فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (30)

{ وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ، وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين } .

{ وإذ قال ربك } أي واذكر يا محمد إذ قال ، وكل ما ورد في القرآن من هذا النحو فهذا سبيله ، وقيل إذ زائدة والأول أوجه { للملائكة } جمع ملك بوزن فعل قاله ابن كيسان ، وقيل جمع ملاك بوزن مفعل ، قاله أبو عبيدة ، وأراد بالملائكة الذين كانوا في الأرض ، وذلك أن الله تعالى خلق الأرض وأسكن فيها الجن وأسكن في السماء الملائكة ، فأفسدت الجن في الأرض فبعث إليهم طائفة من الملائكة فطردتهم إلى جزائر البحار ورؤوس الجبال ، وأقاموا مكانهم{[86]} ، وقيل : القول لمطلق الملائكة وكان ذلك تعليما للمشاورة وتعظيما لآدم ، وبيانا لكون الحكمة تقتضي إيجاد ما يغلب خيره على شره ، واللام في { للملائكة } للتبليغ وهو أحد المعاني التي جاءت لها اللام .

{ إني جاعل في الأرض خليفة } أي خالق بدلا منكم ورافعكم إلي ، وجاعل هنا من جعل المتعدي إلى مفعولين ، وذكر المطرزي أنه بمعنى الخالق ، وذلك يقتضي أنه متعد إلى مفعول واحد ، وصيغة إسم الفاعل بمعنى المستقبل ، والأرض هنا هي هذه الغبراء ، ولا يختص ذلك بمكان دون مكان ، وقيل إنها مكة كما ورد في مرسل ضعيف ، وقال ابن كثير أنه مدرج ، والخليفة هنا معناه الخالف لمن كان قبله من الملائكة ، ويجوز أن يكون بمعنى المخلوف أي يخلفه غيره ، قيل آدم كما دل عليه السياق ، وقيل كل من له خلافة في الأرض ويقوي الأول قوله { خليفة } دون الخلائف واستغنى بذكر آدم عن ذكر من بعده والصحيح أنه إنما سمي خليفة لأنه خليفة الله في أرضه لإقامة حدوده وتنفيذ قضاياه ، قيل خاطب الله الملائكة بهذا الخطاب لا للمشورة ولكن لاستخراج ما عندهم ، قيل وفيه إرشاد عباده إلى المشاورة وأن الحكمة تقتضي اتخاذ ما يغلب خيره وإن كان فيه نوع شر ، وأنه لا رأي مع وجود النص ، وهو أصل في المسائل التعبدية .

قال بعض المفسرين أن في الكلام حذفا والتقدير إني جاعل في الأرض خليفة يفعل كذا وكذا فكرهوا ذلك { قالوا } أي استكشافا عما خفي عليهم من الحكمة الباهرة ، وليس باعتراض على الله ولا طعن في بني آدم على وجه الغيبة ، فإنهم أعلى من أن يظن بهم ذلك لقوله { بل عباد مكرمون } وإنما عرفوا ذلك بإخبار من الله أو تلق من اللوح المحفوظ أو المقياس لأحد الثقلين على الآخر { أتجعل فيها من يفسد فيها } بالمعاصي بمقتضى القوة الشهوانية والفساد ضد الصلاح { ويسفك الدماء } بغير حق بمقتضى القوة الغضبية كما فعل الجن ، وسفك الدم صبه ، قال ابن فارس والجوهري والمهدوي ولا يستعمل السفك إلا في الدم .

{ ونحن نسبح } أي نقول سبحان الله وبحمده وهي صلاة الخلق وعليها يرزقون ، عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الكلام أفضل قال ( ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده سبحان الله وبحمده ) {[87]} أخرجه مسلم ، وقال ابن عباس كل ما جاء في القرآن من التسبيح فالمراد منه الصلاة فيكون المعنى ونحن نصلي لك ، وأصل التسبيح في كلام العرب التنزيه والتبعيد من السوء على وجه التعظيم ، فيكون المعنى ونحن ننزهك عن كل سوء ونقيصه { بحمدك } أي حامدين لك أو متلبسين بحمدك فإنه لولا إنعامك عليك بالتوفيق لم نتمكن من ذلك { ونقدس لك } وأصل التقديس التطهير أي نطهرك عن النقائض وعن كل ما لا يليق بك من سوء مما نسبه إليك الملحدون ، وافتراه الجاحدون ، وذكر في الكشاف أن معنى التسبيح والتقديس واحد وهو تبعيد الله من السوء ، وفي القاموس وغيره في كتب اللغة ما يرشد إلى ما ذكرناه والتأسيس خير من التأكيد خصوصا في كلام الله سبحانه ، وقيل معناه نطهر أنفسنا لطاعتك وعبادتك والأولى أولى .

وعن ابن مسعود وناس من الصحابة نقدس لك أي نصلي لك ، وقال مجاهد نعظمك ونكبرك واللام زائدة ، والجملة حال أي فنحن أحق بالاستخلاف .

ولما كان سؤالهم واقعا على صفة تستلزم إثبات شيء من العلم لأنفسهم أجاب الله سبحانه عليهم فقالوا { إني أعلم ما لا تعلمون } وفي هذا الإجمال ما يغني عن التفصيل ، لأن ما علم ما لا يعلم المخاطب له كان حقيقا بأن يسلم له ما يصدر عنه ، وعلى من لا يعرف أن يعترف لمن لا يعلم بأن أفعاله صادرة على ما يوجبه العلم وتقتضيه المصلحة الراجحة والحكمة البالغة ، ولم يذكر متعلق قوله { تعلمون } ليفيد التعميم ، ويذهب السامع عند ذلك كل مذهب ويعترف بالعجز ويقر بالقصور .

عن ابن عباس قال : إن الله أخرج آدم من الجنة قبل أن يخلقه قال وقد كان فيها أي في الأرض قبل أن يخلق بألفي عام : الجن بنو الجان فأفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء ، فلما أفسدوا في الأرض بعث الله لهم جنودا من الملائكة فضربوهم حتى ألحقوهم بجزائر البحور ، فلما قال { إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } كما فعل أولئك الجان فقال { إني أعلم ما لا تعلمون } أخرجه الحاكم وصححه عنه .

وفي الباب آثار من الصحابة كثيرة ، وعن قتادة كان في علم الله أنه سيكون من الخليفة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة ، وقيل أعلم أنهم يذنبون ويستغفرون فأغفر لهم ، وقيل أعلم من وجود المصلحة والحكمة ما لا تعلمون أنتم .

وقد ثبت في كتب الحديث المعتبرة أحاديث من طريق جماعة من الصحابة ، في صفة خلقه سبحانه لآدم وهي موجودة فلا نطول بذكرها ، قيل خاطبهم بذلك لأجل أن يصدر منهم ذلك السؤال فيجابون بذلك الجواب ، وقيل لأجل تعليم عباده مشروعية المشاورة لهم ، وظاهره أنهم استنكروا استخلاف بني آدم في الأرض لكونهم مظنة للإفساد في الأرض ، وإنما قالوا هذه المقالة قبل أن تتقدم لهم معرفة ببني آدم بل قبل وجود آدم ، فضلا عن ذريته لعلهم قد علموه من الله سبحانه بوجه من الوجوه ، لأنهم لا يعلمون الغيب ، قال بهذا جماعة من المفسرين .


[86]:لم نعثر على دليل على هذا القول
[87]:مسلم /2731