{ قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ } أي : لست بأول رسول جاءكم حتى تستغربوا رسالتي وتستنكروا دعوتي فقد تقدم من الرسل والأنبياء من وافقت دعوتي دعوتهم فلأي شيء تنكرون رسالتي ؟ { وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ } أي : لست إلا بشرا ليس بيدي من الأمر شيء والله تعالى هو المتصرف بي وبكم الحاكم علي وعليكم ، ولست الآتي بالشيء من عندي ، { وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ } فإن قبلتم رسالتي وأجبتم دعوتي فهو حظكم ونصيبكم في الدنيا والآخرة ، وإن رددتم ذلك علي فحسابكم على الله وقد أنذرتكم ومن أنذر فقد أعذر .
ثم أمره الله - تعالى - أن يبين لهم ما جاءهم به من هداية ، قد جاء بها الرسل من قبله لأقوامهم ، وأنه رسول كسائر الرسل السابقين فقال - تعالى - : { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل . . } .
والبدع من كل شئ : أوله ومبدؤه . يقال : فلان بدع فى هذا الأمر ، أى : هو أول فيه دون أن يسبقه فيه سابق ، من الابتداع بمعنى الاختراع .
أى : وقل لهم - أيها الرسول الكريم - إنى لست أول رسول أرسله الله - تعالى - إلى الناس ، وإنما سبقنى كثيرون أنتم تعرفون شيئا من أخبارهم ومن أخبار أقوامهم ، وما دام الأمر كذلك فكيف تنكرون نبوتى ، وتشككون فى دعوتى ؟ .
وقوله - سبحانه - : { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } بيان لوظيفته - صلى الله عليه وسلم - . أى : وإننى وأنا رسول الله لا أعلم ما سيفعله الله - تعالى - بى أو بكم فى المستقبل من أمور الدنيا ، هل سأبقى معكم فى مكة أو سأهاجر منها . وهل سيصيبكم العذاب عاجلا أو آجلا ؟ فإنى ما أفعل معكم ، ولا أقول لكم إلا ما أوحاه الله - تعالى -إلىَّ ، وما أنا إلا نذير مبين ، أوضح لكم الحق من الباطل ، وأُخوِّفكُم من سوء المصير ، إذا ما بقيتم على كفركم وشرككم .
فالمقصود بقوله - تعالى - : { وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ } أى : فى دار الدنيا ، أما بالنسبة للآخرة ، فالله - تعالى - قد بشره وبشر أتباعه بالثواب العظيم فى آيات كثيرة ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى } وقوله - سبحانه - : { وَبَشِّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلاً كَبِيراً } .
قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه : قال الحسن البصرى فى قوله : { وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ } أى : فى الدنيا ، أأخرج كما أخرجت الأنبياء قبلى ؟ أم أقتل كما قتلوا ، ولا أدرى أيخسف بكم أو ترمون بالحجارة ؟ أما فى الآخرة فمعاذ الله ، قد علم أنه فى الجنة .
وهذا القول هو الذى عوّل عليه ابن جرير ، وأنه لا يجوز غيره ، ولا شك أن هذا هو اللائق به - صلى الله عليه وسلم ، فإنه بالنسبة للآخرة ، جازم أنه يصير إلى الجنة ومن اتبعه ، وأما فى الدنيا فلم يدر ما كان يؤول إليه أمره وأمر المشركين . أيؤمنون أم يكفرون فيعذبون فيستأصلون بكفرهم ؟
والمتدبر فى هذه الآية الكريمة ، يراها قد اشتملت على أسمى ألوان الأدب من النبى - صلى الله عليه وسلم - مع خالقه - عز وجل - فقد فوّض - صلى الله عليه وسلم - أمره إلى خالقه ، وصرح بأنه لا يتبع إلا ما يوحيه إليه سبحانه - وأنه لا علم له بالغيب ، وإنما علم ذلك إلى الله - تعالى - وحده .
ويمضي معهم في مناقشة القضية - قضية الوحي - من زاوية أخرى واقعية مشهودة . فماذا ينكرون من أمر الوحي والرسالة ؛ ولم يعجلون بتهمة السحر أو تهمة الافتراء ? وليس في الأمر غريب ولا عجيب :
( قل : ما كنت بدعا من الرسل . وما أدري ما يفعل بي ولا بكم . إن أتبع إلا ما يوحى إلي . وما أنا إلا نذير مبين ) . .
إنه[ صلى الله عليه وسلم ] ليس أول رسول . فقد سبقته الرسل . وأمره كأمرهم . وما كان بدعا من الرسل . بشر يعلم الله أنه أهل للرسالة فيوحي إليه ، فيصدع بما يؤمر . هذا هو جوهر الرسالة وطبيعتها . . والرسول حين يتصل قلبه لا يسأل ربه دليلا ، ولا يطلب لنفسه اختصاصا إنما يمضي في سبيله ، يبلغ رسالة ربه ، حسبما أوحي بها إليه : ( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم . إن أتبع إلا ما يوحى إلي ) . . فهو لا يمضي في رسالته لأنه يعلم الغيب ؛ أو لأنه يطلع على ما يكون من شأنه وشأن قومه وشأن الرسالة التي يبشر بها . إنما هو يمضي وفق الإشارة وحسب التوجيه . واثقا بربه ، مستسلما لإرادته ، مطيعا لتوجيهه ، يضع خطاه حيث قادها الله . والغيب أمامه مجهول ، سره عند ربه . وهو لا يتطلع إلى السر من وراء الستر لأن قلبه مطمئن ، ولأن أدبه مع ربه ينهاه عن التطلع لغير ما فتح له . فهو واقف أبدا عند حدوده وحدود وظيفته : ( وما أنا إلا نذير مبين ) . .
وإنه لأدب الواصلين ، وإنها لطمأنينة العارفين ، يتأسون فيها برسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فيمضون في دعوتهم لله . لا لأنهم يعرفون مآلها ، أو يعلمون مستقبلها . أو يملكون فيها قليلا أو كثيرا . ولكن لأن هذا واجبهم وكفى . وما يطلبون من ربهم برهانا فبرهانهم في قلوبهم . وما يطلبون لأنفسهم خصوصية فخصوصيتهم أنه اختارهم . وما يتجاوزون الخط الدقيق الذي خطه لهم ، ورسم لهم فيه مواقع أقدامهم على طول الطريق .
{ قل ما كنت بدعا من الرسل } بديعا منهم أدعوكم إلى ما لا يدعون إليه ، أو أقدر على ما لم يقدروا عليه ، وهو الإتيان بالمقترحات كلها ونظيره الخف بمعنى الخفيف . وقرئ بفتح الدال على أنه كقيم أو مقدر بمضاف أي ذا بدع . { وما أدري ما يفعل بي ولا بكم } في الدارين على التفضيل إذ لا علم لي بالغيب ، و{ لا } لتأكيد النفي المشتمل على ما يفعل بي { وما } إما موصولة منصوبة أو استفهامية مرفوعة . وقرئ { يفعل } أي يفعل الله . { إن أتبع إلا ما يوحى إلي } لا أتجاوزه ، وهو جواب عن اقتراحهم الإخبار عما لم يوح إليه من الغيوب ، أو استعجال المسلمين أن يتخلصوا من أذى المشركين . { وما أنا إلا نذير } من عقاب الله . { مبين } بين الإنذار بالشواهد المبينة والمعجزات المصدقة .
ثم أمره تعالى أن يحتج عليهم بأنه لم يكن { بدعاً من الرسل } ، أي قد جاء غيري قبلي ، قاله ابن عباس والحسن وقتادة . والبدع والبديع من الأشياء ما لم ير مثله ، ومنه قول ترجمة عدي بن زيد : [ الطويل ]
فما أنا بدع من حوادث تعتري . . . رجالاً عرت من بعد بؤسى وأسعد{[10296]}
وقرأ عكرمة وابن أبي عبلة وأبو حيوة : «بدَعاً » بفتح الدال . قال أبو الفتح ، التقدير : ذا بدع فحذف المضاف كما قال [ النابغة الجعدي ] : [ المقارب ]
وكيف تواصل من أصبحت . . . خلالته كأبي مرحب ؟{[10297]}
واختلف الناس في قوله : { ما أدري ما يفعل بي ولا بكم } ، فقال ابن عباس وأنس بن مالك والحسن وقتادة وعكرمة : معناه : في الآخرة ، وكان هذا في صدر الإسلام ، ثم بعد ذلك عرفه الله تعالى بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وبأن المؤمنين لهم من الله فضل كبير وهو الجنة ، وبأن الكافرين في نار جهنم ، والحديث الذي وقع في جنازة عثمان بن مظعون يؤيده هذا وهو قوله : «فوالله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي » ، وفي بعض الروايات : «به »{[10298]} ، ولا حجة في الحديث على رواية «به » ، والمعنى عندي في هذا القول أنه لم تكشف له الخاتمة فقال لا أدري ؟ وأما ان من وافى على الإيمان فقد أعلم بنجاته من أول الرسالة وإلا فكان للكفار أن يقولوا : وكيف تدعونا إلى ما لا تدري له عاقبة ، وقال الحسن أيضاً وجماعة . معنى الآية : { ما أدري ما يفعل بي ولا بكم } في الدنيا من أن أنصر عليكم أو من أن تمكنوا مني ، ونحو هذا من المعنى{[10299]} .
وقالت فرقة : معنى الآية : { ما يفعل بي ولا بكم } من الأوامر والنواهي وما تلزم الشريعة من أعراضها . وحكى الطبري عن بعضهم أنه قال : نزلت الآية في أمر كان النبي صلى الله عليه وسلم ينتظره من الله في غير الثواب والعقاب ، وروي عن ابن عباس أنه لما تأخر خروج النبي عليه السلام من مكة حين رأى في النوم أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وسبخة{[10300]} ، قلق المسلمون لتأخر ذلك ، فنزلت هذه الآية .
وقوله : { إن أتبع إلا ما يوحى إليَّ } معناه : الاستسلام والتبري من علم المغيبات والوقوف مع النذارة من عذاب الله عز وجل .