ولما كان نور الإيمان والقرآن أكثر وقوع أسبابه في المساجد ، ذكرها منوها بها فقال : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ }
أي : يتعبد لله { فِي بُيُوتٍ } عظيمة فاضلة ، هي أحب البقاع إليه ، وهي المساجد . { أَذِنَ اللَّهُ } أي : أمر ووصى { أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } هذان مجموع أحكام المساجد ، فيدخل في رفعها ، بناؤها ، وكنسها ، وتنظيفها من النجاسة والأذى ، وصونها من المجانين والصبيان الذين لا يتحرزون عن النجاسة ، وعن الكافر ، وأن تصان عن اللغو فيها ، ورفع الأصوات بغير ذكر الله .
{ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } يدخل في ذلك الصلاة كلها ، فرضها ، ونفلها ، وقراءة القرآن ، والتسبيح ، والتهليل ، وغيره من أنواع الذكر ، وتعلم العلم وتعليمه ، والمذاكرة فيها ، والاعتكاف ، وغير ذلك من العبادات التي تفعل في المساجد ، ولهذا كانت عمارة المساجد على قسمين : عمارة بنيان ، وصيانة لها ، وعمارة بذكر اسم الله ، من الصلاة وغيرها ، وهذا أشرف القسمين ، ولهذا شرعت الصلوات الخمس والجمعة في المساجد ، وجوبا عند أكثر العلماء ، أو استحبابا عند آخرين . ثم مدح تعالى عمارها بالعبادة فقال : { يُسَبِّحُ لَهُ } إخلاصا { بِالْغُدُوِّ } أول النهار { وَالْآصَالِ } آخره
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك أكثر الأماكن والأشخاص انتفاعا بنوره ، فقال - تعالى - : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله } .
وقوله { فِي بُيُوتٍ } متعلق بقوله : { يُسَبِّحُ } . والمراد بهذه البيوت : المساجد كلها ، وعلى رأسها المسجد الحرام ، والمسجد النبوى ، والمسجد الأقصى .
و " أذن " بمعنى أمر وقضى ، وفاعل " يسبح " قوله " رجال " .
والغدو والغداة : من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، والآصال جمع أصيل ، وهو ما بين العصر وغروب الشمس .
أى : هذا هو نور الله - الذى يهدى إليه من يشاء من عباده ، وعلى رأس أولئك العباد الذين هداهم الله - سبحانه - إلى ما يحبه ويرضاه ، هؤلاء الرجال الذين يعبدونه ويقدسونه فى تلك المساجد التى أمر - سبحانه - بتشييدها وتعظيم قدرها ، وصيانتها من كل سوء أو نجس ، إنهم يسبحونه وينزهونه عن كل نقص ، ويتقربون إليه بالصلوات وبالطاعات . فى تلك المساجد فى أول النهار وفى آخرة ، وفى غير ذلك من الأوقات .
وخص - سبحانه - أوقات الغدو والآصال بالذكر ، لشرفها وكونها أشهر ما تقع فيه العبادات .
ذلك النور الطليق ، الشائع في السماوات والأرض الفائض في السماوات والأرض ، يتجلى ويتبلور في بيوت الله التي تتصل فيها القلوب بالله ، تتطلع إليه وتذكره وتخشاه ، وتتجرد له وتؤثره على كل مغريات الحياة :
( في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ، يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة . يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار . ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله ، والله يرزق من يشاء بغير حساب ) . .
وهناك صلة تصويرية بين مشهد المشكاة هناك ومشهد البيوت هنا ، على طريقة التناسق القرآنية في عرض المشاهد ذات الشكل المتشابه أو المتقارب . وهناك صلة مثلها بين المصباح المشرق بالنور في المشكاة ، والقلوب المشرقة بالنور في بيوت الله .
تلك البيوت ( أذن الله أن ترفع )- وإذن الله هو أمر للنفاذ - فهي مرفوعة قائمة ، وهي مطهرة رفيعة . يتناسق مشهدها المرفوع مع النور المتألق في السماوات والأرض . وتتناسق طبيعتها الرفيعة مع طبيعة النور السني الوضيء . وتتهيأ بالرفعة والارتفاع لأن يذكر فيها اسم الله : ( ويذكر فيها اسمه ) . وتتسق معها القلوب الوضيئة الطاهرة ، المسبحة الواجفة ، المصلية الواهبة .
لما ضرب الله تعالى [ مثل ]{[21194]} قلب المؤمن ، وما فيه من الهدى والعلم ، بالمصباح في الزجاجة الصافية المتوقّد من زيت طيب ، وذلك كالقنديل ، ذكر محلها وهي المساجد ، التي هي أحب البقاع إلى الله تعالى من الأرض ، وهي بيوته التي يعبد فيها ويُوَحّد ، فقال : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ } أي : أمر الله تعالى برفعها ، أي : بتطهيرها من الدنس واللغو ، والأفعال والأقوال التي لا تليق فيها ، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية الكريمة : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ } قال : نهى الله سبحانه عن اللغو فيها . وكذا قال عكرمة ، وأبو صالح ، والضحاك ، ونافع بن جبير ، وأبو بكر بن سليمان بن أبي حَثْمة{[21195]} وسفيان بن حسين ، وغيرهم من علماء المفسرين{[21196]} . وقال قتادة : هي هذه المساجد ، أمر الله ، سبحانه ، ببنائها ورفعها ، وأمر بعمارتها وتطهيرها . وقد ذكر لنا أن كعبًا كان يقول : إن في التوراة مكتوبًا : " ألا إن بيوتي في الأرض المساجد ، وإنه من توضأ فأحسن وضوءه ، ثم زارني في بيتي أكرمته ، وحَقّ على المَزُور كرامةُ الزائر " . رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم في تفسيره .
وقد وردت أحاديث كثيرة في بناء المساجد ، واحترامها وتوقيرها ، وتطييبها وتبخيرها . وذلك له محل مفرد يذكر فيه ، وقد كتبت في ذلك جزءًا على حدَة ، ولله الحمد والمنة . ونحن بعون الله تعالى نذكر{[21197]} هاهنا طرفا من ذلك ، إن شاء الله تعالى ، وبه الثقة وعليه التكلان :
فعن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله ، بنى الله له مثله في الجنة " . أخرجاه في الصحيحين{[21198]} .
وروى ابن ماجه ، عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من بنى مسجدا يذكر فيه اسم الله ، بنى الله له بيتا في الجنة " {[21199]} .
وللنسائي عن عمرو بن عَبَسَة{[21200]} مثله{[21201]} . والأحاديث في هذا كثيرة جدا .
وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور ، وأن تنظف
وتطيب{[21202]} . رواه أحمد وأهل السنن إلا النسائي . ولأحمد وأبي داود ، عن سَمُرة بن جُنْدب نحوه . {[21203]} وقال البخاري : قال عمر : ابن للناس ما يكنهم ، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس{[21204]} .
وروى ابن ماجه عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما ساء عملُ قوم قطّ إلا زخرفوا مساجدهم " . {[21205]} وفي إسناده ضعف .
وروى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أمِرْتُ بتشييد المساجد " . قال ابن عباس : لَتُزَخرفُنّها كما زَخْرَفت اليهود والنصارى{[21206]} وعن أنس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد " . رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا الترمذي{[21207]} وعن بُرَيْدَةَ أن رَجُلا أنشدَ في المسجد ، فقال : من دعا إلى الجمل الأحمر ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا وجدت ، إنما بُنِيت المساجد لما بنيت له " . رواه مسلم . {[21208]} وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن البيع والابتياع ، وعن تناشد الأشعار في المساجد . رواه أحمد وأهل السنن{[21209]} ، وقال الترمذي : حسن .
وعن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه سلم : قال : " إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد ، فقولوا : لا أربح الله تجارتك . وإذا رأيتم من يَنشُد ضالة في المسجد ، فقولوا : لا رَدَّ الله عليك " . رواه الترمذي ، وقال : حسن غريب . {[21210]} وقد روى ابن ماجه وغيره ، من حديث ابن عمر مرفوعًا ، قال : " خصال لا تنبغي في المسجد : لا يُتَّخذُ طريقًا ، ولا يُشْهَرُ فيه سلاح ، ولا يُنبَض فيه بقوس ، ولا ينثر فيه نبل ، ولا يُمرّ فيه بلحم نيئ : ولا يُضرَبُ فيه حَدٌّ ، ولا يُقْتَص فيه من أحد ، ولا يُتَّخذ سوقًا " {[21211]} .
وعن واثلة بن الأسقع ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " جَنِّبوا المساجد صبيانكم ومجانينكم ، وشراءكم وبيعكم ، وخصوماتكم ورفع أصواتكم ، وإقامة حدودكم وسل سيوفكم ، واتخذوا على أبوابها المطاهر ، وجَمّروها في الجُمَع " .
ورواه ابن ماجه أيضًا{[21212]} وفي إسنادهما{[21213]} ضعف .
أما أنه " لا يتخذ طريقًا " فقد كره بعض العلماء المرور فيه إلا لحاجة إذا وَجَد مندوحة عنه . وفي الأثر : " إن الملائكة لتتعجب من الرجل يمر بالمسجد لا يصلي فيه " .
وأما أنه " لا يشهر فيه بسلاح{[21214]} . ولا ينبض فيه بقوس ، ولا ينثر فيه نبل{[21215]} . فلما يخشى من إصابة بعض الناس به ، لكثرة المصلين فيه ؛ ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر أحد بسهام أن يقبض على نصالها ؛ لئلا يؤذي أحدًا ، كما ثبت في الصحيح{[21216]} .
وأما النهي عن المرور باللحم النيء فيه ، فَلِما يخشى من تقاطر الدم منه ، كما نهيت الحائض عن المرور فيه إذا خافت التلويث .
وأما أنه " لا يضرب فيه حد ولا يقتص " ، فلما يخشى من إيجاد نجاسة فيه من المضروب أو المقطوع .
وأما أنه " لا يتخذ سوقًا " ، فلما تقدم من النهي عن البيع والشراء فيه ، فإنه إنما بني لذكر الله والصلاة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام ، {[21217]} لذلك الأعرابي الذي بال في طائفة المسجد : " إن المساجد لم تبن لهذا ، إنما بنيت لذكر الله والصلاة فيها " . ثم أمر بسَجْل من ماء ، فأهريق على بوله{[21218]} .
وفي الحديث الثاني : " جَنِّبوا مساجدكم صبيانكم " ، وذلك لأنهم يلعبون فيه ولا يناسبهم ، وقد كان عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، إذا رأى صبيانًا يلعبون في المسجد{[21219]} ، ضربهم بالمِخْفَقَة - وهي الدِّرَّة - وكان يَعُسّ{[21220]} المسجد بعد العشاء ، فلا يترك فيه أحدًا .
" ومجانينكم " يعني : لأجل ضعف عقولهم ، وسَخْر الناس بهم ، فيؤدي إلى{[21221]} اللعب فيها ، ولما يخشى من تقذيرهم المسجد ، ونحو ذلك .
" وخصوماتكم " يعني : التحاكم والحكم فيه ؛ ولهذا نص كثير من العلماء على أن الحاكم لا ينتصب لفصل الأقضية في المسجد ، بل يكون في موضع غيره ؛ لما فيه من كثرة الحكومات والتشاجر والعياط{[21222]} الذي لا يناسبه ؛ ولهذا قال بعده : " ورفع أصواتكم " .
وقال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا الجُعَيْد{[21223]} بن عبد الرحمن قال : حدثني{[21224]} يزيد بن خُصَيفَة{[21225]} ، عن السائب بن يَزيدَ الكنْديِّ قال : كنت قائمًا في المسجد ، فحصبني رجل ، فنظرت فإذا عمر{[21226]} بن الخطاب ، فقال : اذهب فأتني بهذين . فجئته بهما ، فقال : من أنتما ؟ أو : من أين أنتما ؟ قالا من أهل الطائف . قال : لو كنتما من أهل
البلد لأوجعتكما : ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم{[21227]} .
وقال النسائي : حدثنا سُوَيْد بن نصر ، عن عبد الله بن المبارك ، عن شعبة ، عن سعد بن إبراهيم ، عن أبيه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال : سمع عمر صوت رجل في المسجد فقال : أتدري أين أنت ؟ وهذا أيضًا صحيح . {[21228]} وقوله : " وإقامة حدودكم ، وسل سيوفكم " : تقدما{[21229]} . وقوله : " واتخذوا على أبوابها المطاهر " يعني : المراحيض التي يستعان بها على الوضوء وقضاء الحاجة . وقد كانت قريبًا من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم آبار{[21230]} يستقون منها ، فيشربون ويتطهرون ، ويتوضؤون وغير ذلك .
وقوله : " وجمِّروها في الجُمَع " يعني : بخروها في أيام الجُمَع لكثرة اجتماع الناس يومئذ .
وقد قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا عبيد الله ، حدثنا عبد الرحمن{[21231]} بن مهدي ، عن عبد الله بن عمر ، عن نافع عن ابن عمر ؛ أن عمر كان يُجَمِّر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كل جمعة . إسناده حسن لا بأس به{[21232]} والله أعلم .
وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " صلاة الرجل في الجماعة تُضَعَّف على صلاته في بيته وفي سوقه ، خمسًا وعشرين ضعفًا . وذلك أنه إذا توضأ فأحسن وضوءه{[21233]} ثم خرج إلى المسجد ، لا يخرجه إلا الصلاة ، لم يَخطُ خَطوة إلا رُفع له بها درجة ، وحطّ عنه بها خطيئة ، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مُصَلاه : اللهم صل عليه ، اللهم ارحمه ، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة " {[21234]} وعند الدارقطني مرفوعًا : " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " {[21235]} .
وفي السنن : " بشِّر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة " {[21236]} .
والمستحب لمن دخل المسجد أن يبدأ برجله اليمنى ، وأن يقول كما ثبت في صحيح البخاري عن عبد الله بن عَمرو{[21237]} رضي الله عنه{[21238]} عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد قال :
أعوذ بالله العظيم ، وبوجهه الكريم ، وسلطانه القديم ، من الشيطان الرجيم " [ قال : أقط ؟ قال : نعم ]{[21239]} . قال : فإذا قال ذلك قال الشيطان : حُفظ مني سائر اليوم{[21240]} .
وروى مسلم بسنده عن أبي حميد - أو : أبي أسَيْد - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا دخل أحدكم المسجد فليقل : اللهم افتح لي أبواب رحمتك ، وإذا خرج فليقل : اللهم إني أسألك من فضلك " .
ورواه النسائي عنهما ، عن النبي{[21241]} صلى الله عليه وسلم [ مثله ]{[21242]} -{[21243]} .
وعن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا دخل أحدكم المسجد ، فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل : اللهم افتح لي أبواب رحمتك . وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل : اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم " .
ورواه ابن ماجه ، وابن خزيمة وابن حِبَّان في صحيحيهما{[21244]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا لَيْث بن أبي سليم ، عن عبد الله بن حسن{[21245]} . عن أمه فاطمة بنت حسين ، عن جدتها فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم ، ثم قال : " اللهم ، اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك " . وإذا خرج صلى على محمد وسلم ثم قال : " اللهم ، اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب فضلك " .
ورواه الترمذي وابن ماجه{[21246]} ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن وإسناده ليس بمتصل ؛ لأن فاطمة بنت الحسين الصغرى لم تدرك فاطمة الكبرى .
فهذا الذي ذكرناه ، مع ما تركناه من الأحاديث الواردة في ذلك لحال الطول{[21247]} . كله داخل في قوله تعالى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ } .
وقوله : { وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } أي : اسم الله ، كقوله : { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [ الأعراف : 31 ] ، وقوله { وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [ الأعراف : 29 ] ، وقوله { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [ الجن : 18 ] .
قال ابن عباس : { وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } يعني : يتلى فيها كتابه .
وقوله : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } أي : في البُكَرات والعَشِيَّات . والآصال : جمع أصيل ،
وقال سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس : كل تسبيح في القرآن هو الصلاة .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني بالغدو : صلاة الغداة ، ويعني بالآصال : صلاة العصر ، وهما أول ما افترض الله من الصلاة ، فأحب أن يَذْكُرهما وأن يُذَكِّر بهما عباده .
وكذا قال الحسن ، والضحاك : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } يعني : الصلاة .
ومن قرأ من القَرَأَة{[21248]} " يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ " - بفتح الباء من " يُسبح " على أنه مبني لما لم يسم فاعله - وقف{[21249]} على قوله : { والآصَال } وقفًا تامًا ،
وابتدأ بقوله : { رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } وكأنه مفسر للفاعل المحذوف ، كما قال الشاعر{[21250]} .
لِيُبْكَ يزيدُ ، ضارعٌ لخُصُومة *** ومُخْتَبطٌ مما تُطيح الطّوَائحُ
كأنه قال : من يبكيه ؟ قال : هذا يبكيه . وكأنه قيل : من يسبح له فيها ؟ قال : رجال .
وأما على قراءة مَنْ قرأ : { يسبِّح } - بكسر الباء - فجعله فعلا وفاعله : { رِجَال } فلا يحسن الوقف إلا على الفاعل ؛ لأنه تمام الكلام .
فقوله : { رِجَال } فيه إشعار بهممهم السامية ، ونياتهم وعزائمهم العالية ، التي بها صاروا عُمَّارا للمساجد ، التي هي بيوت الله في أرضه ، ومواطن عبادته وشكره ، وتوحيده وتنزيهه ، كما قال تعالى : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 23 ] .
فأما النساء فَصَلاتهن في بيوتهن أفضل لهن ؛ لما رواه أبو داود ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها ، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها " {[21251]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن غَيْلان ، حدثنا رِشْدِين ، حدثني عمرو ، عن أبي السمح ، عن السائب مولى أم سلمة عن أم سلمة - رضي الله عنها ، - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " خير مساجد النساء [ قعر ]{[21252]} بيوتهن " {[21253]} .
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا هارون ، أخبرني عبد الله بن وهب ، حدثنا داود بن قيس ، عن عبد الله بن سُوَيد الأنصاري ، عن عمته أم حميد - امرأة أبي حميد الساعدي - أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إني أحب الصلاة معك قال : " قد علمت أنك تحبين الصلاة معي ، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك ، وصلاتك في حُجْرَتك خير من صلاتك في دارك ، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك ، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي " . قال : فأمَرَت فبُني لها مسجد في أقصى بيت من بيوتها وأظلمه{[21254]} ، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله ، عز وجل . لم يخرجوه . {[21255]}
هذا ويجوز لها شهود جماعة الرجال ، بشرط أن لا تؤذي أحدًا من الرجال بظهور زينة ولا ريح طيب كما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عُمَر أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " {[21256]} .
رواه البخاري ومسلم ، ولأحمد وأبي داود : " وبيوتهن خير لهن " {[21257]} وفي رواية : " وليخرجن وهن تَفِلات " {[21258]} أي : لا ريح لهن .
وقد ثبت في صحيح مسلم ، عن زينب - امرأة ابن مسعود - قالت : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبًا " {[21259]} . وفي الصحيحين عن عائشة ، رضي الله عنها ، أنها قالت : كان نساء المؤمنين{[21260]} يشهدن الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يرجعن متلفعات بمُرُوطهن ، ما يُعْرَفْن من الغَلَس{[21261]} .
وفي الصحيحين أيضًا عنها أنها قالت : لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهُنّ المساجد ، كما مُنعت نساء بني إسرائيل{[21262]} .