{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ * لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ * ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ }
يمدح تعالى هذه الأمة ويخبر أنها خير الأمم التي أخرجها الله للناس ، وذلك بتكميلهم لأنفسهم بالإيمان المستلزم للقيام بكل ما أمر الله به ، وبتكميلهم لغيرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتضمن دعوة الخلق إلى الله وجهادهم على ذلك وبذل المستطاع في ردهم عن ضلالهم وغيهم وعصيانهم ، فبهذا كانوا خير أمة أخرجت للناس ، لما كانت الآية السابقة وهي قوله : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } أمرا منه تعالى لهذه الأمة ، والأمر قد يمتثله المأمور ويقوم به ، وقد لا يقوم به ، أخبر في هذه الآية أن الأمة قد قامت بما أمرها الله بالقيام به ، وامتثلت أمر ربها واستحقت الفضل على سائر الأمم { ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم } وفي هذا من دعوته بلطف الخطاب ما يدعوهم إلى الإيمان ، ولكن لم يؤمن منهم إلا قليل ، وأكثرهم الفاسقون الخارجون عن طاعة الله المعادون لأولياء الله بأنواع العداوة ،
وبعد أن أمر الله - تعالى - المؤمنين بالدعوة إلى الخير ونهاهم عن التفرق والاختلاف المفضى إلى العذاب العظيم يوم القيامة ، وبين لهم أن مصير الأمور إليه ، بعد كل ذلك ساق لهم ما يقوى إيمانهم ويثبت يقينهم ، بأن بشرهم بحسن العقبى متى استقاموا على أمره ، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، وأنذر الكافرين من أهل الكتاب بالهزيمة فى الدنيا ، وبغضب الله - تعالى - فى الآخرة فقال - تعالى - : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ . . . } .
قوله - تعالى - { كُنْتُمْ } يصح أن تكون من كان التامة التى بمعنى وجد وهى لا تحتاج إلى خبر فيكون المعنى وجدتم خير أمة أخرجت للناس ، ويكون قوله { خَيْرَ أُمَّةٍ } بمعنى الحال . وبهذا الراى قال جمع من المفسرين .
ويصح أن تكون من كان الناقصة التى هى - كما يقول الزمخشرى - عبارة عن وجود الشىء فى زمان ماض على سبيل الإبهام وليس فيه دليل على عدم سابق ولا على انقطاع طارىء فيكون المعنى : قدرتم فى علم الله - تعالى - خير أمة أخرجت للناس .
ويجوز أن تكون بمعنى صار . أى تحولتم يا معشر المؤمنين الذين عاصرتم النبى صلى الله عليه وسلم من جاهليتكم إلى أن صرتم خير أمة .
وقيل : إن " كان " هنا زائدة ، والتقدير : أنتم خير أمة . ورد هذا القول بأن كان لا تزاد فى أول الكلام .
والظاهر أن الرأى الأول الذى يقول إن { كُنْتُمْ } هنا من كان التامة هو أقرب الأقوال إلى الصواب " ويليه الرأى الثاني الذى يرى أصحابه أن " كنتم " هنا من " كان " الناقصة إلا أنها هنا تدل على تحقق شىء بصفة فى الزمان الماضى من غير دلالة على عدم سابق أو لاحق .
والخطاب فى هذه الآية الكريمة بقوله - تعالى - { كُنْتُمْ } للمؤمنين الذين عاصروا النبى صلى الله عليه وسلم ولمن أتى بعدهم واتبع تعاليم الإسلام إلى يوم الدين .
ولذا قال ابن كثير : والصحيح أن هذه الآية عامة فى جميع الأمة . كل قرن بحسبه ، وخير قرونهم الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم ، كما قال - سبحانه - فى الآية الأخرى { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً } وقد وردت أحاديث متعددة فى فضل هذه الأمة الإسلامية ، منها : ما جاء فى مسند الإمام أحمد وفى سنن الترمذى وابن ماجه من رواية حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله - تعالى - " .
والمعنى : وجدتم يا معشر المسلمين العالمين بتعاليم الإسلام وآدابه وسنته وشريعته خير أمة أخرجت وأظهرت للناس ، من أجل إعلاء كلمة الحق وإزهاق كلمة الباطل ، ونشر الإصلاح والنفع فى الأرض .
وقوله { خَيْرَ أُمَّةٍ } خبر كنتم على أنها من كان الناقصة .
وجملة { أُخْرِجَتْ } صفة لأمة ، وقوله { لِلنَّاسِ } متعلق بأخرجت ، وحذف الفاعل من { أُخْرِجَتْ } للعلم به أى : خرجها الله - تعالى - لنفع الناس وهداءتهم إلى الصراط المستقيم .
فالجملة الكريمة تنوه بشأن الأمة الإسلامية وتعلى من قدرها ، فهل تعى الأمة الإسلامية هذا التنويه من شأنها وذلك لإعلاء من قدرها فتقوم بدورها الذى اختاره الله لها ، وهو نشر كلمة التوحيد فى الأرض واحقاق الحق وإبطال الباطل شكراً لله - تعالى - على جعله إياها خير أمة أخرجت للناس ؟ ؟
إن واقع المسلمين الملىء بالضعف والهوان ، والفسوق والعصيان يدمى قلوب المؤمنين الصادقين ، ويحملهم على أن يبلغوا رسالات الله دون أن يخشوا أحدا سواه حتى تكون كلمته هى العليا وكلمة الذين كفروا هى السفلى .
ثم بين - سبحانه - الأسباب التى جعلت الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس فقال : { تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله } .
والمعروف : هو كل قول أو عمل حسنه الشرع ، وأيدته العقول السليمة ، والمنكر بعكسه .
والمعنى : وجدتم خير أمة أخرجت للناس ، لانكم تأمرون بالمعروف أى بالقول أو الفعل الجميل المستحسن فى الشرائع والعقول . { وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } أى كل قول أو فعل قبيح تستنكره الشرائع ويأباه أهل الإيمان القويم ، والعقل السليم .
و { وَتُؤْمِنُونَ } بالله أى تصدقون وتذعنون بأنه لا معبود بحق سواه ، وتخلصون له العبادة والخضوع ، وتطيعونه فى كل ما أمركم به أو نهاكم عنه على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم .
فأنت ترى أن الخيرية للأمة الإسلامية منوطة بتحقيق أصلين أساسيين :
أولهما : الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لأنهما سياج الدين ، ولا يمكن أن يتحقق بنيان أمة على الخير والفضيلة إلا بالقيام بهما ، فهما من الأسباب التى استحق بنو إسرائيل اللعنة من أجل تركهما ، فقد أخرج أبو داود فى سننه عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أول ما دخل النقص على بنى إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول له : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل له ، ثم يلقاه من الغد على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشربيه وقعيده ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال صلى الله عليه وسلم ( لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بني إِسْرَائِيلَ على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ ذلك بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ) ثم قال : " كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذون على يد الظالم ، ولتأطرنه على الحق اطرا - ولتحملنه على اتباع الحق حملا - أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ، ثم ليلعنكم كما لعنهم " .
وثانيهما : الإيمان بالله - تعالى - وبجميع ما أمر الله - تعالى - بالإيمان به .
هذان هما الأمران الذان يجب أن يتحققا لتكون هذه الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس لأن الأمة التي تهمل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ولا تؤمن بالله لا يمكن أن تكون خير أمة بل لا توصف بالخيرية قط ، لأنه لا خير إلا فى الفضائل والحق والعدل ، ولا تقوم هذه الأمور إلا مع وجود الإيمان بالله وكثرة الدعاة إلى الخير والناهين عن الشر ، ويكون لدعوتهم آثارها القوية التى تحيا معها الفائل وتزول بها الرذائل .
وكأنه - سبحانه - قد أخر " الإيمان بالله " عن " الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر " ليكون كالباعث عليهما لأنه لا يصبر على تكاليفهما ومتاعبهما إلا مؤمن يبتغى وجه الله ويركن فى كفاحه إليه . فهذا الإيمان بالله هو الباعث للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، على أن يبلغوا رسالات الله ، دون أن يخشوا أحدا سواه .
وقيل : إنما أخر الإيمان على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مع تقدمه عليهما وجودا ورتبة كما هو الظاهر ، لأن الإيمان مشترك بين جميع الأمم دون الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، فهما أظهر فى الدلالة على الخيرية للأمة الإسلامية .
وجملة { تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } يجوز أن تكون حالية من ضمير الخطاب فى { كُنْتُمْ } ويجوز أن تكون مستأنفة للتعليل ، وهذا ما ذهب إليه الفخر الرازى ، فقد قال : " واعلم أن هذا الكلام مستأنف والمقصود منه بيان علة تلك الخيرية ، كما تقول : زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقم بما يصلحهم ، وتحقيق الكلام أنه ثبت فى أصول الفقه أن ذكر الحكم مقرونا بالوصف المناسب له يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف فههنا حكم الله - بثبوت وصف الخيرية لهذه الأمة . ثم ذكر عقيب هذا الحكم هذه الطاعات أعنى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والإيمان ، فوجب كون تلك الخيرية معللة بهذه العبارات .
وقال الإمام ابن كثير - بعد أن ساق بضعة عشر حديثاً فى فضل هذه الأمة : فهذه الأحاديث فى معنى قوله - تعالى - { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله } فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم فى هذا المدح ، كما قال قتادة ، بلغنا أن عمر بن الخطاب رأى من الناس دعة فى حجة حجها فقرأ هذه الآية : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } ، ثم قال : من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها " ، رواه ابن جرير ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله : { كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ } الآية .
وبعد أن مدح - سبحانه - هذه الأمة على هذه الصفات شرع فى ذم أهل الكتاب وتأنيبهم فقال - تعالى - { وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب } أى بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } أى لكان إيمانهم خيرا لهم فى دنياهم وآخرتهم ولنالوا الخيرية التى ظفرت بها الأمة الإسلامية ولكنهم لم يؤمنوا فامتنع الخير فيهم لامتناع الإيمان الصحيح منهم ، ولإيثارهم الضلالة على الهداية فهذه الجملة الكريمة معطوفة على قوله - تعالى - { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } . . . . ومرتبطة بها .
ولم يذكر متعلق { آمَنَ } هنا لأن المراد لو اتصفوا بالإيمان الذى هو لقب وشعار للإيمان بدين الإسلام الذى أتى به محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو الذى منه أطلقت صفة الذين آمنوا على المسلمين فصار كالعلم بالغلبة .
وقال - سبحانه - { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } أى : لو آمنوا لكان إيمانهم خيرا لهم بدون تفصيل لهذه الخيرية لتذهب نفوسهم كل مذهب فى الرجاء والإشفاق .
ثم أخبر - سبحانه - بأن قلة من أهل الكتاب اختاروا الإيمان على الكفر فقال - تعالى - { مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون } .
أى : من أهل الكتاب أمة آمنت بالله وصدقت رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم واتبعت ما جاء به من الحق وأكثرهم معرضون عن الإيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وخارجون عن الطريق المستقيم الذى أمرت باتباعه الشرائع والعقول السليمة .
فالجملة الكريمة إنصاف للقلة المؤمنة التى آمنت من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وغيره ممن دخل فى الإسلام . وذم لأكثر أهل الكتاب الذين جحدوا الحق . وخرجوا عن الطريق القويم .
وقوله { مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون } جملة مستأنفة استثنافا بيانيا ، فهى جواب للجملة الشرطية التى قبلها . فكأنه قيل : هل منهم من آمن أو كلهم على الكفر ؟ فكان الجواب : منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون .
وعبر عن كفرهم بالفسق ، للإشعار بأنهم قد فسقوا فى دينهم أيضا فهم ليسوا عدولا فيه ، وبذلك يكونون قد خرجوا عن الإسلام وعما أوجبته عليهم كتبهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم .
بعدئذ يصف الأمة المسلمة لنفسها ! ليعرفها مكانها وقيمتها وحقيقتها ؛ ثم يصف لها أهل الكتاب - ولا يبخسهم قدرهم ، إنما يبين حقيقتهم ويطمعهم في ثواب الإيمان وخيره - ويطمئن المسلمين من جانب عدوهم . فهم لن يضروهم في كيدهم لهم وقتالهم ، ولن ينصروا عليهم . وللذين كفروا منهم عذاب النار في الآخرة ، لا ينفعهم فيه ما أنفقوا في الحياة الدنيا بلا إيمان ولا تقوى :
( كنتم خير أمة أخرجت للناس . تأمرون بالمعروف ، وتنهون عن المنكر ، وتؤمنون بالله . ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم . منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون . لن يضروكم إلا أذى ، وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون . ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا - إلا بحبل من الله وحبل من الناس - وباؤوا بغضب من الله ، وضربت عليهم المسكنة . ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ، ويقتلون الأنبياء بغير حق . ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . ليسوا سواء . من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون . يؤمنون بالله واليوم الآخر ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات ، وأولئك من الصالحين . وما يفعلوا من خير فلن يكفروه ، والله عليم بالمتقين . إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا ، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر ، أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته . وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون . . )
إن شطر الآية الأولى في هذه المجموعة يضع على كاهل الجماعة المسلمة في الأرض واجبا ثقيلا ، بقدر ما يكرم هذه الجماعة ويرفع مقامها ، ويفردها بمكان خاص لا تبلغ إليه جماعة أخرى :
( كنتم خير أمة أخرجت للناس ، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ، وتؤمنون بالله . )
إن التعبير بكلمة " أخرجت " المبني لغير الفاعل ، تعبير يلفت النظر . وهو يكاد يشي باليد المدبرة اللطيفة ، تخرج هذه الأمة إخراجا ؛ وتدفعها إلى الظهور دفعا من ظلمات الغيب ، ومن وراء الستار السرمدي الذي لا يعلم ما وراءه إلا الله . . إنها كلمة تصور حركة خفية المسرى ، لطيفة الدبيب . حركة تخرج على مسرح الوجود أمة . أمة ذات دور خاص . لها مقام خاص ، ولها حساب خاص :
( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) . .
وهذا ما ينبغي أن تدركه الأمة المسلمة ؛ لتعرف حقيقتها وقيمتها ، وتعرف أنها أخرجت لتكون طليعة ، ولتكون لها القيادة ، بما أنها هي خير أمة . والله يريد أن تكون القيادة للخير لا للشر في هذه الأرض . ومن ثم لا ينبغي لها أن تتلقى من غيرها من أمم الجاهلية . إنما ينبغي دائما أن تعطي هذه الأمم مما لديها . وأن يكون لديها دائما ما تعطيه . ما تعطيه من الاعتقاد الصحيح ، والتصور الصحيح ، والنظام الصحيح ، والخلق الصحيح ، والمعرفة الصحيحة ، والعلم الصحيح . . هذا واجبها الذي يحتمه عليها مكانها ، وتحتمه عليها غاية وجودها . واجبها أن تكون في الطليعة دائما ، وفي مركز القيادة دائما . ولهذا المركز تبعاته ، فهو لا يؤخذ ادعاء ، ولا يسلم لها به إلا أن تكون هي أهلا له . . وهي بتصورها الاعتقادي ، وبنظامها الاجتماعي أهل له . فيبقى عليها أن تكون بتقدمها العلمي ، وبعمارتها للأرض - قياما بحق الخلافة - أهلا له كذلك . . ومن هذا يتبين أن المنهج الذي تقوم عليه هذه الأمة يطالبها بالشيء الكثير ؛ ويدفعها إلى السبق في كل مجال . . لو أنها تتبعه وتلتزم به ، وتدرك مقتضياته وتكاليفه .
وفي أول مقتضيات هذا المكان ، أن تقوم على صيانة الحياة من الشر والفساد . . وأن تكون لها القوة التي تمكنها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ فهي خير أمة أخرجت للناس . لا عن مجاملة أو محاباة ، ولا عن مصادفة أو جزاف - تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا - وليس توزيع الاختصاصات والكرامات كما كان أهل الكتاب يقولون : ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) . . كلا ! إنما هو العمل الإيجابي لحفظ الحياة البشرية من المنكر ، وإقامتها على المعروف ، مع الإيمان الذي يحدد المعروف والمنكر :
( تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) . .
فهو النهوض بتكاليف الأمة الخيرة ، بكل ما وراء هذه التكاليف من متاعب ، وبكل ما في طريقها من أشواك . . إنه التعرض للشر والتحريض على الخير وصيانة المجتمع من عوامل الفساد . . وكل هذا متعب شاق ، ولكنه كذلك ضروري لإقامة المجتمع الصالح وصيانته ؛ ولتحقيق الصورة التي يحب الله أن تكون عليها الحياة . .
ولا بد من الإيمان بالله ليوضع الميزان الصحيح للقيم ، والتعريف الصحيح للمعروف والمنكر . فإن اصطلاح الجماعة وحده لا يكفي . فقد يعم الفساد حتى تضطرب الموازين وتختل . ولا بد من الرجوع إلى تصور ثابت للخير وللشر ، وللفضيلة والرذيلة ، وللمعروف والمنكر . يستند إلى قاعدة أخرى غير اصطلاح الناس في جيل من الأجيال .
وهذا ما يحققه الإيمان ، بإقامة تصور صحيح للوجود وعلاقته بخالقه . وللإنسان وغاية وجوده ومركزه الحقيقي في هذا الكون . . ومن هذا التصور العام تنبثق القواعد الأخلاقية . ومن الباعث على إرضاء الله وتوقي غضبه يندفع الناس لتحقيق هذه القواعد . ومن سلطان الله في الضمائر ، وسلطان شريعته في المجتمع تقوم الحراسة على هذه القواعد كذلك .
ثم لا بد من الإيمان أيضا ليملك الدعاة إلى الخير ، الآمرون بالمعروف ، الناهون عن المنكر ، أن يمضوا في هذا الطريق الشاق ، ويحتملوا تكاليفه . وهم يواجهون طاغوت الشر في عنفوانه وجبروته ، ويواجهون طاغوت الشهوة في عرامتها وشدتها ، ويواجهون هبوط الأرواح ، وكلل العزائم ، وثقلة المطامع . . وزادهم هو الإيمان ، وعدتهم هي الإيمان . وسندهم هو الله . . وكل زاد سوى زاد الإيمان ينفد . وكل عدة سوى عدة الإيمان تفل ، وكل سند غير سند الله ينهار !
وقد سبق في السياق الأمر التكليفي للجماعة المسلمة أن ينتدب من بينها من يقومون بالدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أما هنا فقد وصفها الله سبحانه بأن هذه صفتها . ليدلها على أنها لا توجد وجودا حقيقيا إلا أن تتوافر فيها هذه السمة الأساسية ، التي تعرف بها في المجتمع الإنساني . فإما أن تقوم بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - مع الإيمان بالله - فهي موجودة وهي مسلمة . وأما أن لا تقوم بشيء من هذا فهي غير موجودة ، وغير متحققة فيها صفة الإسلام .
وفي القرآن الكريم مواضع كثيرة تقرر هذه الحقيقة ، ندعها لمواضعها . وفي السنة كذلك طائفة صالحة من أوامر الرسول [ ص ] وتوجيهاته نقتطف بعضها :
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله [ ص ] يقول : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان "
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] " لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم ، فلم ينتهوا ، فجالسوهم وواكلوهم وشاربوهم ، فضرب الله تعالى قلوب بعضهم ببعض ، ولعنهم على لسان داود وسليمان وعيسى بن مريم . . " ثم جلس - وكان متكئا - فقال : " لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا " أي تعطفوهم وتردوهم .
وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم " .
وعن عرس ابن عميرة الكندي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] : " إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها ، ومن غاب عنها فرضيها كمن شهدها " .
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] : " إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر " . .
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] : " سيد الشهداء حمزة . ورجل قام إلى سلطان جائر ، فأمره ونهاه ، فقتله " . .
وغيرها كثير . . وكلها تقرر أصالة هذه السمة في المجتمع المسلم ، وضروراتها لهذا المجتمع أيضا . وهي تحتوي مادة توجيه وتربية منهجية ضخمة . وهي إلى جانب النصوص القرآنية زاد نحن غافلون عن قيمته وعن حقيقته .
ثم نعود إلى الشطر الآخر من الآية الأولى في هذه المجموعة . .
( ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم . منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ) . .
وهو ترغيب لأهل الكتاب في الإيمان . فهو خير لهم . خير لهم في هذه الدنيا ، يستعصمون به من الفرقة والهلهلة التي كانوا عليها في تصوراتهم الاعتقادية ، والتي ما تزال تحرمهم تجمع الشخصية . إذ تعجز هذه التصورات عن أن تكون قاعدة للنظام الاجتماعي لحياتهم ، فتقوم أنظمتهم الاجتماعية - من ثم - على غير أساس ، عرجاء أو معلقة في الهواء ككل نظام اجتماعي لا يقوم على أساس اعتقادي شامل ، وعلى تفسير كامل للوجود ، ولغاية الوجود الإنساني ، ومقام الإنسان في هذا الكون . . وخير لهم في الآخرة يقيهم ما ينتظر غير المؤمنين من مصير .
ثم هو بيان كذلك لحالهم ، لا يبخس الصالحين منهم حقهم :
( منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ) . .
وقد آمن من أهل الكتاب جماعة وحسن إسلامهم . منهم عبد الله بن سلام ، وأسد بن عبيد ، وثعلبة بن شعبة ، وكعب بن مالك . . وإلى هؤلاء تشير الآية هنا بالإجمال - وفي آية تالية بالتفصيل - أما الأكثرون فقد فسقوا عن دين الله ، حين لم يفوا بميثاق الله مع النبيين : أن يؤمن كل منهم بأخيه الذي يجيء بعده ، وأن ينصره . وفسقوا عن دين الله وهم يأبون الاستسلام لإرادته في إرسال آخر الرسل من غير بني إسرائيل ، واتباع هذا الرسول وطاعته ولاحتكام إلى آخر شريعة من عند الله ، أرادها للناس أجمعين .
{ كنتم خير أمة } دل على خيريتهم فيما مضى ولم يدل على انقطاع طرأ كقوله تعالى { إن الله كان غفورا رحيما } وقيل كنتم في علم الله أو في اللوح المحفوظ ، أو فيما بين الأمم المتقدمين . { أخرجت للناس } أي أظهرت لهم . { تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } استئناف بين به كونهم { خير أمة } ، أو خبر ثان لكنتم . { وتؤمنون بالله } يتضمن الإيمان بكل ما يجب أن يؤمن به ، لأن الإيمان به إنما يحق ويعتد به إذا حصل الإيمان بكل ما أمر أن يؤمن به ، وإنما أخره وحقه أن يقدم لأنه قصد بذكره الدلالة على أنهم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر إيمانا بالله وتصديقا به وإظهارا لدينه ، واستدل بهذه الآية على إن الإجماع حجة لأنها تقتضي كونهم آمرين بكل معروف وناهين عن كل منكر ، إذ اللام فيهما للاستغراق فلو أجمعوا على باطل كان أمرهم على خلاف ذلك . { ولو آمن أهل الكتاب } إيمانا كما ينبغي { لكان خيرا لهم } لكان الإيمان خيرا لهم مما هم عليه . { منهم المؤمنون } كعبد الله بن سلام وأصحابه . { وأكثرهم الفاسقون } المتمردون في الكفر ، وهذه الجملة والتي بعدها واردتان على سبيل الاستطراد .
واختلف المتأولون في معنى قوله : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } فقال عمر بن الخطاب : هذه لأولنا ، ولا تكون لآخرنا وقال عكرمة : نزلت في ابن مسعود وسالم ومولى أبي حذيفة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل .
قال القاضي أبو محمد : يريد من شاكلهم ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة .
قال القاضي : فهذا كله قول واحد ، مقتضاه أن الآية نزلت في الصحابة ، قيل لهم { كنتم خير أمة } ، فالإشارة بقوله { أمة } إلى أمة محمد معينة ، فإن هؤلاء هم خيرها ، وقال الحسن بن أبي الحسن وجماعة من أهل العلم : معنى الآية ، خطاب الأمة بأنهم { خير أمة أخرجت للناس } ، فلفظ { أمة } ، على هذا التأويل اسم جنس كأنه قيل لهم كنتم خير الأمم ، ويؤيد هذا التأويل كونهم شهداء على الناس ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم :
«نحن الآخرون السابقون »{[3415]} الحديث . وروى بهز بن حكيم{[3416]} عن أبيه عن جده : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً وهو مسند ظهره إلى الكعبة ، «نحن نكمل يوم القيامة سبعين أمة نحن آخرها وخيرها »{[3417]} قال مجاهد : معنى الآية «كنتم خير الناس » - وقال الحسن : نحن آخرها وأكرمها على الله تعالى{[3418]} ، وقال أبو هريرة رضي الله عنه : معنى الآية كنتم للناس خير الناس{[3419]} .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : { فأمة } على هذا التأويل ، اسم جنس ، قال أبو هريرة : يجيئون بالكفار في السلاسل فيدخلونهم في الإسلام .
قال القاضي : ولم يبعث نبي إلى الأمم كافة إلا محمد صلى الله عليه وسلم ، فهو وأمته يدعون إلى الإيمان ويقاتلون العالم عليه ، فهم خير الناس للناس ، وليس يلزم على هذا التأويل أنها أفضل الأمم من نفس لفظ الآية ، لكن يعلم هذا من لفظ آخر ، وهي كقوله صلى الله عليه وسلم : ( أرأف أمتي بأمتي أبو بكر ){[3420]} ، فليس يقتضي هذا اللفظ أن أبا بكر أرأف الناس على الإطلاق ، في مؤمن وكافر .
قال القاضي : والرأفة على الإطلاق ليست بجارية مع الشرع كما يجب ، وأما قوله ، { كنتم } على صيغة الماضي ، فإنها التي بمعنى الدوام ، كما قال : { وكان الله غفوراً رحيماً } [ النساء : 96- 99- 100- 152- الفرقان : 70 ، الأحزاب : 5- 50- 59- 73 ، الفتح : 14 ] ، إلى غير هذا من الأمثلة ، وقال قوم : المعنى كنتم في علم الله ، وقيل : في اللوح المحفوظ ، وقيل فيما أخبر به الأمم قديماً عنكم و { خير } على هذه الأقوال كلها خبر كان ، ويحتمل أن تكون كان التامة ، ويكون { خير أمة } نصباً على الحال ، وهذا يتجه على بعض التأويلات التي ذكرناها دون بعض .
قال القاضي : وهذه الخيرية التي فرضها الله لهذه الأمة إنما يأخذ بحظه منها من عمل هذه الشروط من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله ، وقوله : { تأمرون بالمعروف } وما بعده ، أحوال في موضع نصب ، ثم أخبر تعالى عن أهل الكتاب على جهة التوبيخ المقرون بالنصح ، أنهم لو آمنوا لنحّوا أنفسهم من عذاب الله ، وجاءت لفظة { خير } في هذه الآية وهي صيغة تفضيل ، ولا مشاركة بين كفرهم وإيمانهم في الخير ، وإنما جاز ذلك لما في لفظة { خير } من الشياع وتشعب الوجوه ، وكذلك هي لفظة أفضل وأحب وما جرى مجراها ، وقد بيّن هذا المعنى في غير هذا الموضع بأوعب من هذا ، وقوله تعالى : { منهم المؤمنون } تنبيه على حال عبد الله بن سلام{[3421]} وأخيه{[3422]} وثعلبه بن سعية{[3423]} وغيرهم ممن آمن ، ثم حكم الله على أكثرهم بالفسق في كفره لأنهم حرفوا وبدلوا وعاندوا بعد معرفتهم بحقيقة أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، فهم كفار فسقة في الكفر قد جمعوا المذمتين .