، فهى جواب للجملة الشرطية التى قبلها . فكأنه قيل : هل منهم من آمن أو كلهم على الكفر ؟ فكان الجواب : منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون .
وعبر عن كفرهم بالفسق ، للإشعار بأنهم قد فسقوا فى دينهم أيضا فهم ليسوا عدولا فيه ، وبذلك يكونون قد خرجوا عن الإسلام وعما أوجبته عليهم كتبهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم .
يخبر تعالى عن هذه الأمة المحمدية بأنهم خير الأمم فقال : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } .
قال البخاري : حدثنا محمد بن يوسف ، عن سفيان ، عن مَيْسَرة ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } قال : خَيْرَ الناس للناس ، تأتون{[5472]} بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام{[5473]} .
وهكذا قال ابن عباس ، ومُجاهد ، وعِكْرِمة ، وعَطاء ، والربيع بن أنس ، وعطية العَوْفيّ : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } يعني : خَيْرَ الناس للناس .
والمعنى : أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس ؛ ولهذا قال : { تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ{[5474]} بِاللَّهِ }
قال الإمام أحمد : حدثنا أحمد بن عبد الملك ، حدثنا شريك ، عن سِماك ، عن عبد الله بن عُمَيرة عن زوج [ ذُرّةَ ]{[5475]} بنت أبي لَهَب ، [ عن درة بنت أبي لهب ]{[5476]} قالت : قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر ، فقال : يا رسول الله ، أيّ الناس خير ؟ فقال : " خَيْرُ النَّاسِ أقْرَؤهُمْ وأتقاهم للهِ ، وآمَرُهُمْ بِالمعروفِ ، وأنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَأَوْصَلُهُمْ لِلرَّحِمِ " {[5477]} .
ورواه أحمد في مسنده ، والنسائي في سننه ، والحاكم في مستدركه ، من حديث سماك ، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس في قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } قال : هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة{[5478]} .
والصحيح أن هذه الآية عامةٌ في جميع الأمة ، كل قَرْن بحسبه ، وخير قرونهم الذين بُعثَ فيهم{[5479]} رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم الذين يَلونهم ، ثم الذين يلونهم ، كما قال في الآية الأخرى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } أي : خيارا { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ]{[5480]} } الآية .
وفي مسند الإمام أحمد ، وجامع الترمذي ، وسنن ابن ماجة ، ومستدرك الحاكم ، من رواية حكيم بن مُعَاوية بن حَيْدَة ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً ، أنْتُمْ خَيْرُهَا ، وأنْتُمْ أكْرَمُ عَلَى اللهِ عزَّ وجَلَّ " {[5481]} .
وهو حديث مشهور ، وقد حَسَّنه الترمذي . ويروى من حديث معاذ بن جبل ، وأبي سعيد [ الخدري ]{[5482]} نحوه .
وإنما حازت هذه الأمة قَصَبَ السَّبْق إلى الخيرات بنبيها محمد صلى الله عليه وسلم{[5483]} فإنه أشرفُ خلق الله أكرم الرسل على الله ، وبعثه الله بشرع كامل عظيم لم يُعْطه نبيًّا قبله ولا رسولا من الرسل . فالعمل [ على ]{[5484]} منهاجه وسبيله ، يقوم القليلُ منه ما لا يقوم العملُ الكثيرُ من أعمال غيرهم مقامه ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا ابن زُهَير ، عن عبد الله - يعني ابن محمد بن عقيل - عن محمد بن علي ، وهو ابن الحنفية ، أنه سمع علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أُعْطِيتُ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ مِنْ الأنْبِيَاءِ " . فقلنا : يا رسول الله ، ما هو ؟ قال : " نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَأُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الأرْضِ ، وَسُمِّيتُ أَحْمَدَ ، وَجُعِلَ التُّرَابُ لِي طَهُورًا ، وَجُعِلَتْ أُمَّتِي خَيْرَ الأمَمِ " . تفرد به أحمد من هذا الوجه ، وإسناده حسن{[5485]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو العلاء الحسن بن سَوَّار ، حدثنا لَيْث ، عن معاوية عن بن أبي حُلَيْس يزيد بن مَيْسَرَةَ قال : سمعت أم الدرداء ، رضي الله عنها ، تقول : سمعت أبا الدرداء يقول : سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ، وما سمعته يكنيه قبلها ولا بعدها ، يقول{[5486]} إنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ : يَا عِيسَى ، إنِّي بَاعِثٌ بَعْدَكَ أُمَّةً ، إنْ أَصَابَهُمْ مَا يُحِبُّونَ حَمِدُوا وشَكَرُوا ، وإنْ أصَابَهُمْ مَا يَكْرَهُونَ احْتَسَبُوا وَصَبَرُوا ، وَلا حِلْمَ وَلا عِلْمَ " . قال : يَا رَبِّ ، كَيْفَ هَذَا لهُمْ ، وَلا حِلْمَ وَلا عِلْمَ ؟ . قال : " أُعْطِيهِمْ مِن حِلْمِي وعلمي " {[5487]} .
وقد وردت أحاديثُ يناسب{[5488]} ذكرُها هاهنا :
قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا المسعودي ، حدثنا بُكَيْر{[5489]} بن الأخْنَس ، عن رجل ، عن أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أُعْطِيتُ سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ، وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْر ، قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، فَاسْتَزَدْتُ رَبِّي ، عز وجَلَّ ، فَزَادَنِي مَعَ كُل وَاحِدٍ سبعين ألفًا " . فقال أبو بكر ، رضي الله عنه : فرأيت أن ذلك آتٍ على أهل القرى ، ومصيبٌ من حافات البوادي{[5490]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن بكر السهمي ، حدثنا هشام بن حسان ، عن القاسم بنِ مهران ، عن موسى بن عبيد ، عن ميمون بن مهران ، عن عبد الرحمن بن أبي بكر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ رَبِّي أعْطَانِي سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، بِغَيْرِ حِسَابٍ " . فقال عمر : يا رسول الله ، فهلا استزدته ؟ فقال : " اسْتَزَدْتُهُ فَأَعْطَانِي مَعَ كُلِّ رَجُلٍ سَبْعِينَ أَلْفًا " . قال عمر : فهلا استزدته ؟ قال : " قَدِ اسْتَزَدْتُهُ فأعْطَانِي هكَذَا " . وفرج عبد الله بن بكر{[5491]} بين يديه ، وقال عبد الله : وبسط باعيه ، وحثا {[5492]} عبد الله ، قال هشام : وهذا من الله لا يدرى ما عدده{[5493]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو اليَمان ، حدثنا إسماعيل بن عَيّاش ، عن ضَمْضم بن زُرْعة قال : قال شُرَيح بن عبيد : مَرِضَ ثَوْبَان بحِمْص ، وعليها عبد الله بن قُرْط الأزْدِي ، فلم يَعُدْه ، فدخل على ثوبان رجل من الكَلاعيين عائدًا ، فقال له ثوبان : [ أتكتب ؟ قال : نعم : فقال : اكتب ، فكتب للأمير عبد الله بن قرط ، " من ثوبان ]{[5494]} مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما بعد : فإنه لو كان لموسى وعيسى ، عليهما السلام ، بحضرتك خَادم لعدته " ثم طوى الكتاب وقال له : أتبلغه إياه ؟ فقال : نعم . فانطلقَ الرجلُ بكتابه فدفعه إلى ابن قرط ، فلما رآه قام فَزِعا ، فقال الناس : ما شأنه ؟ أحدث أمر ؟ فأتى ثوبان حتى دخل عليه فعاده ، وجلس عنده ساعة ثم قام ، فأخذ ثوبان بردائه وقال : اجلس حتى أحدثك حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته يقول : " لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ ألْفًا ، لا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلا عَذَابَ ، مَعَ كُلِّ ألفٍ سَبْعُونَ ألْفًا " .
تفرد به أحمد من هذا الوجه ، وإسناد رجاله كلهم ثقات شاميون حِمْصِيّون{[5495]} فهو حديث صحيح{[5496]} ولله الحمد .
طريق أخرى : قال الطبراني : حدثنا عمرو بن إسحاق بن زبْريق الحِمْصي ، حدثنا محمد بن إسماعيل - يعني ابن عَيَّاش - حدثنا أبي ، عن ضَمْضَم بن زُرْعة ، عن شُرَيح بن عبيد ، عن أبي أسماء الرَحَبيّ ، عن ثوبان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنَّ رَبِّي ، عَزَّ وجَلَّ ، وَعَدَنِي مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألْفًا لا يُحَاسَبُونَ ، مَعَ كُلِّ ألْفٍ سَبْعُونَ ألْفًا " . هذا لعله هو المحفوظ بزيادة أبي أسماء الرحبي ، بين شريح وبين ثوبان{[5497]} والله أعلم .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمر ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن عمران بن حُصَين ، عن ابن مسعود قال : أكثرنا الحديث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، ثم غَدَوْنا إليه فقال : " عُرِضَتْ عَلَيَّ الأنْبِيَاءُ اللَّيْلَةَ بِأُمَمِهَا ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ يَمُرُّ وَمَعَهُ الثَّلاثَةُ ، وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ الْعِصَابَةُ ، وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ النَّفَرُ ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ ، حَتَّى مَرَّ عَلَيَّ مُوسَى ، عليه السلام ، ومَعَهُ كَبْكَبَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَأَعْجَبُونِي ، فَقُلْتُ : مَنْ هَؤُلاءِ ؟ فَقِيلَ لِي : هَذَا أَخُوكَ مُوسَى ، مَعَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ " . قال : " قُلْتُ : فَأَيْنَ أُمَّتِي ؟ فَقِيلَ : انْظُرْ عَنْ يَمِينِكَ . فَنَظَرْتُ فَإِذَا الظِّرَابُ{[5498]} قَدْ سُدَّ بِوُجُوهِ الرِّجَالِ ثُمَّ قِيلَ لِي انْظُرْ عَنْ يَسَارِكَ فَنَظَرْتُ فَإِذَا الأفُقُ قَدْ سُدَّ بِوُجُوهِ الرِّجَالِ فَقِيلَ لي : قَدْ رَضِيتَ ؟ فَقُلْتُ{[5499]} " رَضِيتُ يَا رَبِّ ، [ رَضِيتُ يَا رَبِّ ] {[5500]} " قَالَ : " فَقِيلَ لِي : إِنَّ مَعَ هَؤُلاءِ سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ " . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فِدَاكُمْ أَبِي وَأُمِّي إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنْ السَّبْعِينَ أَلْفًا فَافْعَلُوا فَإِنْ قَصَّرْتُمْ فَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الظِّرَابِ{[5501]} فَإِنْ قَصَّرْتُمْ فَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الأفُقِ ، فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ ثَمَّ أُناسًا يَتَهَاوَشُونَ " . فَقَامَ عُكاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ : ادع الله يا رسول الله أن يجعلني منهم . أي من السبعين ، فدعا له . فقام رجل آخر فَقَالَ : ادع الله يا رسول الله أن يجعلني منهم فَقَالَ : " قَدْ سَبَقَكَ بِهَا عُكاشَة " . قَالَ : ثُمَّ تَحَدَّثْنَا فَقُلْنَا : لمَنْ{[5502]} تُرَوْنَ هؤلاء السبعين الألف ؟ قوم وُلِدُوا في الإسلام لم يُشْرِكُوا بالله شيئا حتى ماتوا . فبلغ ذلك النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال : " هُمْ الَّذِينَ لا يَكْتَوُونَ وَلا يَسْتَرْقُونَ وَلا يَتَطَيَّرُونَ ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ " {[5503]} .
هكذا رواه أحمد بهذا السَّنَد وهذا السياق ، ورواه أيضا عن عبد الصمد ، عن هشام ، عن قتادة ، بإسناده مثله ، وزاد بعد قوله : " رَضِيتُ يَا رَبِّ رضيت يا رب " قال{[5504]} رَضِيتَ ؟ قُلْتُ : " نَعَمْ " . قَالَ : انْظُرْ عَنْ يَسَارِكَ قال : " فَنَظَرْتُ فَإِذَا الأفُقُ قَدْ سُدَّ بِوُجُوهِ الرِّجَالِ " . فقال : رَضِيتَ ؟ قُلْتُ : " رَضِيتُ " . وهذا إسناد صحيح من هذا الوجه ، تفرد به أحمد ولم يخرجوه{[5505]} .
حديث آخر : قال أحمد بن مَنِيع : حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز ، حدثنا حَمّاد ، عن عاصم ، عن زر ، عن ابن مسعود قال النبي صلى الله عليه وسلم : " عُرِضَتْ عَلَيَّ الأمَمُ بِالْمَوْسِمِ فَرَاثَتْ{[5506]} عَلَيَّ أُمَّتِي ، ثُمَّ رَأَيْتُهُمْ فَأَعْجَبَتْنِي كَثْرَتُهُمْ وَهَيْئاتُهُمْ ، قَدْ مَلَؤوا السَّهْلَ وَالْجَبَلَ " ، فَقَالَ : أَرَضِيتَ يَا مُحَمَّدُ ؟ فَقُلْتُ : " نَعَمْ " . قَالَ : فَإِنَّ مَعَ هَؤُلاءِ سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ، وَهُمْ الَّذِينَ لا يَسْتَرْقُونَ وَلا يَكْتَوُونَ ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ " . فَقَامَ عُكاشَةُ فَقَالَ : يَا رسول اللَّه ، ادعُ اللَّه أن يجعلني منهم فقال : " أنْتَ مِنْهُمْ " فقام رجل آخر فقال : [ ادع الله أن يجعلني منهم فقال ]{[5507]} سَبَقَكَ بِهَا عُكاشَةُ " . رواه الحافظ الضِّياء المقْدِسيّ ، قال : هذا عندي على شرط مسلم{[5508]} .
حديث آخر : قال الطبراني : حدثنا محمد بن محمد الجُذُوعيّ القاضي ، حدثنا عُقْبة بن مكْرم . حدثنا محمد بن أبي عَدِيّ عن هشام بنِ حسان عن محمد بن سِيرين ، عن عِمْران بن حُصَين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يَدْخُل{[5509]} الجَنَّة مِنْ أمَّتِي سَبْعُونَ ألْفًا بِغَيْرِ حِسَاب وَلا عَذَابٍ " . قيل : من هم ؟ قال : " هُمْ الَّذِينَ لا يَكْتَوُونَ وَلا يَسْتَرْقُونَ وَلا يَتَطَيَّرُونَ ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ " . رواه مسلم من طريق هشام بن حسان ، وعنده ذكر عكاشة{[5510]} .
حديث آخر : ثبَتَ في الصحيحين من رواية الزُّهْرِي ، عن سعيد بن الْمُسَيَّب ، أن أبا هريرة حدثه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي زُمْرَةٌ وَهُمْ سَبْعُونَ ألفًا ، تُضِيء وُجُوهُهُمْ إضَاءة الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ " . فقال{[5511]} أبو هريرة : فقام عُكَاشة بن مِحْصَن الأسدي يرفع ، نَمِرَةً عليه فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني منهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ " . ثم قام رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني منهم فقال : " سَبَقَكَ بِهَا عكاشَةُ " {[5512]} .
حديث آخر : قال أبو القاسم الطبراني : حدثنا يحيى بن عثمان ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، حدثنا أبو{[5513]} غَسَّان ، عن أبي حازم ، عن سَهْلِ بن سَعْد ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لَيدخُلَنَّ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ ألْفًا - أوْ سَبْعُمِائة ألفٍ - آخِذٌ بَعْضُهُمْ ببعض ، حَتَّى يدخل أوَّلُهُمْ وآخِرُهُمُ الْجَنَّةَ ، وَوجُوهُهُم{[5514]} عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَة الْبَدْرِ " .
أخرجه البخاري ومسلم جميعًا ، عن قُتَيْبةَ عن عبد العزيز بن أبي حازم ، عن أبيه ، عن سَهْل به{[5515]} .
حديث آخر : قال مسلم بن الحجّاج في صحيحه : حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا هُشَيْم ، أخبرنا حُصَيْن بن عبد الرحمن قال : كنت عند سعيد بن جُبَير فقال : أيُّكم رأى الكوكب الذي انقضَّ البارحةَ ؟ قلتُ : أنا . ثم قُلتُ : أما إني لم أكن في صلاة ، ولكني لُدغْتُ : قال : فما صنعتَ ؟ قلتُ : استرقَيْتُ . قال : فما حملك على ذلك ؟ قلتُ : حديث حدَّثَنَاه الشعبي . قال : وما حدثكم الشعبي ؟ قلت : حَدَّثَنَا عن بُرَيْدَة بن الحُصَيب الأسلمي أنه قال : لا رُقْيَةَ إلا مِنْ عَيْنٍ أو حُمّة . فقال : قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ، ولكن حدثنا ابنُ عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " عُرضَتْ عَلَيَّ الأمَمُ ، فَرَأيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ{[5516]} والنَّبِيَّ ومَعَهُ الرَّجُلُ والرَّجُلانِ والنَّبِيَّ وَلَيْسَ مَعَهُ أحَدٌ ، إذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ ، فَظَنَنْتُ أنَّهُمْ أُمَّتِي ، فَقِيلَ لِي : هَذَا مُوسَى وقوْمُهُ ، وَلَكِنِ انْظُرْ إلَى الأفقِ . فَنَظَرتُ ، فَإذا سَوَادٌ عَظِيمٌ ، فَقِيلَ لِي : انْظُرْ إلَى الأفُقِ الآخَرِ ، فَإذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ ، فَقِيلَ لِي : هَذِهِ أُمَّتُكَ ومعَهُم سَبْعُونَ ألْفًا يَدْخُلُونَ الجنة بِغَيْرِ حِسَابٍ ، وَلا عَذَابٍ " . ثم نهَضَ فدخل منزله ، فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ، فقال بعضهم : فلعلهم الذين صَحِبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال بعضهم : فلعلهم الذين وُلِدُوا في الإسلام فلم يُشْرِكوا بالله شيئا ، وذكروا أشياء ، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " مَا الَّذِي تَخُوضُونَ فِيهِ ؟ " فأخبروه ، فقال : " هُمُ الَّذِينَ لا يَرْقُونَ وَلا يَسْتَرقُونَ وَلا يَتَطيرونَ ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ " . فقام عكاشة بن مِحصن فقال : ادع الله أن يجعلني منهم قال : " أنْتَ مِنْهُمْ " . ثم قام رجل آخر فقال : ادع الله أن يجعلني منهم . قال : " سَبَقَكَ بِهَا عُكَاشَةُ " .
وأخرجه البخاري عن أُسَيد بن زيد ، عن هُشَيم وليس عنده ، " لا يرقون " {[5517]} .
حديث آخر : قال أحمد : حدثنا رَوْح بن عبادة . حدثنا ابن جُرَيج ، أخبرني أبو الزُّبَيْر ، أنه سمع جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر حديثًا ، وفيه : " فَتَنْجُو أَوَّلُ زُمْرَةٍ وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ سَبْعُونَ أَلْفًا ، لا يُحَاسَبُونَ ثم الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، كأَضْوَإِ نَجْمٍ فِي السَّمَاءِ ثُمَّ كَذَلِكَ " . وذكر بقيته ، رواه مسلم من حديث رَوْح ، غير أنه لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم{[5518]} .
حديث آخر : قال الحافظ أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب السنن له : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا إسماعيل بن عيَّاش ، عن محمد بن زياد ، سمعت أبا أمامة الباهلي يقول : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " وَعَدنِي رَبِّي أنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألفًا ، مَعَ كُلِّ ألْفٍ سَبْعُونَ ألْفًا ، لا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلا عَذَابَ . وَثَلاثُ حَثياتٍ مِنْ حَثَيات ربِّي عزَّ وجَلَّ " .
وكذا رواه الطبراني من طريق هشام بن عمار ، عن إسماعيل بن عياش ، به ، وهذا إسناد جيد{[5519]} .
طريق أخرى عن أبي أمامة : قال ابن أبي عاصم : حدثنا دُحَيم ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا صفوان بن عَمرو ، عن سليم بن عامر ، عن أبي اليمان الهوزَني{[5520]} - واسمه عامر بن عبد الله بن لُحيّ ، عن أبي أمامة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ اللهَ وَعَدَنِي أنْ يُدْخِلَ الْجنةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ " . قال يزيد بن الأخنس : والله ما أولئك في أمتك يا رسول الله إلا مثل الذباب{[5521]} الأصهب في الذباب . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فَإنَّ اللهَ وَعَدَنِي سَبْعِينَ ألْفًا ، مَعَ كُلِّ ألْفٍ سَبْعُونَ ألفًا ، وَزَادَنِي ثَلاثَ حَثَيَاتٍ " . وهذا أيضًا إسناد حسن{[5522]} .
حديث آخر : قال أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن خُلَيْد ، حدثنا أبو تَوْبة ، حدثنا معاوية{[5523]} بن سلام ، عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام يقول : حدثني عامر بن زيد البُكَالي أنه سمع عُتْبة بن عبْد السلمي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَنِي أنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألْفًا بِغَيِرِ حِسَابٍ ، ثُمَّ يَشْفَعُ كُلُّ ألْفٍ لِسَبْعِينَ ألْفًا ، ثم يَحْثي رَبِّي ، عز وجل ، بِكفيْهِ ثَلاثَ حَثَيَات " . فكبر{[5524]} عمر وقال : إن السبعين الأوَلَ يُشفعهم الله في آبائهم وأبنائهم وعشائرهم ، وأرجو أن يجعلني الله في إحدى الحثيات الأواخر .
قال الحافظ الضياء المقدسي في كتابه صفة الجنة : لا أعلم لهذا الإسناد علة . والله أعلم{[5525]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا هشام - يعني الدَّستَوائي - حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن هلال بن أبي ميمونة ، حدثنا عطاء بن يَسَار أن رِفَاعة الجُهَنيّ حدّثه قال : أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بالكُدَيد - أو قال بقُدَيْد - فذكر حديثا ، وفيه : ثم قال : وَعَدَنِي رَبِّي ، عَزَّ وَجَلَّ ، أنْ يُدْخِلَ الْجنةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ ، وَإِنِّي لأرْجُو ألا يَدْخُلُوهَا حَتَّى تَبوؤُوا أْنتُمْ ومَنْ صَلَحَ مِنْ أزْوَاجِكُمْ وذرياتكم مَسَاكِنَ فِي الْجَنَّةِ " .
قال الضياء [ المقدسي ]{[5526]} وهذا عندي على شرط مسلم{[5527]} .
حديث آخر : قال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة ، عن النَّضْر بن أنس ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ اللهَ وَعَدَنِي أنْ يُدْخِلَ الجنة مِنْ أُمَّتِي أرْبَعمِائَةِ ألْفٍ " . قال أبو بكر : زدنا يا رسول الله . قال : والله هكذا{[5528]} فقال عمر : حسبك يا أبا بكر . فقال أبو بكر : دعني ، وما عليك أن يدخلنا الله الجنة كلنا{[5529]} فقال عمر : إن شاء الله أَدْخَل خَلْقه الجنة بكفٍّ واحد . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " صَدَقَ عُمَرُ " .
هذا الحديث بهذا الإسناد انفرد{[5530]} به عبد الرزاق{[5531]} قاله الضياء . وقد رواه الحافظ أبو نُعيم الأصبهاني :
حدثنا محمد بن أحمد بن مَخْلَد ، حدثنا إبراهيم بن الْهيْثَم البَلدِي ، حدثنا سليمان بن حَرْب ، حدثنا أبو هلال ، عن قتادة ، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وَعَدَنِي رَبِّي أنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي مِائَةَ ألْف " . فقال أبو بكر : يا رسول الله ، زدنا قال : " وهكذا " - وأشار سليمان بن حرب بيده كذلك - قلت{[5532]} يا رسول الله ، زدنا . فقال عمر : إن الله قادر أن يدخل الناس الجنة بِحَفْنَةٍ واحدة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صَدَقَ عُمَرُ " . هذا حديث غريب من هذا الوجه وأبو هلال اسمه : محمد بن سُلَيْم الراسبي ، بصري{[5533]} .
طريق أخرى عن أنس : قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا محمد بن أبي بكر ، حدثنا عبد القاهر بن السُّرِّي السلمي ، حدثنا حُمَيد ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ ألْفًا " . قالوا : زدنا يا رسول الله . قال : " لِكُلِّ رَجُلٍ سَبْعُونَ ألْفًا " قالوا : زدنا - وكان{[5534]} على كثيب - فقال : هكذا ، وحثا بيده . قالوا : يا رسول الله ، أبْعدَ الله من دخل النار بعد هذا ، وهذا إسناد جيد ، رجاله ثقات ، ما عدا عبد القاهر بن السري ، وقد سئل عنه ابن معين ، فقال : صالح{[5535]} .
حديث آخر : روى الطبراني من حديث قتادة ، عن أبي بكر بن أنس ، عن أبي بكر بن عُمَير عن أبيه ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ اللهَ وَعَدَنِي أنْ يُدْخِلَ مِنْ أُمَّتِي ثَلاثَمائة ألْفٍ الْجَنَّةَ " . فقال عمير : يا رسول الله ، زدنا . فقال هكذا بيده . فقال عمير يا رسول الله ، زدنا . فقال عمر : حَسْبك ، إنّ الله إنْ شاء أدخل الناس الجنة بِحفْنَةٍ - أو بِحَثْيَةٍ - واحدة . فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : " صَدَقَ عُمَرُ " {[5536]} .
حديث آخر : قال الطبراني : حدثنا أحمد بن خُلَيْد ، حدثنا أبو تَوْبة ، حدثنا معاوية بن سلام ، عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام يقول : حدثني عبد الله بن عامر ، أن قيسا الكندي حَدّث أن أبا سعيد {[5537]}الأنماري حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَنِي أنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألْفًا بِغَيِرِ حِسَابٍ ، ويَشْفَعُ كُلُّ ألْفٍ لِسَبْعِين{[5538]} ألْفًا ، ثم يَحْثِي رَبِّي ثَلاثَ حَثَيَاتٍ بِكَفَّيْهِ " . كذا قال قيس ، فقلت لأبي سعيد : أنت سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، بأذني ، ووعاه قلبي . قال أبو سعيد : فقال - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - : " وَذَلِكَ إنْ شَاءَ اللهُ ، عز وجل ، يَسْتَوْعِبُ مُهَاجِرِي أمتي ، ويُوَفِّي الله بقيته مِنْ أعْرَابِنَا " .
وقد روى هذا الحديث محمد بن سهل بن عسكر ، عن أبي تَوْبَة الربيع بن نافع بإسناده ، مثله .
وزاد : قال أبو سعيد : فحسب ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبلغ أربعمائة ألف ألف وتسعين{[5539]} ألف ألْف .
حديث آخر : قال أبو القاسم الطبراني : حدثنا هاشم بن مَرْثَد الطبراني ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عَيّاش ، حدثني أبي ، حدثني ضَمْضَم بن زُرْعة ، عن شُرَيح بن عبيد ، عن أبي مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمَا وَالَّذي نَفْسُ مُحَمَّد بِيَدِهِ لَيُبْعَثَنَّ مِنْكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى الْجَنَّةِ مِثْلَ اللَّيْلِ الأسْوَدِ ، زُمْرةٌ جَمِيعُهَا يَخْبطُونَ الأرضَ ، تَقُولُ الملائِكةُ : لِمَ جَاءَ مَعَ مُحَمَّدٍ أكْثَرُ مِمَّا جَاءَ مَعَ الأنْبِيَاءِ ؟ " . وهذا إسناد حسن{[5540]} .
نوع آخر من الأحاديث الدالة على فضيلة هذه الأمة وشرفها بكرامتها{[5541]} على الله ، وأنها خير الأمم في الدنيا والآخرة .
قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا ابن جُرَيج ، أخبرني أبو الزبير ، عن جابر{[5542]} أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إنِّي لأرْجُو أنْ يَكُونَ مَنْ يَتَّبِعُنِي مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ رُبْعَ الْجَنَّةِ " . قال : فكبَّرنا . ثم قال : " أَرْجُو أنْ يَكُونُوا{[5543]} ثلثَ النَّاسِ " . قال : فكبرنا . ثم قال : " أَرْجُو أنْ تَكُونُوا الشَّطْرَ " . وهكذا رواه عن رَوْح ، عن ابن جُرَيج ، به . وهو على شرط مسلم{[5544]} .
وثبت في الصحيحين من حديث أبي إسحاق السَّبِيعي ، عن عَمْرو بن ميمون ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمَا تَرْضَوْنَ أنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلِ الْجَنِّةِ ؟ " فكبرنا . ثم قال : " أَمَا تَرْضَوْنَ أنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلَ الْجَنَّةِ ؟ " فكبرنا . ثم قال : " إنِّي لأرْجُو أنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّة " {[5545]} .
طريق أخرى عن ابن مسعود : قال الطبراني : حدثنا أحمد بن القاسم بن مُساور ، حدثنا عفان بن مسلم ، حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثني الحارث بن حَصِيرة ، حدثني القاسم بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كَيْفَ أَنْتُمْ وَرُبْعُ الْجَنَّةِ لَكُمْ ولِسَائر الناس ثلاثة أرْبَاعِهَا ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " كَيْفَ أَنْتُمْ وثُلُثُهَا ؟ " قالوا : ذاك أكثر . قال : " كَيْفَ أَنْتَمْ والشَّطْرُ لَكُمْ ؟ " قالوا : ذاك أكثر . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أهْلُ الْجَنّةِ عِشْرُونَ وَمَائةُ صَفٍّ ، لَكُمْ مِنْهَا {[5546]} ثَمَانُونَ صَفًا " .
قال الطبراني : تفرد به الحارث بن حَصيرة{[5547]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا عبد العزيز بن مسلم ، حدثنا ضرار بن مُرَّة أبو سَنان الشيباني ، عن محارب بن دِثَار ، عن ابن بُرَيْدة ، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ ، هَذِه الأمَّةُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَانُون صَفا " .
وكذلك{[5548]} رواه عن عفان ، عن عبد العزيز ، به . وأخرجه الترمذي من حديث أبي سنان ، به وقال : هذا حديث حسن . ورواه ابن ماجة من حديث سفيان الثوري ، عن عَلْقَمة بن مَرْثَد ، عن سليمان بن بُرَيدة ، عن أبيه ، به{[5549]} .
حديث آخر : رَوَى الطبراني من حديث سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ، حدثنا خالد بن يزيد البَجَلي ، حدثنا سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه ، عن جده ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ ، ثَمَانُونَ مِنْهَا مِنْ أُمَّتِي " .
تفرد به خالد بن يزيد البَجَلي ، وقد تكلم فيه ابن عَدِيّ{[5550]} .
حديث آخر : قال الطبراني : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثنا موسى بن غيلان ، حدثنا هاشم{[5551]} بن مَخْلَد ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن سفيان ، عن أبي عمرو ، عن أبيه عن أبي هريرة قال : لما نزلت { ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ . وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ [ الواقعة : 38 ، 39 ] } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أَنْتُمْ رُبْعُ أهْلِ الْجَنَّةِ ، أَنْتُمْ ثُلُثُ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، أَنْتُمْ نِصْفُ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، أَنْتُمْ ثُلُثَا أَهْلِ الْجَنَّةِ " {[5552]} .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " نَحْنُ الآخِرُونَ الأوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، نَحْنُ أَوَّلُ النَّاسِ دُخُولا الْجَنَّةَ ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا ، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ ، فَهَدَانَا اللَّهُ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ ، فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ، النَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ غَدًا لِلْيَهُوَدِ [ و ]{[5553]} للنصارى بَعْدَ غَدٍ " .
رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا بنحوه{[5554]} ورواه مسلم أيضا عن طريق الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نَحْنُ الآخِرُونَ الأوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَنَحْنُ أوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ " . وذكر تمام الحديث{[5555]} .
حديث آخر : روى الدارقطني في الأفراد من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيَّب ، عن عمر بن الخطاب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ الْجَنَّةَ حُرِّمَتْ عَلَى الأنْبِيَاءِ كُلُّهُمْ حَتَّى أَدْخُلَهَا ، وَحُرِّمَتْ عَلَى الأمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا{[5556]} أمتِي " .
ثم قال : تفرد به ابن عقيل ، عن الزهري ، ولم يرو عنه سواه . وتفرد به زُهير بن محمد ، عن ابن عقيل ، وتفرد به عَمْرو بن أبي سلمة ، عن زهير .
وقد رواه أبو أحمد بن عَدِيّ الحافظ فقال : حدثنا أحمد بن الحسين بن إسحاق ، حدثنا أبو بكر الأعين محمد بن أبي عَتَّاب ، حدثنا أبو حفص التِّنيسي - يعني عمرو بن أبي سلمة - حدثنا صدقة الدمشقي . عن زهير بن محمد ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن الزهري .
ورواه الثَّعْلَبي : حدثنا أبو عباس المَخْلَدي ، أخبرنا أبو نُعْم عبد الملك بن محمد ، أخبرنا أحمد بن عيسى التنيسي ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، حدثنا صدقة بن عبد الله ، عن زهير بن محمد ، عن ابن عقيل ، به{[5557]} .
فهذه الأحاديث في معنى قوله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في هذا الثناء عليهم والمدح لهم ، كما قال قتادة : بَلَغَنَا أن عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ]{[5558]} في حجة حجّها رأى من الناس سُرْعة{[5559]} فقرأ هذه الآية : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } ثم قال : من سَرَّه أن يكون من تلك الأمة فَلْيؤدّ شَرْط الله فيها . رواه ابن جرير .
ومن{[5560]} لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله : { كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ [ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ] {[5561]} [ المائدة : 79 ] } ولهذا لما مَدح [ الله ]{[5562]} تعالى هذه الأمة على هذه الصفات شرع في ذم أهل الكتاب وتأنيبهم ، فقال : { وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ } أي : بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم { لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } أي : قليل منهم من يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم ، وأكثرهم على الضلالة والكفر والفسق والعصيان .
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ مّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }
اختلف أهل التأويل في قوله : { كُنْتُمْ خَيْرا أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } فقال بعضهم : هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من مكة إلى المدينة ، وخاصة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن سماك ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال في : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } قال : هم الذين خرجوا معه من مكة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عطية ، عن قيس ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } قال : هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ تَأْمُرُونَ بالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكِرِ } قال عمر بن الخطاب : لو شاء الله لقال «أنتم » ، فكنا كلنا ، ولكن قال : { كُنْتُمْ } في خاصة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن صنع مثل صنيعهم ، كانوا خير أمة أخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قال عكرمة : نزلت في ابن مسعود ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وأبيّ بن كعب ، ومعاذ بن جبل .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا مصعب بن المقدام ، عن إسرائيل ، عن السديّ ، عمن حدثه ، قال عمر : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } قال : تكون لأوّلنا ، ولا تكون لاَخرنا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن سماك بن حرب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } قال : هم الذين هاجروا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قال في حجة حجها : ورأى من الناس رِعَة سيئة ، فقرأ هذه : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } . . . الاَية ، ثم قال : يا أيها الناس ، من سره أن يكون من تلك الأمة ، فليؤدّ شرط الله منها .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } قال : هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ، يعني وكانوا هم الرواة الدعاة الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم .
وقال آخرون : معنى ذلك : كنتم خير أمة أخرجت للناس ، إذ كنتم بهذه الشروط التي وصفهم جلّ ثناؤه بها . فكان تأويل ذلك عندهم : كنتم خير أمة تأمرون بالمعروف ، وتنهون عن المنكر ، وتؤمنون بالله أُخرِجوا للناس في زمانكم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } يقول : على هذا الشرط أن تأمروا بالمعروف ، وتنهوا عن المنكر ، وتؤمنوا بالله ، يقول : لمن أنتم بين ظهرانيه ، كقوله : { وَلَقَدْ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلى العالَمِينَ } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } قال : يقول : كنتم خير الناس للناس ، على هذا الشرط ، أن تأمروا بالمعروف ، وتنهوا عن المنكر ، وتؤمنوا بالله ، يقول لمن بين ظهريه كقوله : { وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلى العالَمِينَ } .
وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ميسرة ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } قال : كنتم خير الناس للناس ، تجيئون بهم في السلاسل ، تدخلونهم في الإسلام .
حدثنا عبيد بن أسباط ، قال : حدثنا أبي ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية في قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } قال : خير الناس للناس .
وقال آخرون : إنما قيل : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } لأنهم أكثر الأمم استجابة للإسلام . ذكر من قال ذلك :
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ تَأمُرُونَ بالمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ } قال : لم تكن أمة أكثر استجابة في الإسلام من هذه الأمة ، فمن ثم قال : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } .
وقال بعضهم : عنى بذلك أنهم كانوا خير أمة أخرجت للناس . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ تَأْمُرُونَ بالمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ } قال : قد كان ما تسمع من الخير في هذه الأمة :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعد عن قتادة قال : كان الحسن يقول : نحن آخرها وأكرمها على الله .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الاَية ما قال الحسن ، وذلك أن :
يعقوب بن إبراهيم حدثني قال : حدثنا ابن علية ، عن بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «ألا إنّكُمْ وَفّيْتُمْ سَبْعِينَ أُمّةً أنْتُمْ آخِرُها وأكْرَمُها على اللّهِ » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ، أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول في قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } قال : «أنْتُمْ تُتِمّونَ سَبْعِينَ أُمّةً أنْتُمْ خَيْرُها وأكْرَمُها على اللّهِ » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم ، وهو مسند ظهره إلى الكعبة : «نَحْنُ نُكَمّلُ يَوْمَ القِيامَةِ سَبْعينَ أُمّةً نَحْنُ آخرُها وخَيْرُها » .
وأما قوله : { تَأْمُرُونَ بالمَعْرُوفِ } فإنه يعني : تأمرون بالإيمان بالله ورسوله ، والعمل بشرائعه ، { وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَر } يعني : وتنهون عن الشرك بالله ، وتكذيب رسوله ، وعن العمل بما نهى عنه . كما :
حدثنا عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } يقول : تأمرونهم بالمعروف أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ، والإقرار بما أنزل الله ، وتقاتلونهم عليه ، ولا إله إلا الله هو أعظم المعروف ، وتنهونهم عن المنكر والمنكر : هو التكذيب ، وهو أنكر المنكر .
وأصل المعروف : كل ما كان معروفا ففعله جميل مستحسن غير مستقبح في أهل الإيمان بالله . وإنما سميت طاعة الله معروفا ، لأنه مما يعرفه أهل الإيمان ولا يستنكرون فعله . وأصل المنكر ما أنكره الله ، ورأوه قبيحا فعله ، ولذلك سميت معصية الله منكرا ، لأن أهل الإيمان بالله يستنكرون فعلها ، ويستعظمون ركوبها . وقوله : { وَتؤْمِنُونَ باللّهِ } يعني : تصدّقون بالله ، فتخلصون له التوحيد والعبادة .
فإن سأل سائل فقال : وكيف قيل : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ } وقد زعمت أن تأويل الاَية أن هذه الأمة خير الأمم التي مضت ، وإنما يقال : كنتم خير أمة ، لقوم كانوا خيارا فتغيروا عما كانوا عليه ؟ قيل : إن معنى ذلك بخلاف ما ذهبت إليه ، وإنما معناه : أنتم خير أمة ، كما قيل : { وَاذْكُرُوا إذْ أنْتُمْ قَلِيلٌ } وقد قال في موضع آخر : { وَاذْكُرُوا إذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثّرَكُمْ } فإدخال «كان » في مثل هذا وإسقاطها بمعنى واحد ، لأن الكلام معروف معناه . ولو قال أيضا في ذلك قائل : كنتم بمعنى التمام ، كان تأويله : خلقتم خير أمة ، أو وجدتم خير أمة ، كان معنى صحيحا ، وقد زعم بعض أهل العربية أن معنى ذلك : كنتم خير أمة عند الله في اللوح المحفوظ أخرجت للناس ، والقولان الأوّلان اللذان قلنا ، أشبه بمعنى الخبر الذي رويناه قبل .
وقال آخرون معنى ذلك : كنتم خير أهل طريقة ، وقال : الأمة : الطريقة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ آمَنَ أهْلُ الكِتابِ لَكانَ خَيْرا لَهْمُ مِنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وأكْثَرُهُم الفاسِقونَ } .
يعني بذلك تعالى ذكره : ولو صدّق أهل التوراة والإنجيل من اليهود والنصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وما جاءهم به من عند الله ، لكان خيرا لهم عند الله في عاجل دنياهم ، وآجل آخرتهم . { مِنْهُمُ المُؤْمِنُونَ } يعني من أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، المؤمنون المصدّقون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاءهم به من عند الله ، وهم عبد الله بن سلام ، وأخوه ، وثعلبة بن سَعْيَة وأخوه ، وأشباههم ممن آمنوا بالله ، وصدّقوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، واتبعوا ما جاءهم به من عند الله . { وأكْثَرُهُمُ الفاسِقُونَ } يعني : الخارجون عن دينهم ، وذلك أن من دين اليهود اتباع ما في التوراة ، والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ومن دين النصارى اتباع ما في الإنجيل ، والتصديق به وبما في التوراة ، وفي كلا الكتابين صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ، ومبعثه ، وأنه نبيّ الله ، وكلتا الفرقتين ، أعني اليهود والنصارى مكذبة ، فذلك فسقهم وخروجهم عن دينهم الذي يدّعون أنهم يدينون به الذي قال جلّ ثناؤه { وأكْثَرُهُمُ الفاسِقُونَ } . وقال قتادة بما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { مِنْهُمُ المُؤمِنونَ وأكْثَرُهُمُ الفاسِقُونَ } : ذمّ الله أكثر الناس .
{ كنتم خير أمة } دل على خيريتهم فيما مضى ولم يدل على انقطاع طرأ كقوله تعالى { إن الله كان غفورا رحيما } وقيل كنتم في علم الله أو في اللوح المحفوظ ، أو فيما بين الأمم المتقدمين . { أخرجت للناس } أي أظهرت لهم . { تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } استئناف بين به كونهم { خير أمة } ، أو خبر ثان لكنتم . { وتؤمنون بالله } يتضمن الإيمان بكل ما يجب أن يؤمن به ، لأن الإيمان به إنما يحق ويعتد به إذا حصل الإيمان بكل ما أمر أن يؤمن به ، وإنما أخره وحقه أن يقدم لأنه قصد بذكره الدلالة على أنهم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر إيمانا بالله وتصديقا به وإظهارا لدينه ، واستدل بهذه الآية على إن الإجماع حجة لأنها تقتضي كونهم آمرين بكل معروف وناهين عن كل منكر ، إذ اللام فيهما للاستغراق فلو أجمعوا على باطل كان أمرهم على خلاف ذلك . { ولو آمن أهل الكتاب } إيمانا كما ينبغي { لكان خيرا لهم } لكان الإيمان خيرا لهم مما هم عليه . { منهم المؤمنون } كعبد الله بن سلام وأصحابه . { وأكثرهم الفاسقون } المتمردون في الكفر ، وهذه الجملة والتي بعدها واردتان على سبيل الاستطراد .