استمع إلى القرآن الكريم وهو يصور حالة هذه الطائفة من المؤمنين تصويرا كريما نبيلا يستجيش المشاعر ، ويحرك القلوب لمساعدة هذه الطائفة المتعففة فيقول : { لِلْفُقَرَآءِ الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرض يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } .
لقد وصفهم الله - تعالى - أولا بالفقراء ، أي الذثين هم في حاجة إلى العون والمساعدة لفقرهم واحتياجهم إلى ضرورات الحياة .
وقوله : { لِلْفُقَرَآء } متعلق بمحذوف يفهم من الكلام السابق والتقدير : اجعلوا نفقتكم وصدقتكم للفقراء لأن الكلام السابق موضوعه للإِنقاق في سبيل الله ، وما يتعلق بذلك من آداب وفوائد .
والجملة استئناف بياني ، فكأنهم لما أمروا بالصدقات سألوا لمن هي ؟ فأجيبوا بأنها لهؤلاء الذين ذكرت الآية صفاتهم .
ومن فوائد الحذف هنا للمتعلق : تعليم المؤمنين الأدب في عطائهم للفقراء بأن لا يصرحوا لهم بأن ما يعطونه إياهم هو صدقة حتى لا يشعروهم بالمذلة والضعف ، وأيضاً ففي هذا الحذف لون من الإِيجاز البليغ الذي قل فيه اللفظ مع الوفاء بحق المعنى .
قال القرطبي : " والمراد بهؤلاء الفقراء ، فقراء المهاجرين من قريش وغيرهم ثم تتناول الآية كل من دخل تحت صفتهم غابر الدهر . وإنما خص فقراء المهاجرين بالذكر ، لأنه لم يكن هناك سواهم ، وهم أهل الصفة " وكانوا نحو من أربعمائة رجل ، وذلك أنهم كانوا يأتون فقراء وما لهم أهل ولأمال فبنيت لهم صفة في المسجد النبوي بالمدينة فقيل لهم : " أهل الصفة " .
أما الصفة الثانية من صفات هؤلاء الذين هم أولى الناس بالعون والمساعدة فهي قوله - تعالى - : { الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله } .
والإِحصار في اللغة هو أن يعرض للرجل ما يحول بينه وبين ما يريده بسبب مرض أو شيخوخة أو عدو أو ذهاب نفقة أو ما يجري مجرى هذه الأشياء .
والمعنى : اجعلو الكثير مما تنفقونه - أيها المؤمنون - لهؤلاء الفقراء الذين حصروا أنفسهم ووقفوها على الطاعات المتنوعة التي من أعظمها الجهاد في سبيل الله ، أو الذين منعوا من الكسب بسبب مرضهم أو شيخوختهم ، أو غير ذلك من الأسباب التي جعلتهم في حالة شديدة من الفاقة والاحتياج .
وعبر في الجملة الكريمة " بأحصروا " بالبناء للمجهول ، للإِشعار بأن فقرهم لم يكن بسبب تكاسلهم وإهمالهم في مباشرة الأسباب ، وإنما كان لأسباب خارجة عن إرادتهم .
وقوله : { فِي سَبِيلِ الله } تكريم وتشريف لهم ، أي أن ما نزل بهم من فقر واحتياج كان بسبب إيثارهم إعلاء كلمة الله على أي شيء آخر ، ففي سبيل الله هاجروا ، وفي سبيل الله تركوا أموالهم فصاروا فقراء ، وفي سبيل الله وقفوا أنفسهم على الجهاد ، وفي سبيل الله أصابهم ما أصابهم وهم يطلبون أداء ما كلفهم - سبحانه - بأدائه .
أما الصفة الثالثة من صفاتهم فقال فيها { لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرض } والضرب في الأرض هو السير فيها للتكسب والتجارة وغيرهما .
أي أنهم عاجزون عن السير في الأرض لتحصيل رزقهم بسبب اشتغالهم بالجهاد ، أو بسبب ضعفهم وقلة ذات يدهم .
والصفة الرابعة من صفاتهم هي قوله - تعالى - : { يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف } .
والتعفف : ترك الشيء والتنزه عن طلبه ، بقهر النفس والتغلب عليها . يقال عف عن الشيء يعف إذا كف عنه . والحسبان بمعنى الظن .
أي : يظنهم الجاهل بحالهم ، أو الذي لا فراسة عنده ، يظنهم أغنياء من أجل تجملهم وتعففهم عن السؤال ، أما صاحب الفراسة الصادقة ، والبصيرة النافذة ؛ فإنه يرحمهم ويعطف عيلهم لأنه يعرف ما لا يعرفه غيره .
و ( من ) في قوله : { مِنَ التعفف } للتعليل ، أو لابتداء الغاية لأن التعفف مبدأ هذا الحسبان .
أما الصفة الخامسة من صفاتهم فهي قوله - تعالى - : { تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ } والسيما والسماء : العلامة التي يعرف بها الشيء ، وأصلها من الوسم بمعنى العلامة .
والمعنى : تعرف فقرهم وحاجتهم - أيها الرسول الكريم أو أيها المؤمن العاقل - بما ترى في هيئتهم من آثار تشهد بقلة ذات يدهم .
قال الإِمام الرازي ما ملخصه : قال مجاهد : " سيماهم " التخشع والتواضع . أي - تعرفهم بتخشعهم وتواضعهم - وقال السدي : - تعرفهم بسيماهم - أي بأثر الجهد من الفقر والحاجة . وقال الضحاك : أي بصفرة ألوانهم ورثاثة ثيابهم . . ثم قال - رحمه الله - : وعندي أن كل ذلك فيه نظر والمراد شيء آخر هو أن لعباد الله المخلصين هيبة ووقعاً في قلوب الخلق ، وكل من رآهم تأثر منهم وتواض2ع لهم ، وذلك له إدراكات روحانية ، لا علامات جسمانية . ألا ترى أن الأسد إذا مر هابته سائر السباع بطباعها لا بالتجربة ، لأن الظاهر أن تلك التجربة ما وقعت ، والبازي إذا طار تهرب به منه الطيور الضعيفة وكل ذلك إدراكات روحانية لا جسمانية فكذا هنا . . .
وقد ذكر - سبحانه - في الجملة السابقة أن الجاهل بحالهم يظنهم أغنياء من أجل تعففهم عن السؤال ، وذكر هنا أنهم يعرفون بسيماهم ، وذلك للإِشعار بأن أنظار الناس تختلف باختلاف فراستهم ونفاذ بصيرتهم . فأصحاب الأنظار التي تأخذ الأمور بمظاهر يظنونهم أغنياء ، أما أصحاب البصيرة المستنيرة ، والحس والمرهف ، والفراسة الصائبة ، فإنهم يدركون ما عليه أولئك القوم من احتياج ، بسبب ما منحهم الله من فكر صائب ونظر نافذ ، وفي الحديث الشريف : " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " .
أما الصفة السادسة من صفاتهم فهي قوله - تعالى - : { لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } والإِلحاف - كما يقول صاحب الكشاف : هو الإِلحاح بأن لا يفارق - السائل المسئول - إلا بشيء يعطاه . من قولهم : لحفني من فضل لحافه أي أعطاني من فضل ما عنده . ومعناه : أنهم إن سألوا سألوا بتلطف ولم يحلفوا . وقيل هو نفي للسؤال والإِلحاف .
والذي عليه المحققون من العلماء أن النفي منصب على السؤال وعلى الألحاف أي أنهم لا يسألون أصلا تعففاً منهم ، لأنهم لو كانوا يسألون ما ظنهم الجاهل أغنياء من التعفف ، ولو كانوا يسألون ما كانوا متعففين ، ولو كانوا يسألون ما احتاج صاحب البصيرة النافذة إلى معرفة حالهم عن طريق التفرس في سماتهم لأن سؤالهم كان يغنيه عن ذلك .
وإنما جاء النفي بهذه الطريقة التي يوهم ظاهرها أن النفي متجه إلى الإِلحاف وحده ، للموازنة بينهم وبين غيرهم ، فإن غيرهم إذا كان يسأل الناس إلحافاً فهم لا يسألون مطلقاً لا بإلحاف ولا بدونه ، والنفي بهذه الطريقة فيه تعريض للمحلفين وثناء على المتعففين . ولذا قال بعضهم : وإذا علم أنهم لا يسألون البتة فقد علم أنهم لا يسألون الناس إلحافاً والمراد النبيه على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافاً ، ومثاله إذا حضر عندك رجلان أحدهما عقال وقور قليل الكلام ، والآخر طياش مهذار سفيه ، فإذا أردت أن تمدح أحدهما وتعرض بذم الآخر قلت : فلان رجل عاقل وقور لا بخوض في الترهات ولا يشرع في السفاهات ، ولم يكن غرضك من قولك لا يخوض في الترهات وصفه بذلك لأن ما تقدم من الأوصاف الحسنة يغني عن ذلك بل غرضك التنبيه على مذمة الثاني . فالأمر هنا كذلك لأن قوله : { لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } بعد قوله : { يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف } الغرض منه بيان مباينة أحد الجنسين عن الآخر في استيجاب المدح والتعظيم .
هذا وقد وردت أحاديث متعددة تمدح المتعففين عن السؤال ، وتذم الملحفين فيه ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان ولا التمرة والتمرتان إنما المسكين الذي يتعفف . اقرؤوا إن شئتم : { لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } " .
وروى مسلم في صحيحه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم " .
وروى مسلم - أيضاً - في صحيحه عن عوف بن مالك قال : كنا تسعة أو ثمانية أو سبعة عند رسول الله فقال : " ألا تبايعون رسول الله ؟ فقلنا علام نبايعك ؟ قال : أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً . والصلوات الخمس ، وتطيعوا ولا تسألوا الناس . فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فلا يسأل أحداً يناوله إياه " .
والخلاصة أن السؤال إنما يجوز عند الضرورة ، وأنه لا يصح لمؤمن أن يسأل الناس عنده ما يكفيه ، لأن السؤال ذل يربأ بنفسه عنه كل من يحافظ على مروءته وكرامته وشرفه .
وقوله : { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } تحريض للمؤمن على البذل والسخاء ، وترقية لنفسه على الشعور بمراقبة الله - تعالى - وعلى محبة فعل الخير .
أي : وما تنقوتا من خير سواء أكان المنفق قليلا أم كثيراً سراً أم علناً فإن الله يعلمه وسيجازيكم عليه بأجزل الثواب ، وأعظم العطاء .
{ للفقراء } متعلق بمحذوف أي اعمدوا للفقراء ، أو اجعلوا ما تنفقونه للفقراء ، أو صدقاتكم للفقراء . { الذين أحصروا في سبيل الله } أحصرهم الجهاد . { لا يستطيعون } لاشتغالهم به . { ضربا في الأرض } ذهابا فيها للكسب . وقيل هم أهل الصفة كانوا نحوا من أربعمائة من فقراء المهاجرين يسكنون صفة المسجد يستغرقون أوقاتهم بالتعلم والعبادة ، وكانوا يخرجون في كل سرية بعثها رسول الله { يحسبهم الجاهل } بحالهم ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين . { أغنياء من التعفف } من أجل تعففهم عن السؤال ، { تعرفهم بسيماهم } من الضعف ورثاثة الحال ، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، أو لكل أحد . { لا يسألون الناس إلحافا } إلحاحا ، وهو أن يلازم المسؤول حتى يعطيه ، من قولهم لحفي من فضل لحافه ، أي أعطاني من فضل ما عنده ، والمعنى أنهم لا يسألون وإن سألوا عن ضرورة لم يلحوا . وقيل : هو نفي للأمرين كقوله :
على لاحب أن يهتدي بمناره *** . . .
فنصبه على المصدر فإنه كنوع من السؤال ، أو على الحال . { وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم } ترغيب في الإنفاق وخصوصا على هؤلاء .
{ للفقراء } متعلّق بتنفقون الأخير ، وتعلّقه به يؤذن بتعلّق معناه بنظائره المقدّمة ، فما من نفقة ذكرت آنفاً إلاّ وهي للفقراء لأنّ الجمل قد عضد بعضها بعضاً .
و { الذين أحصروا } أي حبسوا وأرصدوا . ويحتمل أنّ المراد بسبيل الله هنا الجهاد ؛ فإن كان نزولها في قوم جرحوا في سبيل الله فصاروا زمْنَى ، ففي للسبيبة والضرب في الأرض المشي للجهاد بقرينة قوله : { في سبيل الله } ، والمعنى أنّهم أحقّاء بأن ينفق عليهم لعجزهم الحاصل بالجهاد ؛ وإن كانوا قوماً بصدد القتال يحتاجون للمعونة ، ففي للظرفية المجازية ؛ وإن كان المراد بهم أهل الصفة{[196]} ، وهم فقراء المهاجرين الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم بمكة وجاؤوا دار الهجرة لا يستطيعون زراعة ولا تجارة ، فمعنى أحصروا في سبيل الله عِيقوا عن أعمالهم لأجل سبيل الله وهو الهجرة ، ففي للتعليل . وقد قيل : إنّ أهل الصفة كانوا يخرجون في كل سريّة يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه فسبيل الله هو الجهاد . ومعنى « أحصروا » على هذا الوجه أرصدوا . و ( في ) باقية على التعليل .
والظاهر من قوله : { لا يستطيعون ضرباً } أنّهم عاجزون عن التجارة لقلّة ذات اليد ، والضرب في الأرض كناية عن التجر لأنّ شأن التاجر أن يسافر ليبتاع ويبيع فهو يضرب الأرض برجليه أو دابّته .
وجملة { لا يستطيعون ضرباً } يجوز أن تكون حالاً ، وأن تكون بياناً لجملة أحصروا .
وقوله : { يحسبهم الجاهل أغنياء } حال من الفقراء ، أي الجاهل بحالهم من الفقر يظنّهم أغنياء ، ومن للابتداء لأنّ التعفّف مبدأ هذا الحسبان .
والتعفّف تكلّف العفاف وهو النزاهة عمّا يليق . وفي « البخاري » باب الاستعفاف عن المسألة ، أخرج فيه حديث أبي سعيد : أنّ الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ، ثم سألوه فأعطاهم ، حتى نفِدَ ما عنده فقال : " ما يكون عندي من خير فلن أدّخره عنكم ، ومن يستعفف يُعِفّه الله ، ومن يستغنِ يُغْنِه الله ، ومن يتصبّر يصبِّره الله " .
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي وخلف ويعقوب يحسِبهم بكسر السين وقرأه الباقون بفتح السين ، وهما لغتان .
ومعنى { تعرفهم بسماهم } أي بعلامة الحاجة والخطاب لغير معيَّن ليعم كلّ مخاطب ، وليس للرسول لأنّه أعلم بحالهم . والمخاطب بتَعْرفهم هو الذي تصدّى لتطّلع أحوال الفقراء ، فهو المقابل للجاهل في قوله : { يحسبهم الجاهل أغنياء } .
والجملة بيان لجملة { يحسبهم الجاهل أغنياء } ، كأنّه قيل : فبماذا تصل إليهم صدقات المسلمين إذا كان فقرهم خفيّاً ، وكيف يُطّلع عليهم فأحيل ذلك على مظنّة المتأمّل كقوله : { إن في ذلك لآيات للمتوسمين } [ الحجر : 75 ] .
والسيما العلامة ، مشتقة من سَام الذي هو مقلوب وَسَم ، فأصلها وِسْمَى ، فوزنها عِفْلَى ، وهي في الصورة فِعْلى ، يدل لذلك قولهم سِمَة ؛ فإنّ أصلها وِسْمَة .
ويقولون سِيمى بالقصر وسِيماء بالمد وسِيميَاء بزيادة ياء بعد الميم وبالمد ، ويقولون سَوّم إذا جَعَل سِمة . وكأنّهم إنّما قلبوا حروف الكلمة لقصد التوصّل إلى التخفيف بهذه الأوزان لأنّ قلب عين الكلمة متأتّ بخلاف قلب فائها . ولم يسمع من كلامهم فِعْل مجردٌ من سوّم المقلوب ، وإنّما سمع منه فعل مضاعف في قولهم سَوّم فرسه .
وقوله : { لا يسألون الناس إلحافاً } بيان لقوله يحسبهم الجاهل أغنياء بياناً ثانياً ، لكيفية حُسبانهم أغنياء في أنّهم لا يسألون الناس . وكان مُقتضى الظاهر تقديمه على الذي قبله إلاّ أنّه أخّر للاهتمام بما سبقه من الحقّ على توسّم احتياجهم بأنّهم محصرون لا يستطيعون ضرباً في الأرض لأنّه المقصود من سياق الكلام .
فأنت ترى كيف لم يغادر القرآن شيئاً من الحثّ على إبلاغ الصدقات إلى أيدي الفقراء إلاّ وقد جاء به ، وأظهر به مزيد الاعتناء .
والإلحاف الإلحاح في المسألة . ونُصب على أنّه مفعول مطلق مُبيّن للنوع ، ويجوز أن يكون حالاً من ضمير يسألون بتأويل مُلحفين . وأيَّا ما كان فقد نفي عنهم السؤال المقيّد بالإلحاف أو المقيدون فيه بأنّهم مُلحفون وذلك لا يفيد نفي صدور المسألة منهم مع أنّ قوله : { يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف } يدل على أنّهم لا يسألون أصلاً ، وقد تأوّله الزجاج والزمخشري بأنّ المقصود نفي السؤال ونفيُ الإلحاف معاً كقول امرىء القيس :
* عَلَى لاَحِبٍ لاَ يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ *
يُريد نفي المنار والاهتداء ، وقرينة هذا المقصود أنّهم وصفوا بأنّهم يُحسبون أغنياء من التعفّف ، ونظيره قوله تعالى : { ما للظالمين من حميم ولا شفيعٍ يُطاعُ } [ غافر : 18 ] أي لا شفيع أصلاً ، ثم حيث لا شفيع فلا إطاعة ، فأنتج لا شفيع يطاع ، فهو مبالغة في نفي الشفيع لأنّه كنفيه بنفي لازمه وجعلوه نوعاً من أنواع الكناية ، وقال التفتازاني : « إنّما تحسن هذه الطريقة إذا كان القيد الواقع بعد النفي بمنزلة اللازم للنفي لأنّ شأن اللاّحب أن يكون له مَنار ، وشأنَ الشفيع أن يُطاع ، فيكون نفي اللازم نفياً للملزوم بطريق برهاني ، وليس الإلحاف بالنسبة إلى السؤال كذلك ، بل لا يبعد أن يكون ضدُّ الإلحاف وهو الرفق والتلطّف أشبه باللازم » ( أي أن يكون المنفي مُطرّد اللزوم للمنفي عنه ) . وجوّز صاحب « الكشاف » أن يكون المعنى أنّهم إن سألوا سألوا بتلطّف خفيف دون إلحاف ، أي إنّ شأنهم أن يتعفّفوا ، فإذا سألوا سألوا بغير إلحاف ، وهو بعيد لأنّ فصل الجملة عن التي قبلها دليل على أنّها كالبيان لها ، والأظهر الوجه الأول الذي جعل في « الكشاف » ثانياً وأجاب الفخر بأنّه تعالى وصفهم بالتعفّف فأغنى عن ذكر أنّهم لا يسألون ، وتعين أنّ قوله : { لا يسألون الناس إلحافاً } تعريض بالملحفين في السؤال ، أي زيادة فائدة في عدم السؤال .
{ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } .
أعيد التحريض على الإنفاق فذكر مرة رابعَة ، وقوله : { فإن الله به عليم } كناية عن الجزاء عليه لأن العلم يكنّى به عن أثره كثيراً ، فلما كان الإنفاق مرغّباً فيه من الله ، وكان عِلم الله بذلك معروفاً للمسلمين ، تعيَّن أن يكون الإخبارُ بأنّه عليم به أنّه عليم بامتثال المنفق ، أي فهو لا يضيع أجره إذ لا يمنعه منه مانع بعد كونه عليماً به ، لأنّه قدير عليه . وقد حصل بمجموع هذه المرات الأربع من التحريض ما أفاد شدة فضل الإنفاق بأنّه نفع للمنفِق ، وصلة بينه وبين ربّه ، ونوال الجزاء من الله ، وأنّه ثابت له في علم الله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم بين على من ينفق، فقال: النفقة {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله}: حبسوا {الذين أحصروا}: حبسوا أنفسهم بالمدينة في طاعة الله عز وجل، فهم أصحاب الصفة... منهم ابن مسعود، وأبو هريرة، والموالي أربعمائة رجل لا أموال لهم بالمدينة، فإذا كان الليل أوَوْا إلى صفَّة المسجد، فأمر الله عز وجل بالنفقة عليهم، {لا يستطيعون ضربا في الأرض}: سيرا، يعني التجارة.
{يحسبهم الجاهل} بأمرهم وشأنهم {أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم} بسيما الفقر عليهم لتركهم المسألة، {لا يسئلون الناس إلحافا} فيلحفون في المسألة.
{وما تنفقوا من خير}: من مال للفقراء أصحاب الصفة. {فإن الله به عليم}: بما أنفقتم عليم...
أخرج مالك عن رجل من بني أسد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا).
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
أما قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ} فبيان من الله عزّ وجلّ عن سبيل النفقة ووجهها. ومعنى الكلام: وما تنفقوا من خير فلأنفسكم، تنفقون للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله.
وقيل: إن هؤلاء الفقراء الذين ذكرهم الله في هذه الآية، هم فقراء المهاجرين عامة دون غيرهم من الفقراء. {الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ}: الذين جعلهم جهادهم عدوّهم يحصرون أنفسهم فيحبسونها عن التصرف فلا يستطيعون تصرّفا. وقد دللنا فيما مضى قبل على أن معنى الإحصار: تصيير الرجل المحصر بمرضه أو فاقته أو جهاده عدوّه، وغير ذلك من علله إلى حالة يحبس نفسه فيها عن التصرّف في أسبابه بما فيه الكفاية فيما مضى قبل.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: في ذلك بنحو الذي قلنا فيه.. قال ابن زيد في قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ} قال: كانت الأرض كلها كفرا لا يستطيع أحد أن يخرج يبتغي من فضل الله، إذا خرج خرج في كفر. وقيل: كانت الأرض كلها حربا على أهل هذا البلد، وكانوا لا يتوجهون جهة إلا لهم فيها عدوّ، فقال الله عزّ وجلّ: {لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ}... الآية كانوا ههنا في سبيل الله.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: الذين أحصرهم المشركون فمنعوهم التصرّف... عن السدي: {لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ}: حصرهم المشركون في المدينة.
ولو كان تأويل الآية على ما تأوّله السدي، لكان الكلام: للفقراء الذين حصروا في سبيل الله، ولكنه «أحصروا»، فدلّ ذلك على أن خوفهم من العدوّ الذي صير هؤلاء الفقراء إلى الحال التي حَبسوا وهم في سبيل الله أنفسهم، لا أن العدوّ هم كانوا الحابسيهم، وإنما يقال لمن حبسه العدوّ: حصره العدوّ، وإذا كان الرجل المحبس من خوف العدوّ قيل: أحصره خوف العدوّ.
{لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبا فِي الأرْضِ}: لا يستطيعون تقلبا في الأرض، وسفرا في البلاد، ابتغاء المعاش وطلب المكاسب، فيستغنوا عن الصدقات رهبة العدوّ، وخوفا على أنفسهم منهم... حبسوا أنفسهم في سبيل الله للعدوّ، فلا يستطيعون تجارة.
حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبا فِي الأرْضِ} يعني التجارة.
{يَحْسَبُهُمُ الجاهِلُ أغْنِياءَ مِنَ التّعَفّفِ}: يحسبهم الجاهل بأمرهم وحالهم أغنياء من تعففهم عن المسألة وتركهم التعرّض لما في أيدي الناس صبرا منهم على البأساء والضرّاء.
{مِنَ التّعَفّفِ}: من ترك مسألة الناس. {تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ}: تعرفهم يا محمد بسيماهم، يعني بعلامتهم وآثارهم، من قول الله عزّ وجلّ: {سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السّجُودِ} هذه لغة قريش، ومن العرب من يقول: «بسيمائهم» فيمدها، وأما ثقيف وبعض أسد، فإنهم يقولون:«بسيميائهم.
وقد اختلف أهل التأويل في السيما التي أخبر الله جل ثناؤه أنها لهؤلاء الفقراء الذين وصفت صفتهم وأنهم يعرفون بها؛ فقال بعضهم: هو التخشع والتواضع. وقال آخرون يعني بذلك: تعرفهم بسيما الفقر وجهد الحاجة في وجوههم.
وقال آخرون: معنى ذلك: تعرفهم برثاثة ثيابهم، وقالوا: الجوع خفيّ. وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن يقال: إن الله عزّ وجلّ أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يعرفهم بعلاماتهم وآثار الحاجة فيهم. وإنما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يدرك تلك العلامات والآثار منهم عند المشاهدة بالعيان، فيعرفهم وأصحابه بها، كما يدرك المريض فيعلم أنه مريض بالمعاينة.
وقد يجوز أن تكون تلك السيما كانت تخشعا منهم، وأن تكون كانت أثر الحاجة والضرّ، وأن تكون كانت رثاثة الثياب، وأن تكون كانت جميع ذلك، وإنما تدرك علامات الحاجة وآثار الضرّ في الإنسان، ويعلم أنها من الحاجة والضرّ بالمعاينة دون الوصف، وذلك أن المريض قد يصير به في بعض أحوال مرضه من المرض نظر آثار المجهود من الفاقة والحاجة، وقد يلبس الغنيّ ذو المال الكثير الثياب الرثة، فيتزيا بزيّ أهل الحاجة، فلا يكون في شيء من ذلك دلالة بالصفة على أن الموصوف به مختلّ ذو فاقة، وإنما يدري ذلك عند المعاينة بسيماه، كما وصفهم الله نظير ما يعرف أنه مريض عند المعاينة دون وصفه بصفته.
{لاَ يَسألُونَ النّاسَ إلْحافا}: يقال: قد ألحف السائل في مسألته إذا ألحّ، فهو يلحف فيها إلحافا.
فإن قال قائل: أفكان هؤلاء القوم يسألون الناس غير إلحاف؟ قيل: غير جائز أن يكون كانوا يسألون الناس شيئا على وجه الصدقة، إلحافا أو غير إلحاف، وذلك أن الله عزّ وجلّ وصفهم بأنهم كانوا أهل تعفف، وأنهم إنما كانوا يعرفون بسيماهم، فلو كانت المسألة من شأنهم لم تكن صفتهم التعفف، ولم يكن بالنبيّ صلى الله عليه وسلم إلى علم معرفتهم بالأدلة والعلامة حاجة، وكانت المسألة الظاهرة تنبئ عن حالهم وأمرهم. وفي الخبر الذي:
حدثنا به بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن هلال بن حصن، عن أبي سعيد الخدري، قال: أعوزنا مرة فقيل لي: لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته. فانطلقت إليه مُعْنقا، فكان أوّل ما واجهني به: «مَنْ اسْتَعَفّ أعَفّهُ الله، ومَنِ اسْتَغْنَى أغْنَاهُ الله، ومَنْ سَأَلَنا لَمْ نَدّخِرْ عَنْهُ شَيْئا نَجِدُهُ»، قال: فرجعت إلى نفسي، فقلت: ألا أستعفّ فيعفني الله! فرجعت فما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا بعد ذلك من أمر حاجة حتى مالت علينا الدنيا فغرقتنا إلا من عصم الله.
الدلالة الواضحة على أن التعفف معنى ينفي معنى المسألة من الشخص الواحد، وأن من كان موصوفا بالتعفف فغير موصوف بالمسألة إلحافا أو غير إلحاف.
فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت، فما وجه قوله: {لاَ يَسْأَلُونَ النّاسَ إِلْحافا} وهم لا يسألون الناس إلحافا أو غير إلحاف؟ قيل له: وجه ذلك أن الله تعالى ذكره لما وصفهم بالتعفف وعرّف عباده أنهم ليسوا أهل مسألة بحال بقوله: {يَحْسَبُهُمُ الجاهِلُ أغْنِيَاءَ مِنَ التّعَفّفِ} وأنهم إنما يعرفون بالسيما، زاد عباده إبانة لأمرهم، وحسن ثناء عليهم بنفي الشره والضراعة التي تكون في الملحّين من السؤال عنهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{تعرفهم بسيماهم}... أي بتحملهم {لا يسألون الناس إلحافا} إي إلحاحا ولا غير إلحاح...
{أحصروا في سبيل الله}... الإحصار منع النفس عن التصرف لمرض أو حاجة أو مخافة، فإذا منعه العدو قيل أحْصَرَهُ... وفي هذه الآية دلالة على أن من له ثياب الكسوة ذات قيمة كثيرة لا تمنعه إعطاء الزكاة، لأن الله تعالى قد أمَرَنا بإعطاء الزكاة مَنْ ظاهر حاله مُشْبِهٌ لأحوال الأغنياء. ويدلّ على أن الصحيح الجسم جائز أن يُعْطَى من الزكاة، لأن الله تعالى أمر بإعطاء هؤلاء القوم، وكانوا من المهاجرين الذين كانوا يقاتلون مع النبي صلى الله عليه وسلم المشركين ولم يكونوا مَرْضَى ولا عُمياناً...
{تعرفهم بسيماهم}... السِّيما العلامة... قال الله تعالى: {سيماهم في وجوههم من أثر السجود} [الفتح: 29] يعني علامتهم. فجائز أن تكون العلامة المذكورة في قوله تعالى: {تعرفهم بسيماهم} ما يظهر في وجه الإنسان من كسوف البال وسوء الحال، وإن كانت بزتهم وثيابهم وظاهر هيئتهم حسنة جميلة؛ وجائز أن يكون الله تعالى قد جَعَل لنبيه عَلَماً يستدلّ به إذا رآهم عليه على فقرهم؛ وإن كنا لا نعرف ذلك منهم إلا بظهور المسألة منهم أو بما يظهر من بذاذة هيئتهم... وهذا يدلّ على أن لما يظهر من السِّيما حظّاً في اعتبار حال من يظهر ذلك عليه... ونظيرُهُ أيضاً قوله تعالى: {إن كان قميصه قُدَّ من قُبُل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قُدَّ من دبر فكذبت وهو من الصادقين} [يوسف: 26و 27] فاعتبر العلامة؛ ومن نحوه قوله تعالى: {ولتعرفنهم في لَحْن القول} [محمد: 30] وإخوة يوسف عليه السلام لَطَّخوا قميصه بدمٍ وجعلوه علامة لصدقهم، قال الله تعالى: {وجاؤوا على قميصه بدم كذب}
{لا يسألون الناس إلحافاً} يعني والله أعلم: إلحاحاً وإدامةً للمسألة؛ لأن الإلحاف في المسألة هو الاستقصاء فيها وإدامتها، وهذا يدل على كراهة الإلحاف في المسألة...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} فيه وجهان: أحدهما: أن يسأل وله كفاية. والثاني: أنه الاشتمال بالمسألة، ومنه اشتق اسم اللحاف.
آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :
قول الله تعالى هو الحجة في اللغة والشريعة قال الله تعالى {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} وإنما نزلت هذه الآية في أمر الحديبية إذ منع الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم من إتمام عمرته، وسمى الله تعالى منع العدو إحصارا...
فصح أن الإحصار والحصر بمعنى واحد، وأنهما إسمان يقعان على كل مانع من عدو، أو مرض، أو غير ذلك أي شيء كان...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
اعمدوا للفقراء، واجعلوا ما تنفقون للفقراء، كقوله تعالى: {في تسع آيات} [النمل: 12] ويجوز أن يكون: صدقاتكم للفقراء...
و {الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله} هم الذين أحصرهم الجهاد {لاَ يَسْتَطِيعُونَ} لاشتغالهم به {ضَرْبًا فِي الأرض} للكسب. وقيل هم أصحاب الصفة، وهم نحو من أربعمائة رجل من مهاجري قريش لم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر، فكانوا في صفة المسجد وهي سقيفته يتعلمون القرآن بالليل، ويرضخون النوى بالنهار. وكانوا يخرجون في كل سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن كان عنده فضل أتاهم به إذا أمسى.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا} سَيَأْتِي تَحْقِيقُ الْفَقْرِ فِي آيَةِ الصَّدَقَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَنْ هُمْ؟ قِيلَ: هُمْ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَيُحْكَى عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تُعْطَى لِكَافِرٍ، وَمَعْنَاهُ صَدَقَةُ الْفَرْضِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ} قِيلَ: هُوَ الْخُشُوعُ. وَقِيلَ: الْخَصَاصَةُ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْخُشُوعَ قَدْ يَكُونُ عَلَى الْغِنَى قَالَ تَعَالَى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} فَعَمَّ الْفَقِيرَ وَالْغَنِيَّ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا} ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَإِنَّمَا الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلَا يَفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ».
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْوَاجِبُ عَلَى مُعْطِي الصَّدَقَةِ كَانَ إمَامًا أَوْ مَالِكًا أَنْ يُرَاعِيَ أَحْوَالَ النَّاسِ، فَمَنْ عَلِمَ فِيهِ صَبْرًا عَلَى الْخَصَاصَةِ وَتَحَلِّيًا بِالْقَنَاعَةِ آثَرَ عَلَيْهِ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الصَّبْرَ، فَرُبَّمَا وَقَعَ فِي التَّسَخُّطِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ: «إنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ».
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: {إلْحَافًا}. مَعْنَاهُ الشُّمُولُ بِالْمَسْأَلَةِ إمَّا لِلنَّاسِ، وَإِمَّا فِي الْأَمْوَالِ؛ فَيَسْأَلُ مِنَ النَّاسِ جَمَاعَةً، وَيَسْأَلُ مِنَ الْمَالِ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَبِنَاءُ
" لُحِفَ "لِلشُّمُولِ، وَمِنْهُ اللِّحَافُ؛ وَهُوَ الثَّوْبُ الَّذِي يَشْتَمِلُ بِهِ، وَنَحْوُهُ الْإِلْحَاحُ؛ يُقَالُ: أَلْحَفَ فِي الْمَسْأَلَةِ إذَا شَمِلَ رِجَالًا أَوْ مَالًا، وَأَلَحَّ فِيهَا إذَا كَرَّرَهَا...
رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُلْحِفُوا فِي الْمَسْأَلَةِ، فَوَاَللَّهِ لَا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا فَتُخْرِجُ لَهُ مَسْأَلَتُهُ مِنِّي شَيْئًا وَأَنَا كَارِهٌ فَيُبَارِكُ اللَّهُ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتُهُ». وَرَوَى مَالِكٌ عَنِ الْأَسَدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «نَزَلْت أَنَا وَأَهْلِي بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَقَالَ لِي أَهْلِي: اذْهَبْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلْهُ لَنَا شَيْئًا نَأْكُلُهُ، وَجَعَلُوا يَذْكُرُونَ مِنْ حَاجَتِهِمْ فَذَهَبْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدْت عِنْدَهُ رَجُلًا يَسْأَلُهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا أَجِدُ مَا أُعْطِيك. فَوَلَّى الرَّجُلُ عَنْهُ وَهُوَ مُغْضَبٌ، وَهُوَ يَقُولُ: لَعَمْرُك إنَّك لَتُعْطِي مَنْ شِئْت، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّهُ لَيَغْضَبُ عَلَيَّ أَلَّا أَجِدَ مَا أُعْطِيهِ، مَنْ سَأَلَ مِنْكُمْ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ أَوْ عِدْلُهَا فَقَدْ سَأَلَ إلْحَافًا. فَقَالَ الْأَسَدِيُّ: لَلَقْحَةٌ لَنَا خَيْرٌ مِنْ أُوقِيَّةٍ»... فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُلْحِفَ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ الرَّجُلَ بَعْدَمَا رَدَّهُ عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ عَنِ السُّؤَالِ، إلَّا أَنْ يَسْأَلَ زَائِدًا عَلَى مَا عِنْدَهُ، وَيُغْنِيهِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ؛ فَذَلِكَ جَائِزٌ. وَسَمِعْت بِجَامِعِ الْخَلِيفَةِ بِبَغْدَادَ رَجُلًا يَقُولُ: هَذَا أَخُوكُمْ يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ مَعَكُمْ، وَلَيْسَ لَهُ ثِيَابٌ يُقِيمُ بِهَا سُنَّةَ الْجُمُعَةِ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى رَأَيْت عَلَيْهِ ثِيَابًا جُدُدًا، فَقِيلَ لِي: كَسَاهُ إيَّاهَا فُلَانٌ لِأَخْذِ الثَّنَاءِ بِهَا. وَيُكَرِّرُ الْمَسْأَلَةَ إذَا رَدَّهُ الْمَسْئُولُ وَالسَّائِلُ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مَا سَأَلَهُ إيَّاهُ أَوْ جَاهِلٌ بِحَالِهِ، فَيُعِيدُ عَلَيْهِ السُّؤَالَ إعْذَارًا أَوْ إنْذَارًا ثَلَاثًا لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ، وَالْأَفْضَلُ تَرْكُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الحسبان هو الظن، وقوله {الجاهل} لم يرد به الجهل الذي هو ضد العقل، وإنما أراد الجهل الذي هو ضد الاختبار...
لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :
{وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم} يعني أن الله تعالى يعلم مقادير الإنفاق ويجازي عليها ففيه حث على الصدقة والإنفاق في الطاعة...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
ذكر سبحانه المصرف الذي توضع فيه الصدقة، فقال تعالى: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا}. فوصفهم بست صفات: إحداها: الفقر.
الثانية: حبسهم أنفسهم في سبيله تعالى وجهاد أعدائه، ونصر دينه، وأصل الحصر: «المنع»، فمنعوا أنفسهم من تصرفها في أشغال الدنيا، وقصروها على بذلها لله في سبيله.
الثالثة: عجزهم عن الأسفار للتكسب، (والضرب في الأرض): هو السفر. قال تعالى: {علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله} [المزمل: 20] وقال تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} [النساء: 101].
الرابعة: شدة تعففهم. وهو حسن صبرهم، وإظهارهم الغنى. حتى يحسبهم الجاهل أغنياء من تعففهم، وعدم تعرضهم وكتمانهم حاجتهم.
الخامسة: أنهم يعرفون بسيماهم. وهي العلامة الدالة على حالتهم التي وصفهم الله بها. وهذا لا ينافي حسبان الجاهل أنهم أغنياء، لأن الجاهل له ظاهر الأمر، والعارف: هو المتوسم المتفرس الذي يعرف الناس بسيماهم. فالمتوسمون خواص للمؤمنين، كما قال تعالى: {إن في ذلك لآيات للمتوسمين} [الحجر: 75].
السادسة: تركهم مسألة الناس، فلا يسألونهم شيئا، والإلحاف: هو الإلحاح والنفي متسلط عليهما معا، أي لا يسألون ولا يلحفون، فليس يقع منهم سؤال يكون بسببه إلحاف.
وفيه: كالتنبيه على أن المذموم من السؤال: هو سؤال الإلحاف. فأما السؤال بقدر الضرورة من غير إلحاف فالأفضل تركه ولا يحرم. فهذه ست صفات للمستحقين للصدقة فألغاها أكثر الناس ولحظوا منها ظاهر الفقر وزيه من غير حقيقته. وأما سائر الصفات المذكورة فعزيز أهلها، ومن يعرفهم أعز. والله يختص بتوفيقه من يشاء، فهؤلاء هم المحسنون في أموالهم.
القسم الثاني: (الظالمون)، وهم ضد هؤلاء، وهم الذين يذبحون المحتاج المضطر، فإذا دعته الحاجة إليهم لم ينفسوا كربته إلا بزيادة على ما يبذلونه له. وهم أهل الربا. فذكرهم تعالى بعد هذا فقال: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين} [البقرة: 278]. فصدر الآية بالأمر بتقواه المضادة للربا، وأمر بترك ما بقي من الربا بعد نزول الآية، وعفا لهم عما قبضوه به قبل التحريم، ولولا ذلك لردوا ما قبضوه به قبل التحريم، وعلق هذا الامتثال على وجود الإيمان منهم. والمعلق على شرط منتف عند انتفائه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يحسبهم الجاهل} أي الذي ليس عنده فطنة الخلص {أغنياء من} أجل {التعفف} عن المسألة والتلويح بها قناعة بما أعطاهم الله سبحانه وتعالى مولاهم ورضي عنه وشرف نفس، والتعفف تكلف العفة وهي كف ما ينبسط للشهوة من الآدمي إلا بحقه ووجهه -قاله الحرالي...
ولما ذكر خفاءهم على الغبي ذكر جلاءهم عند المتوسم فقال: {تعرفهم} أي يا أبصر الموقنين وأفطنهم أنت ومن رسخت قدمه في متابعتك {بسيماهم} قال الحرالي: وهي صيغة مبالغة من السمة والوسم وهي العلامة الخفية التي تتراءى للمستبصر...
وتلك العلامة والله سبحانه وتعالى أعلم هي السكينة والوقار وضعف الصوت ورثاثة الحال مع علو الهمة والبراءة من الشماخة والكبر والبطر والخيلاء ونحو ذلك {لا يسئلون} لطموح أبصار بصائرهم عن الخلق إلى الخالق {الناس} من ملك ولا غيره {إلحافاً} سؤال إلزام، أخذاً من اللحاف الذي يتغطى به للزومه لما يغطيه، ومنه لاحفه أي لازمه...
ولما ذكر سبحانه وتعالى أخفى مواضع النفقة أشار إلى إخفائها لا سيما في ذلك الموضع فقال: {وما تنفقوا من خير} أي في أي وقت أنفقتموه {فإن الله} أي المستجمع لصفات الكمال {به عليم} وإن اجتهدتم في إخفائه بإعطائه لمن لا يسأل بأن لا يعرف أو بغير ذلك، وذكر العلم في موضع الجزاء أوعظ مرغب وأخوف مرهب كما يتحقق ذلك بإمعان التأمل لذلك...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
(قال) [الأستاذ] أولئك الذين نزلت فيهم الآية كانوا من الذين هاجروا بدينهم وتركوا أموالهم فحيل بينهم وبينها فهم محصرون في سبيل الله بهذه الهجرة ومحصرون بحبس أنفسهم على حفظ القرآن، وقد كان حفظه أفضل العبادات على الإطلاق لأنه حفظ الدين كله وأنتم تعرفون أنهم ما كانوا يحفظونه لأجل تلاوته أمام الجنائز، ولا في الأعراس والمآتم ولا لاستجداء الناس به ولا لمجرد التعبد بتلاوة ألفاظه وإنما كانوا يحفظونه للفهم والاهتداء والعمل به، ولحفظ أصل الدين بحفظه. وكانوا أيضا يحفظون ما يبينه به النبي صلى الله عليه وسلم من سنته.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يخص بالذكر مصرفا من مصارف الصدقة؛ ويعرض صورة شفة عفة كريمة نبيلة، لطائفة من المؤمنين. صورة تستجيش المشاعر، وتحرك القلوب لإدراك نفوس أبية بالمدد فلا تهون، وبالإسعاف فلا تضام، وهي تأنف السؤال وتأبى الكلام... لقد كان هذا الوصف الموحي ينطبق على جماعة من المهاجرين، تركوا وراءهم أموالهم وأهليهم؛ وأقاموا في المدينة ووقفوا أنفسهم على الجهاد في سبيل الله، وحراسة رسول الله [ص]... ولكن النص عام، ينطبق على سواهم في جميع الأزمان. ينطبق على الكرام المعوزين، الذين تكتنفهم ظروف تمنعهم من الكسب قهرا، وتمسك بهم كرامتهم أن يسألوا العون. إنهم يتجملون كي لا تظهر حاجتهم؛ يحسبهم الجاهل بما وراء الظواهر أغنياء في تعففهم، ولكن ذا الحس المرهف والبصيرة المفتوحة يدرك ما وراء التجمل. فالمشاعر النفسية تبدو على سيماهم وهم يدارونها في حياء...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة آفات الصدقات التي تذهب بخيرها بالنسبة لمعطيها من منٍّ وأذى ورياء وقصد إلى الخبيث دون الطيب ينفق منه، مع أن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، ثم بين أنه لا يصح أن يكون الكفر أو العصيان سببا للمنع حيث يجب العطاء، ليحمل المشرك على الإيمان، والعاصي على الطاعة.
بعد هذا بين سبحانه موضع الصدقات والصفات التي توجب العطاء في مستحقها، وقد قصد سبحانه وتعالى إلى بيان موضع الأولوية فيها، فقال تعالى:...
{للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله} أي أن الصدقة تكون للفقراء الذين اتصفوا بهذه الصفات، وكانوا على تلك الأحوال،... و عبر في الآية الكريمة ب [أحصروا] بالبناء للمجهول للإشارة إلى أن فقرهم لم يكن نتيجة امتناع عن العمل المجدي النافع، ولم يكن تخاذلا وكسلا، أو تهاونا في طلب الرزق الحلال، إنما كان بمنع من غيرهم، أو ليس لهم فيه إرادة حرة قد آثروا فيها الكسل على العمل، وإنما كان المنع عجزا، أو لأنهم بمقتضى التوزيع العادل والتنسيق الكامل في الأعمال تحبسهم الجماعة عن طلب الرزق لينصرفوا إلى عمل آخر يجدي وينفع كالجهاد في سبيل الله، فكانوا ممنوعين عن طلب الرزق بحكم الواقع أو التكليف ولم يكونوا ممتنعين...
حينئذ يكون قوله تعالى: {في سبيل الله} أعم من الحال التي ذكرها أولئك المفسرون بأن يكون معناها، أي في سبيل القيام بما يجب عليهم، سواء أكان ذلك الواجب رزقا يطلبونه، ولكنهم يعجزون عن الحصول عليه، فهم في سبيل هذا الطلب في سبيل الله، أم كان ذلك الواجب خدمة عامة حبسوا أنفسهم لها، أو القيام بأمر من الفروض الكفائية التي تخصصوا في بعضها كطلب العلم، فإن هؤلاء على المجتمع فرادى وجماعات وعلى الدولة أن تسهل لهم الحياة، وتمكنهم من الاستمرار على طلب ما يطلبون... {وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم} هذه الجملة السامية ختمت بها الآية الكريمة، لثلاثة أمور:
أولها: تربية الشعور بمراقبة الله في نفس المؤمن، فإنه إذا أحس أن الله سبحانه وتعالى مطلع على كل ما يعمل من خير وشر، أحس بمراقبته سبحانه، ودام ذكره له، وشعوره بعظمته، فيكون في مقام العبودية الرفيع، ويعبد الله كأنه يراه، كما قال صلى الله عليه وسلم:"اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
ثانيها: هو الإحساس برضا الله عنه عند فعل الخير، إذ إن الله يراه وهو يفعله، والإحساس بمرضاة الله مقام جليل، فرضوان الله أكبر من كل نعيم.
[و] ثالثها: العلم بالجزاء الأخروي؛ فإنه يثيبه عليه، لأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
هذه الآية الكريمة توضح صفات الفقير المسلم، الذي لا ينزل به الفقر إلى درجة التطاول على الناس وإحراجهم، كما لا تنزل به الحاجة إلى درجة التبذل والاستغلال الدنيء، وفي نفس الوقت تشير نفس الآية إلى أن فقر هذا الفقير واحتياجه ليس صفة لازمة له، ولاصقة به على الدوام، وإنما هو أمر عارض في حياته، بسبب فقدان وسائل العمل، وتعذر وجوه الكسب، وهذا معنى قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ}. أي أقفلت في وجوههم كافة الطرق: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ}. أي لا يجدون مجالا للكسب والاتجار، إذ الضرب في الأرض في لغة القرآن خاصة، والاستعمال العربي عامة معناه السعي للتكسب والتنقل للبيع والشراء {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء}. أي أن الجاهل بحقيقة حالهم يعتقد أنهم في سعة وغنى {مِنَ التَّعَفُّفِ}. أي لعدم قيامهم بأي إزعاج للغير، أو إلحاح عليه {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}. أي يعرفهم أخوهم المؤمن بما له من صدق الفراسة، حيث إن المؤمن ينظر بنور الله، وهم لا يلحون في السؤال، فضلا عن طلب ما يزيد على حاجتهم بقصد الاستغلال. وهكذا لا ينزل الفقر بالمسلم حالة اضطراره إلى درجة البؤس والذلة والمهانة، لأن الإسلام حريص على إعزازه والأخذ بيده ورفع مستواه المادي المنخفض، إلى درجة مستواه الروحي الإسلامي الممتاز...
وهذه الآية نفسها يقتضي مفهومها أنه بمجرد ما يجد الفقير المسلم وسيلة للعمل ووجها للكسب لا يسوغ له أن يتكل على غيره، ولا يسوغ لغيره أن يساعده على التواكل والكسل، باسم الاحتياج ووصف الفقر، بل يحاول أن ينتقل من صف الفقراء المعسرين، إلى صف القادرين على الكسب الموسرين.
ومما يجب التنبيه إليه في هذا المقام ما ذكره القاضي أبو بكر (ابن العربي) المعافري إذ قال:"الواجب على معطي الصدقة-كان إماما أو مالكا-أن يراعي أحوال الناس، فمن علم فيه صبرا على الخصاصة، وتحليا بالقناعة، آثر عليه من لا يستطيع الصبر، فربما وقع التسخط. قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه، مخافة أن يكبه الله في النار على وجهه"...
وإذا نظرنا إلى قول الحق: {لا يستطيعون ضرباً في الأرض} و (الضرب) هو فعل من جارحة بشدة على متأثر بهذا الضرب، وما هو الضرب في الأرض؟ إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يبين لنا أن الكفاح في الحياة يجب أن يكون في منتهى القوة، وإنك حين تذهب في الأرض فعليك أن تضربها حرثاً، وتضربها بذراً، لا تأخذ الأخذ بهوادة ولين ولذلك يقول الحق: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور 15} (سورة الملك)... إن الأرض مسخّرة من الحق سبحانه للإنسان، يسعى فيها، ويضرب فيها، ويأكل من رزق الله الناتج منها...
{وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم} يجب أن تعلم أنه قبل أن تعطي قد علم الله أنك ستعطي، فالأمر محسوب عنده بميزان، ويجيء تصرف خلقه على وفق قدره، وما قدره قديما يلزم حاليا، وهو سبحانه قد قدر؛ لأنه علم أن عبده سيفعل وقد فعل. وكل فعل من الأفعال له زمن يحدث فيه، وله هيئة يحدث عليها. والزمن ليل أو نهار...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ولكن من هم هؤلاء الذين يستحقون الإنفاق، في ما يدعو إليه الله من الإنفاق في سبيله، هل هم الذين لا يتركون مجالاً للمسألة إلا وانطلقوا فيه، ممن تحوّل السؤال عندهم إلى مهنة للتعيش، الأمر الذي قد يجعل من هذا التشريع تشجيعاً للبطالة والامتناع عن العمل والإخلاد إلى الراحة في الكسب السهل؟ عند حدود العجز؟ أو الذين فرضت عليهم ظروف الالتزام بالإسلام الخروج من ديارهم، والابتعاد عن مواقعهم الطبيعية فيها للكسب الحلال بفعل ضغط القوى الكافرة المشركة التي منعتهم من الحصول على حاجاتهم الخاصة...
وتجيب الآية على هذا السؤال، فتحدد الفئة الثانية كمورد للإنفاق، لأن الله لا يريد للناس القادرين على العمل أن يستسلموا للسؤال طلباً للعيش السهل، لأن ذلك يحوّل المجتمع إلى مجموعات من العاطلين الذين يعيشون كلاً على غيرهم، وهو ما يبغضه الإسلام ويحاربه، بل يريد لهم الحصول على حاجتهم بعرق جبينهم وكدّ سواعدهم...
أما الفئات العاجزة التي لا تملك وسائل العيش الكريم، فإن المجتمع بكامله مسؤول عنها في ما يستطيعه من الإنفاق عليها ورعاية أمورها ورفع مستواها المادي والمعنوي. ثم تبشر الآية الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله سراً وعلانية، بالأمن عند الله والسرور برضاه وثوابه، جزاءً لهم على ما قدموه لله من طاعة وللمجتمع من خدمات كبيرة...
{لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ومُنعوا من ممارسة حرياتهم في التحرك العملي من أجل كسب العيش بفعل الظروف السياسية والأمنية والاجتماعية الخانقة، والضغوط الخارجية القاسية، فلم يملكوا سبيلاً إلى تلبية حاجاتهم الضرورية...
وفي ضوء هذا، فإن كلمة {لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} تشمل كل الذين توفرت فيهم هذه الصفة على مدى الزمن ممن لم يكن شأنهم في ترك العمل المعيشي من باب الكسل والاسترخاء والبعد عن المسؤولية، بل من باب القيام بمسؤولياتهم العامة التي توحي بها كلمة {سَبِيلِ اللَّهِ} ليسافروا إلى هذا المكان أو ذاك مما تتوفر فيه الوسائل الطبيعية للحصول على الرزق، وذلك من جهة الموانع الخارجية أو الداخلية المحيطة بأوضاعهم الخاصة والعامة التي تضغط على حرياتهم في الحركة في الذهاب والتصرف، فلم تكن المسألة عجزاً طبيعياً في الذات، بل من خلال الأجواء المتنوّعة...
ولكننا نلاحظ أن الآية ليست في مقام بيان التفاصيل من حيث الإشارة إلى ما هو واجب أو راجح أو غير واجب وراجح في السؤال، بل في مقام بيان الطبيعة القوية لهؤلاء، بحيث يتمردون على آلام الحاجة وقد يموتون تحت تأثير ذلك، فهي من نوع الحاجة الملحّة القاسية التي قد تدفع الآخرين إلى أن يسألوا الناس إلحافاً ولكنهم لا يفعلون ذلك، ما يفرض على الناس اكتشافهم وسدّ حاجتهم بالصدقات، لأنها شرّعت لأمثال هؤلاء من أجل حلّ مشكلتهم الضاغطة الصعبة.
{وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ} في الموارد التي أرادكم الله أن تنفقوا فيها من الخير المنفتح على حاجات الناس والحياة {فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} فهو يجازيكم عليه...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنّ أحد الذنوب الكبيرة هو السؤال والاستجداء والطلب من الناس من دون حاجة...