القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىَ فَبَغَىَ عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْفَرِحِينَ } .
يقول تعالى ذكره : إنّ قارُونَ وهو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى يقول : كان من عشيرة موسى بن عمران النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وهو ابن عمه لأبيه وأمه ، وذلك أن قارون هو قارون بن يصهر بن قاهث ، وموسى : هو موسى بن عمران بن قاهث ، كذا نسبه ابن جُرَيج .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : إنّ قارُونَ كانَ مِنْ قَومِ مُوسَى قال : ابن عمه ابن أخي أبيه ، فإن قارون بن يصفر ، هكذا قال القاسم ، وإنما هو يصهر بن قاهث ، وموسى بن عومر بن قاهث ، وعومر بالعربية : عمران . وأما ابن إسحاق فإن ابن حميد .
حدثنا ، قال : حدثنا سلمة عنه ، أن يصهر بن قاهث تزوّج سميت بنت بتاويت بن بركنا بن بقشان بن إبراهيم ، فولدت له عمران بن يصهر ، وقارون بن يصهر ، فنكح عمران بخنت بنت شمويل بن بركنا بن بقشان بن بركنا ، فولدت له هارون بن عمران ، وموسى بن عمران صفيّ الله ونبيه فموسى على ما ذكر ابن إسحاق ابن أخي قارون ، وقارون هو عمه أخو أبيه لأبيه ولأمه . وأكثر أهل العلم في ذلك على ما قاله ابن جُرَيج . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن إبراهيم ، في قوله : إنّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى قال : كان ابن عمّ موسى .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن سماك بن حرب ، قال : حدثنا سعيد عن قَتادة إنّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى : كنا نحدّث أنه كان ابن عمه أخي أبيه ، وكان يسمى المنوّر من حُسن صوته بالتوراة ، ولكن عدوّ الله نافق ، كما نافق السامريّ ، فأهلكه البغي .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن سماك ، عن إبراهيم إنّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى قال كان ابن عمه فبغى عليه .
قال : ثنا يحيى القطان ، عن سفيان ، عن سماك ، عن إبراهيم ، قال : كان قارون ابن عمّ موسى .
قال : ثنا أبو معاوية ، عن ابن أبي خالد ، عن إبراهيم إنّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى قال : كان ابن عمه .
حدثني بشر بن هلال الصوّاف ، قال : حدثنا جعفر بن سليمان الضّبَعِيّ ، عن مالك بن دينار ، قال : بلغني أن موسى بن عمران كان ابن عمّ قارون .
وقوله : فَبَغَى عَلَيْهِمْ يقول : فتجاوز حدّه في الكبر والتجبر عليهم .
وكان بعضهم يقول : كان بغيه عليهم زيادة شبر أخذها في طول ثيابه . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن سعيد الكنديّ وأبو السائب وابن وكيع قالوا : حدثنا حفص بن غياث ، عن ليث ، عن شَهِر بن حَوْشب إنّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ قال : زاد عليهم في الثياب شبرا .
وقال آخرون : كان بغيه عليهم بكثرة ماله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قال : إنما بغى عليهم بكثرة ماله .
وقوله : وآتَيْناهُ مِنَ الكُنُوزِ ما إنّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ أُولى القُوّةِ يقول تعالى ذكره : وآتينا قارون من كنوز الأموال ما إن مفاتحه ، وهي جمع مفتح ، وهو الذي يفتح به الأبواب .
وقال بعضهم : عنى بالمفاتح في هذا الموضع : الخزائن لتُثْقِل العصبة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ما قلنا في معنى مفاتح :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، قال : أخبرنا الأعمش ، عن خيثمة ، قال : كانت مفاتح قارون تحمل على ستين بغلاً ، كلّ مفتاح منها باب كنز معلوم مثل الأُصبُع من جلود .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن الأعمش ، عن خيثمة ، قال : كانت مفاتح كنوز قارون من جلود كل مفتاح مثل الأصبع ، كل مفتاح على خزانة على حدة ، فإذا ركب حملت المفاتيح على ستين بغلاً أغرّ محّجل .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن خيثمة ، في قوله ما إنّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوء بالعُصْبَةِ أُولى القُوّةِ قال : نجد مكتوبا في الإنجيل مفاتح قارون وِقر ستين بغلاً غرّا محجلة ، ما يزيد كل مفتاح منها على أصبع ، لكل مفتاح منها كنز .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن حميد ، عن مجاهد ، قال : كانت المفاتح من جلود الإبل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد وآتَيْناهُ مِن الكُنُوزِ ما إنّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ قال : مفاتح من جلود كمفاتح العيدان .
وقال قوم : عنى بالمفاتح في هذا الموضع : خزائنه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيت ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن أبي صالح ، في قوله : ما إنّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ قال : كانت خزائنه تحمل على أربعين بغلاً .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي حجيرَ ، عن الضحاك ما إنّ مَفاتِحَهُ قال : أوعيته .
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، قال : حدثنا أبو رَوْق ، عن الضحاك عن ابن عباس ، في قوله : لَتَنُوء بالعُصْبَةِ قال : لتثقل بالعصبة .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ يقول : تَثْقُل . وأما العُصبة فإنها الجماعة .
واختلف أهل التأويل في مبلغ عددها الذي أريد في هذا الموضع فأما مبلغ عدد العصبة في كلام العرب فقد ذكرناه فيما مضى باختلاف المختلفين فيه ، والرواية في ذلك ، والشواهد على الصحيح من قولهم في ذلك بما أغني عن إعادته في هذا الموضع ، فقال بعضهم : كانت مفاتحه تنوء بعصبة مبلغ عددها أربعون رجلاً . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، عن إسماعيل بن سالم ، عن أبي صالح ، قوله : لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ قال : أربعون رجلاً .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد عن قَتادة لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ قال : ذكر لنا أن العصبة ما بين العشرة إلى الأربعين .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ أُولى القُوّةِ : يزعمون أن العصبة أربعون رجلاً ، ينقلون مفاتحه من كثرة عددها .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وآتَيْناهُ مِنَ الكُنُوزِ ما إنّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ أُولى القُوّةِ قال : أربعون رجلاً .
وقال آخرون : ستون ، وقال : كانت مفاتحه تحمل على ستين بغلاً .
حدثنا كذلك ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن الأعمش ، عن خيثمة .
وقال آخرون : كانت تحمل على ما بين ثلاثة إلى عشرة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ قال : العصبة : ثلاثة .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، قال : حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ قال : العصبة : ما بين الثلاثة إلى العشرة .
وقال آخرون : كانت تحمل ما بين عشرة إلى خمسة عشرة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ما إنّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ قال : العُصْبة : ما بين العشرة إلى الخمسة عشر .
حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد لَتَنُوءُ بالعُصْبَة قال : العصبة : خمسة عشر رجلاً .
وقوله : أُولى القُوّةِ يعني : أولى الشدّة . وقال مجاهد في ذلك ما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أُولى القُوّةِ قال : خمسةَ عَشَر .
فإن قال قائل : وكيف قيل وآتَيْناهُ مِنَ الكُنُوزِ ما إنّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ وكيف تنوء المفاتح بالعصبة ، وإنما العصبة هي التي تنوء بها ؟ قيل : اختلف في ذلك أهل العلم بكلام العرب ، فقال بعض أهل البصرة : مجاز ذلك : ما إن العصبة ذوي القوّة لتنوء بمفاتح نعمه . قال : ويقال في الكلام : إنها لتنوء بها عجيزتها ، وإنما هو : تنوء بعجيزتها كما ينوء البعير بحمله ، قال : والعرب قد تفعل مثل هذا . قال الشاعر :
فَدَيْتُ بِنَفْسِهِ نَفْسِي وَمالي *** وما آلُوكَ إلاّ ما أُطِيقُ
والمعنى : فديت بنفسي وبمالي نفسه .
وَتَرْكَبُ خَيْلاً لا هَوَادَةَ بَيْنَها *** وَتَشْقَى الرّماحُ بالضّياطِرَةِ الحُمْرِ
وإنما تشقى الضياطرة بالرماح . قال : والخيل هاهنا : الرجال .
وقال آخر منهم ما إنّ مَفاتِحَهُ قال : وهذا موضع لا يكاد يبتدأ فيه «إن » ، وقد قال : إن الموت الذي تفرّون منه فإنه ملاقيكم . وقوله : لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ إنما العصبة تنوء بها وفي الشعر :
*** تَنُوءُ بِها فَتُثْقِلُها عَجِيزَتُها ***
وليست العجيزة تنوء بها ، ولكنها هي تنوء بالعجيزة وقال الأعشى :
ما كُنْتَ فِي الحَرْبِ العَوَانِ مُغَمّرَا *** إذْ شَبّ حَرّ وَقُودِها أجْذَالَهَا
وكان بعض أهل العربية من الكوفيين يُنكر هذا الذي قاله هذا القائل ، وابتداء إن بعد ما ، ويقول : ذلك جائز مع وما من ، وهو مع ما ومَنْ أجود منه مع الذي ، لأن الذي لا يعمل في صلته ، ولا تعمل صلته فيه ، فلذلك جاز ، وصارت الجملة عائد «ما » ، إذ كانت لا تعمل في «ما » ، ولا تعمل «ما » فيها قال : وحَسُن مع «ما » و «من » ، لأنهما يكونان بتأويل النكرة إن شئت ، والمعرفة إن شئت ، فتقول : ضربت رجلاً ليقومنّ ، وضربت رجلاً إنه لمحسن ، فتكون «مَنْ و ما » تأويل هذا ، ومع «الذي » أقبح ، لأنه لا يكون بتأويل النكرة .
وقال آخر منهم في قوله : لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ : نَوْءُها بالعصبة : أن تُثْقلهم وقال : المعنى : إن مفاتحه لتنيءُ العصبة : تميلهن من ثقلها ، فإذا أدخلت الباء قلت : تَنُوء بهم ، كما قال : آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرَا قال والمعنى : آتوني بقطر أفرغ عليه فإذا حُذفت الباء ، زدت على الفعل ألفا في أوّله ومثله : فأجاءَها المَخاضُ معناه : فجاء بها المخاض وقال : قد قال رجل من أهل العربية : ما إن العصبة تَنُوء بمفاتحه ، فحوّل الفعل إلى المفاتح ، كما قال الشاعر :
إنّ سِرَاجا لَكَرِيمٌ مَفْخَرُهْ *** تَحْلَى بهِ العَيْنُ إذَا ما تَجْهَرُهْ
وهو الذي يحلَى بالعين ، قال : فإن كان سمع أثرا بهذا ، فهو وجه ، وإلاّ فإن الرجل جهل المعنى . قال : وأنشدني بعض العرب :
حتى إذَا ما الْتَأَمَتْ مَوَاصِلُهْ *** ونَاءَ فِي شِقّ الشّمالِ كاهِلُهْ
يعني : الرامي لِما أخذ القوس ، ونزع مال عليها . قال : ونرى أن قول العرب : ما ساءك ، وناءك من ذلك ، ومعناه : ما ساءك وأناءك من ذلك ، إلاّ أنه ألقى الألف لأنه متبع لساءك ، كما قالت العرب : أكلت طعاما فهنأني ومرأني ، ومعناه : إذا أفردت : وأمرأني فحذفت منه الألف لما أتبع ما ليس فيه ألف .
وهذا القول الاَخر في تأويل قوله : لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ : أولى بالصواب من الأقوال الأُخَر ، لمعنيين : أحدهما : أنه تأويل موافق لظاهر التنزيل . والثاني : أن الاَثار التي ذكرنا عن أهل التأويل بنحو هذا المعنى جاءت ، وأن قول من قال : معنى ذلك : ما إن العصبة لتنوء بمفاتحه ، إنما هو توجيه منهم إلى أن معناه : ما إن العصبة لتنهض بمفاتحه وإذا وجه إلى ذلك لم يكن فيه من الدلالة على أنه أريد به الخبر عن كثرة كنوزه ، على نحو ما فيه ، إذا وجه إلى أن معناه : إن مفاتحه تثقل العصبة وتميلها ، لأنه قد تنهض العصبة بالقليل من المفاتح وبالكثير . وإنما قصد جلّ ثناؤه الخبر عن كثرة ذلك ، وإذا أريد به الخبر عن كثرته ، كان لا شكّ أن الذي قاله من ذكرنا قوله ، من أن معناه : لتنوء العصبة بمفاتحه ، قول لا معنى له ، هذا مع خلافه تأويل السلف في ذلك .
وقوله : إذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ ، إنّ اللّهَ لا يُحِبّ الفَرِحِينَ يقول : إذ قال قومه : لا تبغ ولا تَبْطَر فرحا ، إن الله لا يحبّ من خلقه الأَشِرِين البَطِرِين . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله إنّ اللّهَ لا يُحِبّ الفَرِحِينَ يقول : المَرِحِين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بَزّة ، عن مجاهد ، في قوله : لا تَفْرَحْ إنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الفَرِحِينَ قال : المتبذّخين الأَشِرين البَطِرين ، الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن جابر ، قال : سمعت مجاهدا يقول في هذه الاَية إن اللّهَ لا يُحِبّ الفَرِحِينَ قال : الأَشِرين البَطِرِين البَذِخين .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوّام ، عن مجاهد ، في قوله لا تَفْرَحْ إنّ اللّهَ لا يُحِبّ الفَرِحِينَ قال : يعني به البغي .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : لا تَفْرَحْ إنّ اللّهَ لا يُحِبّ الفَرِحِينَ قال : المتبذّخين الأشرين ، الذين لا يشكرون الله فيما أعطاهم .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله إلاّ أنه قال : المتبذّخين .
حدثنا محمد بن عبد الله المُخَرّميّ ، قال : ثني شَبَابة ، قال : ثني ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد لا تَفْرَحْ إنّ اللّهَ لا يُحِبّ الفَرِحِينَ قال : الأشِرينَ البَطِرِين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، إذ قال له قومه لا تَفْرَحْ : أي لا تمرح إنّ اللّهَ لا يُحِبّ الفَرِحِينَ : أي إن الله لا يحبّ المَرِحين .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد لا تَفْرَحْ إنّ لا يُحِبّ الفَرِحِينَ قال : الأَشِرِين البطرين ، الذين لا يشكرون الله فيما أعطاهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوّام ، عن مجاهد ، في قوله إذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ ، إنّ اللّهَ لا يُحِبّ الفَرِحِينَ قال : هو فَرَح البَغْي .
{ قارون } اسم أعجمي فلذلك لم ينصرف واختلف الناس في قرابة { قارون } من { موسى } عليه السلام فقال ابن إسحاق هو عمه ، وقال ابن جريج وإبراهيم النخعي هو ابن عمه ، وهذ أشهر ، وقيل هو ابن خالته ، وهو بإجماع رجل من بني إسرائيل كان ممن أمن بموسى وحفظ التوراة وكان من أقرأ الناس لها ، وكان عند موسى من عباد المؤمنين ثم إنه لحقه الزهو والإعجاب فبغى على قومه بأنواع من البغي من ذلك كفره بموسى واستخفافه به ومطالبته له فيما قال ابن عباس بأنه عمد إلى امرأة مومسة{[9169]} ذات جمال وقال لها أنا أحسن إليك وأخلطك بأهلي على أن تجيئي في ملإ بني إسرائيل عندي فتقولي يا قارون اكفني أمر موسى فإنه يعترضني في نفسي ، فجاءت المرأة فلما وقفت على الملإ أحدث الله تعالى لها توبة ، فقالت يا بني إسرائيل إن قارون قال لي كذا وكذا ، ففضحته في جميع القصة ، وبرأ الله تعالى موسى من مطالبته ، وقيل بل قالت المرأة ذلك عن موسى فلما بلغه الخبر وقف المرأة بمحضر ملإ من بني إسرائيل فقالت يا نبي الله كذبت عليك وإنما دعاني قارون إلى هذه المقالة وكان من بغيه أنه زاد في ثيابه شبراً على ثياب الناس ، قاله شهر بن حوشب ، إلى غير ذلك مما يصدر عمن فسد اعتقاده ، وكان من أعظم الناس مالاً وسميت أمواله «كنوزاً » إذ كان ممتنعاً من أداء الزكاة وبسبب ذلك عادى موسى عليه السلام أول عداوته ، و «المفاتح » ظاهرها أنها التي يفتح بها ويحتمل أن يريد بها الخزائن والأوعية الكبار ، قاله الضحاك لأن المفتح في كلام العرب الخزانة{[9170]} .
قال القاضي أبو محمد : وأكثر المفسرون في شأن { قارون } فروي عن خيثمة أنه قال : نجد في الإنجيل مكتوباً أن مفاتيح قارون كانت من جلود الإبل وكان المفتاح من نصف شبر وكانت وقر ستين بعيراً أو بغلاً لكل مفتاح كنز .
قال الفقيه الإمام القاضي : وروي غير هذا مما يقرب منه ذلك كله ضعيف والنظر يشهد بفساد هذا ومن كان الذي يميز بعضها عن بعض وما الداعي إلى هذا وفي الممكن أن ترجع كلها إلى ما يحصى ويقدر وعلى حصره بسهولة وكان يلزم على هذا المعنى أن تكون «مفاتيح » بياء وهي قراءة الأعمش والذي يشبه إنما هو أن تكون «المفاتيح » من الحديد ونحوه وعلى هذا { تنوء بالعصبة } إذا كانت كثيرة لكثرة مخازنه وافتراقها من المواضع أو تكون «المفاتيح » الخزائن ، قال أبو صالح كانت خزائنه تحمل على أربعين بغلاً وأما قوله { تنوء } فمعناه تنهض بتحامل واشتداد ومن ذلك قول الشاعر : [ الطويل ]
ينؤن ولم يكسبن إلا قنازعاً . . . من الريش تنواء النعاج الهزائل
ومنه قول الآخر يصف رامياً : [ الرجز ]
حتى إذا ما اعتدلت مفاصله . . . وناء في شق الشمال كاهله{[9171]}
والوجه أن يقال إن العصبة تنوء بالمفاتح المثقلة لها وكذلك قال كثير من المتأولين المراد هذا لكنه قلب كما تفعل العرب كثيراً ، فمن ذلك قول الشاعر : [ الوافر ]
فديت بنفسه نفسي ومالي . . . وما آلوك إلا ما أطيق{[9172]}
ومن ذلك قول الآخر [ خداش بن زهير ] : [ الطويل ]
وتركب خيل لا هوادة بينها . . . وتشفي الرماح بالضياطرة الحمر{[9173]}
وهذا البيت لا حجة فيه إذ يتجه على وجهه فتأمله ، ومن ذلك قول الآخر :
فما كنت في الحرب العوان مغمزاً . . . إذا شب حر وقودها أجدالها{[9174]}
وقال سيبويه والخليل التقدير «لتنيء العصبة » فجعل بدل ذلك تعدية الفعل بحرف الجر كما تقول ناء الحمل وأنأته ونؤت به ، بمعنى جعلته ينوء والعرب تقول ناء الحمل بالبعير إذا أثقله .
قال الفقيه الإمام القاضي : ويحتمل أن يسند { تنوء } إلى المفاتح مجازاً لأنها تنهض بتحامل إذا فعل ذلك الذي ينهض بها وهذا مطرد في قولهم ناء الحمل بالعير ونحوه فتأمله ، واختلف الناس في { العصبة } كم هي فقال ابن عباس ثلاثة ، وقال قتادة من العشرة إلى الأربعين ، وقال مجاهد خمسة عشر حملاً ، وقيل أحد عشر حملاً على إخوة يوسف وقيل أربعون ، وقرأ بديل بن ميسرة «لينوء » بالياء وجهها أبو الفتح على أنه يقرأ «مفاتحه » جمعاً{[9175]} وذكر أبو عمرو الداني إن بديل بن ميسرة قرأ «ما إن مفتاحه » على الإفراد فيستغنى على هذا عن توجيه أبي الفتح ، وقوله تعالى : { إذ قال له قومه } ، متعلق بقوله { فبغى }{[9176]} ، ونهوه عن الفرح المطغي الذي هو انهماك وانحلال نفس وأشر وإعجاب ، و «الفرح » هو الذي تخلق دائماً بالفرح ، ولا يجب في هذا الموضع صفة فعل{[9177]} لأنه أمر قد وقع فمحال أن يرجع إلى الإرادة وإنما هو لا يظهر عليهم بركته ولا يبهم رحمته .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن قارون كان من قوم موسى} يعنى من بني إسرائيل... {فبغى عليهم} يقول: بغى قارون على بني إسرائيل من أجل كنزه ماله {وآتيناه} يعني: وأعطيناه {من الكنوز} يعني: من الأموال {ما إن مفاتحه} يعني: خزائنه {لتنوء بالعصبة أولي القوة} والعصبة من عشرة نفر إلى أربعين، فإذا كانوا أربعين فهم أولو قوة يقول: لتعجز العصبة أولي القوة عن حمل الخزائن.
{إذ قال له قومه} بنو إسرائيل: {لا تفرح} يقول: لا تمرح ولا تبطر ولا تفخر بما أوتيت من الأموال، {إن الله لا يحب الفرحين} يعني: المرحين البطرين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"إنّ قارُونَ"... "كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى "يقول: كان من عشيرة موسى بن عمران النبيّ صلى الله عليه وسلم...
وقوله: "فَبَغَى عَلَيْهِمْ "يقول: فتجاوز حدّه في الكبر والتجبر عليهم... بكثرة ماله...
وقوله: "وآتَيْناهُ مِنَ الكُنُوزِ ما إنّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ أُولي القُوّةِ" يقول تعالى ذكره: وآتينا قارون من كنوز الأموال ما إن مفاتحه، وهي جمع مفتح، وهو الذي يفتح به الأبواب.
وقال بعضهم: عنى بالمفاتح في هذا الموضع: الخزائن لتُثْقِل العصبة... عن ابن عباس، في قوله: "لَتَنُوء بالعُصْبَةِ" قال: لتثقل بالعصبة... وأما العُصبة فإنها الجماعة.
واختلف أهل التأويل في مبلغ عددها الذي أريد في هذا الموضع فأما مبلغ عدد العصبة في كلام العرب فقد ذكرناه فيما مضى باختلاف المختلفين فيه، والرواية في ذلك، والشواهد على الصحيح من قولهم في ذلك بما أغني عن إعادته في هذا الموضع، فقال بعضهم: كانت مفاتحه تنوء بعصبة مبلغ عددها أربعون رجلاً... وقال آخرون: ستون... وقال آخرون: كانت تحمل على ما بين ثلاثة إلى عشرة... وقال آخرون: كانت تحمل ما بين عشرة إلى خمسة عشرة...
وقوله: "أُولي القُوّةِ" يعني: أولي الشدّة...
فإن قال قائل: وكيف قيل "وآتَيْناهُ مِنَ الكُنُوزِ ما إنّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ" وكيف تنوء المفاتح بالعصبة، وإنما العصبة هي التي تنوء بها؟ قيل: اختلف في ذلك أهل العلم بكلام العرب؛ فقال بعض أهل البصرة: مجاز ذلك: ما إن العصبة ذوي القوّة لتنوء بمفاتح نعمه. قال: ويقال في الكلام: إنها لتنوء بها عجيزتها، وإنما هو: تنوء بعجيزتها كما ينوء البعير بحمله، قال: والعرب قد تفعل مثل هذا...
وقال آخر منهم ما إنّ مَفاتِحَهُ قال: وهذا موضع لا يكاد يبتدأ فيه «إن»، وقد قال: "إن الموت الذي تفرّون منه فإنه ملاقيكم". وقوله: "لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ" إنما العصبة تنوء بها...
وقال آخر منهم في قوله: "لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ": نَوْءُها بالعصبة أن تُثْقلهم وقال: المعنى: إن مفاتحه لتنيءُ العصبة: تميلهن من ثقلها، فإذا أدخلت الباء قلت: تَنُوء بهم، كما قال: "آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرَا" قال والمعنى: آتوني بقطر أفرغ عليه، فإذا حُذفت الباء، زدت على الفعل ألفا في أوّله ومثله: "فأجاءَها المَخاضُ" معناه: فجاء بها المخاض، وقال: قد قال رجل من أهل العربية: ما إن العصبة تَنُوء بمفاتحه، فحوّل الفعل إلى المفاتح...
وهذا القول الآخر في تأويل قوله: "لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ": أولى بالصواب من الأقوال الأُخَر، لمعنيين:
أحدهما: أنه تأويل موافق لظاهر التنزيل.
والثاني: أن الآثار التي ذكرنا عن أهل التأويل بنحو هذا المعنى جاءت، وأن قول من قال: معنى ذلك: ما إن العصبة لتنوء بمفاتحه، إنما هو توجيه منهم إلى أن معناه: ما إن العصبة لتنهض بمفاتحه، وإذا وجه إلى ذلك لم يكن فيه من الدلالة على أنه أريد به الخبر عن كثرة كنوزه، على نحو ما فيه، إذا وجه إلى أن معناه: إن مفاتحه تثقل العصبة وتميلها، لأنه قد تنهض العصبة بالقليل من المفاتح وبالكثير، وإنما قصد جلّ ثناؤه الخبر عن كثرة ذلك، وإذا أريد به الخبر عن كثرته، كان لا شكّ أن الذي قاله من ذكرنا قوله، من أن معناه: لتنوء العصبة بمفاتحه، قول لا معنى له، هذا مع خلافه تأويل السلف في ذلك.
وقوله: "إذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ، إنّ اللّهَ لا يُحِبّ الفَرِحِينَ" يقول: إذ قال قومه: لا تبغ ولا تَبْطَر فرحا، إن الله لا يحبّ من خلقه الأَشِرِين البَطِرِين... عن مجاهد، في قوله: "لا تَفْرَحْ إنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الفَرِحِينَ" قال: المتبذّخين الأَشِرين البَطِرين، الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يخوف أهل مكة، ويوعدهم ببغيهم على الله وعلى رسوله بعذاب ينزل عليهم كما نزل بقارون ببغيه على موسى وقومه إذ لم تنفعه قرابته من موسى ولا صلته به... فعلى ذلك يا أهل مكة لا ينفعكم من عذاب الله ومقته قرابتكم لرسول الله، صلوات الله عليه، وصلته بكم، والله أعلم...
{فبغى عليهم}... بكثرة ماله ودفع عذاب الله ونقمته كقول أهل مكة: {نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين} [سبإ: 35]...
وقال بعضهم: بغى عليه لأن النبوة جعلت في موسى والحبورة في هارون، ولم يجعل لقارون شيء، فاعتزل عن موسى، واتبعه ناس كثير... والأشبه أن يكون بغيه الذي ذكر عليه كبغي فرعون وهامان عليه حين قال: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين} {إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب} [غافر: 23 و24] وقال: {وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض} الآية [العنكبوت: 39] فكان منه ما كان من فرعون وهامان من التكذيب والرد لرسالته وتسميته ساحرا كذابا...
. {وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصمة أولي القوة}... وذكر أن العصبة تنوء بها، وذلك لكثرة ما ذكر...
ونحن نفسره، ولا نذكر عدده سوى أنه اسم جماعة، يتعصب بعضهم ببعض، ويعين بعضهم بعضا، يرجعون جميعا إلى أمر واحد...
وقوله تعالى: {لتنوء بالعصبة} اختلف فيه: قال بعضهم: تلك المفاتيح. وقال القتبي: {لتنوء} أي تميل بها العصبة إذا حملتها من ثقلها.. وجائز أن يكون قوله: {لا تفرح} أي لا تفتخر على الناس بما آتاك الله من المال، ولا تتكبر عليهم، ولا تفرح: لا تسكن إليها، ولا تركن إلى ذلك، إن الله لا يحب من ذكر.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله:"وآتيناه من الكنوز" أي أعطيناه كنوز الأموال، والكنز: جمع المال بعضه على بعض، وبالعرف عبارة عما يخبأ تحت الأرض، ولا يطلق اسم الكنوز في الشرع إلا على مال لا يخرج زكاته... وقوله: "إذ قال له قومه لا تفرح ان الله لا يحب الفرحين "حكاية عما قال قوم قارون لقارون حين خوفوه بالله ونهوه عن الفرح بما آتاه الله من المال، وأمروه بالشكر عليه. والفرح: المرح الذي يخرج إلى الأنس، وهو البطر... ولذلك قال تعالى: "إن الله لا يحب الفرحين" لأنه إذا أطلقت صفة فرح فهو الخارج بالمرح إلى البطر، فأما قوله: "فرحين بما آتاهم الله من فضله" فحسن جميل بهذا التقييد.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فبغى عَلَيْهِمْ} من البغي وهو الظلم... {لاَ تَفْرَحْ} كقوله: {وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتاكم} [الحديد: 23]... وذلك أنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها واطمأن. وأمّا من قلبه إلى الآخرة ويعلم أنه مفارق ما فيه عن قريب، لم تحدّثه نفسه بالفرح.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
لما قال تعالى:"وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها" [القصص: 60] بين أن قارون أوتيها واغتر بها ولم تعصمه من عذاب الله كما لم تعصم فرعون، ولستم أيها المشركون بأكثر عددا ومالا من قارون وفرعون، فلم ينفع فرعون جنوده وأمواله ولم ينفع قارون قرابته من موسى ولا كنوزه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما دل على عجزهم في تلك الدار، وعلمهم أن المتصرف في جميع الأقدار، إنما هو الواحد القهار، دل على أن ذلك له أيضاً في هذه الدار وقوع العلم به بإهلاك أولي البطر، والمرح والأشر، من غير أن يغنوا عمن أضلوا، أو يغني عنهم من أضلهم من ناطق، وما أضلهم من صامت، تطبيقاً لعموم {وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها} على بعض الجزئيات، تخويفاً لمن كذب النبي صلى الله عليه وسلم، لا سيما من نسبه إلى السحر، وإعلاماً بأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يقاطعون الأشقياء وإن كانوا أقرب الأقرباء، لأنه سبحانه عذب قارون ومن كان معه بعذاب لم يسبقهم فيه أحد، وهم من بني إسرائيل ومن أقرب بني إسرائيل إلى موسى عليه الصلاة والسلام، فعلم كل من كان اغتر بما أوتيه أن الحق لله في كل ما دعت إليه رسله، ونطقت به كتبه، وضل عنهم ما كانوا يفترون، ولم يغن عنهم شيئاً ما اعتمدوا عليه، فكان معبودهم في الحقيقة مما جمعوه من حطام الدنيا فاعتقدوا أنهم نالوا به السعادة الدائمة والعز الباقي، فكان مثله -كما يأتي في التي بعده- كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً، وكل ذلك بمرأى من موسى عليه الصلاة والسلام حين كذبه ونسبه إلى السحر وتكبر عليه، فلم يسأل الله تعالى فيه لخروجه باستكباره من الوعد بالمنة على الذين استضعفوا في الأرض، وكان ذلك العذاب الذي عذبوا به من جنس ما عذب به فرعون في الصورة من حيث إنه تغييب وإن كان ذلك في مائع، وهذا صلب جامد، ليعلم أنه قادر على ما يريد، ليدوم منه الحذر، فيما سبق منه القضاء والقدر... {فبغى عليهم} أي تجاوز الحد في احتقارهم بما خولناه فيه من هذا الحطام المتلاشي، والعرض الفاني، فقطع ما بينه وبينهم من الوصلة، ووصل ما بينه وبين فرعون وأضرابه، من الفرقة... وكان أصل "بغى "هذه: أراد، لكن لما كان العبد لا ينبغي أن يكون له إرادة، بل الإرادة لسيده كما نبه عليه {ما كان لهم الخيرة}، جعلت إرادته تجاوز الحد، وعديت ب "على" المقتضية للاستعلاء تنبيهاً على خروجها عن أصلها... {إذ قال له قومه}... وساغت نسبة القول للكل وإن كان القائل البعض، بدليل ما يأتي، إما عداً للساكت قائلاً لرضاه به لأنه مما لا يأباه أحد، وإما لأن أهل الخير هم الناس، ومن عداهم عدم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
مضت مطالع السورة بقصة موسى وفرعون، وقد عرضت فيها قوة السلطان والحكم، وكيف باءت بالبوار مع البغي والظلم، والكفران بالله، والبعد عن هداه. والآن تجيء قصة قارون لتعرض سلطان المال والعلم، وكيف ينتهي بالبوار مع البغي والبطر، والاستكبار على الخلق وجحود نعمة الخالق. وتقرر حقيقة القيم، فترخص من قيمة المال والزينة إلى جانب قيمة الإيمان والصلاح؛ مع الاعتدال والتوازن في الاستمتاع بطيبات الحياة دون علو في الأرض ولا فساد. ولا يحدد القرآن زمان القصة ولا مكانها؛ إنما يكتفي بأن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم. فهل وقعت هذه القصة وبنو إسرائيل وموسى في مصر قبل الخروج؟ أم وقعت بعد الخروج في حياة موسى؟ أم وقعت في بني إسرائيل من بعد موسى؟ هناك روايات تقول:إنه كان ابن عم لموسى -عليه السلام- وأن الحادث وقع في زمان موسى. ويزيد بعضها فيذكر أن قارون آذى موسى، ودبر له مكيدة ليلصق به تهمة الفاحشة بامرأة معينة في مقابل رشوة من المال، فبرأ الله موسى وأذن له في قارون، فخسفت به الأرض.. ولسنا في حاجة إلى كل هذه الروايات، ولا إلى تحديد الزمان والمكان. فالقصة كما وردت في القرآن كافية لأداء الغرض منها في سياق السورة، ولتقرير القيم والقواعد التي جاءت لتقريرها. ولو كان تحديد زمانها ومكانها وملابساتها يزيد في دلالتها شيئا ما ترك تحديدها. فلنستعرضها إذن في صورتها القرآنية، بعيدة عن تلك الروايات التي لا طائل وراءها..
ولا يذكر فيم كان البغي، ليدعه مجهلا يشمل شتى الصور. فربما بغى عليهم بظلمهم وغصبهم أرضهم وأشياءهم -كما يصنع طغاة المال في كثير من الأحيان- وربما بغى عليهم بحرمانهم حقهم في ذلك المال. حق الفقراء في أموال الأغنياء، كي لا يكون دولة بين الأغنياء وحدهم ومن حولهم محاويج إلى شيء منه، فتفسد القلوب، وتفسد الحياة. وربما بغى عليهم بهذه وبغيرها من الأسباب...
(لا تفرح).. فرح الزهو المنبعث من الاعتزاز بالمال، والاحتفال بالثراء، والتعلق بالكنوز، والابتهاج بالملك والاستحواذ.. لا تفرح فرح البطر الذي ينسي المنعم بالمال؛ وينسي نعمته، وما يجب لها من الحمد والشكران. لا تفرح فرح الذي يستخفه المال، فيشغل به قلبه، ويطير له لبه، ويتطاول به على العباد.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وافتتاح الجملة بحرف التوكيد يجوز أن يكون لإفادة تأكيد خبر {إن} وما عطف عليه وتعلق به مما اشتملت عليه القصة وهو سوء عاقبة الذين تغرهم أموالهم وتزدهيهم فلا يكترثون بشكر النعمة ويستخفون بالدين، ويكفرون بشرائع الله... ويجوز أن تكون {إن} لمجرد الاهتمام بالخبر ومناط الاهتمام هو مجموع ما تضمنته القصة من العبر التي منها أنه من قوم موسى فصار عدواً له ولأتباعه، فأمره أغرب من أمر فرعون.وعدل عن أن يقال: كان من بني إسرائيل، لما في إضافة {قوم} إلى {موسى} من الإيماء إلى أن لقارون اتصالاً خاصاً بموسى فهو اتصال القرابة...
وعن أبي رزين لقيط بن عامر العُقيلي أحد الصحابة أنه قال « يكفي الكوفة مفتاح» أي مفتاح واحد، أي كنز واحد من المال له مفتاح، فتكون كثرة المفاتيح كناية عن كثرة الخزائن وتلك كناية عن وفرة المال فهو كناية بمرتبتين..
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
أما ما احتوته آيات القصة من الموعظة والعبرة والحكم الأخلاقية فهو:
ـ إن الله لا يحب الفرحين المغترين بأموالهم.
ـ إن من واجب الذين أنعم الله عليهم بالثراء ألاّ يجحدوا يد الله عليهم ويبطروا وأن يذكروا دائما أن الله قد أهلك من هم أكثر قوة ومالا منهم حينما جحدوا وبطروا.
ـ إن من واجبهم أيضا أن يسلكوا سبيل القصد، وأن يذكروا أنه إذا كان لهم أن يتمتعوا بما تيسّر لهم من أسباب العيش والدعة فإن من واجبهم أن يساعدوا الآخرين ويحسنوا إليهم كما أحسن الله إليهم وأنه ليس لهم أن يستعملوا ما يسّره الله لهم في الفساد والبغي، وأن يذكروا مفاجآت الأحداث وغضب الله وأن يشكروا الله شكرا عمليّا بالاعتراف بفضله وربوبيته والتقرب إليه بصالح الأعمال، وألاّ ينسوا يوم الجزاء الأخروي الذي يحاسب فيه كل امرئ على ما فعل.
ـ إنه ينبغي لمن لم يتيسر لهم الثراء ألاّ تشرد أعينهم إليه ليحصلوا عليه بأي طريق كان ولو بالبغي والفساد، وعليهم أن يتحلوا بالقناعة والصبر ولا ينحرفوا عن الطريق القويم المشروع، وأن يتيقنوا أن ثواب الإيمان والعمل الصالح خير وأبقى وأنه لا يصل إلى هذه الغاية المثلى إلاّ الصابرون.
ـ إن الذين أوتوا العلم قاموا بواجبهم فنبهوا الذين تمنوا أن يكون لهم ما كان لقارون إلى ما هو خير من ذلك وهو ابتغاء ثواب الله بالإيمان والعمل الصالح.
ـ إن الله قد عاقب قارون على بطره وجحوده وبغيه وفساده، وأدرك الذين كانوا يتمنون أن يكون لهم ما كان له أن بسطة الرزق ليست خيرا دائما وأن فيها محكّا لأخلاق الناس وامتحانا لنوازعهم وكثيرا ما تكون عليهم نقمة وشرّا وأن الكافرين لا يفلحون قط.
ـ إن الله قد ضمن للمتقين الذين يتحاشون الفساد والتجبر في الأرض أحسن العواقب في الآخرة. وطبيعي أن هذه الحكم مستمرة المدى والشمول. وفيها من التشجيع على الفضيلة والبرّ وتقبيح الرذيلة والبغي والبطر والجحود وبثّ الطمأنينة والسكينة في نفوس المؤمنين والارتفاع بهم إلى الأفق الأعلى من مكارم الأخلاق وصالح الأعمال ما هو جليل رائع.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
يرى عقلاء القوم المتبصرون، في سلوك قارون المنحرف وعمله الفاسد، ما يثير الاشمئزاز ويستحق الانتقاد، ولا سيما ما هو عليه من المبالغة في الإعجاب بالنفس والاستعلاء على العباد، ويحاولون أن يُسْدوا إليه النصح الخالص والموعظة الحسنة، عسى أن يصلح خطأه ويقوم اعوجاجه، ويندرج في عداد من يصدق عليهم مثل قول الرسول الأعظم:"نعم المال الصالح للرجل الصالح" وذلك ما حكاه كتاب الله عنهم {إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين}.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} والظاهر أن المراد بالفرح، ليس الحالة النفسية الهادئة من السرور الطبيعي الذي يحصل للإنسان عند أية حالةٍ من حالات الانسجام مع ما حوله أو مع من حوله، لأن هذا ليس أمراً سيئاً، من خلال القيمة الإنسانية للمشاعر الخاصة، بل المراد به البطر الذي يمثل شدّة الفرح في ما يصل به الشعور إلى مستوى الإفراط في الانفعال والتعلق بمتاع الحياة الدنيا، بحيث يتحوّل إلى هزّةٍ ذاتية في تعبيراتها الكلامية والسلوكية وفي انتفاخ الشخصية بشكل غير طبيعيّ. وهذا المعنى هو ما نستوحيه من قوله تعالى في آية أخرى: {وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 23] فإن الظاهر إرادة الحالة الانفعالية من السرور الداخلي الذي يتحول إلى أجواء الخيلاء والفخر. وهذا ما يبغضه الله في الإنسان، الذي يريد له أن يكون متوازناً في انفعالاته، متواضعاً في علاقاته، هادئاً في تأثره بالأشياء المحيطة به ممّا يُفرح أو يحزن.