ولما كان نور الإيمان والقرآن أكثر وقوع أسبابه في المساجد ، ذكرها منوها بها فقال : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ }
أي : يتعبد لله { فِي بُيُوتٍ } عظيمة فاضلة ، هي أحب البقاع إليه ، وهي المساجد . { أَذِنَ اللَّهُ } أي : أمر ووصى { أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } هذان مجموع أحكام المساجد ، فيدخل في رفعها ، بناؤها ، وكنسها ، وتنظيفها من النجاسة والأذى ، وصونها من المجانين والصبيان الذين لا يتحرزون عن النجاسة ، وعن الكافر ، وأن تصان عن اللغو فيها ، ورفع الأصوات بغير ذكر الله .
{ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } يدخل في ذلك الصلاة كلها ، فرضها ، ونفلها ، وقراءة القرآن ، والتسبيح ، والتهليل ، وغيره من أنواع الذكر ، وتعلم العلم وتعليمه ، والمذاكرة فيها ، والاعتكاف ، وغير ذلك من العبادات التي تفعل في المساجد ، ولهذا كانت عمارة المساجد على قسمين : عمارة بنيان ، وصيانة لها ، وعمارة بذكر اسم الله ، من الصلاة وغيرها ، وهذا أشرف القسمين ، ولهذا شرعت الصلوات الخمس والجمعة في المساجد ، وجوبا عند أكثر العلماء ، أو استحبابا عند آخرين . ثم مدح تعالى عمارها بالعبادة فقال : { يُسَبِّحُ لَهُ } إخلاصا { بِالْغُدُوِّ } أول النهار { وَالْآصَالِ } آخره
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك أكثر الأماكن والأشخاص انتفاعا بنوره ، فقال - تعالى - : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله } .
وقوله { فِي بُيُوتٍ } متعلق بقوله : { يُسَبِّحُ } . والمراد بهذه البيوت : المساجد كلها ، وعلى رأسها المسجد الحرام ، والمسجد النبوى ، والمسجد الأقصى .
و " أذن " بمعنى أمر وقضى ، وفاعل " يسبح " قوله " رجال " .
والغدو والغداة : من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، والآصال جمع أصيل ، وهو ما بين العصر وغروب الشمس .
أى : هذا هو نور الله - الذى يهدى إليه من يشاء من عباده ، وعلى رأس أولئك العباد الذين هداهم الله - سبحانه - إلى ما يحبه ويرضاه ، هؤلاء الرجال الذين يعبدونه ويقدسونه فى تلك المساجد التى أمر - سبحانه - بتشييدها وتعظيم قدرها ، وصيانتها من كل سوء أو نجس ، إنهم يسبحونه وينزهونه عن كل نقص ، ويتقربون إليه بالصلوات وبالطاعات . فى تلك المساجد فى أول النهار وفى آخرة ، وفى غير ذلك من الأوقات .
وخص - سبحانه - أوقات الغدو والآصال بالذكر ، لشرفها وكونها أشهر ما تقع فيه العبادات .
ذلك النور الطليق ، الشائع في السماوات والأرض الفائض في السماوات والأرض ، يتجلى ويتبلور في بيوت الله التي تتصل فيها القلوب بالله ، تتطلع إليه وتذكره وتخشاه ، وتتجرد له وتؤثره على كل مغريات الحياة :
( في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ، يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة . يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار . ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله ، والله يرزق من يشاء بغير حساب ) . .
وهناك صلة تصويرية بين مشهد المشكاة هناك ومشهد البيوت هنا ، على طريقة التناسق القرآنية في عرض المشاهد ذات الشكل المتشابه أو المتقارب . وهناك صلة مثلها بين المصباح المشرق بالنور في المشكاة ، والقلوب المشرقة بالنور في بيوت الله .
تلك البيوت ( أذن الله أن ترفع )- وإذن الله هو أمر للنفاذ - فهي مرفوعة قائمة ، وهي مطهرة رفيعة . يتناسق مشهدها المرفوع مع النور المتألق في السماوات والأرض . وتتناسق طبيعتها الرفيعة مع طبيعة النور السني الوضيء . وتتهيأ بالرفعة والارتفاع لأن يذكر فيها اسم الله : ( ويذكر فيها اسمه ) . وتتسق معها القلوب الوضيئة الطاهرة ، المسبحة الواجفة ، المصلية الواهبة .
تردد المفسرون في تعلق الجار والمجرور من قوله : { في بيوت } الخ . فقيل قوله : { في بيوت } من تمام التمثيل ، أي فيكون { في بيوت } متعلقاً بشيء مما قبله . فقيل يتعلق بقوله : { يوقد } [ النور : 35 ] أي يوقد المصباح في بيوت . وقيل هو صفة لمشكاة ، أي مشكاة في بيوت وما بينهما اعتراض ؛ وإنما جاء بيوت بصيغة الجمع مع أن { مشكاة } و { مصباح } [ النور : 35 ] مفردان لأن المراد بهما الجنس فتساوى الإفراد والجمع .
ثم قيل : أريد بالبيوت المساجد . ولا يستقيم ذلك إذ لم يكن في مساجد المسلمين يومئذٍ مصابيح وإنما أحدثت المصابيح في المساجد الإسلامية في خلافة عمر بن الخطاب فقال له علي : نوّر الله مضجعك يا بن الخطاب كما نورت مسجدنا . وروي أن تميماً الداري أسرج المسجد النبوي بمصابيح جاء بها من الشام ولكن إنما أسلم تميم سنة تسع ، أي بعد نزول هذه الآية . وقيل البيوت مساجد بيت المقدس وكانت يومئذٍ بِيَعاً للنصارى . ويجوز عندي على هذا الوجه أن يكون المراد بالبيوت صوامع الرهبان وأديرتهم وكانت معروفة في بلاد العرب في طريق الشام يمرون عليها وينزلون عندها في ضيافة رهبانها . وقد ذكر صاحب « القاموس » عدداً من الأديرة . ويرجح هذا قوله : { أن ترفع } فإن الصوامع كانت مرفوعة والأديرة كانت تبنى على رؤوس الجبال . أنشد الفراء :
لو أبصرت رهبان دَير بالجبل *** لانحدر الرهبان يسعى ويصل
والمراد بإذن الله برفعها أنه ألهم متّخذيها أن يجعلوها عالية وكانوا صالحين يقرأون الإنجيل فهو كقوله تعالى : { لهدمت صوامع وبيع } إلى قوله : { يذكر فيها اسم الله كثيراً } [ الحج : 40 ] . وعبر بالإذن دون الأمر لأن الله لم يأمرهم باتخاذ الأديرة في أصل النصرانية ولكنهم أحدثوها للعون على الانقطاع للعبادة باجتهاد منهم ، فلم ينههم الله عن ذلك إذ لا يوجد في أصل الدين ما يقتضي النهي عنها فكانت في قسم المباح ، فلما انضم إلى إباحة اتخاذها نية العون على العبادة صارت مرضية لله تعالى . وهذا كقوله تعالى : { ورهبانيةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله } [ الحديد : 27 ] . وقد كان اجتهاد أحبار الدين في النصرانية وإلهامُهم دلائل تشريع لهم كما تقتضيه نصوص من الإنجيل . والمقصد من ذكر هذا على هذه الوجوه زيادة إيضاح المشبه به كقول النبي صلى الله عليه وسلم في صفة جهنم : " فإذا لها كلاليبُ مثلُ حَسَك السَّعدان هل رأيتم حسك السَّعْدان ؟ " . وفيه مع ذلك تحسين المشبه به ليسري ذلك إلى تحسين المشبه كما في قول كعب بن زهير :
شجت بذي شبَم من ماء محنيَةِ *** صاففٍ بأبطح أضحى وهو مشمول
تنفي الرياح القذى عنه وأفرطه *** من صوب سارية بيضٌ يعاليل
لأن ما ذكر من وصف البيوت وما يجري فيها مما يكسبها حسناً في نفوس المؤمنين .
وتخصيص التسبيح بالرجال لأن الرهبان كانوا رجالاً .
وأريد بالرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله : الرهبان الذين انقطعوا للعبادة وتركوا الشغل بأمور الدنيا ، فيكون معنى : { لا تلهيهم تجارة ولا بيع } : أنهم لا تجارة لهم ولا بيع من شأنهما أن يلهياهم عن ذكر الله ، فهو من باب : على لاحب لا يهتدى بمناره .
والثناء عليهم يومئذٍ لأنهم كانوا على إيمان صحيح إذ لم تبلغهم يومئذٍ دعوة الإسلام ولم تبلغهم إلا بفتوح مشارف الشام بعد غزوة تبوك ، وأما كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل فإنه لم يُذع في العامة . وكان الرهبان يتركون الكوى مفتوحة ليظهر ضوء صوامعهم وقد كان العرب يعرفون صوامع الرهبان وأضواءها في الليل . قال امرؤ القيس :
تُضيء الظلام بالعشيّ كأنها *** منارة مُمْسَى راهب متبتل
يضيء سناه أو مصابيح راهب *** أمال السليط بالذبال المفتل
السليط : الزيت . أي صب الزيت على الذبال فهو في تلك الحالة أكثر إضاءة . وكانوا يهتدون بها في أسفارهم ليلاً . قال امرؤ القيس :
سموت إليها والنجوم كأنها *** مصابيح رهبان تُشب لقُفَّال
القفال : جمع قافل وهم الراجعون من أسفارهم .
وقيل : أريد بالرفع الرفع المعنوي وهو التعظيم والتنزيه عن النقائص . فالإذن حينئذٍ بمعنى الأمر .
وبعد فهذا يبعد عن أغراض القرآن وخاصة المدني منه لأن الثناء على هؤلاء الرجال ثناء جم ومعقب بقوله : { ليجزيهم الله أحسن ما عملوا } .
والأظهر عندي : أن قوله : { في بيوت } ظرف مستقر هو حال من { نوره } في قوله { مثل نوره كمشكاة } [ النور : 35 ] الخ مشير إلى أن « نور » في قوله : { مثل نوره } مراد منه القرآن ، فيكون هذا الحال تجريداً للاستعارة التمثيلية بذكر ما يناسب الهيئة المشبهة أعني هيئة تلقي القرآن وقراءته وتدبره بين المسلمين مما أشار إليه قول النبي صلى الله عليه وسلم " وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده " {[292]} فكان هذا التجريد رجوعاً إلى حقيقة التركيب الدال على الهيئة المشبهة كقول طرفة :
وفي الحي أحوى ينفض المَرْد شادف *** مظاهر سِمطي لؤلؤ وزبرجد
مع ما في الآية من بيان ما أجمل في لفظ : { مثل نوره } وبذلك كانت الآية أبلغ من بيت طرفة لأن الآية جمعت بين تجريد وبيان وبيت طرفة تجريد فقط .
ويجوز أن يكون { في بيوت } غير مرتبط بما قبله وأنه مبدأ استئناف ابتدائي وأن المجرور متعلق بقوله : { يسبح له فيها } . وتقديم المجرور للاهتمام بتلك البيوت وللتشويق إلى متعلق المجرور وهو التسبيح وأصحابه . والتقدير : يسبح لله رجال في بيوت ، ويكون قوله : { فيها } تأكيداً لقوله : { في بيوت } لزيادة الاهتمام بها . وفي ذلك تنويه بالمساجد وإيقاع الصلاة والذكر فيها كما في الحديث : " صلاة أحدكم في المسجد ( أي الجماعة ) تفضل صلاته في بيته بسبع وعشرين درجة " .
والمراد بالغدوّ : وقت الغدوّ وهو الصباح لأنه وقت خروج الناس في قضاء شؤونهم .
والآصال : جمع أصيل وهو آخر النهار ، وتقدم في آخر الأعراف ( 205 ) وفي سورة الرعد ( 15 ) .