سورة القصص مكية ، وآياتها 88 آية ، نزلت بعد سورة النمل ، وقد نزلت في الفترة المكية الأخيرة فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء ، وقد سميت بسورة القصص لاشتمالها على القصص الذي حكاه موسى لنبي الله شعيب في قوله سبحانه : { فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين } [ القصص : 25 ] .
تستغرق قصة موسى حيزا كبيرا من سورة القصص ، فمن بداية السورة إلى الآية 48 ؛ نجد حديثا مستفيضا عن موسى عليه السلام .
وفي الآيات [ 75-82 ] نجد حديثا عن قارون ، أي أن معظم سورة القصص يتناول قصة موسى ويتناول قصة قارون ، والحكمة في ذلك أن هذه السورة نزلت بمكة في مرحلة قاسية ، كان المسلمون فيها قلة مستضعفة ، والمشركون هم أصحاب الحول والطول والجاه والسلطان ، فنزلت هذه السورة تضع الموازين الحقيقية للقوى والقيم ، وتقرر أن هناك قوة واحدة في هذا الوجود ، هي قوة الله ، وأن هناك قيمة واحدة في هذا الكون هي قيمة الإيمان ، فمن كانت قوة الله معه فلا خوف عليه ، ومن كانت قوة الله عليه فلا أمن له ولا طمأنينة ولو ساندته جميع القوى .
ومن ثم يقوم كيان سورة القصص على قصة موسى وفرعون ، وتعرض السورة من خلال هذه القصة قوة فرعون الطاغية المتجبر اليقظ الحذر ، وفي مواجهتها موسى طفلا رضيعا لا حول له ولا قوة ، ولا ملجأ له ولا وقاية .
وقد علا فرعون في الأرض ، واتخذ أهلها شيعا ، واستضعف بني إسرائيل ، يذبح أبناءهم ، ويستحيي نساءهم ، وهو على حذر منهم ، وهو قابض على أعناقهم ، لكن قوة فرعون وجبروته وحذره ويقظته ، لا تغني عنه شيئا ، بل لا تمكن له من موسى الطفل الصغير المجرد من كل قوة وحيلة ، وهو في حراسة القوة الحقيقية الوحيدة ، ترعاه عين العناية ، وتدفع عنه السوء ، وتعمى عنه العيون ، وتتحدى به فرعون وجنده تحديا سافرا ، فتدفع به إلى حجره ، وتدخل به عليه عرينه ، بل تقتحم به عليه قلب امرأته وهو مكتوف اليدين إزاءه ، مكفوف الأذى عنه ، يصنع بنفسه لنفسه ما يحذره ويخشاه .
لقد طمعت آسية أن يكون موسى وليدا لها تتبناه مع زوجها فرعون ، فقالت لفرعون : { قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون } [ القصص : 9 ]
وهكذا دبر الله أن يتربى موسى في بيت فرعون ، وأن يؤتى الحذر من مكمنه ، ولما حرم الله المراضع على موسى ، جاءت أمه كمرضعة له ، وأرضعته في بيت فرعون ، وصار فرعون يجري عليها كل يوم دينارا من الذهب ، وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( مثل المؤمن كأم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرتها )i .
بلغ موسى أشده ، واستكمل نيفا وثلاثين عاما ، وقد صنعه الله على عينه ، فصار يتأمل في هذا الكون ، ويبتعد عن حاشية فرعون ، ودخل العاصمة في فترة الظهيرة فرأى قبطيا يعمل طباخا في قصر فرعون يتشاجر مع إسرائيلي ، فاستغاث به الإسرائيلي ؛ فضرب موسى القبطي بجمع يده فوقع جثة هامدة ، وندم موسى على ذلك واستغفر الله وتاب إليه .
وتربص قوم فرعون بموسى ليقتلوه ، فانتدبت يد القدرة واحدا منهم يكتم إيمانه عنهم ، وجاء لموسى وقال له : { إن الملأ يأتمرون به ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين } [ القصص : 20 ] .
خرج موسى هاربا مهاجرا متجها إلى أرض مدين وحيدا فريدا فآواه الله ورعاه ، وتعرف هناك على نبي الله شعيب وتزوج بابنته ومكث هناك عشر سنين ، ثم عاوده الحنين إلى مصر فجاء إليها عبر سيناء ، وعند الشجرة المباركة نودي من قبل الله : أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين ، وامتن الله عليه بالرسالة وأيده بالمعجزات .
عاد موسى إلى فرعون مرة أخرى يدعوه إلى الإيمان بالله ويقدم له الأدلة العقلية والمعجزات الظاهرة ، ولكن فرعون طغى وتجبر وكذب وعصى ؛ فأهلكه الله وأخذه نكال الآخرة والأولى ، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى .
عنيت سورة القصص بإبراز حلقة ميلاد موسى ، وتربيته في بيت فرعون ، وهي حلقة جديدة في القصة تكشف عن تحدي القدرة الإلهية للطغيان والظلم ، وفيها يتجلى عجز قوة فرعون وحيلته وحذره عن دفع القدر المحتوم والقضاء النافذ .
لقد ولد موسى في ظروف قاسية في ظاهرها ، فصاحبته رعاية الله وعنايته ، في رضاعه وفي نشأته وفتوته ، وصنعه الله على عينه وهيأه للرسالة ، وإذا أراد الله أمرا هيأ له الأسباب ثم قال له كن فيكون .
ذكرت سورة القصص قصة موسى في بدايتها وقصة قارون في نهايتها ، والهدف واحد ، فقصة فرعون تمثل طغيان الملك ، وقصة قارون تمثل طغيان المال .
كان قارون من قوم موسى وكان غنيا ذا قدرة ومعرفة ، وأوتي من المال ما إن مفاتحه لتعيي العصبة من الرجال الأقوياء ، وخرج على قومه في زينته وأبهته ليكسر قلوب الفقراء ، ونصحه قومه بالاعتدال وإخراج الزكاة ، والإحسان إلى الناس والابتعاد عن الفساد .
فزادته النصيحة تيها وعلوا ، وخرج يباهي الناس بماله وكنوزه ، ثم تدخلت يد القدرة الإلهية فخسفت به وبداره الأرض ، ولم يغن عنه ماله ولا علمه .
وهكذا تصير عاقبة الظالمين ، كما غرق فرعون في البحر ، هلك قارون خسفا في الأرض ، ولا تزال بحيرة قارون تذكر الناس بنهاية الظالمين ، قال تعالى : { وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين*فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } [ العنكبوت : 39 ، 40 ] .
تهدف سورة القصص إلى إثبات قدرة الله ورعايته للمؤمنين ، فهو سبحانه الواحد الأحد الفرد الصمد المتفرد بالحكم والقضاء ، قد آزر موسى وحيدا فريدا طريدا ، ونجاه من بطش فرعون ، وأغرق فرعون وجنوده ، كما أهلك قارون وقومه .
وبين القصتين نجد الآيات من [ 44 – 75 ] تعقب على قصة موسى وتبين أين يكون الأمن ، وأين تكون المخافة ، وتجول مع المشركين الذين يواجهون دعوة الإسلام بالشرك والإنكار والمعاذير ، تجول معهم جولات شتى في مشاهد الكون ، وفي مشهد الحشر ، وفيما هم فيه من الأمن ، بعد أن تعرض عليهم دلائل الصدق فيما جاءهم به رسولهم صلى الله عليه وسلم ، وكيف يتلقاه فريق من أهل الكتاب بالإيمان واليقين ، بينما هم يتلقونه بالكفران والجحود ، وهو رحمة لهم من العذاب ، لو أنهم كانوا يتذكرون .
في ختام السورة نجد الآيات [ 85-88 ] تعد الرسول صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى مكة فاتحا منتصرا ، ينشر الهدى ويقيم الحق والعدل ، ومن العجيب أن هذا الوعد بالنصر جاءه وهو مخرج من بلده ، مطارد من قومه ، مهاجر إلى المدينة ولم يبلغها بعد ، فقد كان بالجحفة قريبا من مكة ، قريبا من الخطر ، يتعلق قلبه وبصره ببلده الذي يحبه ، ويقول عند فراقه مخاطبا مكة : " والله إنك لمن أحب البلاد إليّ ، ومن أحب البلاد إلى الله ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت " .
ويعده الله بالرجوع إلى مكة فيقول : { إن الله فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد . . } [ القصص : 85 ] .
ويبين سبحانه : أن كل ما دون الحق فهو عرضة للفناء والزوال ، وأن زمام الحكم بيده تعالى ، وتحتم السورة بهذه الآية إثباتا للوحدانية ولجلال القدرة الإلهية : { ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون } [ القصص : 88 ] .
{ طسم( 1 ) تلك آيات الكتاب المبين( 2 ) نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون ( 3 ) إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين( 4 ) ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ( 5 ) ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون( 6 ) } .
تقدم الكلام عن هذه الأحرف المقطعة في أول سورتي البقرة وآل عمران وغيرهما .
أن للعلماء في هذه الأحرف رأيين رئيسيين :
الأول : أنها مما استأثر الله تعالى بعلمه .
الثاني : أن لها معنى ، لكن الآراء تعددت في تحديد هذا المعنى ، فقيل : هي إشارة إلى أسماء الله تعالى أو صفاته ، وقيل : هي أدوات للتنبيه ، كالجرس الذي يقرع فيتنبه التلاميذ إلى دخول المدرسة ، وقيل : هي حروف للتحدي والإعجاز وبيان أن القرآن مكوّن من حروف عربية ، هي الطاء والسين والميم ، وقد عجزتم عن الإتيان بمثله ؛ فدلّ ذلك على أنه ليس من صنع بشر ، ولكنه تنزيل من حكيم حميد .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.