التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرۡفَعَ وَيُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُۥ يُسَبِّحُ لَهُۥ فِيهَا بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡأٓصَالِ} (36)

ثم بين - سبحانه - بعد ذلك أكثر الأماكن والأشخاص انتفاعا بنوره ، فقال - تعالى - : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله } .

وقوله { فِي بُيُوتٍ } متعلق بقوله : { يُسَبِّحُ } . والمراد بهذه البيوت : المساجد كلها ، وعلى رأسها المسجد الحرام ، والمسجد النبوى ، والمسجد الأقصى .

و " أذن " بمعنى أمر وقضى ، وفاعل " يسبح " قوله " رجال " .

والغدو والغداة : من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، والآصال جمع أصيل ، وهو ما بين العصر وغروب الشمس .

أى : هذا هو نور الله - الذى يهدى إليه من يشاء من عباده ، وعلى رأس أولئك العباد الذين هداهم الله - سبحانه - إلى ما يحبه ويرضاه ، هؤلاء الرجال الذين يعبدونه ويقدسونه فى تلك المساجد التى أمر - سبحانه - بتشييدها وتعظيم قدرها ، وصيانتها من كل سوء أو نجس ، إنهم يسبحونه وينزهونه عن كل نقص ، ويتقربون إليه بالصلوات وبالطاعات . فى تلك المساجد فى أول النهار وفى آخرة ، وفى غير ذلك من الأوقات .

وخص - سبحانه - أوقات الغدو والآصال بالذكر ، لشرفها وكونها أشهر ما تقع فيه العبادات .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرۡفَعَ وَيُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُۥ يُسَبِّحُ لَهُۥ فِيهَا بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡأٓصَالِ} (36)

الباء في { بيوت } : تضم وتكسر ، واختلف في الفاء من قوله { في } فقيل هي متعلقة ب { مصباح } [ النور : 35 ] قال أبو حاتم وقيل متعلقة ب { يسبح } المتأخر ، فعلى هذا التأويل يوقف على { عليم } [ النور : 38 ] قال الرماني هي متعلقة ب { يوقد } [ النور : 35 ] واختلف الناس في البيوت التي أَرادها بقوله تعالى : { في بيوت أذن الله أن ترفع } فقال ابن عباس والحسن ومجاهد هي المساجد المخصوصة لله تعالى التي من عادتها أن تنور بذلك النوع من المصابيح ، وقال الحسن بن أَبي الحسن أراد بيت المقدس وسماه بيوتاً من حيث فيه مواضيع يتحيز بعضها عن بعض .

قال الفقيه الإمام القاضي : ويؤثر ، أن عادة بني إسرائيل في وقيد بيت المقدس كانت غاية في التهمم به ، وكان الزيت منتخباً مختوماً على ظروفه قد صنع صنعة وقدس حتى لا يجزى الوقيد بغيره ، فكان لهذا ونحوه أضوأ بيوت الأرض ، وقال عكرمة أراد بيوت الإِيمان على الإطلاق مساجد ومساكن فهي التي يستصبح فيها بالليل للصلاة وقراءة العلم ، وقال مجاهد أراد بيوت النبي صلى الله عليه وسلم .

قال القاضي أبو محمد : وقوله تعالى : { يسبح له فيها بالغدو والآصل رجال } يقوي أنها المساجد وقوله : { أذن } بمعنى أمر وقضى ، وحقيقة الإذن العلم والتمكين دون حظر فإن اقتران بذلك أمر وإنفاذ كان أقوى ، و { ترفع } ، قيل معناه تبنى وتعالى ، قاله مجاهد وغيره فذلك كنحو قوله تعالى : { وإذ يرفع إبراهيم القواعد }{[8728]} [ البقرة : 127 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من بنى مسجداً من ماله بنى الله له بيتاً في الجنة »{[8729]} ، وفي هذا المعنى أحاديث ، وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره معناه تعظم ويرفع شأنها ، وذكر { اسمه } تعالى ، هو بالصلاة والعبادة قولاً وفعلاً ، وقرأ ابن كثير وعاصم{[8730]} «يسبَّح » بفتح الباء المشددة ، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم «يسبِّح » بكسر الباء ، ف { رجال } على القراءة الأولى مرتفع بفعل مضمر يدل عليه { يسبح } تقديره يسبحه رجال ، فهذا عند سيبويه نظير قول الشاعر : «ليبك يزيد ضارع لخصومة »{[8731]} أي يبكيه ضارع ، و { رجال } على القراءة الثانية مرتفع ب { يسبح } الظاهر ، وروي عن يحيى بن وثاب أنه قرأ «تسبح » بالتاء من فوق ، و { الغدو والآصال } قال الضحاك أراد الصبح والظهر ، وقال ابن عباس أراد ركعتي الضحى والعصر وإن ركعتي الضحى لفي كتاب الله وما يغوص عليها إلا غواص ، وقرأ أبو مجلز «والإيصال » .


[8728]:من الآية (127) من سورة (البقرة).
[8729]:أخرجه مسلم في المساجد والمسافرين والزهد، والبخاري في الصلاة، وأبو داود في التطوع، والترمذي في الصلاة، والنسائي في المساجد وقيام الليل، وابن ماجه في المساجد والتجارات، والدرامي في الصلاة، وأحمد في مواضع كثيرة من مسنده، وتختلف الألفاظ باختلاف الرواة.
[8730]:في رواية أبي بكر عنه.
[8731]:هذا صدر بيت نسبه سيبويه في الكتاب للحارث بن نهيك، ونسبه في خزانة الأدب لنهشل بن حري، وقد ذكر نسبته أيضا إلى لبيد، وإلى مزرد، وإلى الحارث بن ضرار النهشلي، والبيت بتمامه: ليبك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح والبيت من شواهد النحويين، واستشهدوا به على رفع (ضارع) بإضمار فعل دل عليه ما قبله كما ذكر ابن عطية هنا، وهو موجود في العيني، وابن يعيش. و(يزيد) المذكور في البيت هو يزيد بن نهشل، والضارع: الذليل الخاضع، ولخصومة، أي: لأجل الخصومة، والمتخبط: طالب العرف، وتطيح: تذهب وتهلك، والطوائح أراد بها المطاوح لأنه جمع مطيحة، جمع على حذف الزيادة، كقوله تعالى [لواقح] جمع ملقحة، والاستشهاد بالبيت عند سيبويه وغيره من النحويين تم بناء على رواية (لبيك) بالبناء للمفعول، و (يزيد) نائب فاعل، وقد روى البيت ببناء الفعل (يبك) للفاعل، وعلى هذا فالفاعل هو ضارع، و (يزيد) مفعوله، ولا حذف ولا شاهد. (راجع الخزانة والكتاب).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرۡفَعَ وَيُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُۥ يُسَبِّحُ لَهُۥ فِيهَا بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡأٓصَالِ} (36)

تردد المفسرون في تعلق الجار والمجرور من قوله : { في بيوت } الخ . فقيل قوله : { في بيوت } من تمام التمثيل ، أي فيكون { في بيوت } متعلقاً بشيء مما قبله . فقيل يتعلق بقوله : { يوقد } [ النور : 35 ] أي يوقد المصباح في بيوت . وقيل هو صفة لمشكاة ، أي مشكاة في بيوت وما بينهما اعتراض ؛ وإنما جاء بيوت بصيغة الجمع مع أن { مشكاة } و { مصباح } [ النور : 35 ] مفردان لأن المراد بهما الجنس فتساوى الإفراد والجمع .

ثم قيل : أريد بالبيوت المساجد . ولا يستقيم ذلك إذ لم يكن في مساجد المسلمين يومئذٍ مصابيح وإنما أحدثت المصابيح في المساجد الإسلامية في خلافة عمر بن الخطاب فقال له علي : نوّر الله مضجعك يا بن الخطاب كما نورت مسجدنا . وروي أن تميماً الداري أسرج المسجد النبوي بمصابيح جاء بها من الشام ولكن إنما أسلم تميم سنة تسع ، أي بعد نزول هذه الآية . وقيل البيوت مساجد بيت المقدس وكانت يومئذٍ بِيَعاً للنصارى . ويجوز عندي على هذا الوجه أن يكون المراد بالبيوت صوامع الرهبان وأديرتهم وكانت معروفة في بلاد العرب في طريق الشام يمرون عليها وينزلون عندها في ضيافة رهبانها . وقد ذكر صاحب « القاموس » عدداً من الأديرة . ويرجح هذا قوله : { أن ترفع } فإن الصوامع كانت مرفوعة والأديرة كانت تبنى على رؤوس الجبال . أنشد الفراء :

لو أبصرت رهبان دَير بالجبل *** لانحدر الرهبان يسعى ويصل

والمراد بإذن الله برفعها أنه ألهم متّخذيها أن يجعلوها عالية وكانوا صالحين يقرأون الإنجيل فهو كقوله تعالى : { لهدمت صوامع وبيع } إلى قوله : { يذكر فيها اسم الله كثيراً } [ الحج : 40 ] . وعبر بالإذن دون الأمر لأن الله لم يأمرهم باتخاذ الأديرة في أصل النصرانية ولكنهم أحدثوها للعون على الانقطاع للعبادة باجتهاد منهم ، فلم ينههم الله عن ذلك إذ لا يوجد في أصل الدين ما يقتضي النهي عنها فكانت في قسم المباح ، فلما انضم إلى إباحة اتخاذها نية العون على العبادة صارت مرضية لله تعالى . وهذا كقوله تعالى : { ورهبانيةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله } [ الحديد : 27 ] . وقد كان اجتهاد أحبار الدين في النصرانية وإلهامُهم دلائل تشريع لهم كما تقتضيه نصوص من الإنجيل . والمقصد من ذكر هذا على هذه الوجوه زيادة إيضاح المشبه به كقول النبي صلى الله عليه وسلم في صفة جهنم : " فإذا لها كلاليبُ مثلُ حَسَك السَّعدان هل رأيتم حسك السَّعْدان ؟ " . وفيه مع ذلك تحسين المشبه به ليسري ذلك إلى تحسين المشبه كما في قول كعب بن زهير :

شجت بذي شبَم من ماء محنيَةِ *** صاففٍ بأبطح أضحى وهو مشمول

تنفي الرياح القذى عنه وأفرطه *** من صوب سارية بيضٌ يعاليل

لأن ما ذكر من وصف البيوت وما يجري فيها مما يكسبها حسناً في نفوس المؤمنين .

وتخصيص التسبيح بالرجال لأن الرهبان كانوا رجالاً .

وأريد بالرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله : الرهبان الذين انقطعوا للعبادة وتركوا الشغل بأمور الدنيا ، فيكون معنى : { لا تلهيهم تجارة ولا بيع } : أنهم لا تجارة لهم ولا بيع من شأنهما أن يلهياهم عن ذكر الله ، فهو من باب : على لاحب لا يهتدى بمناره .

والثناء عليهم يومئذٍ لأنهم كانوا على إيمان صحيح إذ لم تبلغهم يومئذٍ دعوة الإسلام ولم تبلغهم إلا بفتوح مشارف الشام بعد غزوة تبوك ، وأما كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل فإنه لم يُذع في العامة . وكان الرهبان يتركون الكوى مفتوحة ليظهر ضوء صوامعهم وقد كان العرب يعرفون صوامع الرهبان وأضواءها في الليل . قال امرؤ القيس :

تُضيء الظلام بالعشيّ كأنها *** منارة مُمْسَى راهب متبتل

وقال أيضاً :

يضيء سناه أو مصابيح راهب *** أمال السليط بالذبال المفتل

السليط : الزيت . أي صب الزيت على الذبال فهو في تلك الحالة أكثر إضاءة . وكانوا يهتدون بها في أسفارهم ليلاً . قال امرؤ القيس :

سموت إليها والنجوم كأنها *** مصابيح رهبان تُشب لقُفَّال

القفال : جمع قافل وهم الراجعون من أسفارهم .

وقيل : أريد بالرفع الرفع المعنوي وهو التعظيم والتنزيه عن النقائص . فالإذن حينئذٍ بمعنى الأمر .

وبعد فهذا يبعد عن أغراض القرآن وخاصة المدني منه لأن الثناء على هؤلاء الرجال ثناء جم ومعقب بقوله : { ليجزيهم الله أحسن ما عملوا } .

والأظهر عندي : أن قوله : { في بيوت } ظرف مستقر هو حال من { نوره } في قوله { مثل نوره كمشكاة } [ النور : 35 ] الخ مشير إلى أن « نور » في قوله : { مثل نوره } مراد منه القرآن ، فيكون هذا الحال تجريداً للاستعارة التمثيلية بذكر ما يناسب الهيئة المشبهة أعني هيئة تلقي القرآن وقراءته وتدبره بين المسلمين مما أشار إليه قول النبي صلى الله عليه وسلم " وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده " {[292]} فكان هذا التجريد رجوعاً إلى حقيقة التركيب الدال على الهيئة المشبهة كقول طرفة :

وفي الحي أحوى ينفض المَرْد شادف *** مظاهر سِمطي لؤلؤ وزبرجد

مع ما في الآية من بيان ما أجمل في لفظ : { مثل نوره } وبذلك كانت الآية أبلغ من بيت طرفة لأن الآية جمعت بين تجريد وبيان وبيت طرفة تجريد فقط .

ويجوز أن يكون { في بيوت } غير مرتبط بما قبله وأنه مبدأ استئناف ابتدائي وأن المجرور متعلق بقوله : { يسبح له فيها } . وتقديم المجرور للاهتمام بتلك البيوت وللتشويق إلى متعلق المجرور وهو التسبيح وأصحابه . والتقدير : يسبح لله رجال في بيوت ، ويكون قوله : { فيها } تأكيداً لقوله : { في بيوت } لزيادة الاهتمام بها . وفي ذلك تنويه بالمساجد وإيقاع الصلاة والذكر فيها كما في الحديث : " صلاة أحدكم في المسجد ( أي الجماعة ) تفضل صلاته في بيته بسبع وعشرين درجة " .

والمراد بالغدوّ : وقت الغدوّ وهو الصباح لأنه وقت خروج الناس في قضاء شؤونهم .

والآصال : جمع أصيل وهو آخر النهار ، وتقدم في آخر الأعراف ( 205 ) وفي سورة الرعد ( 15 ) .


[292]:- رواه مسلم بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه.