ثم خاطب الأمة عموما فقال : { وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } وقال : { وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ } أكده ب " إن " واللام ، لئلا يقع لأحد فيه أدنى شبهة ، ولئلا يظن أنه على سبيل التشهي لا الامتثال .
{ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } بل هو مطلع عليكم في جميع أحوالكم ، فتأدبوا معه ، وراقبوه بامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، فإن أعمالكم غير مغفول عنها ، بل مجازون عليها أتم الجزاء ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .
وقال هنا : { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } أي : شرعنا لكم استقبال الكعبة المشرفة ، لينقطع عنكم احتجاج الناس من أهل الكتاب والمشركين ، فإنه لو بقي مستقبلا بيت المقدس ، لتوجهت عليه الحجة ، فإن أهل الكتاب ، يجدون في كتابهم أن قبلته المستقرة ، هي الكعبة البيت الحرام ، والمشركون يرون أن من مفاخرهم ، هذا البيت العظيم ، وأنه من ملة إبراهيم ، وأنه إذا لم يستقبله محمد صلى الله عليه وسلم ، توجهت نحوه حججهم ، وقالوا : كيف يدعي أنه على ملة إبراهيم ، وهو من ذريته ، وقد ترك استقبال قبلته ؟
فباستقبال الكعبة{[107]} قامت الحجة على أهل الكتاب والمشركين ، وانقطعت حججهم عليه .
{ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } أي : من احتج منهم بحجة ، هو ظالم فيها ، وليس لها مستند إلا اتباع الهوى والظلم ، فهذا لا سبيل إلى إقناعه والاحتجاج عليه ، وكذلك لا معنى لجعل الشبهة التي يوردونها على سبيل الاحتجاج محلا يؤبه لها ، ولا يلقى لها بال ، فلهذا قال تعالى : { فَلَا تَخْشَوْهُمْ } لأن حجتهم باطلة ، والباطل كاسمه مخذول ، مخذول صاحبه ، وهذا بخلاف صاحب الحق ، فإن للحق صولة وعزا ، يوجب خشية من هو معه ، وأمر تعالى بخشيته ، التي هي أصل{[108]} كل خير ، فمن لم يخش الله ، لم ينكف عن معصيته ، ولم يمتثل أمره .
وكان صرف المسلمين إلى الكعبة ، مما حصلت فيه فتنة كبيرة ، أشاعها أهل الكتاب ، والمنافقون ، والمشركون ، وأكثروا فيها من الكلام والشبه ، فلهذا بسطها الله تعالى ، وبينها أكمل بيان ، وأكدها بأنواع من التأكيدات ، التي تضمنتها هذه الآيات .
منها : الأمر بها ، ثلاث مرات ، مع كفاية المرة الواحدة ، ومنها : أن المعهود ، أن الأمر ، إما أن يكون للرسول ، فتدخل فيه الأمة تبعا ، أو للأمة عموما ، وفي هذه الآية أمر فيها الرسول بالخصوص في قوله : { فَوَلِّ وَجْهَكَ } والأمة عموما في قوله : { فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ }
ومنها : أنه رد فيه جميع الاحتجاجات الباطلة ، التي أوردها أهل العناد وأبطلها شبهة شبهة ، كما تقدم توضيحها ، ومنها : أنه قطع الأطماع من اتباع الرسول قبلة أهل الكتاب ، ومنها قوله : { وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ } فمجرد إخبار الصادق العظيم كاف شاف ، ولكن مع هذا قال : { وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ }
ومنها : أنه أخبر - وهو العالم بالخفيات - أن أهل الكتاب متقرر عندهم ، صحة هذا الأمر ، ولكنهم يكتمون هذه الشهادة مع العلم .
ولما كان توليته لنا إلى استقبال القبلة ، نعمة عظيمة ، وكان لطفه بهذه الأمة ورحمته ، لم يزل يتزايد ، وكلما شرع لهم شريعة ، فهي نعمة عظيمة قال : { وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ }
فأصل النعمة ، الهداية لدينه ، بإرسال رسوله ، وإنزال كتابه ، ثم بعد ذلك ، النعم المتممات لهذا الأصل ، لا تعد كثرة ، ولا تحصر ، منذ بعث الله رسوله إلى أن قرب رحيله من الدنيا ، وقد أعطاه الله من الأحوال والنعم ، وأعطى أمته ، ما أتم به نعمته عليه وعليهم ، وأنزل الله عليه : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا }
فلله الحمد على فضله ، الذي لا نبلغ له عدا ، فضلا عن القيام بشكره ، { وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي : تعلمون الحق ، وتعملون به ، فالله تبارك وتعالى - من رحمته - بالعباد ، قد يسر لهم أسباب الهداية غاية التيسير ، ونبههم على سلوك طرقها ، وبينها لهم أتم تبيين ، حتى إن من جملة ذلك أنه يقيض للحق ، المعاندين له فيجادلون فيه ، فيتضح بذلك الحق ، وتظهر آياته وأعلامه ، ويتضح بطلان الباطل ، وأنه لا حقيقة له ، ولولا قيامه في مقابلة الحق ، لربما لم يتبين حاله لأكثر الخلق ، وبضدها تتبين الأشياء ، فلولا الليل ، ما عرف فضل النهار ، ولولا القبيح ، ما عرف فضل الحسن ، ولولا الظلمة ما عرف منفعة النور ، ولولا الباطل ما اتضح الحق اتضاحا ظاهرا ، فلله الحمد على ذلك .
ثم كرر- سبحانه- الأمر للمؤمنين بأن يتجهوا في صلاتهم إلى المسجد الحرام فقال : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } .
أي : ومن أي مكان خرجت - يا محمد - فول وجهك تلقاء المسجد الحرام ، وأينما كنتم أيها المؤمنون من أرض الله ، فولوا وجوهكم في صلاتكم تجاهه ونحوه .
وتلك هي المرة الثالثة التي تكرر فيها الأمر للمؤمنين بالتوجه إلى المسجد الحرام في صلاتهم ، وهذا التكرير لتأكيد أمر القبلة وتشديده لأن تحول القبلة كان أول نسخ في الإِسلام - كما قال كثير من العلماء - فاقتضى الأمر تأكيده في نفوس المؤمنين حتى يستقر في مشاعرهم ، ويذهب ما يثار حولها من شبهات أدراجح الرياح ، ولأن الله - تعالى - أنط بكل واحد من هذه الأوامر الثلاثة بالتحول ما لم ينط بالآخر من أحكام فاختلفت فوائدها ، فكأنه - سبحانه - يقول لنبيه - صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين .
الزموا هذه القبلة لأنهاه هي القبلة التي ترضونها وترغبون فيها وطالما تمنيتموها ، والزموها - أيضاً - لأنها هي القبلة التي لن تنسخ بعد ذلك .
والزموها - كذلك - لأن لزومكم إياها يقطع حجة اليهود الجاحدين ، وغيرهم من المعاندين والخاسرين .
وقد اقترن هذا الأمر الثالث بالتوجه إلى المسجد الحرام في هذا الآية الكريمة بحكم ثلاث .
أولها : قوله تعالى : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشوني } والمراد من الناس اليهود ومن لف لفهم من المناوئين للدعوة الإِسلامية .
والمعنى عليك - أيها النبي - ومن معك من المؤمنين أن تتجهوا في صلاتكم إلى الكعبة المشرفة ، لكي تقطعوا دابر فتنة اليهود وحجتهم فقد قالوا لكم وقت اتجاهكم إلى بيت المقدس .
إذا كان لكم أيها المسلمون دين يخالف ديننا فلماذا تتجهون إلى قبلتنا ، إلى غير ذلك من أقوالهم الفاسدة فاتجاهكم إلى المسجد الحرام من شأنه أن يزيل هذه الحجة التي قد تبدو مقبولة في نظر ضعاف العقول .
وقوله تعالى : { إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ } استثناء من الناس ، والمعنى :
لئلا يكون لأحد من اليهود حجة عليكم ، إلا المعاندين منهم القائلين : ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا حباً لدين قومه ، واشتياقاً لمكة ، وهؤلاء لا تخافون مطاعنهم بل اجعلوا خوفكم منى وحدي ولا تقيموا لما يشاغبون به في أمر القبلة وغيره وزنا ، فإني كفيل أن أرد عنكم كيدكم وأحبط سعيهم ، فأنتم ، أيها المؤمنون - ما توجهتهم إلى بيت المقدس ثم إلى المسجد الحرام إلا بإذن ربكم وأمره ، ففي الحالتين أنتم مطيعون لخالقكم - عز وجل - .
وقد أحسن صاحب الكشاف في شرحه للجملة الكريمة ، وصرح بأنه يجوز أن يراد بالناس وبالذين ظلموا مشركوا العرب فقال :
{ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ } استثناء من الناس ، ومعناه : لئلا يكون حجة لأحد من اليهود إلا المعاندين منهم ، القائلين ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه وحباً لبلده ، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء قبله ، فإن قلت : أي حجة كانت تكون للمنصفين منهم لو لم يحول حتى احترز من تلك الحجة ، ولم يبال بحجة المعاندين ؟
قلت : كانوا يقولون ما له لا يحول إلى قبلة أبيه إبراهيم كما هو مذكور في نعته في التوراة ؟ فإن قلت : كيف أطلق اسم الحجة على قول المعاندين ؟
قلت : لأنهم يسوقونه سياق الحجة ، ويجوز أن يكون المعنى : لئلا يكون للعرب عليكم حجة واعتراض في ترككم التوجه إلى الكعبة التي هي قبلة إبراهيم وإسماعيل أبي العرب إلا الذين ظلموا منهم وهم أهل مكة ، حين يقولون بداله فرجع إلى قبله آبائه ، ويوشك أن يرجع إلى دينهم " .
وثانيها : قوله تعالى : { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } أي : ولو وجوهكم شطر المسجد الحرام { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } ولتكون قبلتكم مستقلة عن قبلة اليهود وغيرهم ، فالجملة الكريمة معطوفة على قوله - تعالى - : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } .
وثالثها : قوله - تعالى - { وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون } أي : ولكي ترشدوا للصواب في كل أموركم فما ضلت عنه الأمم من الحق هديناكم إليه ، وخصصناكم به ولهذا كانت أمتكم خير أمة أخرجت للناس .
والجملة الكريمة معطوفة على الجملة السابقة وهي قوله تعالى : { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } أي : ولوا وجوهكم شطر المسجد الحرام { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } ولتكون قبلتكم مستقلة عن قبلة اليهود وغيرهم ، فالجملة الكريمة معطوفة على قوله - تعالى - : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } .
وثالثها : قوله - تعالى - : { وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي : ولي ترشدوا للصواب في كل أموركم فما ضلت عنه الأمم من الحق هديناكم إليه ، وخصصناكم به ولهذا كانت أمتكم خير أمة أخرجت للناس .
والجملة الكريمة معطوفة على الجملة السابقة وهي قوله تعالى : { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } .
وبذلك تكون الآيات الكريمة التي نزلت في شأن تحويل القبلة إلى المسجد الحرام قد ثبتت المؤمنين ، ودحضت كل شبهة أوردها اليهود وغيرهم في هذه المسألة .
خامساً : هذا ، وفي ختام هذا المبحث نحب أن نجيب على السؤال الخامس ، وهو : لماذا فصل القرآن الكريم الحديث عن تحويل القبلة فنقول :
لقد شرع الله - تعالى - تحويل القبلة إلى الكعبة بعد أن صلى المسلمون إلى بيت المقدس فترة من الزمان ، وكرر الأمر بتولية الوجوه إلى المسجد الحرام عند الصلاة ، وأقام الأدلة الساطعة على أن ذلك التحويل هو الحق ، وأتى بألوان من العوعيد لمن لم يتبع أوامره ، وساق وجوهاً من التأكيدات تدل على عناية بالغة بشأنها .
والمقتضى لهذه العناية وذلك التفصيل - مع أن التوجه إليها فرع من فروع الدين - هو أن التحويل من بيت المقدس إلى المسجد الحرام . كان أول نسخ في الإِسلام - كما قال بذلك كثير من العلماء - والنسخ من مظان الفتنة والشبهة وتسويل الشيطان ، فاقتضى الأمر بسط الحديث في مسألة القبلة ليزدادوا إيماناً على إيمانهم .
ولأن هذا التحويل - أيضاً - جاء على خلاف رغبة اليهود ، فإنهم كانوا يحرصون على استمرار المسلمين في التوجه إلى بيت المقدس ، لأنه قبلتهم ، فلما حصل التحويل إلى المسجد الحرام ، اتخذوا منه مادة للطعن في صحة النبوة ليفتنوا ضعفاء العقيدة ، وسلكوا لبلبلة أفكار المسلمين كل وسيلة .
فزعموا أن نسخ الحكم بعد شرعه مناف للحكمة ، ومباين للعقول ، فلا يقع في الشرائع الإِلهية ، وساقوا من الشبهات والمفتريات ما بينا بعضه عند تفسيرنا للآيات الكريمة .
ويبدو أن شغبهم هذا ، كان له آثاره عند ذوي النفوس المريضة وضعاف الإِيمان فلهذا كله أخذت مسألة القبلة شأناً غير شأن بقية الأحكام الفرعية ، فكان مقتضى الحال أن يكون الحديث عنها مستفيضاً ، ومدعماً بالأدلة والبراهين ، وهذا ما راعاه القرآن الكريم عند حديثه عن مسألة القبلة ، فلقد قرر وكرر ، ووعد وتوعد ، ووضح وبين ، ليدفع كل شبهة ، وليجتث كل حجة ، ويزيد المؤمنين إيماناً على إيمانهم ، وينهض بضعفاء الإِيمان إلى منزلة الراسخين في العلم ، ويهوى باليهود ومن حذا حذوهم في مكان سحيق ، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
ثم توكيد للمرة الثالثة بمناسبة غرض آخر جديد ، وهو إبطال حجة أهل الكتاب ، وحجة غيرهم من كانوا يرون المسلمين يتوجهون إلى قبلة اليهود ، فيميلون إلى الاقتناع بما يذيعه اليهود من فضل دينهم على دين محمد ، وأصالة قبلتهم ومن ثم منهجهم . أو من مشركي العرب الذين كانوا يجدون في هذا التوجيه وسيلة لصد العرب الذي يقدسون مسجدهم وتنفيرهم من الإسلام الذي يتجه أهله شطر قبلة بني إسرائيل !
( ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ، لئلا يكون للناس عليكم حجة ، إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ، ولأتم نعمتي عليكم ، ولعلكم تهتدون ) . .
وهو أمر للرسول [ ص ] أن يولي وجهه شطر المسجد من حيث خرج ، وإلى المسلمين أن يولوا وجوههم شطره حيثما كانوا . وبيان لعلة هذا التوجيه :
( لئلا يكون للناس عليكم حجة ) . .
وتهوين لما بعد ذلك من أقاويل الظالمين الذين لا يقفون عند الحجة والنطق ، إنما ينساقون مع العناد واللجاج . فهؤلاء لا سبيل إلى إسكاتهم ، فسيظلون إذن في لجاجهم . فلا على المسلمين منهم :
( فلا تخشوهم . . واخشوني ) . .
فلا سلطان لهم عليكم ، ولا يملكون شيئا من أمركم ، ولا ينبغي أن تحفلوهم فتميلوا عما جاءكم من عندي ، فأنا الذي استحق الخشية بما أملك من أمركم في الدنيا والآخرة . . ومع التهوين من شأن الذين ظلموا ، والتحذير من بأس الله ، يجيء التذكير بنعمة الله ، والإطماع في اتمامها على الأمة المسلمة حين تستجيب وتستقيم :
( ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون ) . . .
وهو تذكير موح ، وإطماع دافع ، وتلويح بفضل عظيم بعد فضل عظيم . .
ولقد كانت النعمة التي يذكرهم بها حاضرة بين أيديهم ، يدركونها في أنفسهم ، ويدركونها في حياتهم ، ويدركونها في مجتمعهم وموقفهم في الأرض ومكانهم في الوجود . .
كانوا هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية بظلامها ورجسها وجهالتها ، ثم انتقلوا هم أنفسهم إلى نور الإيمان وطهارته ومعرفته . فهم يجدون في أنفسهم أثر النعمة جديدا واضحا عميقا .
وكانوا هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية قبائل متناحرة ، ذات أهداف صغيرة واهتمامات محدودة . ثم انتقلوا هم أنفسهم إلى الوحدة تحت راية العقيدة ، وإلى القوة والمنعة ، وإلى الغايات الرفيعة والاهتمامات الكبيرة التي تتعلق بشأن البشرية كلها لا بشأن ثأر في قبيلة ! فهم يجدون أثر النعمة من حولهم كما وجدوه في أنفسهم .
وكانوا هم أنفسهم الذين عاشوا في الجاهلية في مجتمع هابط دنس مشوش التصورات مضطرب القيم . . ثم انتقلوا هم أنفسهم إلى مجتمع الإسلام النظيف الرفيع ، الواضح التصور والاعتقاد ، المستقيم القيم والموازين . . فهم يجدون أثر النعمة في حياتهم العامة كما وجدوه في قلوبهم وفي مكانهم من الأمم حولهم .
فإذا قال الله لهم : ( ولأتم نعمتي عليكم ) . . كان في هذا القول تذكير موح ، وإطماع دافع وتلويح بفضل عظيم بعد فضل عظيم . .
ونجد في تكرار الأمر بشأن القبلة الجديدة معنى جديدا في كل مرة . . في المرة الأولى كان الأمر بالتوجه إلى المسجد الحرام استجابة لرغبة الرسول [ ص ] بعد تقلب وجهه في السماء وضراعته الصامتة إلى ربه . . وفي الثانية كان لإثبات أنه الحق من ربه يوافق الرغبة والضراعة . . وفي الثالثة كان لقطع حجة الناس ، والتهوين من شأن من لا يقف عند الحق والحجة . .
ولكننا - مع هذا - نلمح وراء التكرار أنه كانت هناك حالة واقعة في الصف الإسلامي تستدعي هذا التكرار ، وهذا التوكيد ، وهذا البيان ، وهذا التعليل ، مما يشي بضخامة حملة الأضاليل والأباطيل ، وأثرها في بعض القلوب والنفوس . هذا الأثر الذي كان يعالجه القرآن الكريم ؛ ثم تبقى النصوص بعد ذلك على مدى الزمان تعالج مثل هذه الحالة في شتى صورها ؛ في المعركة الدائبة التي لا تهدأ ولا تفتر ولا تلين !