تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{طسٓمٓ} (1)

مقدمة السورة:

أهداف سورة القصص

سورة القصص مكية ، وآياتها 88 آية ، نزلت بعد سورة النمل ، وقد نزلت في الفترة المكية الأخيرة فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء ، وقد سميت بسورة القصص لاشتمالها على القصص الذي حكاه موسى لنبي الله شعيب في قوله سبحانه : { فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين } [ القصص : 25 ] .

قصة موسى

تستغرق قصة موسى حيزا كبيرا من سورة القصص ، فمن بداية السورة إلى الآية 48 ؛ نجد حديثا مستفيضا عن موسى عليه السلام .

وفي الآيات [ 75-82 ] نجد حديثا عن قارون ، أي أن معظم سورة القصص يتناول قصة موسى ويتناول قصة قارون ، والحكمة في ذلك أن هذه السورة نزلت بمكة في مرحلة قاسية ، كان المسلمون فيها قلة مستضعفة ، والمشركون هم أصحاب الحول والطول والجاه والسلطان ، فنزلت هذه السورة تضع الموازين الحقيقية للقوى والقيم ، وتقرر أن هناك قوة واحدة في هذا الوجود ، هي قوة الله ، وأن هناك قيمة واحدة في هذا الكون هي قيمة الإيمان ، فمن كانت قوة الله معه فلا خوف عليه ، ومن كانت قوة الله عليه فلا أمن له ولا طمأنينة ولو ساندته جميع القوى .

ومن ثم يقوم كيان سورة القصص على قصة موسى وفرعون ، وتعرض السورة من خلال هذه القصة قوة فرعون الطاغية المتجبر اليقظ الحذر ، وفي مواجهتها موسى طفلا رضيعا لا حول له ولا قوة ، ولا ملجأ له ولا وقاية .

وقد علا فرعون في الأرض ، واتخذ أهلها شيعا ، واستضعف بني إسرائيل ، يذبح أبناءهم ، ويستحيي نساءهم ، وهو على حذر منهم ، وهو قابض على أعناقهم ، لكن قوة فرعون وجبروته وحذره ويقظته ، لا تغني عنه شيئا ، بل لا تمكن له من موسى الطفل الصغير المجرد من كل قوة وحيلة ، وهو في حراسة القوة الحقيقية الوحيدة ، ترعاه عين العناية ، وتدفع عنه السوء ، وتعمى عنه العيون ، وتتحدى به فرعون وجنده تحديا سافرا ، فتدفع به إلى حجره ، وتدخل به عليه عرينه ، بل تقتحم به عليه قلب امرأته وهو مكتوف اليدين إزاءه ، مكفوف الأذى عنه ، يصنع بنفسه لنفسه ما يحذره ويخشاه .

لقد طمعت آسية أن يكون موسى وليدا لها تتبناه مع زوجها فرعون ، فقالت لفرعون : { قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون } [ القصص : 9 ]

وهكذا دبر الله أن يتربى موسى في بيت فرعون ، وأن يؤتى الحذر من مكمنه ، ولما حرم الله المراضع على موسى ، جاءت أمه كمرضعة له ، وأرضعته في بيت فرعون ، وصار فرعون يجري عليها كل يوم دينارا من الذهب ، وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( مثل المؤمن كأم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرتها )i .

موسى في سن الرجولة :

بلغ موسى أشده ، واستكمل نيفا وثلاثين عاما ، وقد صنعه الله على عينه ، فصار يتأمل في هذا الكون ، ويبتعد عن حاشية فرعون ، ودخل العاصمة في فترة الظهيرة فرأى قبطيا يعمل طباخا في قصر فرعون يتشاجر مع إسرائيلي ، فاستغاث به الإسرائيلي ؛ فضرب موسى القبطي بجمع يده فوقع جثة هامدة ، وندم موسى على ذلك واستغفر الله وتاب إليه .

وتربص قوم فرعون بموسى ليقتلوه ، فانتدبت يد القدرة واحدا منهم يكتم إيمانه عنهم ، وجاء لموسى وقال له : { إن الملأ يأتمرون به ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين } [ القصص : 20 ] .

خرج موسى هاربا مهاجرا متجها إلى أرض مدين وحيدا فريدا فآواه الله ورعاه ، وتعرف هناك على نبي الله شعيب وتزوج بابنته ومكث هناك عشر سنين ، ثم عاوده الحنين إلى مصر فجاء إليها عبر سيناء ، وعند الشجرة المباركة نودي من قبل الله : أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين ، وامتن الله عليه بالرسالة وأيده بالمعجزات .

موسى مع فرعون :

عاد موسى إلى فرعون مرة أخرى يدعوه إلى الإيمان بالله ويقدم له الأدلة العقلية والمعجزات الظاهرة ، ولكن فرعون طغى وتجبر وكذب وعصى ؛ فأهلكه الله وأخذه نكال الآخرة والأولى ، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى .

الحلقة الجديدة في القصة :

عنيت سورة القصص بإبراز حلقة ميلاد موسى ، وتربيته في بيت فرعون ، وهي حلقة جديدة في القصة تكشف عن تحدي القدرة الإلهية للطغيان والظلم ، وفيها يتجلى عجز قوة فرعون وحيلته وحذره عن دفع القدر المحتوم والقضاء النافذ .

لقد ولد موسى في ظروف قاسية في ظاهرها ، فصاحبته رعاية الله وعنايته ، في رضاعه وفي نشأته وفتوته ، وصنعه الله على عينه وهيأه للرسالة ، وإذا أراد الله أمرا هيأ له الأسباب ثم قال له كن فيكون .

قارون :

ذكرت سورة القصص قصة موسى في بدايتها وقصة قارون في نهايتها ، والهدف واحد ، فقصة فرعون تمثل طغيان الملك ، وقصة قارون تمثل طغيان المال .

كان قارون من قوم موسى وكان غنيا ذا قدرة ومعرفة ، وأوتي من المال ما إن مفاتحه لتعيي العصبة من الرجال الأقوياء ، وخرج على قومه في زينته وأبهته ليكسر قلوب الفقراء ، ونصحه قومه بالاعتدال وإخراج الزكاة ، والإحسان إلى الناس والابتعاد عن الفساد .

فزادته النصيحة تيها وعلوا ، وخرج يباهي الناس بماله وكنوزه ، ثم تدخلت يد القدرة الإلهية فخسفت به وبداره الأرض ، ولم يغن عنه ماله ولا علمه .

وهكذا تصير عاقبة الظالمين ، كما غرق فرعون في البحر ، هلك قارون خسفا في الأرض ، ولا تزال بحيرة قارون تذكر الناس بنهاية الظالمين ، قال تعالى : { وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين*فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } [ العنكبوت : 39 ، 40 ] .

أهداف السورة

تهدف سورة القصص إلى إثبات قدرة الله ورعايته للمؤمنين ، فهو سبحانه الواحد الأحد الفرد الصمد المتفرد بالحكم والقضاء ، قد آزر موسى وحيدا فريدا طريدا ، ونجاه من بطش فرعون ، وأغرق فرعون وجنوده ، كما أهلك قارون وقومه .

وبين القصتين نجد الآيات من [ 44 – 75 ] تعقب على قصة موسى وتبين أين يكون الأمن ، وأين تكون المخافة ، وتجول مع المشركين الذين يواجهون دعوة الإسلام بالشرك والإنكار والمعاذير ، تجول معهم جولات شتى في مشاهد الكون ، وفي مشهد الحشر ، وفيما هم فيه من الأمن ، بعد أن تعرض عليهم دلائل الصدق فيما جاءهم به رسولهم صلى الله عليه وسلم ، وكيف يتلقاه فريق من أهل الكتاب بالإيمان واليقين ، بينما هم يتلقونه بالكفران والجحود ، وهو رحمة لهم من العذاب ، لو أنهم كانوا يتذكرون .

ختام السورة

في ختام السورة نجد الآيات [ 85-88 ] تعد الرسول صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى مكة فاتحا منتصرا ، ينشر الهدى ويقيم الحق والعدل ، ومن العجيب أن هذا الوعد بالنصر جاءه وهو مخرج من بلده ، مطارد من قومه ، مهاجر إلى المدينة ولم يبلغها بعد ، فقد كان بالجحفة قريبا من مكة ، قريبا من الخطر ، يتعلق قلبه وبصره ببلده الذي يحبه ، ويقول عند فراقه مخاطبا مكة : " والله إنك لمن أحب البلاد إليّ ، ومن أحب البلاد إلى الله ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت " .

ويعده الله بالرجوع إلى مكة فيقول : { إن الله فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد . . } [ القصص : 85 ] .

ويبين سبحانه : أن كل ما دون الحق فهو عرضة للفناء والزوال ، وأن زمام الحكم بيده تعالى ، وتحتم السورة بهذه الآية إثباتا للوحدانية ولجلال القدرة الإلهية : { ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون } [ القصص : 88 ] .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ طسم( 1 ) تلك آيات الكتاب المبين( 2 ) نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون ( 3 ) إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين( 4 ) ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ( 5 ) ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون( 6 ) } .

1

التفسير :

1- { طسم }

تقدم الكلام عن هذه الأحرف المقطعة في أول سورتي البقرة وآل عمران وغيرهما .

والخلاصة :

أن للعلماء في هذه الأحرف رأيين رئيسيين :

الأول : أنها مما استأثر الله تعالى بعلمه .

الثاني : أن لها معنى ، لكن الآراء تعددت في تحديد هذا المعنى ، فقيل : هي إشارة إلى أسماء الله تعالى أو صفاته ، وقيل : هي أدوات للتنبيه ، كالجرس الذي يقرع فيتنبه التلاميذ إلى دخول المدرسة ، وقيل : هي حروف للتحدي والإعجاز وبيان أن القرآن مكوّن من حروف عربية ، هي الطاء والسين والميم ، وقد عجزتم عن الإتيان بمثله ؛ فدلّ ذلك على أنه ليس من صنع بشر ، ولكنه تنزيل من حكيم حميد .