فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمۡ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلۡمَجَٰلِسِ فَٱفۡسَحُواْ يَفۡسَحِ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَٱنشُزُواْ يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (11)

{ يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم : تفسحوا } وقرئ تفاسحوا { في المجالس } قرئ على الجمع لأن لكل واحد منهم مجلسا ، وقرئ على الإفراد ، قال الواحدي : والوجه التوحيد في المجلس ، لأنه يعني به مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ، والتفسح التوسع ، يقال : فسح له يفسح فسحا أي وسع له ومنه قولهم : بلد فسيح .

أمر الله سبحانه المؤمنين بحسن الأدب بعضهم مع بعض بالتوسعة في المجالس ، وعدم التضايق فيه قال قتادة ومجاهد والضحاك : كانوا يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض ، وقال ابن عباس والحسن ويزيد بن أبي حبيب : هو مجلس القتال إذا اصطفوا للحرب ، كانوا يتشاحنون على الصف الأول ، ولا يوسع بعضهم لبعض رغبة في القتال ، لتحصيل الشهادة .

وقال القرطبي : الصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس ، اجتمع فيه المسلمون للخير والأجر ، سواء كان مجلس حرب أو ذكر أو يوم الجمعة ، وأن كل واحد أحق بمكانه الذي يسبق إليه ، ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذ بذلك فيخرجه الضيق عن موضعه .

ويؤيد هذا حديث ابن عمر عند مسلم والبخاري وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن تفسحوا وتوسعوا " .

{ فافسحوا يفسح الله لكم } أي فوسعوا يوسع الله لكم في الجنة أو في كل ما تريدون التفسيح فيه من المكان والرزق وغيرهما .

" عن مقاتل بن حيان قال أنزلت هذه الآية يوم جمعة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، يومئذ في الصفة ، وفي المكان ضيق ، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس ، فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ، ثم سلموا على القوم بعد ذلك فردوا عليهم . فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم ، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام فلم يفسح لهم فشق ذلك عليه ، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر قم أنت يا فلان وأنت فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام من أهل بدر ، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه ، فنزلت هذه الآية .

{ وإذا قيل انشزوا فانشزوا } قرأ الجمهور بكسر الشين فيهما ، وقرئ بضمها فيهما ، وهما لغتان بمعنى واحد ، وقراءتان سبعيتان ، يقال : نشز أي ارتفع ينشز وينشز كعكف يعكف ويعكف قال جمهور المفسرين : أي انهضوا إلى الصلاة والجهاد وعمل الخير ، وبه قال ابن عباس ، وقال عكرمة ومجاهد والضحاك : كان رجال يتثاقلون عن الصلاة فقيل لهم إذا نودي للصلاة فانهضوا وقال الحسن : انهضوا على الحرب ، وقال ابن زيد : هذا في بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، كان كل رجل منهم يحب أن يكون آخر عهده بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فأمر الله تعالى أنه إذا قيل : انشزوا عن النبي فانشزوا ، فإن له حوائج فلا تمكثوا ، قال قتادة : المعنى أجيبوا إذا دعيتم إلى أمر بمعروف ، والظاهر حمل الآية على العموم ، والمعنى إذا قيل لكم انهضوا إلى أمر من الأمور الدينية فانهضوا ولا تثاقلوا ولا يمنع من حملها على العموم كون السبب خاصا ، فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو الحق ، ويندرج ما هو سبب النزول فيها إندراجا أوليا وهكذا يندرج ما فيه السياق وهو التفسيح في المجالس اندراجا أوليا .

وقد قدمنا أن معنى نشز ارتفع ، وهكذا نشز ينشز إذا تنحى عن موضعه ، ومنه امرأة ناشزة أي : متنحية عن زوجها ، وأصله مأخوذ من النشز وهو ما ارتفع من الأرض وتنحى ، ذكر معناه النحاس .

{ يرفع الله الذين آمنوا منكم } بطاعتهم لله ولرسوله وامتثال أوامره في قيامهم من مجالسهم وتوسعتهم لإخوانهم في الدنيا والآخرة بتوفير نصيبهم فيهما ، { والذين أوتوا العلم } أي ويرفع العالمين منهم خاصة { درجات } عالية في الكرامة في الدنيا والثواب في الآخرة ، ومعنى الآية أنه يرفع الذين آمنوا على من لم يؤمنوا درجات ، ويرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات ، فمن جمع بين الإيمان والعلم رفعه الله بإيمانه درجات ثم رفعه بعلمه درجات ، وقيل : المراد بالذين آمنوا من الصحابة وكذلك بالذين أوتوا العلم ، وقيل : المراد بالذين أوتوا العلم الذين قرأوا القرآن ، والأولى حمل الآية على العموم في كل مؤمن ، وكل صاحب علم من علوم الدين من جميع أهل هذه الملة ، ولا دليل يدل على تخصيص الآية بالبعض دون البعض .

وقال ابن عباس في الآية : يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤمنوا ، درجات وقال ابن مسعود : على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات وعنه قال : ما خص الله العلماء في شيء من القرآن كما خصهم في هذه الآية ، وعنه أنه كان إذا قرأها قال يا أيها الناس افهموا هذه الآية لترغبكم في العلم ، والأحاديث والأخبار والآيات في فضيلة العلم والعلماء كثيرة جدا قد ذكرنا طرفا منها في كتابنا الحطة في ذكر الصحاح الستة .

{ والله بما تعملون خبير } لا يخفى عليه شيء من أعمالكم من خير وشر فهو مجازيكم بالخير خيرا وبالشر شرا .