( سورة الممتحنة مدنية ، وآياتها 13 آية ، نزلت بعد سورة الأحزاب )
ولها ثلاثة أسماء : سورة الممتحنة ، وسورة الامتحان ، كلاهما لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ . . . } ( الممتحنة : 10 ) .
والاسم الثالث : سورة المودة ، لقوله تعالى : تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ . . . ( الممتحنة : 1 ) .
وقوله : { تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ . . . } ( الممتحنة : 1 ) .
وقوله : { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً . . . }( الممتحنة : 7 ) .
هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، واستطاع أن يؤلّف بين المهاجرين والأنصار ، وأن يضع أسس الدعوة الإسلامية ، وأن يصنع أمة تميزت بالأخلاق الكريمة ، والصفات الحميدة ، وقد وقف كفار مكة في وجه الدعوة الإسلامية ، وتمت عدة معارك بين المسلمين والمشركين منها غزوات بدر وأُحد والخندق والأحزاب والحديبية ، ثم توقفت هذه المعارك بعد صلح الحديبية ، وكان أهم نصوص الصلح : وضع الحرب بين الفريقين عشر سنين ، وأن من أراد أن يدخل في حلف محمد دخل فيه ، ومن أراد أن يدخل في حلف قريش دخل فيه .
وعلى إثر ذلك دخلت قبيلة خزاعة في حلف رسول لله صلى الله عليه وسلم ، ودخلت قبيلة بكر في حلف قريش .
ثم إن قريشا نقضت العهد بمساعدتها قبيلة بكر حليفتها على قتال خزاعة حليفة النبي صلى الله عليه وسلم حتى قتلوا منهم عشرين رجلا ، وقد لجأت خزاعة إلى الحرم لتحتمي به ، ولكن ذلك لم يمنع رجال بكر من متابعتها ، فاستنصرت خزاعة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذهب رجال منهم إلى المدينة فأخبروا رسول الله بما كان من غدر بكر بهم ومعاونة قريش عليهم ، وأنشد عمرو بن سالم بين يديه :
يا رب إني ناشد محمدا *** حلف أبينا وأبيه الأتلداi
إن قريشا أخلفوك الموعدا *** ونقضوا ميثاقك المؤكدا
هم بيوتنا بالوتيرii هجدا *** وقتلونا ركعا وسجدا
فانصر هداك الله نصر أيداiii *** وادع عباد الله يأتوا مددا
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نُصرت يا عمرو بن سالم " .
وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز لفتح مكة ، وطوى الأخبار عن الجيش كيلا يشيع الأمر فتعلم قريش فتستعد للحرب ، والرسول الأمين لا يريد أن يقيم حربا بمكة ، بل يريد انقياد أهلها مع عدم المساس بهم ، فدعا الله قائلا : " اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها " .
كان حاطب بن أبي بلتعة من كبار المسلمين ، وقد شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة بدر مخلصا في جهادها ، ولكن في النفس الإنسانية جوانب ضعف تطغى في بعض الأحيان عليها ، وتهوي بها من المنازل العالية إلى الحضيض . لقد كتب حاطب كتابا إلى قريش يخبرهم فيه بعزم المسلمين على فتح مكة ، واستأجر امرأة من مزينة تسمى سارة ، وجعل لها عشرة دنانير مكافأة ، وأمرها أن تتلطف وتحتال حتى توصل كتابه إلى قريش ، فأخذت المرأة الكتاب فأخفته ، وسلكت طريقها إلى مكة ، ثم أخبر الله رسوله بما صنع حاطب ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام في إثر المرأة ، فأدركاها في الطريق ، واستخرجا منها الكتاب فأحضراه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا فأطلعه على الكتاب ، ثم قال له : " ما حملك على هذا " ؟ . فقال حاطب : يا رسول الله ، لا تعجل عليّ ، فو الله إني لمؤمن بالله ورسوله ، ما غيرت ولا بدلت ، ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم من أهل ولا عشيرة ، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهمiv عليهم ، ولم أفعل ذلك ارتدادا عن ديني ، ولا رضا بالكفر بعد الإيمان .
ورأى النبي صدق لهجة حاطب وحسن نيته فيما أقدم عليه من ذلك الذنب ، فقال لمن حوله : " أما إنه قد صدقكم فيما أخبركم به " . ونظر النبي إلى ماضي الرجل في الجهاد ، وحسن بلائه في الذود عن حرمات الإسلام فرغب في العفو عنه .
أما عمر بن الخطاب فقد كبر عليه أمر هذه الخيانة ، فنظر إلى حاطب وقال له : قاتلك الله ، ترى رسول الله يُخفي الأمر وتكتب أنت إلى قريش ؟ يا رسول الله ، دعني أضرب عنق هذا المنافق . فتبسم رسول الله من حماسة عمر وقال : " وما يدريك يا عمر ، لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " . فدمعت عينا عمر ، وقال : الله ورسوله أعلم . v
وفي هذه الحادثة أنزل الله صدر سورة الممتحنة يحذر المؤمنين من أن يوالوا عدوهم ، أو يطلعوه على بعض أسرارهم مهما كان السبب الذي يدفع إلى ذلك ، فإن العدو عدو حيثما كان ، وموادة العدو خيانة ليس بعدها خيانة .
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ . . . }( الممتحنة : 1 ) .
تسير السورة مع النفس الإنسانية تحاول جاهدة أن تربي المسلمين تربية خاصة ، عمادها الولاء للدعوة وحدها ، والمودة لله ، والمحبة والتجمع على دعوة الله .
على هذا المعنى قامت الدعوة الإسلامية ، وظهر الإيثار والأخوة بين المهاجرين والأنصار .
ومن شعائر هذا الدين بغض الفاسقين والملحدين في دين الله ، وقد انتهزت السورة فرصة ضعف حاطب ، فجعلت ذلك وسيلة عملية لتهذيب النفوس ، ورسم المثل الأعلى للمسلم .
وقد عالجت السورة مشكلة الأواصر القريبة ، والعصبيات الصغيرة ، وحرص النفوس على مألوفاتها الموروثة ، ليخرج المسلم من الضيق المحلي إلى الأفق العالمي الإنساني .
" لقد كان القرآن بهذا الأسلوب في التربية ينشئ في هذه النفوس صورة جديدة ، وقيما جديدة ، وموازين جديدة ، وفكرة جديدة عن الكون والحياة والإنسان ، ووظيفة المؤمنين في الأرض ، وغاية الوجود الإنساني .
وكان كأنما يجمع هذه النباتات الصغيرة الجديدة في كنف الله ، ليعلمهم الله ، ويبصرهم بحقيقة وجودهم وغايته ، وليفتح أعينهم على ما يحيط بهم من عداوات ومكر وكيد ، وليشعرهم أنهم رجاله وحِزْبه ، وأنه يريد بهم أمرا ويحقق بهم قدرا ، ومن ثم فهم يوسمون بسمته ، ويحملون شارته ، ويُعرفون بهذه الشارة وتلك السمة بين الأقوام جميعا في الدنيا والآخرة ، وإذن فليكونوا خالصين له ، منقطعين لولايته ، متجردين من كل وشيجة في عالم الشعور وعالم السلوك " vi
سورة الممتحنة من أولها إلى آخرها تنظم علاقة المسلمين بالمشركين ، وتدعو إلى تقوية أواصر المودة بين المسلمين ، وحفظ هذه الوشائج قوية متينة بين المؤمنين ، وتبين أن عداوة الكافرين للمسلمين أصيلة قديمة ، فقد أخرجهم كفار مكة من ديارهم وأهلهم وأموالهم . ( الآية : 1 ) ، وإذا انتصر المشركون عليهم عاملوهم معاملة الأعداء ، رجاء أن يعودوا بهم من الإيمان إلى الكفر ، وحينئذ لا تنفعكم ، أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ . . . ( الممتحنة : 3 ) . ولا تنجيكم من عقاب الله . ( الآيتان : 1 ، 2 ) .
ثم ترسم السورة مثلا أعلى وقدوة حسنة بإبراهيم الخليل ومن معه من المؤمنين ، حين آمنوا بالله وأخلصوا له النية ، وتجردوا من كل عاطفة نحو قومهم المشركين ، وأعلنوا براءتهم من الشرك وأهله ، وقد استغفر إبراهيم لأبيه ، فلما تأكد لإبراهيم إصرار أبيه على الشرك تبرأ منه .
ذلك ركب الإيمان ، وطريق المؤمنين في تاريخ البشرية يتسم بالتضحية والفداء ، والاستعلاء على رغبات النفس في صلة الأقارب من المشركين ، فالمودة لله وللمؤمنين . ( الآيات : 4-6 ) .
ولعل الله أن يهدي هؤلاء المشركين فيدخلوا في دين الله ، وبذلك تتحول العداوة إلى مودة ، وقد فتحت مكة بعد ذلك وعاد الجميع إخوة متحابين . ( الآية : 7 ) .
وقد أرسل الله رسوله بالهدى ودين الحق ، فهو نبي الهدى والسلام ، والإسلام في طبيعته دين سلام ، فاسمه مشتق من السلام ، والله اسمه السلام ، والإسلام لا يمنع من موالاة الكفار والبر بهم وتحري العدل في معاملتهم ، ما داموا لم يقاتلونا في الدين .
ولكن الإسلام ينهى أشد النهي عن موالاة الكفار المقاتلين أو الذين يستعدون لقتال المسلمين ، ويرى كشف خطط المسلمين لهم خيانة للعقيدة وللأمة الإسلامية .
" وهذا التوجيه يتفق مع اتجاه السورة كلها إلى إبراز قيمة العقيدة ، وجعلها هي الراية الوحيدة التي يقف تحتها المسلمون ، فمن وقف معهم تحتها فهو منهم ، ومن قاتلهم فيها فهو عدوهم ، ومن سالمهم فتكرهم لعقيدتهم ودعوتهم ، ولم يصد الناس عنها ، ولم يفتن المؤمنين بها ، فهو مسالم لا يمنع الإسلام من البر به والقسط معه " vii . ( الآيتان : 8-9 ) .
وكان صلح الحديبية ينص على أن من جاء مسلما بدون إذن وليّه يرده المسلمون إلى أهل مكة ، ومن جاء إلى مكة مشركا لا يردونه .
ثم أسلمت نساء من أهل مكة جاء أزواجه يطلبونهن ، فنزلت هذه الآيات تؤيد أن المرأة لا يصح أن ترد إلى زوجها الكافر ؛ لأنها لا تحل له بعد أن آمنت بالله وبقي الزوج على الشرك ، وكانت المرأة تُمتحن ، أي : تحلف بالله ما خرجت من بغض زوج ، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض ، وبالله ما خرجت التماس دنيا ، وبالله ما خرجت إلا حبا لله ورسوله ، فإذا حلفت كان لنا الظاهر واله أعلم بالسرائر ، عندئذ تعيش في المجتمع المسلم ، فإن تزوجت أعاد زوجها المسلم إلى الزوج المشرك ما أنفقه عليها ، وكذلك إذا ذهبت زوجة مسلمة إلى المشركين مرتدة ، فإذا تزوجت يرد المشركون للمسلم المهر الذي دفعه لها . ( الآيتان : 10-11 ) .
ثم بين الله لرسوله صلى الله عليه وسلم كيف يبايع النساء على الإيمان وقواعده الأساسية ، وهي التوحيد ، وعدم الشرك بالله إطلاقا ، وعدم اقتراف المحرمات وهي السرقة والزنا . . . ثم طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما يأمر به ، أي امتثال المأمورات واجتناب المحرمات . ( الآية : 12 ) .
وفي ختام السورة نجد آية تجمع الهدف الكبير ، فتنهى عن موالاة من غضب الله عليهم من اليهود والمشركين . ( الآية : 13 ) .
معظم مقصود السورة هو : النهي عن موالاة الخارجين عن ملة الإسلام ، والافتداء بالسلف الصالح في طريق الطاعة والعبادة ، وانتظار المودة بعد العداوة ، وامتحان المدّعين بمطالبة الحقيقة ، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بكيفية لبيعة مع أهل الستر والعفة ، والتجنب مع أهل الزيغ والضلالة ، في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ } . ( الممتحنة : 13 ) .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ( 1 ) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ( 2 ) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 3 ) }
عدوّ الله : من كفر به أو أشرك به ، ولم يؤمن بما أنزل في كتبه .
عدو المؤمنين : من خانهم ، أو أضرّ بمصالحهم ، أو قاتلهم ، أو أعان على قتالهم .
أولياء : جمع وليّ ، أي : صديق توليه بالسرّ .
المودة : المحبة والإخلاص ، والمراد هنا ، النصيحة وإرسال أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم .
الحق : دين الإسلام ، والقرآن .
بما أخفيتم : بالذي أخفيتموه ، أنا أعلم به منكم .
سواء السبيل : السواء في الأصل : الوسط ، والمراد هنا : الطريق المستوي ، وهو طريق الحق .
1- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } .
نداء علوي إلهي لجماعة المؤمنين ، بألا يتخذوا أعداء ربهم ودينهم ، وهم أعداء لهم في نفس الوقت ، ألا يتخذوهم أولياء وأحبابا ، يلقون إليهم بالمحبة والمودة ، وأسرار النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين .
والحال أن هؤلاء الكفار قد كفروا بالإسلام والقرآن ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وحاولوا قتل الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو حبسه أو نفيه ، فأذن الله له بالهجرة .
قال تعالى : { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليُثبتوك أو يقتلوك أو يُخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } . ( الأنفال : 30 ) .
كما أحكموا الحصار على المسلمين حتى هاجرا فرارا بدينهم من مكة إلى المدينة ، وكل جريمة النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين أنهم آمنوا بالله تعالى ربا واحد صمدا .
كما قال سبحانه وتعالى : { وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد } . ( البروج : 8 ) .
إن كان خروجكم من مكة جهادا في سبيل الله وابتغاء مرضاته ، فلا تتخذوا أعدائي وأعداءكم أولياء ، تفضون إليهم بالمحبة ، وتهمسون لهم بأسراركم ، وخطط النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنا العالم بالسرائر والضمائر والظواهر ، والأعلم من كل أحد بما تخفون وما تعلنون ، ومن يوال الأعداء ويلق إليهم الأسرار ، فقد حاد عن طريق الحق والصواب ، وحاد عن قصد السبيل التي توصّل إلى الجنة والرضوان الإلهي .
مدنية في قول الجميع ، وهي ثلاث عشرة آية ز
الممتحنة ( بكسر الحاء ) أي المختبرة ، أضيف الفعل إليها مجازا ، كما سميت سورة " التوبة " المبعثرة والفاضحة ؛ لما كشفت من عيوب المنافقين . ومن قال في هذه السورة : الممتحنة ( بفتح الحاء ) فإنه أضافها إلى المرأة التي نزلت فيها ، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، قال الله تعالى : { فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن } [ الممتحنة : 10 ] الآية{[1]} . وهي امرأة عبدالرحمن بن عوف ، ولدت له إبراهيم بن عبدالرحمن .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } عدَّى اتخذ إلى مفعولين وهما { عدوكم أولياء } . والعدو فعول من عدا ، كعفو من عفا . ولكونه على زنة المصدر أوقع على الجماعة إيقاعه على الواحد .
الأولى- قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم } ، روى الأئمة - واللفظ لمسلم - عن علي رضي الله عنه قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال : ( ائتوا روضة خاخ{[14888]} فإن بها ظعينة{[14889]} معها كتاب فخذوه منها ) فانطلقنا تعادى{[14890]} بنا خيلنا ، فإذا نحن بالمرأة ، فقلنا : أخرجي الكتاب ، فقالت : ما معي كتاب ، فقلنا : لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب ، فأخرجته من عقاصها . فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا حاطب ما هذا ؟ قال لا تعجل علي يا رسول الله ، إني كنت أمرأ ملصقا في قريش قال سفيان : كان حليفا لهم ، ولم يكن من أنفسها وكان ممن كان معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليم ، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن اتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي ، ولم أفعله كفرا ولا ارتدادا عن ديني ، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( صدق ) . فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق . فقال : ( إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) فأنزل الله عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء " . قيل : اسم المرأة سارة من موالي قريش . وكان في الكتاب : " أما بعد ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل ، وأقسم بالله لو لم يسر إليكم إلا وحده لأظفره الله بكم ، وأنجز له موعده فيكم ، فإن الله وليه وناصره . ذكره بعض المفسرين .
وذكر القشيري والثعلبي : أن حاطب بن أبي بلتعة كان رجلا من أهل اليمن ، وكان له حلف بمكة في بني أسد بن عبدالعزى رهط الزبير بن العوام ، وقيل : كان حليفا للزبير بن العوام ، فقدمت من مكة سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هشام بن عبد مناف إلى المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز لفتح مكة . وقيل : كان هذا في زمن الحديبية ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أمهاجرة جئت يا سارة ) . فقالت : لا . قال : ( أمسلمة جئت ) قالت : لا . قال : ( فما جاء بك ) قالت : كنتم الأهل والموالي والأصل والعشيرة ، وقد ذهب الموالي - تعني قتلوا يوم بدر - وقد احتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( فأين أنت عن شباب أهل مكة ) وكانت مغنية ، قالت : ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر . فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبدالمطلب وبني المطلب على إعطائها ، فكسوها وأعطوها وحملوها فخرجت إلى مكة ، وأتاها حاطب فقال : أعطيك عشرة دنانير وبردا على أن تبلغي هذا الكتاب إلى أهل مكة . وكتب في الكتاب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم . فخرجت سارة ، ونزل جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فبعث عليا والزبير وأبا مرثد الغنوي . وفي رواية : عليا والزبير والمقداد . وفي رواية : أرسل عليا وعمار بن ياسر . وفي رواية : عليا وعمارا وعمر والزبير وطلحة والمقداد وأبا مرثد - وكانوا كلهم فرسانا - وقال لهم : ( انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة ومعها كتاب من حاطب إلى المشركين فخذوه منها وخلوا سبيلها فان لم تدفعه لكم فاضربوا عنقها ) فأدركوها في ذلك المكان ، فقالوا لها : أين الكتاب ؟ فحلفت ما معها كتاب ، ففتشوا أمتعتها فلم يجدوا معها كتابا ، فهموا بالرجوع فقال علي : والله ما كَذَبَنا ولا كَذَّبْنا ! وسل سيفه وقال : أخرجي الكتاب وإلا والله لأجردنك ولأضربن عنقك ، فلما رأت الجد أخرجته من ذؤابتها - وفي رواية من حجزتها{[14891]} - فخلوا سبيلها ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأرسل إلى حاطب فقال : ( هل تعرف الكتاب ؟ ) قال نعم . وذكر الحديث بنحو ما تقدم . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمن جميع الناس يوم الفتح إلا أربعة هي أحدهم .
الثانية- السورة أصل في النهي عن مولاة الكفار . وقد مضى ذلك في غير موضع{[14892]} . من ذلك قوله تعالى : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } [ آل عمران : 28 ] . { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم } [ آل عمران : 118 ] . { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } [ المائدة : 51 ] ومثله كثير . وذكر أن حاطبا لما سمع { يا أيها الذين آمنوا } غشي عليه من الفرح بخطاب الإيمان .
الثالثة- قوله تعالى : { تلقون إليهم بالمودة } يعني بالظاهر ؛ لأن قلب حاطب كان سليما ، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : ( أما صاحبكم فقد صدق ) وهذا نص في سلامة فؤاده وخلوص اعتقاده . والباء في " بالمودة " زائدة ، كما تقول : قرأت السورة وقرأت بالسورة ، ورميت إليه ما في نفسي وبما في نفسي . ويجوز أن تكون ثابتة على أن مفعول " تلقون " محذوف ، معناه تلقون إليهم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب المودة التي بينكم وبينهم . وكذلك { تسرون إليهم بالمودة } أي بسبب المودة . وقال الفراء : { تلقون إليهم بالمودة } من صلة " أولياء " ودخول الباء في المودة وخروجها سواء . ويجوز أن تتعلق ب " لا تتخذوا " حالا من ضميره . و " أولياء " صفة له ، ويجوز أن تكون استئنافا .
ومعنى { تلقون إليهم بالمودة } تخبرونهم بسرائر المسلمين وتنصحون لهم ، وقاله الزجاج .
الرابعة- من كثر تطلعه على عورات المسلمين وينبه عليهم ويعرف عدوهم بأخبارهم لم يكن بذلك كافرا إذا كان فعله لغرض دنيوي واعتقاده على ذلك سليم ، كما فعل حاطب حين قصد بذلك اتخاذ اليد ولم ينو الردة عن الدين .
الخامسة- إذا قلنا لا يكون بذلك كافرا فهل يقتل بذلك حدا أم لا ؟ اختلف الناس فيه ، فقال مالك وابن القاسم وأشهب : يجتهد في ذلك الإمام . وقال عبدالملك : إذا كانت عادته تلك قتل ؛ لأنه جاسوس ، وقد قال مالك بقتل الجاسوس - وهو صحيح لإضراره بالمسلمين وسعيه بالفساد في الأرض . ولعل ابن الماجشون إنما اتخذ التكرار في هذا ؛ لأن حاطبا أخذ في أول فعله . والله أعلم .
السادسة- فإن كان الجاسوس كافرا فقال الأوزاعي : يكون نقضا لعهده . وقال أصبغ : الجاسوس الحربي يقتل ، والجاسوس المسلم والذمي يعاقبان إلا إن تظاهرا على الإسلام فيقتلان . وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بعين للمشركين اسمه فرات بن حيان ، فأمر به أن يقتل ، فصاح : يا معشر الأنصار ، أقتل وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ! فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فخلى سبيله . ثم قال : ( إن منكم من أكله إلى إيمانه منهم فرات بن حيان ) .
وقوله : { وقد كفروا } حال ، إما من { لا تتخذوا } وإما من { تلقون } أي لا تتولوهم أو توادوهم ، وهذه حالهم . وقرأ الجحدري { لما جاءكم } أي كفروا لأجل ما جاءكم من الحق .
السابعة- قوله تعالى : { يخرجون الرسول } استئناف كلام كالتفسير لكفرهم وعتوهم ، أو حال من { كفروا } . { وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم } تعليل ل { يخرجون } المعنى يخرجون الرسول ويخرجونكم من مكة ؛ لأن تؤمنوا بالله أي لأجل إيمانكم بالله . قال ابن عباس : وكان حاطب ممن أخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي . وقيل : في الكلام حذف ، والمعنى إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي ، فلا تلقوا إليهم بالمودة . وقيل : { إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي } شرط وجوابه مقدم ، والمعنى إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء . ونصب " جهادا " و " ابتغاء " لأنه مفعول . وقوله : { تسرون إليهم بالمودة } بدل من " تلقون " ومبين عنه ، والأفعال تبدل من الأفعال ، كما قال تعالى : { ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب{[14893]} } [ الفرقان : 68 ] . وأنشد سيبويه :
متى تأتِنَا تُلْمِمْ بنا في ديارنا *** تجدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تَأَجَّجَا
وقيل : هو على تقدير أنتم تسرون إليهم بالمودة ، فيكون استئنافا . وهذا كله معاتبة لحاطب . وهو يدل على فضله وكرامته ونصيحته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق إيمانه ، فإن المعاتبة لا تكون إلا من محب لحبيبه{[14894]} . كما قال :
أعاتب ذا المودة من صديقٍ *** إذا ما رابني منه اجتنابُ
إذا ذهب العتاب فليس وُدٌّ *** ويبقى الود ما بقي العتابُ
ومعنى { بالمودة } أي بالنصيحة في الكتاب إليهم . والباء زائدة كما ذكرنا ، أو ثابتة غير زائدة .
قوله تعالى : { وأنا أعلم بما أخفيتم } أضمرتم { وما أعلنتم } أظهرتم . والباء في " بما " زائدة ، يقال : علمت كذا وعلمت بكذا . وقيل : وأنا اعلم من كل أحد بما تخفون وما تعلنون ، فحذف من كل أحد . كما يقال : فلان اعلم وأفضل من غيره . وقال ابن عباس : وأنا اعلم بما أخفيتم في صدوركم ، وما أظهرتم بألسنتكم من الإقرار والتوحيد . { ومن يفعله منكم } أي من يسر إليهم ويكاتبهم منكم { فقد ضل سواء السبيل } أي أخطأ قصد الطريق .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ( 1 ) } .
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه ، لا تتخذوا عدوي وعدوكم خلصاء وأحباء ، تُفْضون إليهم بالمودة ، فتخبرونهم بأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم ، وسائر المسلمين ، وهم قد كفروا بما جاءكم من الحق من الإيمان بالله ورسوله وما نزل عليه من القرآن ، يخرجون الرسول ويخرجونكم- أيها المؤمنون- من " مكة " ؛ لأنكم تصدقون بالله ربكم ، وتوحدونه ، إن كنتم- أيها المؤمنون- هاجرتم مجاهدين في سبيلي ، طالبين مرضاتي عنكم ، فلا توالوا أعدائي وأعداءكم ، تُفْضون إليهم بالمودة سرًّا ، وأنا أعلم بما أخفيتم وما أظهرتم ، ومن يفعل ذلك منكم فقد أخطأ طريق الحق والصواب ، وضلَّ عن قصد السبيل .