التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا عَرَّضۡتُم بِهِۦ مِنۡ خِطۡبَةِ ٱلنِّسَآءِ أَوۡ أَكۡنَنتُمۡ فِيٓ أَنفُسِكُمۡۚ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ سَتَذۡكُرُونَهُنَّ وَلَٰكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّآ أَن تَقُولُواْ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗاۚ وَلَا تَعۡزِمُواْ عُقۡدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ ٱلۡكِتَٰبُ أَجَلَهُۥۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ فَٱحۡذَرُوهُۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٞ} (235)

ثم بين - سبحانه - حكم الخطبة للنساء المعتدات بياناً يقوم على أدب النفس ، وأدب الاجتماع ، ورعاية المشاعر والعواطف مع رعاية المصالح والضرورات فقال - تعالى - :

{ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ . . . }

قوله - تعالى - : { فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ } أي : لو حتم وأشرتم به . من التعريض الذي هو ضد التصريح ومعناه أن يضمن كلامه ما يصلح للدلالة على مقصوده ، ويصلح لدلالة على غير مقصوده ، إلا أن إشعاره بجانب المقصود أتم وأرجح وأصله من عرض الشيء - بضم العين - أي جانبه ومن أمثلته أن يقول الفقير المحتاج للمحتاج إليه : جئتك لأسلم عليك . . وهو يقصد عطاءه .

و { خِطْبَةِ النسآء } مخاطبة المرأة أو أوليائها في أمر زواجها . والخطبة - بكسر الخاء كالجلسة - مأخوذة من الخطب أي الشأن لأنها شأن من الشئون وقيل من الخطاب لأنها نوع - مخاطبة تجري بين جانب الرجل وجانب المرأة . والمراد خطبة النساء اللائي فارقهن أزواجهن . و { أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ } أخفيتم وأسررتم من الإِكنان وهوالإِضمار من غير إعلان .

والمعنى : ولا حرج ولا إثم عليكم أيها الرجال المبتغون للزواج في التعريض بخطبة المرأة أثناء عداتها لتتزوجوهن بعد انقضائها ، كما أنه لا إثم عليكم كذلك في الرغبة في الزواج بهن ، مع إخفاء ذلك وستره من غير كشف وإعلان لأن التصريح بالخطبة أثناء العدة عمل يتنافى مع آداب الإسلام ، ومع تعاليم شريعته ، ومع الأخلاق الكريمة ، والعقول السليمة ، والنفوس الشريفة .

قال القرطبي : قال ابن عطية : أجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو نص في تزوجها وتنبيه عليه لا يجوز ، وكذلك أجمعت على أن الكلام معه بما هو رفث وذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز وكذلك ما أشبهه وجوز ما عدا ذلك . ولا يجوز التعريض لخطبة المطلقة طلاقاً رجعياً إجماعاً لأنها كالزوجة . وأما من كانت في عدة البينونة فالصحيح جواز التعريض لخطبتها " .

والتعريض في خطبة النساء أساليبه مختلفة ، ومما ذكره العلماء في هذا الشأن أن يقول الرجل للمرأة : أني أرغب في الزواج أو أن يقول لوليها : لا تسبقني بها إلى غيري .

ومن أساليب التعريض ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مع السيدة أم سلمة ، فقد جخل عليها وهي متأيمة من زوجها أبي سلمة فقال لها : " لقد علمت أني رسول الله وخيرته وموضعي في قومي " فكان كلامه خطبة لها بأسلوب التعريض .

ومنها ما ذكره صاحب الكشاف عن عبد الله بن سليمان عن خالته - سكينة بنت حنظلة - قالت : " دخل على أبو جعفر محمد بن علي وأنا في عدتي فقال : قد علمت قرابتي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقرابتي من جدي علي بن أبي طالب ، وموضعي في العرب ، وقدمي في الإِسلام . قالت : فقلت : غفر الله لك يا أبا جعفر ! أتخطبني في عدتي وأنت يؤخذ عنك ؟ فقال : أو قد فعلت إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعي .

وقوله - تعالى - : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ } إلخ معطوف على ما قبله في الآية السابقة لأن الكلام في الآيتين في الأحكام المتعلقة بعدة النساء .

و ( ما ) في قوله : { فِيمَا عَرَّضْتُمْ } موصولة . و { مِنْ خِطْبَةِ النسآء } بيان لما ، و ( آل ) في النساء للعهد والمعهودات هن الزوجات اللائي سبق الحديث عنهن في الآيات التي قبل هذه . و { أَوْ } في قوله : { أَوْ أَكْنَنتُمْ } للإِباحة أو التخيير ، ومفعول أكن محذوف يعود إلى ما الموصولة في قوله : { فِيمَا عَرَّضْتُمْ } والتقدير : أو أكننتموه . { في أَنْفُسِكُمْ } متعلق بأكننتم .

وقوله - تعالى - : { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } كالتعليل لما قبله وهو قوله : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ } إلخ . ونهى عما يردى ويفسد ، وإباحة لما لا ضرر فيه .

أي : علم الله أنكم يا معشر الرجال ستذكرون هؤلاء النسوة المعتدات بمالهن من جمال ومن حسن عشرة ومن غير ذلك من شئونهن وأن تفكروا فيهن وتهفوا إليهن نفوسكم ، والله - تعالى - فضلا منه وكرماً قد أباح لكم أن تذكروهن ولكنه ينهاكم عن أن تواعدوهن وعداً سرياً بأن تقولوا لهم في السر ما تستحيون من قوله في العلن لقبحه ومنافاته للشرع .

وقوله : { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } استثناء مما يدل عليه النهي لا تواعدوهن مواعدة ما إلا مواعدة معروفة غير منكرة شرعاً ، وهي ما تكون بطريق التلويح والتعريض .

وفي قوله سبحانه : { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } بيان لما جبلت عليه النفس البشرية من ميل فطري بين الرجال والنساء ، والإِسلام لا ينكر هذا الميل وإنما يهذبه ويقومه ويصقله بآدابه الحميدة ، وتعاليمه السامية .

وقوله : { ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } استدراك على محذوف دل عليه { سَتَذْكُرُونَهُنَّ } أي : فاذكروهن { ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } .

قال القرطبي ما ملخصه : واختلف العلماء في المراد بالسر في قوله - تعالى - : { ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } فقيل معناه نكاحاً ، أي لا يقل الرجل لهذه المعتدة تزوجيني بل يعرض إن أراد ، ولا يأخذ ميثاقها وعهدها ألا تنكح غيره في استسرار وخفية . هذا قول جمهور أهل العلم . و " سراً " على هذا التأويل نصب على الحال أي مسرين - وسمي النكاح سراً لأن مسببه الذي هو الوطء ما يسر - وقيل السر الزنا ، أي لا يكونن من كم مواعدة على الزنا في العدة ثم التزوج بعدها . أي لا تواعدوهن زنا . واختاره الطبري . ومنه قول الأعشى :

فلا تقربن جارة إن سرها . . . عليك حرام فانكحن أو تأبداً

أي : " فتزوجها أو ابتعد عنها . وقيل السر الجماع "

والذي تطمئن إليه النفس أن كلمة ( سرا ) صفة لموصوف محذوف أي لا تواعدهن وعدا سرية ، يقال فيها كل ما ينهى عنه أو يستحيا منه في العلن ، لقبه أو لأن أوانه لم يحن بعد ، إذ السرية ، أو الخلوة بين الرجل والمرأة لا تؤمن مزالقها .

وفي الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما " وأن المراد بقوله : { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } هو التعريض بالخطبة ، وإظهار المودة بطريقة لا تفضى إلى محرم .

قال صاحب الكشاف في قوله : { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } وهو أن تعرّضوا ولا تصرحوا .

فإن قلت بم يتعلق حرف الاستثناء ؟ قلت : بلا تواعدوهن . أي لا تواعدوهن مواعدة قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة : أي لا تواعدوهن إلا بالتعريض .

ثم قال - تعالى - : { وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ } .

العزم : القطع والتصميم ، يقال عزم على الشيء إذا صمم وعقد القلب على فعله ، وهو يتعدى بعلى وبنفسه فيقال : عزم اليء وعزم عليه .

وعقدة النكاح : الارتباط الموثق به . وأصل العقد الشد ، والعهود والأنكحة تسمى عقودا لأنها تقعد وتوثق كما يوثق بالحبل .

والمراد بالكتاب هنا الأمر المكتوب المفروض وهو العدة التي حدد الله لها وقتاً معيناً .

والأجل : هو نهاية المدة التي قررها الشرع للعدة .

والمعنى : لا يسوغ لكم يا معشر الرجال الراغبين في الزواج من النساء اللائي فارقهن أزواجهن أن تعقدوا العزم نهائياً في أثناء العدة على أن تتموا الزواج بعدها ، بأن تحول الخطبة من التعريض إلى التصريح ، أو تبتوا في أمر الزواج بتاً قاطعاً بمواعدة أو نحوها ، إذ العاقل لا يستعجل أمرا قبل حلول وقته ، وإنما الذي يسوغ لكلم أن تتموا عقد الزواج بعد انتهاء العدة وبعد أن يكون جو الأحزان قد فتر وجفت حدته .

والنهي عن العزم على عقد النكاح نهي بالأولى عن إبرامه وتنفيذه ، لأن العزم على الفعل يتقدمه ، فإذا نهى عنه كان الفعل أنهى ، فهو كالنهي عن الاقتراب من حدود الله في قوله : { حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا } وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد أباحت شيئين ، ونهت عن شيئين : أباحت التعريض بالخطبة للمرأة أثناء عدتها ، كما أباحت إخفاء هذه الرغبة في الأنفس وحديثها بها . ويشهد لذلك قوله - تعالى - : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ } ونهت عن المواعدة سراً إلا أن يقولوا قولا معروفاً عن طريق التعريض ، أو أن يسار الرجل المرأة بالقول المعروف الذي أباحه الشرع وارتضته العقول السليمة ، والأخلاق الفاضلة ، بأن يعدها في السر بالإِحسان إليها والاهتمام بشأنها والتكفل بمصالحها حتى يصير ذكر هذه الأشياء الجميلة مؤكداً لذلك التعريض . أما الشيء الثاني الذي نهت عنه فهو العزم على عقدة النكاح قبل انقضاء العدة . ويشهد لهذا قوله - تعالى - : { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ } .

وبعد هذه الأوامر والنواهي ختم الله - تعالى - الآية بقوله : { واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في أَنْفُسِكُمْ فاحذروه واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ } .

أي : اعلموا أيها الناس أن الله - تعالى - يعلم ما يجول في نفوسكم من خير أو شر ، وما تهجس به خطرات قلوبكم من مقاصد واتجاهات ، فاحذروا أن تقصدوا ما هو شر ، أو تفعلوا ما هو منكر ، واعلموا أنه - تعالى - غفور لمن تاب وعمل صالحاً ، حليم لا يعاجل الناس بالعقوبة ، ولا يؤاخذهم إلا بما كسبوا .

فالجملة الكريمة تحذير وتبشير ، وترغيب وترهيب ، لكي لا يتجاسر الناس على ارتكاب ما نهي الله عنه ، ولا ييأسوا من رحمته متى تابوا وأنابوا .

هذا ، وقد أجمع العلماء أنها تصير محرمة عليه تحريماً مؤبداً ، ولا يحل له نكاحها ركلك لأنه استحل ما لا يحل فعوقب بحرمانه ، كالقاتل يعاقب بحرمانه من ميراث المقتول . وقيل : يفسخ النكاح ويفرق بينهما فإذا انتهت العدة حلت له ولم يتأبد التحريم . ولكل فريق أدلته المبسوطة في كتب الفقه .

وبذلك تكون الآية الكريمة قد أرشدت الناس إلى ما يقره الشرع ، ويرتضيه الخلق الكريم ، ونهتهم عما يتنافى مع تعاليم الإِسلام بأسلوب حكيم جمع بين الشدة واللين ، والخوف والرجاء ، حتى يثوب المخطئون إلى رشدهم ويقلعوا عن خطئهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا عَرَّضۡتُم بِهِۦ مِنۡ خِطۡبَةِ ٱلنِّسَآءِ أَوۡ أَكۡنَنتُمۡ فِيٓ أَنفُسِكُمۡۚ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ سَتَذۡكُرُونَهُنَّ وَلَٰكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّآ أَن تَقُولُواْ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗاۚ وَلَا تَعۡزِمُواْ عُقۡدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ ٱلۡكِتَٰبُ أَجَلَهُۥۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ فَٱحۡذَرُوهُۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٞ} (235)

وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ( 235 )

المخاطبة بهذه الآية لجميع الناس ، والمباشر لحكمها هو الرجل في نفسه تزويج معتدة ، والتعريض هو الكلام الذي لا تصريح فيه كأنه يعرض لفكر المتكلم به( {[2234]} ) ، وأجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو نص في تزويجها وتنبيه عليه لا يجوز ، وكذلك أجمعت على أن الكلام معها بما هو رفث وذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز . وجوز ما عدا ذلك ، ومن أعظمه( {[2235]} ) قرباً إلى التصريح قول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس : «كوني عند أم شريك ولا تسبقيني بنفسك »( {[2236]} ) . ومن المجوز قول الرجل : إنك لإلى خير ، وإنك لمرغوب فيك ، وإني لأرجو أن أتزوجك ، وإن يقدر أمر يكن ، هذا هو تمثيل مالك وابن شهاب وكثير من أهل العلم في هذا ، وجائز أن يمدح نفسه ويذكر مآثره على جهة التعريض بالزواج ، وقد فعله أبو جعفر محمد بن علي بن حسين ، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله مع أم سلمة( {[2237]} ) ، والهدية إلى المعتدة جائزة ، وهي من التعريض ، قاله سحنون وكثير من العلماء .

قال القاضي أبو محمد : وقد كره مجاهد أن يقول لا تسبقيني بنفسك ، ورآه من المواعدة سراً ، وهذا عندي على أن يتأول قول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس إنه على جهة الرأي لها فيمن يتزوجها لا أنه أرادها لنفسه ، وإلا فهو( {[2238]} ) خلاف لقوله صلى لله عليه وسلم ، والخطبة بكسر الخاء فعل الخطاب من كلام وقصد واستلطاف بفعل أو قول ، يقال خطبها يخطبها خطباً وخطبة ورجل خطّاب كثير التصرف في الخطبة ، ومنه قول الشاعر( {[2239]} ) : [ الرجز ]

برح بالعينين خطّاب الكثبْ . . . يقول إني خاطب وقد كذبْ

وإنما يخطب عساً من حلبْ . . . والخطبة «فِعلة » كجلسة «وقِعدة » ، والخُطبة بضم الخاء هي الكلام الذي يقال في النكاح وغيره ، { أو أكننتم } معناه سترتم وأخفيتم ، تقول العرب : كننت الشيء من( {[2240]} ) الأجرام ، إذا سترته في بيت أو ثوب أو أرض ونحوه ، وأكننت الأمر في نفسي ، ولم يسمع من العرب كننته في نفسي ، وتقول أكن البيت الإنسان ونحو هذا ، فرفع الله الجناح عمن أراد تزوج المعتدة مع التعريض ومع الإكنان( {[2241]} ) ، ونهى عن المواعدة التي هي تصريح بالتزويج وبناء عليه واتفاق على وعد ، فرخص لعلمه تعالى بغلبة النفوس وطمحانها وضعف البشر عن ملكها ، وقوله تعالى { ستذكرونهن } ، قال الحسن : معناه ستخطبونهن .

قال القاضي أبو محمد : كأنه( {[2242]} ) قال إن لم تنهوا ، وقال غير الحسن : معناه علم الله أنكم ستذكرون النساء المعتدات في نفوسكم وبألسنتكم لمن يخف عندكم فنهى عن أن يوصل إلى التواعد معها لما في ذلك من هتك حرمة العدة ، وقوله تعالى : { ولكن لا تواعدوهن سراً } ذهب ابن عباس وابن جبير ومالك وأصحابه والشعبي ومجاهد وعكرمة والسدي وجمهور أهل العلم إلى أن المعنى لا توافقوهن بالمواعدة والتوثق وأخذ العهود في استسرار منكم وخفية ، ف { سراً } على هذا التأويل نصب على الحال أي مستسرين .

وقال جابر بن زيد وأبو مجلز( {[2243]} ) لاحق بن حميد والحسن بن أبي الحسن والضحاك وإبراهيم النخعي : السر في هذه الآية الزنا أي لا تواعدوهن زنى .

قال القاضي أبو محمد : هكذا جاءت عبارة هؤلاء في تفسير السر وفي ذلك عندي نظر ، وذلك أن السر في اللغة يقع على الوطء حلاله وحرامه ، لكن معنى الكلام وقرينته ترد إلى أحد الوجهين ، فمن الشواهد قول الحطيئة : [ الوافر ]

وَيَحْرُمُ سِرُّ جَارتِهِمْ عَلَيْهِمْ . . . وَيَأْكُلُ جَارُهُمْ أَنْفَ القِصَاعِ( {[2244]} )

فقرينة هذا البيت تعطي أن السر أراد به الوطء حراماً ، وإلا فلو تزوجت الجارة كما يحسن لم يكن في ذلك عار ، ومن الشواهد قول الآخر : [ الطويل ]

أَخَالَتَنَا سِرُّ النّساءِ مُحَرَّمٌ . . . عليَّ ، وَتَشْهَادُ النَّدامى مَعَ الْخَمْرِ

لئن لم أصبّحْ داهناً ولفيفَها . . . وناعبَها يوماً براغيةِ البكْرِ( {[2245]} )

فقرينة هذا الشعر تعطي أنه أراد تحريم جماع النساء عموماً في حرام وحلال حتى ينال ثأره ، والآية تعطي النهي عن أن يواعد الرجل المعتدة أن يطأها بعد العدة بوجه التزويج ، وأما المواعدة في الزنى فمحرم على المسلم مع معتدة وغيرها ، وحكى مكي عن ابن جبير أنه قال : «سراً : نكاحاً » ، وهذه عبارة مخلصة ، وقال ابن زيد : «معنى قوله { ولكن لا تواعدوهن سراً } أي لا تنكحوهن وتكتمون ذلك فإذا حلت أظهرتموه ودخلتم بهن » .

قال القاضي أبو محمد : فابن زيد في معنى السر مع القول الأول أي خفية ، وإنما شذ في أن سمى العقد مواعدة ، وذلك قلق لأن العقد متى وقع وإن تكتم به فإنما هو في عزم العقدة( {[2246]} ) ، وحكى مكي عنه أنه قال : «الآية منسوخة بقوله : { ولا تعزموا عقدة النكاح } وأجمعت الأمة على كراهية المواعدة في العدة للمرأة في نفسها ، وللأب في ابنته البكر ، وللسيد في أمته ، قال ابن المواز : فأما الولي الذي لا يملك الجبر فأكرهه ، وإن نزل لم أفسخه ، وقال مالك رحمه الله فيمن يواعد في العدة ثم يتزوج بعدها : فراقها أحب إليّ دَخَلَ بها أو لم يدخل وتكون تطليقة واحدة ، فإذا حلت خطبها مع الخطاب ، هذه رواية ابن وهب ، وروى أشهب عن مالك أنه يفرق بينهما إيجاباً( {[2247]} ) ، وقاله ابن القاسم ، وحكى ابن حارث مثله عن ابن الماجشون ، وزاد ما يقتضي أن التحريم يتأبد ، وقوله تعالى : { إلا أن تقولوا قولاً معروفاً } استثناء ، منقطع ، والقول المعروف هو ما أبيح من التعريض ، وقد ذكر الضحاك أن من القول المعروف أن يقول الرجل للمعتدة احبسي عليَّ نفسك فإن لي بك رغبة ، فتقول هي وأنا مثل ذلك .

قال القاضي أبو محمد : وهذه عندي مواعدة ، وإنما التعريض قول الرجل : إنكم لأكفاء كرام ، وما قدر كان ، وإنك لمعجبة ، ونحو هذا .

قوله عز وجل :

{ وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ }

عزم العقدة عقدها بالإشهاد والولي ، وحينئذ تسمى { عقدة }( {[2248]} ) ، وقوله تعالى { حتى يبلغ الكتاب أجله } يريد تمام العدة ، و { الكتاب } هنا هو الحد الذي جعل والقدر الذي رسم من المدة ، سماه كتاباً إذ قد حده وفرضه كتاب الله ، كما قال : { كتاب الله عليكم }( {[2249]} ) [ النساء : 24 ] ، وكما قال : { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً }( {[2250]} ) [ النساء : 103 ] ، ولا يحتاج عندي في الكلام إلى حذف مضاف ، وقد قدر إسحاق في ذلك حذف مضاف أي فرض الكتاب ، وهذا( {[2251]} ) على أن جعل الكتاب القرآن ، واختلف أهل العلم إن خالف أحد هذا النهي وعزم العقدة قبل بلوغ الأجل .

قال القاضي أبو محمد : وأنا أفصل المسألة إن شاء الله تعالى( {[2252]} ) ، أما إن عقد العدة وعثر عليه ففسخ الحاكم نكاحه وذلك قبل الدخول : فقول عمر بن الخطاب وجماعة من العلماء إن ذلك لا يؤبد تحريماً ، وقاله مالك وابن القاسم في المدونة في آخر الباب الذي يليه ضرب أجل امرأة المفقود ، وقال الجميع : يكون خاطباً من الخطّاب ، وحكى ابن الجلاب عن مالك رواية أن التحريم يتأبد في العقد في العدة وإن فسخ قبل الدخول ، وأما إن عقد في العدة ودخل بعد انقضائها فقال قوم من أهل العلم : ذلك كالدخول في العدة يتأبد التحريم بينهما ، وقال قوم من أهل العلم : لا يتأبد بذلك تحريم ، وقال مالك مرة : يتأبد التحريم ، وقال مرة : وما التحريم بذلك بالبين ، والقولان له في المدونة في طلاق السنة ، وأما إن دخل في العدة فقول عمر بن الخطاب ومالك وجماعة من أصحابه والأوزاعي والليث وغيرهم من أهل العلم : إن التحريم يتأبد( {[2253]} ) ، وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن مسعود وإبراهيم وأبي حنيفة والشافعي وجماعة من العلماء وعبد العزيز بن أبي سلمة : إن التحريم لا يتأبد( {[2254]} ) وإن وطىء في العدة ، بل يفسخ بينهما ثم تعتد منه ثم يكون خاطباً من الخطاب ، قال أبو حنيفة والشافعي : تعتد من الأول فإذا انقضت العدة فلا بأس أن يتزوجها الآخر ، وحكى ابن الجلاب رواية في المذهب أن التحريم لا يتأبد مع الدخول في العدة ، ذكرها في العالم بالتحريم المجترىء لأنه زان ، وأما الجاهل فلا أعرف فيها خلافاً في المذهب .

حدثني أبو علي الحسين بن محمد الغساني مناولة( {[2255]} ) ، قال ن أبو عمر بن عبد البر( {[2256]} ) ، ن عبد الوارث بن سفيان( {[2257]} ) ، ن قاسم بن أصبغ( {[2258]} ) ، عن محمد بن إسماعيل( {[2259]} ) ، عن نعيم بن حماد( {[2260]} ) ، عن ابن المبارك( {[2261]} ) ، عن أشعث( {[2262]} ) ، عن الشعبي( {[2263]} ) ، عن مسروق( {[2264]} ) ، قال : بلغ عمر بن الخطاب أن امرأة من قريش تزوجها رجل من ثقيف في عدتها ، فأرسل إليهما ففرق بينهما وعاقبهما ، وقال : «لا تنكحها أبداً » . وجعل صداقها في بيت المال ، وفشا ذلك في الناس ، فبلغ علياً فقال : «يرحم الله أمير المؤمنين ، ما بال الصداق وبيت المال ؟ إنما جهلا فينبغي للإمام أن يردهما إلى السنة » ، قيل : فما تقول أنت فيها ؟ . قال : لها الصداق بما استحل من فرجها ، ويفرق بينهما ، ولا حد عليهما ، وتكمل عدتها من الأول ، ثم تعتد من الثاني عدة كاملة ثلاثة أقراء ، ثم يخطبها إن شاء «فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فخطب الناس فقال : » يا أيها الناس ردوا الجهالات إلى السنة « ، وهذا قول الشافعي والليث في العدة من اثنين( {[2265]} ) ، وقال مالك وأصحاب الرأي والأوزاعي والثوري : عدة واحدة تكفيهما جميعاً سواء كانت بالحمل أو بالإقراء أو بالأشهر ، وروى المدنيون عن مالك مثل قول علي بن أبي طالب والشافعي في إكمال العدتين ، واختلف قول مالك رحمه الله في الذي يدخل في العدة عالماً بالتحريم مجترماً ، فمرة قال : العلم والجاهل فيه سواء( {[2266]} ) لا حد عليه ، والصداق له لازم ، والولد لاحق ، ويعاقبان ولا يتناحكان أبداً ، ومرة قال : العالم بالتحريم كالزاني( {[2267]} ) يحد ، ولا يلحق به الولد ، وينكحها بعد الاستبراء ، والقول الأول أشهر عن مالك رحمه الله .

وقوله تعالى { واعلموا } إلى آخر الآية : تحذير من الوقوع فيما نهى عنه ، وتوقيف على غفره وحلمه في هذه الأحكام التي بيَّنَ ووسَّعَ فيها من إباحة التعريض ونحوه( {[2268]} ) .


[2234]:- وفي بعض النسخ: «المكلم به» وفي الحديث الشريف: (إن من المعاريض لمندوحة عن الكذب).
[2235]:- أي التعريض.
[2236]:- ثم قال لها صلى الله عليه وسلم: (تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدي عند ابن أم مكثوم فإنه رجل أعمى، فإذا حللت فآذنيني). وحديث فاطمة بنت قيس رواه الإمام مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
[2237]:- روى الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة – وهي متأيمة من أبي سلمة- فقال: (لقد علمت أني رسول الله وخيرته، وموضعي في قومي). وكانت تلك خطبة، وروى أبو يعلى –في مسنده- عن أنس رضي الله عنه قال: لما حضرت أبا سلمة الوفاة قالت أم سلمة: إلى من تكلني ؟ فقال: اللهم إنك لأم سلمة خير من أبي سلمة فلما خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني كبيرة السن، فقال: (أنا أكبر منك سنا). وسند هذا الحديث جيد، والله أعلم.
[2238]:- أي قول مجاهد، وذلك أنه خلاف قول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: (لا تسبقيني بنفسك). اللهم إلا إذا تأولنا ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم أراد أن ينظر لها من يتزوجها.
[2239]:- أي الراجز: والكثبة: ما قلّ من طعام أو لبن أو غير ذلك، قال ابن الأعرابي: «يقال للرجل – إذا جاء يطلب القِرى بعلة الخِطبة: إنه ليخطب كُثبة» وهي بضم فتح. والعَسُّ: القدح الكبير.
[2240]:- بيان للشيء، والأجرام: جمع جِرْم بكسر الجيم.
[2241]:- هو إضمار تزوجها في نفسه من دون تصريح ولا تعريض. فالإكنان: الإضمار في النفس، والكَنُّ: صون الشيء ومنه قوله تعالى: [كأنهن بيض مكنون].
[2242]:- وفي بعض النسخ: قال القاضي أبو محمد رحمه الله: كأنه قال: إن لم تنهوا.
[2243]:- أبو مجلز: لاحق بن حميد السدوسي البصري، ثقة، وكان أعور، توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز.
[2244]:- السِّر هنا: الزنى – لأنه يسوقه في مقام التحريم، كما قال ابن عطية – فهم يراعون حرمة المجاهرة في هذا المجال – وكذلك يقدمون لجارهم أطيب الطعام – لأن المراد بأنف القصاع أول ما يؤكل منها لأن أنف كل شيء أوله، فالضيف يأكل أولا، ثم ما بقي يقدم لغيره. ومثل هذا البيت في مجي (السِّر) بمعنى الزنى قول الأعشى: ولا تقربَنَّ جارةً إنَّ سِرَّهــا عَلَيْك حَرامٌ فانْكِحْنَ أو تأبَّــدا فالنكاح في زاوج شرعي ليس حراماً.
[2245]:- البيتان للشاعر: مرضاوي بن سعوة المهري. وقد قال قصيدة منها هذان البيتان يخاطب عجوزاً من قومه هي التي يقول لها: أخالتنا – القصة أنه حدثت عداوة وخصومة بين ثلاثة بطون من قضاعة هي: (داهن – وناعب – ورئام) – فقد انضمت (داهن وناعب) معاً ضد (رئام)، والشاعر حين يخاطب خالته العجوز يقول لها ما معناه: إن النساء علي حرام في زواج شرعي، وفي كل لقاء غير شرعي، وكذلك يحرُم عليّ مسامرة الندامى، وشهود مجالس الخمر معهم حتى أصبح بطني (داهن وناعب) ومن لفَّ لفهما براغية البكر، أي بالعنف والشؤم والشدة حتى انتقم لبطن (رئام) – والبكر بفتح الباء هو الفتي من الإبل فالمراد بكلمة (سر النساء) هنا هو الجماع في حلال أو حرام. وأقوله: (أُصبِّح) أي أُداهمهم في الصباح، وكانت عادة العرب أن يغيروا على أعدائهم في الصباح. وجعلت راغية البكر دليلا على الشؤم والشدة لأن رغاء ناقة صالح كان نذيراً لهم بالفناء والهلاك.
[2246]:- أي في معنى قوله تعالى: [ولا تعزموا عقدة النكاح] ومن ثم حكى مكي رحمه الله عنه أنه قال: الآية منسوخة بقوله تعالى: [ولا تعزموا عقدة النكاح].
[2247]:- لأن النهي يقتضي الفساد فهو للتحريم، ووجوب الفراق أصح نظرا من الاستحباب.
[2248]:- أي لا تعقدوا النكاح حتى تنقضي العدة، ولا يراد به النهي عن العزم على النكاح بعد العدة لأن ذلك مباح بقوله تعالى: [أو أكننتم في أنفسكم].
[2249]:- من الآية (24) من سورة (النساء).
[2250]:- من الآية (103) من سورة (النساء).
[2251]:- أي حذف المضاف بناءً على أن المراد بالكتاب القرآن، وأما إذا أُريد به الفرض والحد الذي رسمه القرآن فلا يحتاج إلى حذف. وأبو إسحاق هو الزجاج.
[2252]:- خلاصة ما فصله أنه إن عقد في العدة وفسخه الحاكم قبل الدخول فالجمهور أن ذلك لا يؤبد تحريما، والعاقد يكون واحداً من الخطاب فيما بعد، وإن عقد فيها ودخل بعدها فقولان: بالتأبيد وعدمه. وإن عقد ودخل فيها فرأيان كذلك بالتأبيد وعدمه، والمشهور عند مالك – رحمه الله – في الصورة الثانية والثالثة التأبيد. قال أبو (ح): «وانتصاب (عقدة) على المفعول به لتضمين (تعْزموا) معنى ما يتعدى بنفسه. فَضُمِّن معنى: تَنْوُوا، وقيل: انتصب (عقدة) على المصدر، ومعنى (تعزموا): تعقدوا – وقيل: انتصب على إسقاط حرف الجر، أي: ولا تعزموا على عقدة النكاح – حكى سيبويه أن العرب تقول: ضرب زيد الظهر والبطن- أي على الظهر والبطن، وقال الشاعر: ولقد أبيتُ على الطَّوى وأظَلُّـــه حتى أنال به كريم المــأكـلِ أي: وأظَلُّ عليه: فحذف (على) ووصل الفعل إلى الضمير فنصبه، وأصل الفعل أن يتعدى بِعَلَى قال الشاعر: عَزَمْتُ على إقامةِ ذِي صَبَـــاح لأمـر ما يُسَوَّد مَنْ يَسُـــودُ». ولعل في هذا البيت دليلا على أن عزم تتعدى بنفسها كما تتعدى بحرف الجر، وقد سبق الحديث في هذا عند تفسير قوله تعالى: [وإن عزموا الطلاق]، وفي ذلك رد على أكثر المحدثين الذين نصُّوا على أن عزم تتعدى بنفسها ومن الخطأ أن تتعدى بعلى- ولعلّ أول من نصَّ على ذلك هو ابن السكيت في كتابه العظيم "إصلاح المنطق".
[2253]:- والحجة في ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لا يجتمعان أبداً، ففي الموطأ روى مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، وعن سليمان بن يسار، أن طليحة كانت تحت رشيد الثقفي فطلقها فنكحت في عدتها، فضربها عمر رضي الله عنه وضرب زوجها بالمخفقة ضربات وفرق بينهما، ثم قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول، ثم كان الآخر خاطبا من الخطاب، وإن دخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدّتها من الأول، ثم اعتدت من الآخر، ثم لا يجتمعان أبدا». قال سعيد: «ولها مهرها بما استحل من فرجها» انتهى. وقد أنكر الحافظ ابن عبد البر أن تكون طليحة أسدية، قال: وإنما هي أخت طلحة بن عبد الله التيمي، قال الحافظ بن كثير: قال البيهقي: «ذهب الشافعي رحمه الله إلى ما ذهب إليه مالك، ثم رجع عنه لقول علي: إنها تحل له»، قال: ثم إن الأثر منقطع.
[2254]:- وحجتهم إجماع العلماء على أنه لو زنى بالمعتدة لم يحرم عليه تزويجها فكذلك وطؤه إياها في العدة – وأن عمر رضي الله عنه رجع في ذلك وجعلهما يجتمعان، وذلك ما أسنده ابن عطية رحمه الله من طريق أبي عمر بن عبد البر- وفي اتفاق عمر وعلي رضي الله عنهما على نفي الحد عن المتعاقدين ما يدل على أن النكاح الفاسد لا يوجب الحد إلا أنه مع الجهل بالتحريم متفق عليه، ومع العلم به مختلف فيه، والله أعلم.
[2255]:- هو الحسين بن محمد بن أحمد، أبو علي الغساني القرطبي، إمام عصره في الحديث، له معرفة برجاله وصحيحه وسقيمه، ورحل إليه الناس من كل قطر ومكان، أخذ عن أبي عمر بن عبد البر، وأبي عبد الله بن عات، وأبي الوليد الباجي، وغيرهم، ولم تكن له رحلة، سمع عنه جماعة من أهل الأندلس وغيرهم، وحدث عنه القاضي عياض إجازة، توفي سنة 429 هجرية.
[2256]:- أبو عمر هو يوسف بن عبد البر، بن عبد الله، بن محمد النمري – شيخ علماء الأندلس، وكبير محدثيها في وقته، وأحفظ من كان فيها، وكان القاضي أبو الوليد الباجي يقول: لم يكن بالأندلس مثل أبي عمر بن عبد البر في الحديث، ويقول: أبو عمر أحفظ أهل المغرب، وألف تآليف مفيدة منها: "التمهيد، لما في الموطأ من المعاني والأسانيد"، وهو كتاب لا يأتي الزمان بمثله، وقلما يسمح بظروف بعثه، وكتاب: "الاستذكار، بمذاهب علماء الأمصار، فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار" وكتاب: "الاستيعاب، في أسماء الأصحاب"، وغير ذلك، توفي رحمه الله بشاطبة سنة 363هـ، وقد توفي هو والخطيب البغدادي الحافظ في سنة واحدة، وكان الخطيب حافظ المشرق، وأبو عمر حافظ المغرب، رحمهما الله ونفع بعلومهما وآثارهما.
[2257]:- هو عبد الوارث بن سفيان: أبو القاسم القرطبي الحافظ، ويعرف بالحبيب أكثر عن القاسم بن أصبغ، وكان من أوثق الناس فيه، وحمل عنه أبو عمر بن عبد البر الكثير توفي سنة 395هـ.
[2258]:- هو ابن أصبغ، بن محمد، بن يوسف، أبو محمد القرطبي سمع من شيوخ الأندلس ورحل إلى المشرق فأدرك الناس متوافرين فسمع بمكة من محمد بن إسماعيل الصائغ، وعلي بن عبد العزيز، وبالعراق من القاضي إسماعيل، ومحمد بن إسماعيل الترمذي، وبمصر من محمد بن عبد الله العمري، وروح بن الفرج المالكي، ورجع إلى الأندلس بعلم كثير، وسكن قرطبة فكان قدره عظيما، وسمع منه أمير المؤمنين الناصر لدين الله وعبد الرحمن ابن محمد، وولي عهده، وطال عمره فلحق الأصاغر فيه الأكابر وشارك الآباء فيه الأبناء، وهو من أئمة المالكية، وألف مؤلفات في علم الحديث، وفي أحكام القرآن توفي سنة 340هـ.
[2259]:- محمد بن إسماعيل هو: ابن يوسف أبو يوسف الترمذي الحافظ الثقة المتوفي سنة 280هـ. سمع منه قاسم بالعراق، وهو أنسب بهذا السند من محدث مكة محمد بن إسماعيل الصائغ الذي كان قد سمع منه قاسم أيضا.
[2260]:- نعيم بن حماد هو: أبو عبد الله الخزاعي المروزي أحد علماء الأثر، سمع ابن المبارك وأبا حمزة السكري وطبقتهما، وصنف التصانيف العديدة، وله غلطات ومناكير مغمورة في كثرة ما روى. وامتحن بخلق القرآن فلم يجب، فحبس وقُيِّد ومات في الحبس رحمه الله سنة 229هـ قاله الذهبي في: «العبر في خير من غبر».
[2261]:- ابن المبارك هو: عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي، أبو عبد الرحمن المروزي أحد الأئمة الأعلام، وشيوخ الإسلام، قال ابن عُيَيْنَة: ابن المبارك عالم المشرق والمغرب وما بينهما توفي سنة 181هـ، وله ترجمة كبيرة في الحلية.
[2262]:- أشعت هو: ابن سوار الكوفي، قال الذهبي في "الميزان": قال ابن عدي: لم أجد لأشعت حديثا منكراً، إنما يغلط في الأحاديث في الأسانيد ويخالف. قال الفلاص: توفي سنة 136هـ، وفي "العبر" أنه توفي سنة 146هـ.
[2263]:- الشعبي هو: عامر بن شراحيل الحميري، أبو عمرو الكوفي، الإمام العلَم، أدرك خمسمائة من الصحابة، قال ابن عُيَيْنَة: كان الناس يقولون: ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه. وقال العجلي: مرسل الشعبي صحيح توفي سنة 103هـ.
[2264]:- مسروق هو: ابن الأجدع الهمداني، أبو عائشة الكوفي الإمام القدوة، قال ابن معين: لا يسأل عن مثله، توفي سنة 36هـ. وإنما شرحنا هذا السند العشاري لنعرف قيمة الأثر في هذا الموضع الذي وضعه ابن عطية رحمه الله.
[2265]:- هذه المسألة تعرف بمسألة العِدّتين – وهي مشهورة في مذهب الشافعية، وأما المالكية فالمشهور عندهم أن عدة واحدة كافية.
[2266]:- سبق للمؤلف قوله: إنه لا خلاف في المذهب بالنسبة إلى الجاهل، وإنما الخلاف بالتأبيد وعدمه في العالم بالتحريم.
[2267]:- أي والزاني لا يحرم عليه نكاح المزني بها، وهذا القول له حظّ من النظر، وفيه إنقاذ من الخطر، والله أعلم.
[2268]:- يعني أنه سبحانه غفور لذنوب عباده، وذو أناةٍ، لا يعجل بالعقوبة على الذنب.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا عَرَّضۡتُم بِهِۦ مِنۡ خِطۡبَةِ ٱلنِّسَآءِ أَوۡ أَكۡنَنتُمۡ فِيٓ أَنفُسِكُمۡۚ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ سَتَذۡكُرُونَهُنَّ وَلَٰكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّآ أَن تَقُولُواْ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗاۚ وَلَا تَعۡزِمُواْ عُقۡدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ ٱلۡكِتَٰبُ أَجَلَهُۥۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ فَٱحۡذَرُوهُۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٞ} (235)

عطف على الجملة التي قبلها ، فهذا من الأحكام المتعلقة بالعدة ، وقد تضمنت الآيات التي قبلها أحكام عدة الطلاق وعدة الوفاة ، وأن أمد العدة محترم ، وأن المطلقات إذا بلغن أجلهن جاز أن يفعلن في أنفسهن ما أردن من المعروف ، فعلم من ذلك أنهن إذا لم يبلغنه لا يجوز ذلك فالتزوج في مدة الأجل حرام ، ولما كان التحدث في التزوج إنما يقصد منه المتحدث حصول الزواج ، وكان من عادتهم أن يتسابقوا إلى خطبة المعتدة ومواعدتها ، حرصاً على الاستئثار بها بعد انقضاء العدة فبينت الشريعة لهم تحريم ذلك ، ورخصت في شيء منه ولذلك عطف هذا الكلام على سابقه .

والجناح الإثم وقد تقدم في قوله تعالى : { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } [ البقرة : 158 ] .

وقوله : { ما عرضتم به } ما موصولة ، وما صْدَقها كلام ، أي كلام عرضتم به ، لأن التعريض يطلق على ضرب من ضروب المعاني المستفادة من الكلام ، وقد بينه بقوله : { من خطبة النساء } فدل على أن المراد كلام .

ومادة فعَّل فيه دالة على الجعل مثل صوَّر ، مشتقة من العرض بضم العين وهو الجانب أي جعل كلامه بجانب ، والجانب هو الطرف ، فكأن المتكلم يحيد بكلامه من جادة المعنى إلى جانب . ونظير هذا قولهم جَنَبَه ، أي جعله في جانب . فالتعريض أن يريد المتكلم من كلامه شيئاً ، غير المدلول عليه بالتركيب وضعاً ، لمناسبة بين مدلول الكلام وبين الشيء المقصود ، مع قرينة على إرادة المعنى التعريضي ، فعلم ألابد من مناسبة بين مدلول الكلام وبين الشيء المقصود ، وتلك المناسبة : إما ملازمة أو مماثلة ، وذلك كما يقول العافى لرجل كريم : جئت لأسلم عليك ولأنظر وجهك ، وقد عبر عن إرادتهم مثل هذا أمية بن أبي الصلت في قوله :

إذَا أَثَنى عليكَ المرءُ يوماً *** كفاهُ عن تَعَرُّضه الثَّنَاء

وجعل الطيبي منه قوله تعالى : { وإذا قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } [ المائدة : 116 ] . فالمعنى التعريضي في مثل هذا حاصل من الملازمة ، وكقول القائل « المسلم من سلم المسلمون من لسانه » في حضرة من عرف بأذى الناس ، فالمعنى التعريضي حاصل من علم الناس بمماثلة حال الشخص المقصود للحالة التي ورد فيها معنى الكلام ، ولما كانت المماثلة شبيهة بالملازمة لأن حضور المماثل في الذهن يقارن حضور مثيله صح أن نقول إن المعنى التعريضي بالنسبة إلى المركبات شبيه بالمعنى الكنائي بالنسبة إلى دلالة الألفاظ المفردة ، وإن شئت قلت : المعنى التعريضي من قبيل الكناية بالمركب فخص باسم التعريض كما أن المعنى الكنائي من قبيل الكناية باللفظ المفرد ، وعلى هذا فالتعريض من مستتبعات التراكيب ، وهذا هو الملاقى لما درج عليه صاحب « الكشاف » في هذا المقام ، فالتعريض عنده مغاير للكناية من هذه الجهة وإن كان شبيهاً بها ، ولذلك احتاج إلى الإشارة إلى الفرق بينهما ، فالنسبة بينهما عنده التباين .

وأما السكاكي فقد جعل بعض التعريض من الكناية وهو الأصوب ، فصارت النسبة بينهما العموم والخصوص الوجهي ، وقد حمل الطيبي والتفتازاني كلام « الكشاف » على هذا ، ولا إخاله يتحمله .

وإذ قد تبين لك معنى التعريض ، وعلمت حد الفرق بينه وبين الصريح فأمثلة التعريض والتصريح لا تخفى ، ولكن فيما أثر من بعض تلك الألفاظ إشكال لا ينبغي الإغضاء عنه في تفسير هذه الآية .

إن المعرض بالخطبة تعريضه قد يريده لنفسه وقد يريده لغيره بوساطته ، وبين الحالتين فرق ينبغي أن يكون الحكم في المتشابه من التعريض ، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة ابنة قيس ، وهي في عدتها من طلاق زوجها عمرو بن حفص آخر الثلاث « كوني عند أم شريك ولا تسبقيني بنفسك » أي لا تستبدي بالتزوج قبل استئذاني وفي رواية « فإذا حللت فآذنيني » وبعد انقضاء عدتها خطبها لأسامة بن زيد ، فهذا قول لا خطبة فيه وإرادة المشورة فيه واضحة .

ووقع في « الموطأ » : أن القاسم بن محمد كان يقول في قوله تعالى : { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء } أن يقول الرجل للمرأة وهي في عدتها من وفاة زوجها : « إنك عليَّ لكريمة وإني فيك لراغب » .

فأما إنك عليَّ لكريمة فقريب من صريح إرادة التزوج بها وما هو بصريح ، فإذا لم تعقبه مواعدة من أحدهما فأمره محتمل ، وأما قوله إني فيك لراغب فهو بمنزلة صريح الخطبة وأمره مشكل ، وقد أشار ابن الحاجب إلى إشكاله بقوله : « قالوا ومثل إني فيك لراغب أكثر هذه الكلمات تصريحاً فينبغي ترك مثله » ويذكر عن محمد الباقر أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض لأم سلمة في عدتها من وفاة أبي سلمة ، ولا أحسب ما روي عنه صحيحاً .

وفي « تفسير ابن عرفة » : « قيل إن شيخنا محمد بن أحمد بن حيدرة كان يقول : « إذا كان التعريض من أحد الجانبين فقط وأما إذا وقع التعريض منهما فظاهر المذهب أنه كصريح المواعدة » .

ولفظ النساء عام لكن خص منه ذوات الأزواج ، بدليل العقل ويخص منه المطلقات الرجعيات بدليل القياس ودليل الإجماع ، لأن الرجعية لها حكم الزوجة بإلغاء الفارق ، وحكى القرطبي الإجماع على منع خطبة المطلقة الرجعية في عدتها ، وحكى ابن عبد السلام عن مذهب مالك جواز التعريض لكل معتدة : من وفاة أو طلاق ، وهو يخالف كلام القرطبي ، والمسألة محتملة لأن للطلاق الرجعي شائبتين ، وأجاز الشافعي التعريض في المعتدة بعد وفاة ومنعه في عدة الطلاق ، وهو ظاهر ما حكاه في « الموطأ » عن القاسم بن محمد .

وقوله : { أو أكننتم في أنفسكم } الإكنان الإخفاء . وفائدة عطف الإكنان على التعريض في نفي الجناح ، مع ظهور أن التعريض لا يكون إلاّ عن عزم في النفس ، فنفي الجناح عن عزم النفس المجرد ضروري من نفي الجناح عن التعريض ، أنَّ المراد التنبيه على أن العزم أمر لا يمكن دفعه ولا النهي عنه ، فلما كان كذلك ، وكان تكلم العازم بما عزم عليه جبلة في البشر ، لضعف الصبر على الكتمان ، بين الله موضع الرخصة أنه الرحمة بالناس ، مع الإبقاء على احترام حالة العدة ، مع بيان علة هذا الترخيص ، وأنه يرجع إلى نفي الحرج ، ففيه حكمة هذا التشريع الذي لم يبين لهم من قبل .

وأخر الإكنان في الذكر للتنبيه على أنه أفضل وأبقى على ما للعدة من حرمة ، مع التنبيه على أنه نادر وقوعه ، لأنه لو قدمه لكان الانتقال من ذكر الإكنان إلى ذكر التعريض جارياً على مقتضى ظاهر نظم الكلام في أن يكون اللاَّحق زائد المعنى على ما يشمله الكلام السابق ، فلم يتفطن السامع لهذه النكتة ، فلما خولف مقتضى الظاهر علم السامع أن هذه المخالفة ترمي إلى غرض ، كما هو شأن البليغ في مخالفة مقتضى الظاهر ، وقد زاد ذلك إيضاحاً بقوله عقبه : { علم الله أنكم ستذكرونهن } أي علم أنكم لا تستطيعون كتمان ما في أنفسكم ، فأباح لكم التعريض تيسيراً عليكم ، فحصل بتأخير ذكر { أو أكننتم } فائدة أخرى وهي التمهيد لقوله : { علم الله أنكم ستذكرونهن } وجاء النظم بديعاً معجزاً ، ولقد أهمل معظم المفسرين التعرض لفائدة هذا العطف ، وحاول الفخر توجيهه بما لا ينثلج له الصدر{[186]} ووجهه ابن عرفة بما هو أقرب من توجيه الفخر ، ولكنه لا تطمئن له نفس البليغ{[187]} .

فقوله : { ولكن لا تواعدوهن سراً } استدراك دل عليه الكلام ، أي علم الله أنكم ستذكرونهن صراحة وتعريضاً ؛ إذ لا يخلو ذو عزم من ذكر ما عزم عليه بأحد الطريقين ، ولما كان ذكر العلم في مثل هذا الموضع كناية عن الإذن كما تقول : علمت أنك تفعل كذا تريد : إني لا أؤاخذك لأنك لو كنت تؤاخذه ، وقد علمت فعله ، لآخذته كما قال : { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم } [ البقرة : 187 ] هذا أظهر ما فسر به هذا الاستدراك وقيل : هذا استدراك على كلام محذوف أي فاذكروهن ولكن لا تواعدوهن ، أي لا تصرحوا وتواعدوهن ، أي تعدوهن ويعدنكم بالتزوج .

والسر أصله ما قابل الجهر ، وكنى به عن قربان المرأة قال الأعشى :

ولا تقربنَّ جارة إنَّ سِرَّها *** عليك حرام فانكحن أو تأبدوا

وقال امرؤ القيس :

ألا زعمتْ بسباسَةُ الحي أنني *** كبرْتُ وأن لا يحسن السر أمثالي

والظاهر أن المراد به في هاته الآية حقيقته ، فيكون { سراً } منصوباً على الوصف لمفعول مطلق أي وعداً صريحاً سراً ، أي لا تكتموا المواعدة ، وهذا مبالغة في تجنب مواعدة صريح الخطبة في العدة .

وقوله : { إلا أن تقولوا قولاً معروفاً } استثناء من المفعول المطلق أي إلا وعداً معروفاً ، وهو التعريض الذي سبق في قوله : { فيما عرضتم به } فإن القول المعروف من أنواع الوعد إلا أنه غير صريح ، وإذا كان النهي عن المواعدة سراً ، علم النهي عن المواعدة جهراً بالأولى ، والاستثناء على هذا في قوله : { إلا أن تقولوا قولاً معروفاً } متصل ، والقول المعروف هو المأذون فيه ، وهو التعريض ، فهو تأكيد لقوله : { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به } الآية .

وقيل : المراد بالسر هنا كناية ، أي لا تواعدوهن قرباناً ، وكنى به عن النكاح أي الوعد الصريح بالنكاح ، فيكون { سراً } مفعولاً به لتواعدوهن ، ويكون الاستثناء منقطعاً ، لأن القول ليس من أنواع النكاح ، إذ النكاح عقد بإيجاب وقبول ، والقول خطبة : صراحة أو تعريضاً وهذا بعيد : لأن فيه كناية على كناية ، وقيل غير ذلك مما لا ينبغي التعريج عليه ، فإن قلتم حظر : صريح الخطبة والمواعدة ، وإباحة التعريض بذلك يلوح بصور التعارض ، فإن مآل التصريح والتعريض واحد ، فإذا كان قد حصل بين الخاطب والمعتدة العلم بأنه يخطبها وبأنها توافقه ، فما فائدة تعلق التحريم والتحليل بالألفاظ والأساليب ، إن كان المفاد واحداً قلت : قصد الشارع من هذا حماية أن يكون التعجل ذريعة إلى الوقوع فيما يعطل حكمة العدة ، إذ لعل الخوض في ذلك يتخطى إلى باعث تعجل الراغب إلى عقد النكاح على المعتدة بالبناء بها ؛ فإن دبيب الرغبة يوقع في الشهوة ، والمكاشفة تزيل ساتر الحياء فإن من الوازع الطبيعي الحياء الموجود في الرجل ، حينما يقصد مكاشفة المرأة بشيء من رغبته فيها ، والحياء في المرأة أشد حينما يواجهها بذلك الرجل ، وحينما تقصد إجابته لما يطلب منها ، فالتعريض أسلوب من أساليب الكلام يؤذن بما لصاحبه من وقار الحياء فهو يقبض عن التدرج إلى ما نهي عنه ، وإيذانه بهذا الاستحياء يزيد ما طبعت عليه المرأة من الحياء فتنقبض نفسها عن صريح الإجابة ، بله المواعدة فيبقى حجاب الحياء مسدولاً بينهما وبرقع المروءة غير منضى وذلك من توفير شأن العدة فلذلك رخص في التعريض تيسيراً على الناس ، ومنع التصريح إبقاء على حرمات العدة .

وقوله : { ولا تعزموا عقدة النكاح } العزم هنا عقد النكاح لا التصميم على العقد ، ولهذا فعقدة النكاح منصوب على المفعول به ، والمعنى : لا تعقدوا عقدة النكاح ، أخذ من العزم بمعنى القطع والبت ، قاله النحاس وغيره ، ولك أن تجعله بمعناه المشهور أي لا تصمموا على عقدة النكاح ، ونهي عن التصميم لأنه إذا وقع وقع ما صمم عليه . وقيل : نهى عن العزم مبالغة ، والمراد النهي عن المعزوم عليه ، مثل النهي من الاقتراب في قوله : { تلك حدود الله فلا تقربوها } [ البقرة : 187 ] وعلى هذين الوجهين فعقدة النكاح منصوب على نزع الخافض ، كقولهم ضربة الظهر والبطن ، وقيل ضمن عزم معنى أبرم قاله صاحب « المغني » في الباب الثامن .

والكتاب هنا بمعنى المكتوب أي المفروض من الله وهو العدة المذكورة بالتعريف للعهد .

والأجل المدة المعينة لعمل ما ، والمراد به هنا مدة العدة المعينة بتمام ، كما أشار إليه قوله : { فإذا بلغن أجلهن } [ البقرة : 234 ] آنفاً .

والآية صريحة في النهي عن النكاح في العدة وفي تحريم الخطبة في العدة وفي إباحة التعريض .

فأما النكاح أي عقده في العدة ، فهو إذا وقع ولم يقع بناء بها في العدة فالنكاح مفسوخ اتفاقاً ، وإنما اختلفوا هل يتأبد به تحريم المرأة على العاقد أو لا ؟ فالجمهور على أنه لا يتأبد ، وهو قول عمر بن الخطاب ، ورواية ابن القاسم عن مالك في « المدونة » ، وحكى ابن الجلاب عن مالك رواية أنه يتأبد ، ولا يعرف مثله عن غير مالك .

وأما الدخول في العدة ففيه الفسخ اتفاقاً ، واختلف في تأبيد تحريمها عليه فقال عمر بن الخطاب ومالك والليث والأوزاعي وأحمد بن حنبل بتأبد تحريمها عليه ، ولا دليل لهم على ذلك إلا أنهم بنوه على أصل المعاملة بنقيض المقصود الفاسد ، وهو أصل ضعيف ، وقال علي وابن مسعود وأبو حنيفة والثوري والشافعي : بفسخ النكاح ولا يتأبد التحريم ، وهو بعد العدة خاطب من الخطاب ، وقد قيل : إن عمر رجع إليه وهو الأصح ، وعلى الزوج مهرها بما استحل منها ، وقد تزوج رويشد الثقفي طليحة الأسدية في عدتها ففرق عمر بينهما وجعل مهرها على بيت المال ، فبلغ ذلك علياً فقال : « يرحم الله أمير المؤمنين ما بال الصداق وبيت المال ، إنما جهلا فينبغي للإمام أن يردهما للسنة » قيل له : « فما تقول أنت » ؟ قال : « لها الصداق بما استحل منها ويفرق بينهما ولا جلد عليهما » واستحسن المتأخرون من فقهاء المالكية للقاضي إذا حكم بفسخ نكاح الناكح في العدة ألا يتعرض في حكمه للحكم بتأبيد تحريمها ، لأنه لم يقع التنازع في شأنه لديه ، فينبغي له أن يترك التعريج عليه ، لعلهما أن يأخذا بقول من لا يرون تأبيد التحريم .

وأما الخطبة في العدة والمواعدة فحرام مواجهة المرأة بها ، وكذلك مواجهة الأب في ابنته البكر ، وأما مواجهة ولي غير مجبر فالكراهة ، فإذا لم يقع البناء في العدة بل بعدها ، فقال مالك : يفرق بينهما بطلقة ولا يتأبد تحريمها ، وروى عنه ابن وهب : فراقها أحب إليَّ ، وقال الشافعي : الخطبة حرام ، والنكاح الواقع بعد العدة صحيح .

{ واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فى أَنفُسِكُمْ فاحذروه واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ }

عطف على الكلام السابق في قوله : { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء } إلى قوله : { حتى يبلغ الكتاب أجله } وابتدىء الخطاب باعلموا لما أريد قطع هواجس التساهل والتأول ، في هذا الشأن ، ليأتي الناس ما شرع الله لهم عن صفاء سريرة من كل دخل وحيلة ، وقدم تقدم نظيره في قوله : { واعلموا أنكم ملاقوه } [ البقرة : 223 ] .

وقوله : { واعلموا أن الله غفور حليم } تذييل ، أي فكما يؤاخذكم على ما تضمرون من المخالفة يغفر لكم ما وعد بالمغفرة عنه كالتعريض لأنه حليم بكم ، وهذا دليل على أن إباحة التعريض رخصة كما قدمنا ، وأن الذريعة تقتضي تحريمه ، لولا أن الله علم مشقة تحريمه على الناس للوجوه التي قدمناها ، فلعل المراد من المغفرة هنا التجاوز لا مغفرة الذنب ؛ لأن التعريض ليس بإثم ، أو يراد به المعنى الأعم الشامل لمغفرة الذنب والتجاوز عن المشاق ، وشأن التذييل التعميم .


[186]:- قال الفخر : لما اباح التعريض وحرم التصريح في الحال قال: أو أكننتم وفي أنفسكم أي أنه يعقد قلبه على أنه سيصرح بذلك في المستقبل فالآية الأولى تحريم للتصريح في الحال والآية الثانية إباحة للعزم على التصريح في المستقبل.
[187]:- قال: فائدة عطف أو أكننتم الإشعار بالتسوية بين التعريض وبين ما في النفس في الجواز أي هما سواء في رفع الحرج عن صاحبهما.