{ وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين . . . }
كالظلل : الظلل جمع ظلة ، وهو ما يستظل به من جبل وسحاب وغيرها وقال الراغب الظلل السحابة تظل .
مقتصد : سالك للقصد السوي من التوحيد .
ختار : شديد الغدر والختر قال عمرو بن معد يكرب :
فإنك لو رأيت أبا عمير *** ملأت يديك من غذر وختر
تصور هذه الآية طبيعة الإنسان فهو في الشدة والكرب يلجأ إلى الله لجوء المضطر وعندما يكون في البحر وتشتد الرياح ، ويرتفع الموج ويظلل الناس من شدة ارتفاعه كأنه غمامة فوق رؤوسهم فإنهم يستولى عليهم الهلع والجزع ويخافون الموت فيخلصون في الدعاء لله تعالى أن ينجيهم من هذه الكارثة .
{ فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور . . . } فإذا استجاب الله الدعاء ونجاهم من البحر إلى البر ووطئت أقدامهم اليابسة وجدنا بعض الناس مستمرا على إيمانه وإخلاصه فهو مقتصد مقيم على القصد أي : الطريق السوي وهو التوحيد باق على الإخلاص الذي كان عليه في البحر عند الفزع .
كما نجد أن بعض الناس قد رجع إلى الغدر والكفر فلا يذكر لله فضلا ولا يشكر لله نعمة .
{ وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور . . . }
وما ينكر نعم الله وفضله إلا كل غادر شديد الغدر كفور شديد الكفر .
قال ابن عباس : مقتصد موف بما عاهد عليه الله في البحر .
وقال النقاش : يعنى عدل في العهد وفي في البر بما عاهد عليه الله في البحر .
وقال الحسن : مقتصد مؤمن متمسك بالتوحيد والطاعة .
وقيل في الكلام حذف والمعنى : فمنهم مقتصد ومنهم كافر ودل على المحذوف قوله تعالى : وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور . . . الختار : الغدار والختر : أسوأ الغدر .
فإنك لو رأيت أبا عمير ملأت يديك من غدر وختر
قال الجوهري : الختر الغدر يقال ختره : فهو ختار وقال عطية إنه الجاحد .
والخلاصة : أن أنعم الله متعددة ومن بين هذه النعم استجابة دعاء المضطرين ونجاة المكروبين من قلب العاصفة إلى البر والسلام والأمان وبعد النجاة نجد المؤمن الشاكر والختار الشديد الغدر والكفور الجاحد الذي يجحد آيات الله وينكرها بعد ان شاهدها بعينيه .
قوله تعالى : " وإذا غشيهم موج كالظلل " قال مقاتل : كالجبال . وقال الكلبي : كالسحاب . وقاله قتادة جمع ظلة ، شبه الموج بها لكبرها وارتفاعها . قال النابغة في وصف بحر :
يماشيهن أخضر ذو ظلال *** على حافاته فِلَقُ الدِّنان
وإنما شبه الموج وهو واحد بالظل وهو جمع ؛ لأن الموج يأتي شيئا بعد شيء ويركب بعضه بعضا كالظلل . وقيل : هو بمعنى الجمع ، وإنما لم يجمع لأنه مصدر . وأصله من الحركة والازدحام ، ومنه : ماج البحر ، والناس يموجون . قال كعب :
فجئنا إلى موج من البحر وسطه *** أحابيش منهم حاسر ومقنع
وقرأ محمد ابن الحنفية : " موج كالظلال " جمع ظل . " دعوا الله مخلصين له الدين " موحدين له لا يدعون لخلاصهم سواه ، وقد تقدم{[12625]} . " فلما نجاهم " يعني من البحر . " إلى البر فمنهم مقتصد " قال ابن عباس : موف بما عاهد عليه الله في البحر . النقاش : يعني عدل في العهد ، وفي في البر بما عاهد عليه الله في البحر . وقال الحسن : " مقتصد " مؤمن متمسك بالتوحيد والطاعة . وقال مجاهد : " مقتصد " في القول مضمر للكفر . وقيل : في الكلام حذف . والمعنى : فمنهم مقتصد ومنهم كافر . ودل على المحذوف قوله تعالى : " وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور " الختار : الغدار . والختر : أسوأ الغدر . قال عمرو بن معد يكرب :
فإنك لو رأيت أبا عمير *** ملأت يديك من غدْر وخَتْر
بالأبلَقِ الفَرْدِ من تيماء منزلُه *** حصنٌ حصين وجارٌ غير خَتَّار
قال الجوهري : الختر الغدر . يقال : ختره فهو ختار . الماوردي : وهو قول الجمهور . وقال عطية : إنه الجاحد . ويقال : ختر يختِر ويختُر ( بالضم والكسر ) خترا . ذكره القشيري . وجحد الآيات إنكار أعيانها . والجحد بالآيات إنكار دلائلها .
{ كالظلل } جمع ظلة وهو ما يعلوك من فوق شبه الموج بذلك إذا ارتفع وعظم حتى علا فوق الإنسان .
{ فمنهم مقتصد } المقتصد المتوسط في الأمر ، فيحتمل أن يريد كافرا متوسطا في كفره لم يسرف فيه أو مؤمنا متوسطا في إيمانه ، لأن الإخلاص الذي عليه في البحر كان يزول عنه وقيل : معنى مقتصد مؤمن ثبت في البر على ما عاهد الله عليه في البحر . { ختار } أي : غدار شديد الغدر ، وذلك أنه جحد نعمة الله غدرا .
ولما كانوا يسارعون إلى الكفر بعد انفصالهم من هذه الآية{[54261]} العظمية ، وإلباسهم هذه النعمة الجسيمة ، التي عرفتهم ما تضمنته{[54262]} الآية السالفة من حقيته{[54263]} وحده وعلوه وكبره وبطلان شركائهم ، أعرض عنهم وجه{[54264]} الخطاب لأنهم لم يرجعوا بعد الوضوح إيذاناً باستحقاق شديد الغضب والعذاب ، فقال معجباً {[54265]}عاطفاً على ما تقديره : وأما غير الصبار الشكور فلا يرون ما في ذلك من الآيات في حال{[54266]} رخائهم : { وإذا غشيهم } أي علاهم وهم فيها حتى صار كالمغطى لهم ، لأنه منعهم من أن تمتد{[54267]} أبصارهم كما كانت { موج } أي هذا الجنس{[54268]} ، ولعله أفرده لأنه لشدة اضطرابه وإتيانه شيئاً في أثر شيء متتابعاً {[54269]}يركب بعضه{[54270]} كأنه شيء واحد ، وأصله من الحركة والازدحام { كالظلل } أي{[54271]} حتى كان كأطراف الجبال المظلمة{[54272]} لمن يكون إلى جانبها ، وللإشارة إلى خضوعهم غاية الخضوع كرر الإسم الأعظم فقال{[54273]} : { دعوا الله } أي{[54274]} مستحضرين لما يقدر عليه الإنسان من كماله بجلاله وجماله ، عالمين بجميع مضمون الآية السالفة من حقيته وعلوه وكبره وبطلان ما يدعون من دونه { مخلصين له الدين } لا يدعون شيئاً سواه بألسنتهم ولا قلوبهم لما اضطرهم إلى ذلك من آيات الجلال ، وقسرهم عليه من العظمة والكمال ، {[54275]}واقتضى الحال في سورة الحكمة حذف ما دعوا به لتعظيم الأمر فيه لما اقتضاه من الشدائد لتذهب النفس فيه كل مذهب .
ولما كان القتل بالسيف أسهل عندهم من أن يقال عنهم : إنهم أقروا بشيء هم له منكرون{[54276]} لأجل الخوف خوف السبة{[54277]} بذلك والعار{[54278]} حتى قال من قال : لولا أن يقال{[54279]} إني ما أسلمت إلا جزعاً من الموت فيسب بذلك بني من بعدي لأسلمت . بين لهم سبحانه أنهم وقعوا بما فعلوا عند خوف الغرق في ذلك ، وأعجب منه رجوعهم إلى الكفر عند الإنجاء ، لما فيه مع{[54280]} ذلك من كفران الإحسان الذي هو عندهم من أعظم الشنع ، فقال دالاً بالفاء على قرب استحالتهم وطيشهم وجهالتهم : { فلما نجّاهم } أي خلصهم رافعاً لهم ، تنجية لهم{[54281]} عظيمة بالتدريج من تلك الأهوال { إلى البر } نزلوا{[54282]} عن تلك المرتبة التي أخلصوا فيها الدين ، وتنكبوا سبيل المفسدين {[54283]}وانقسموا قسمين{[54284]} { فمنهم } أي تسبب عن نعمة الإنجاء وربط بها إشارة إلى أن المؤثر لهذا الانقسام إنما هو الاضطرار إلى الإخلاص في البحر{[54285]} والنجاة منهم أنه كان منهم { مقتصد } متكلف للتوسط{[54286]} والميل للإقامة{[54287]} على الطريق المستقيم ، وهو الإخلاص في التوحيد الذي ألجأه إليه الاضطرار ، وهم قليل - بما{[54288]} دل عليه التصريح بالتبعيض ، ومنهم جاحد للنعمة ملق لجلباب الحياء في التصريح بذلك ، وهو الأكثر - كما مضت الإشارة إليه و{[54289]} دل عليه ترك التصريح فيه بالتبعيض ، وما يقتصد إلا كل صبار شكور ، إما حالاً وإما مآلاً { وما يجحد } {[54290]}وخوّف الجاحد بمظهر{[54291]} العظمة التي من شأنها الانتقام ، فقال صارفاً القول{[54292]} إليه : { بآياتنا } أي ينكرها مع عظمها ولا سيما بعد الاعتراف بها { إلا كل ختار } أي شديد الغدر عظيمه لما نقض من العهد الهادي إليه العقل والداعي إليه الخوف { كفور * } أي عظيم الكفر لإحسان من هو متقلب في نعمه ، في سره وعلنه ، وحركاته وسكناته ، ولا نعمة إلا وهي منه ، ومن هنا جاءت المبالغة في الصفتين ، وعلم أنهما{[54293]} طباق {[54294]}ومقابلة{[54295]} لختام التي قبلها ، وأن الآية من الاحتباك : دل ذكر المقتصد أولاً على " ومنهم جاحد " ثانياً ، وحصر الجحود{[54296]} في الكفور ثانياً على حصر الاقتصاد في الشكور أولاً ، قال البغوي{[54297]} : قيل : نزلت في عكرمة بن أبي جهل حين{[54298]} هرب رضي الله عنه عام الفتح إلى البحر فجاءهم ريح عاصف - يعني : فقال الركاب على عادتهم : أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم ههنا شيئاً - فقال عكرمة رضي الله عنه : لئن أنجاني الله من هذا لأرجعن إلى محمد ولأضعن يدي في يده فسكنت الريح ، فرجع عكرمة رضي الله عنه إلى مكة فأسلم وحسن إسلامه ، وقال مجاهد : مقتصد في القول مضمر للكفر ، وقال الكلبي : مقتصد في القول{[54299]} أي من الكفار ، لأن بعضهم كان أشد قولاً وأعلى في الافتراء من بعض .