قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَىَ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لاُوْلِي الأبْصَارِ }
يعني بذلك جل ثناؤه : قل يا محمد للذين كفروا من اليهود الذين بين ظهراني بلدك : قد كان لكم آية يعني علامة ودلالة على صدق ما أقول إنك ستغلبون وعبرة ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ } عبرة وتفكر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله ، إلا أنه قال : ومتفكّر { في فِئَتَيْنِ } يعني في فرقتين وحزبين . والفئة : الجماعة من الناس التقتا للحرب ، وإحدى الفئتين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان معه ممن شهد وقعة بدر ، والأخرى مشركو قريش ، فئة تقاتل في سبيل الله ، جماعة تقاتل في طاعة الله وعلى دينه ، وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وأخرى كافرة وهم مشركو قريش . كما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَيَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ } أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر ، { وأُخْرَى كافرَةٌ } فئة قريش الكفار .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَيَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ } محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، { وأُخرَى كافرَةٌ } : قريش يوم بدر .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ } قال : في محمد وأصحابه ومشركي قريش يوم بدر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَيَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ } قال ذلك يوم بدر ، التقى المسلمون والكفار .
ورفعت { فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ } وقد قيل قبل ذلك في فئتين ، بمعنى : إحداهما تقاتل في سبيل الله على الابتداء ، كما قال الشاعر :
فكنتُ كَذِي رِجْلَيْنِ : رِجْلٌ صحيحةٌ *** وَرِجْلٌ رَمَى فِيها الزّمانُ فَشَلّتِ
فكنتُ كذِي رِجْلَيْنِ : رِجْلٌ صحيحةٌ *** ورِجْلٌ بِها رَيْبٌ من الحَدَثَانِ
فَأمّا التي صَحّتْ فأزْدُشَنُوءةٍ *** وَأمّا التي شَلّتْ فأزد عُمَانِ
وكذلك تفعل العرب في كل مكرر على نظير له قد تقدمه إذا كان مع المكرر خبر ترده على إعراب الأول مرة وتستأنفه ثانية بالرفع ، وتنصبه في التام من الفعل والناقص ، وقد جُرّ ذلك كلّه ، فخفض على الرد على أول الكلام ، كأنه يعني إذا خفض ذلك فكنت كذي رجلين كذي رجل صحيحة ورجل سقيمة . وكذلك الخفض في قوله : «فئة » ، جائز على الرد على قوله : «في فئتين التقتا » ، في فئة تقاتل في سبيل الله . وهذا وإن كان جائزا في العربية ، فلا أستجيز القراءة به لإجماع الحجة من القراء على خلافه ، ولو كان قوله : «فئة » جاء نصبا كان جائزا أيضا على قوله : قد كان لكم آية في فئتين التقتا مختلفتين .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأيَ العَيْنِ } .
اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته قراء أهل المدينة : «ترونهم » بالتاء ، بمعنى : قد كان لكم أيها اليهود آية في فئتين التقتا ، فئة تقاتل في سبيل الله ، والأخرى كافرة ، ترون المشركين مثلي المسلمين رأي العين . يريد بذلك عظتهم . يقول : إن لكم عبرة أيها اليهود فيما رأيتم من قلة عدد المسلمين ، وكثرة عدد المشركين ، وظفر هؤلاء مع قلة عددهم بهؤلاء مع كثرة عددهم . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة والبصرة وبعض المكيين : { يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ } بالياء ، بمعنى : يرى المسلمون الذين يقاتلون في سبيل الله الجماعة الكافرة مثلي المسلمين في القدر . فتأويل الاَية على قراءتهم : قد كان لكم يا معشر اليهود عبرة ومتفكّر في فئتين التقتا ، فئة تقاتل في سبيل الله ، وأخرى كافرة ، يرى هؤلاء المسلمون مع قلة عددهم هؤلاء المشركين في كثرة عددهم .
فإن قال قائل : وما وجه تأويل قراءة من قرأ ذلك بالياء ، وأي الفئتين رأت صاحبتها مثليها ؟ الفئة المسلمة هي التي رأت المشركة مثليها ، أم المشركة هي التي رأت المسلمة كذلك ، أم غيرهما رأت إحداهما كذلك ؟ قيل : اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : الفئة التي رأت الأخرى مثلي أنفسها الفئة المسلمة ، رأت عدد الفئة المشركة مثلي عدد الفئة المسلمة ، قلّلها الله عز وجل في أعينها حتى رأتها مثلي عدد أنفسها ، ثم قللها في حال أخرى ، فرأتها مثل عدد أنفسها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وأُخْرَى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رأيَ العَيْنِ } قال : هذا يوم بدر ، قال عبد الله بن مسعود : قد نظرنا إلى المشركين ، فرأيناهم يضعفون علينا ، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحدا ، وذلك قول الله عز وجل : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلّلُكُمْ فِي أعْيُنِهِمْ } .
فمعنى الاَية على هذا التأويل : قد كان لكم يا معشر اليهود آية في فئتين التقتا : إحداهما مسلمة ، والأخرى كافرة ، كثير عدد الكافرة ، قليل عدد المسلمة ، ترى الفئة القليل عددها ، الكثير عددها أمثالاً لها أنها تكثرها من العدد بمثل واحد ، فهم يرونهم مثليهم ، فيكون أحد المثلين عند ذلك ، العدد الذي هو مثل عدد الفئة التي رأتهم ، والمثل الاَخر : الضعف الزائد على عددهم ، فهذا أحد معنيي التقليل الذي أخبر الله عز وجل المؤمنين أنه قللهم في أعينهم¹ والمعنى الاَخر منه : التقليل الثاني على ما قاله ابن مسعود ، وهو أن أراهم عدد المشركين مثل عددهم لا يزيدون عليهم ، فذلك التقليل الثاني الذي قال الله جل ثناؤه : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أعْيُنِكُمْ قَلِيلاً } .
وقال آخرون من أهل هذه المقالة : إن الذين رأوا المشركين مثلي أنفسهم هم المسلمون ، غير أن المسلمين رأوهم على ما كانوا به من عددهم ، لم يقللوا في أعينهم ، ولكن الله أيدهم بنصره . قالوا : ولذلك قال الله عز وجل لليهود : قد كان لكم فيهم عبرة¹ يخوفهم بذلك أن يحل بهم منهم ، مثل الذي حل بأهل بدر على أيديهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ } . أنزلت في التخفيف يوم بدر ، فإنّ المؤمنين كانوا يومئذٍ ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، وكان المشركون مثليهم ، فأنزل الله عز وجل : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئْتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رأيَ العَيْنِ } وكان المشركون ستة وعشرين وستمائة ، فأيد الله المؤمنين ، فكان هذا الذي في التخفيف على المؤمنين .
وهذه الرواية خلاف ما تظاهرت به الأخبار عن عدة المشركين يوم بدر ، وذلك أن الناس إنما اختلفوا في عددهم على وجهين ، فقال بعضهم : كان عددهم ألفا ، وقال بعضهم : ما بين التسعمائة إلى الألف . ذكر من قال كان عددهم ألفا :
حدثني هارون بن إسحاق الهمداني ، قال : حدثنا مصعب بن المقدام ، قال : حدثنا إسرائيل ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن حارثة ، عن علي ، قال : سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر ، فسبقنا المشركين إليها ، فوجدنا فيها رجلين ، منهم رجل من قريش ، ومولى لعقبة بن أبي معيط¹ فأما القرشي فانفلت ، وأما مولى عقبة ، فأخذناه ، فجعلنا نقول : كم القوم ؟ فيقول : هم والله كثير شديد بأسهم . فجعل المسلمون إذا قال ذلك صدّقوه ، حتى انتهوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : «كَمِ القَوْمُ ؟ » فقال : هم والله كثير شديد بأسهم . فجهد النبي صلى الله عليه وسلم على أن يخبرهم كم هم ، فأبى . ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله : «كَمْ تَنْحَرُون مِنَ الجُزُرِ ؟ » قال : عشرة كل يوم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «القَوْمُ ألْفٌ » .
حدثني أبو سعيد بن يوشع البغدادي ، قال : حدثنا إسحاق بن منصور ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة عن عبد الله ، قال : أسرنا رجلاً منهم يعني من المشركين يوم بدر فقلنا : كم كنتم ؟ قال : ألفا .
ذكر من قال : كان عددهم ما بين التسعمائة إلى الألف :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : قال ابن إسحاق : ثني يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم نفرا من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له عليه ، فأصابوا راوية من قريش فيها أسلم غلام بني الحجاج ، وعريض أبو يسار غلام بني العاص ، فأتوا بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما : «كَمِ القَوْم ؟ » قالا : كثير . قال : «ما عِدّتُهُمْ ؟ » قالا : لا ندري . قال : «كَمْ تَنْحَرُونَ كُلّ يَوْمٍ ؟ » قالا : يوما تسعا ويوما عشرا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «القَوْمُ مَا بَيْنَ التّسْعِمَائَةِ إلى الألْفِ » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فَئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيهِمْ رأيَ العَيْنِ } ذلكم يوم بدر ألف المشركون ، أو قاربوا ، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ } إلى قوله : { رأيَ العَيْنِ } قال : يضعفون عليهم فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين يوم بدر .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رأيَ العَيْنِ } قال : كان ذلك يوم بدر ، وكان المشركون تسعمائة وخمسين ، وكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وثلاثة عشر .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وبضعة عشر ، والمشركون ما بين التسعمائة إلى الألف .
فكل هؤلاء الذين ذكرنا مخالفون القول الذي رويناه عن ابن عباس في عدد المشركين يوم بدر . فإذا كان ما قاله من حكيناه ممن ذكر أن عددهم كان زائدا على التسعمائة ، فالتأويل الأول الذي قلناه على الرواية التي روينا عن ابن مسعود أولى بتأويل الاَية .
وقال آخرون : كان عدد المشركين زائدا على التسعمائة ، فرأى المسلمون عددهم على غير ما كانوا به من العدد ، وقالوا : أرى الله المسلمين عدد المشركين قليلاً آية للمسلمين . قالوا : وإنما عنى الله عز وجل بقوله : { يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ } المخاطبين بقوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ } قالوا : وهم اليهود غير أنه رجع من المخاطبة إلى الخبر عن الغائب ، لأنه أمر من الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك لهم ، فحسن أن يخاطب مرة ، ويخبر عنهم على وجه الخبر مرة أخرى ، كما قال : { حتى إذَا كُنْتُمْ فِي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيّبَةٍ } .
وقالوا : فإن قال لنا قائل : فكيف قيل : { يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأيَ العَيْنِ } وقد علمتم أن المشركين كانوا يومئذٍ ثلاثة أمثال المسلمين ؟ قلنا لهم : كما يقول القائل وعنده عبد : أحتاج إلى مثله ، أنا محتاج إليه وإلى مثله ، ثم يقول : أحتاج إلى مثليه ، فيكون ذلك خبرا عن حاجته إلى مثله وإلى مثلي ذلك المثل ، وكما يقول الرجل : معي ألف وأحتاج إلى مثليه ، فهو محتاج إلى ثلاثة¹ فلما نوى أن يكون الألف داخلاً في معنى المثل ، صار المثل أشرف والاثنان ثلاثة ، قال : ومثله في الكلام : أراكم مثلكم ، كما يقال : إن لكم ضعفكم ، وأراكم مثليكم ، يعني أراكم ضعفيكم ، قالوا : فهذا على معنى ثلاثة أمثالهم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أن الله أرى الفئة الكافرة عدد الفئة المسلمة مثلي عددهم . وهذا أيضا خلاف ما دل عليه ظاهر التنزيل ، لأن الله جل ثناؤه قال في كتابه : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلّلُكُمْ فِي أعْيُنِهِمْ } فأخبر أن كلاً من الطائفتين قُلل عددهم في مرأى الأخرى .
وقرأ آخرون ذلك : «تُرَوْنَهم » بضم التاء ، بمعنى : يريكموهم الله مثليهم .
( وأولى هذه القراءات بالصواب قراءة من قرأ : { يَرَوْنَهُمْ } بالياء ، بمعنى : وأخرى كافرة ، يراهم المسلمون مثليهم ، يعني : مثلي عدد المسلمين ، لتقليل الله إياهم في أعينهم في حال ، فكان حزرهم إياهم كذلك ، ثم قللهم في أعينهم عن التقليل الأول ، فحزروهم مثل عدد المسلمين ، ثم تقليلاً ثالثا ، فحزروهم أقل من عدد المسلمين . ) كما :
حدثني أبو سعيد البغدادي ، قال : حدثنا إسحاق بن منصور ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله ، قال : لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي : تراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة . قال : فأسرنا رجلاً منهم ، فقلنا كم كنتم ؟ قال : ألفا .
وقد رُوي عن قتادة أنه كان يقول : لو كانت «تُرونهم » ، لكانت «مثليكم » .
حدثني المثنى ، قال : ثني عبد الرحمن بن أبي حماد ، عن ابن المعرك ، عن معمر ، عن قتادة بذلك .
ففي الخبرين اللذين روينا عن عبد الله بن مسعود ما أبان عن اختلاف حزر المسلمين يومئذٍ عدد المشركين في الأوقات المختلفة ، فأخبر الله عز وجل عما كان من اختلاف أحوال عددهم عند المسلمين اليهود على ما كان به عندهم ، مع علم اليهود بمبلغ عدد الفئتين ، إعلاما منه لهم أنه مؤيد المؤمنين بنصره ، لئلا يغتروا بعددهم وبأسهم ، وليحذروا منه أن يحل بهم من العقوبة على أيدي المؤمنين ، مثل الذي أحل بأهل الشرك به من قريش على أيديهم ببدرهم .
وأما قوله : { رأيَ العَيْنِ } فإنه مصدر رأيته ، يقال : رأيته رَأْيا ورؤية ، ورأيت في المنام رؤيَا حسنة غير مُجْراة ، يقال : هو مني رأي العين ورأي العين بالنصب والرفع ، يراد حيث يقع عليه بصري ، وهو من الرائي مثله ، والقوم رأوا إذا جلسوا حيث يرى بعضهم بعضا . فمعنى ذلك : يرونهم حيث تلحقهم أبصارهم ، وتراهم عيونهم مثليهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللّهُ يُوءَيّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنّ فِي ذَلِكَ لَعْبَرَةً لأُولِي الأبْصَارِ } .
يعني بقوله جل ثناؤه : { واللّهُ يُوءَيّد } : يقوّي بنصره من يشاء ، من قول القائل : قد أيدت فلانا بكذا : إذا قويته وأعنته ، فأنا أؤيده تأييدا ، و«فعلت » منه : إدْتُه فأنا أئيده أيدا¹ ومنه قول الله عز وجل : { وَاذْكُرْ عَبْدَنا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ } يعني ذا القوة .
وتأويل الكلام : قد كان لكم آية يا معشر اليهود في فئتين التقتا : إحداهما تقاتل في سبيل الله ، وأخرى كافرة ، يراهم المسلمون مثليهم رأي أعينهم ، فأيدنا المسلمة وهم قليل عددهم ، على الكافرة وهم كثير عددهم حتى ظفروا بهم معتبر ومتفكر ، والله يقوي بنصره من يشاء . وقال جل ثناؤه : إن في ذلك : يعني إن فيما فعلنا بهؤلاء الذين وصفنا أمرهم من تأييدنا الفئة المسلمة مع قلة عددهم ، على الفئة الكافرة مع كثرة عددها { لَعِبْرَةً } يعني لمتفكرا ومتعظا لمن عقل وادّكر فأبصر الحق . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { إِنّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأبْصَارِ } يقول : لقد كان لهم في هؤلاء عبرة وتفكر ، أيدهم الله ونصرهم على عدوهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .
{ قد كان لكم آية } الخطاب لقريش أو لليهود ، وقيل للمؤمنين . { في فئتين التقتا } يوم بدر . { فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم } يرى المشركون المؤمنين مثلي عدد المشركين ، وكان قريبا من ألف ، أو مثلي عدد المسلمين وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ، وذلك كان بعد ما قللهم في أعينهم حتى اجترؤوا عليهم وتوجهوا إليهم ، قلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا مددا من الله تعالى للمؤمنين ، أو يرى المؤمنون المشركين مثلي المؤمنين وكانوا ثلاثة أمثالهم ليثبتوا لهم ويتيقنوا بالنصر الذي وعدهم الله به في قوله : { فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين } . ويؤيده قراءة نافع ويعقوب بالتاء وقرئ بهما على البناء للمفعول أي يريهم الله ، أو يريكم ذلك بقدرته ، وفئة بالجر على البدل من فئتين والنصب على الاختصاص ، أو الحال من فاعل التفتا . { رأي العين } رؤية ظاهرة معاينة { والله يؤيد بنصره من يشاء } نصره كما أيد أهل بدر . { إن في ذلك } أي التقليل والتكثير ، أو غلبة القليل عديم العدة في الكثير شاكي السلاح ، وكون الواقعة آية أيضا يحتملها ويحتمل وقوع الأمر على ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم . { لعبرة لأولى الأبصار } أي لعظة لذوي البصائر . وقيل لمن أبصرهم .
الخطاب في قوله : { قد كان لكم آية } خطاب للذين كفروا ، كما هو الظاهر ؛ لأنّ المقام للمحاجّة ، فأعقب الإنذار والوعيد بإقامة الحجّة . فيكون من جملة المقول ، ويجوز أن يكون الخطاب للمسلمين ، فيكون استئنافاً ناشئاً عن قوله ستُغلبون ؛ إذ لعلّ كثرة المخاطبين من المشركين ، أو اليهود ، أو كليهما ، يثير تعجّب السامعين من غلبهم فذكرهم الله بما كان يوم بدر .
والفئتان هما المسلمون والمشركون يوم بدر .
والالتقاء : اللقاء ، وصيغة الافتعال فيه للمبالغة ، واللقاء مصادفة الشخصصِ شخصاً في مَكان واحد ، ويطلق اللقاء على البروز للقتال كما في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار } وسيأتي . والالتقاء يطلق كذلك كقول أنيف بن زبان :
فلما التقينا بين لسيف بيننا *** لسائلة عنا حفي سؤالها .
وقوله { فئة تقاتل } تفصيل للفئتين ، وهو مرفوع على أنه صدر جملة للاستئناف في التفصيل والتقسيم ، الوارد بعد الإجمال والجمع .
والفئة : الجماعة من الناس ، وقد نقدم الكلام عليها في قوله تعالى { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } في سورة البقرة .
والخطاب في { ترونهم } كالخطاب في قوله : { قد كان لكم } .
والرؤية هنا بصرية بقوله { رأي العين } والظاهر أن الكفار رأو المسلمين يوم بدر عند اللقاء والتلاحم مثلي عددهم ، فوقع الرعب في قلوبهم فانهزموا . فهذه الرؤية جعلت آية لمن رأوها وتحققوا بعد الهزيمة أنهم كانوا واهمين فيما رأوه ليكون ذلك أشد حسرة لهم ، وتكون هذه الرؤية غير الرؤية المذكورة في الأنفال بقوله : { ويقللكم في أعينهم } فإن تلك يناسب أن تكون وقعت قبل التلاحم ، حتى يستخف المشركون بالمسلمين ، فلا يأخذوا أهميتهم للقائهم ، فلما لاقوهم رأوهم مثلي عددهم فدخلهم الرعب والهزيمة ، وتحققوا قلة المسلمين بعد انكشاف الملحمة فقد كانت إرادة القلة وإرادة الكثرة سببي نصر المسلمين بعجيب صنع الله تعالى . وجوز أن يكون المسلمون رأوا المشركين مثلي عدد المؤمنين ، وكان المشركون ثلاثة أمثالهم ، فقللهم الله في أعين المسلمين لئلا يفشلوا لأنهم قد علموا من قبل أن المسلم يغلب كافرَين فلو علموا أنهم ثلاثة أضعافهم لخافو الهزيمة ، وتكون هذه الإراءة هي الإراءة المذكورة في سورة الأنفال { وإذ يريكموهم إذ القتيتم في أعينكم قليلا } ويكون ضمير الغيبة في قوله { مثليهم } راجعا للمسلمين على طريقة الالتفات ، وأصله ترونهم مثليكم على أنه من المقول .
وقرأ نافع وأبو جعفر ويعقوب : ترونهم – بناء الخطاب – وقرأه الباقون بياء الغيبة : على أنه حال من { أخرى كافرة } ، أو من { فئة تقاتل في سبيل الله } أي مثلي عدد المرئين . إن كان الراءون هم المشركون ، أو مثلي عدد الرائين ، إن كان الراءون هم المسلمين . لأن كليهما جرى ضميره على الغيبة وكلتا الرؤيتين قد وقعت يوم بدر وكل فئة علمت رؤيتها وتُحديت بهاته الآية ، وعلى هذه القراءة يكون العدول عن التغيير بفئتكم إلى قوله { فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة } لقصد صلوحية ضمير الغيبة لكلتا الفئتين ، فيفيد اللفظ آيتين على التوزيع بطريقة التوجيه .
و { رأي العين } مصدر مبين لنوع الرؤية : إذ كان فعل رأى يحتمل البصر والقلب وإضافته إلى العين دليل على أنه يستعمل مصدرا لرأى القلبية . كيف والرأي اسم للعقل ، وتشار فيها رأى البصرية ، بخلاف الرؤية فخاصة بالبصرية .
وجملة { والله يؤيد بنصره من يشاء } تذييل لأن تلك الرؤية كيفما فسرت تأييد للمسلمين . قال تعالى { إذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا } .