الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ومن والاه .
أما بعد : فقد سبق لي –بحمد الله وتوفيقه- أن قمت بتفسير سور : الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، والتوبة ، ويونس ، وهود ، ويوسف ، والرعد ، وإبراهيم ، والحجر .
وهأنذا أقدم للقارئ الكريم تفسير سورة " النحل " ، وقد حاولت فيه أن أكشف عما اشتملت عليه السورة الكريمة من توجيهات سامية ، وآداب عالية ، وإرشادات حكيمة ، ومجادلات بالتي هي أحسن .
وقد مهدت لتفسيرها بكلمة ، بينت فيها زمان نزولها ، وعدد آياتها . وسبب تسميتها بهذا الاسم ، والمقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها .
والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم ، ونافعا لعباده ، وشفيعا لنا يوم نلقاه –سبحانه- .
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
1- سورة النحل هي السورة السادسة عشرة في ترتيب المصحف ، فقد سبقتها سور : الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، والتوبة ، ويونس ، وهود ، ويوسف ، والرعد ، وإبراهيم ، والحجر .
أما في ترتيب النزول ، فكان ترتيبها التاسعة والستين ، وكان نزولها بعد سورة الكهف( {[1]} ) .
2- وعدد آياتها ثمان وعشرون ومائة آية .
3- وسميت بسور النحل ، لقوله –تعالى- فيها [ وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا . . . ]( {[2]} ) .
وتسمى –أيضا- بسورة النعم ، لأن الله –تعالى- عدد فيها أنواعا من النعم التي أنعم بها على عباده .
4- وسورة النحل من السور المكية : أي التي كان نزولها قبل الهجرة النبوية الشريفة .
قال القرطبي : " وهي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر . وتسمى سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها من نعمه على عباده . وقيل : هي مكية إلا قوله –تعالى- [ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به . . ] الآية . نزلت بالمدينة في شأن التمثيل بحمزة وقتلى أحد . . " ( {[3]} ) .
وقال الآلوسي : وأطلق جمع القول بأنها مكية ، وأخرج ذلك ابن مردويه عن ابن عباس ، وابن الزبير –رضي الله عنهم- وأخرجه النحاس من طريق مجاهد عن الحبر أنها نزلت بمكة سوى ثلاث آيات من آخرها ، فإنهن نزلن بين مكة والمدينة في منصرف النبي –صلى الله عليه وسلم- من غزوة أحد( {[4]} ) .
والذي تطمئن إليه النفس ، أن سورة النحل كلها مكية ، وذلك لأن الروايات التي ذكروها في سبب نزول قوله –تعالى- ، [ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به . . ] إلخ السورة . فيها مقال . فقد ذكر الإمام ابن كثير عند سردها ، أن بعضها مرسل وفيه مبهم ، وبعضها في إسناده ضعف . . ( {[5]} ) .
5- ( أ ) وإذا ما قرأنا سورة النحل بتدبر وتفكر ، نراها في مطلعها تؤكد أن يوم القيامة حق ، وأنه آت لا ريب فيه ، وأن المستحق للعبادة والطاعة إنما هو الله الخالق لكل شيء .
قال –تعالى- : [ أتى أمر الله فلا تستعجلوه ، سبحانه وتعالى عما يشركون ، ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده ، أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون ] .
( ب ) ثم تسوق ألوانا من الأدلة على وحدانية الله وقدرته ، عن طريق خلق السموات والأرض وخلق الإنسان والحيوان ، وعن طريق إنزال الماء من السماء ، وتسخير الليل والنهار ، والشمس والقمر والنجوم . . وغير ذلك من النعم التي لا تحصى .
استمع إلى بعض هذه الآيات التي تحكي جانبا من هذه النعم فتقول : [ خلق السموات والأرض بالحق ، تعالى عما يشركون . خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين . والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع تأكلون . ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون . وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم ] .
ثم تقول : [ وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون . وعلامات وبالنجم هم يهتدون . أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون . وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ، إن الله لغفور رحيم ] .
( ج ) وبعد أن توبخ السورة المشركين لتسويتهم بين من يخلق ومن لا يخلق تحكي جانبا من أقاويلهم الباطلة التي وصفوا بها القرآن الكريم ، وتصور استسلامهم لقضاء الله العادل فيهم يوم الحساب ، فتقول : [ وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا : أساطير الأولين . ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ، ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ، ألا ساء ما يزرون ] .
إلى أن تقول : [ الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ، فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء ، بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون . فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين ] .
( د ) وكعادة القرآن الكريم في قرنه الترهيب بالترغيب ، وفي عقده المقارنات بين مصير المؤمنين ومصير الكافرين ، جاءت الآيات بعد ذلك لتبشير المتقين بحسن العاقبة .
جاء قوله –تعالى- : [ وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا ، للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ، ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين ] .
( ه ) ثم تعود السورة الكريمة مرة أخرى إلى حكاية أقوال المشركين حول مسألتين من أخطر المسائل ، وهما مسألة الهداية والإضلال ، ومسألة البعث بعد الموت بعد أن حكت ما قالوه في شأن القرآن الكريم .
استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكي أقوالهم ثم يرد عليها بما يبطلها فيقول : [ وقال الذين أشركوا لو شاء الله ماعبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء ، كذلك فعل الذين من قبلهم ، فهل على الرسل إلا البلاغ المبين . ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ، فمنهم من هدى الله ، ومنهم من حقت عليه الضلالة ، فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين ، وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت ، بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون . ليبين لهم الذين يختلفون فيه ، وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين ] .
( و ) ثم تهدد السورة الكريمة أولئك الجاحدين لنعم الله ، الماكرين للسيئات ، بأسلوب يستثير النفوس ويبعث الرعب في القلوب ، وتدعوهم إلى التأمل والتفكر في ملكوت السموات والأرض ، لعل هذا التفكر يكون سببا في هدايتهم ، وتخبرهم بأن الله –تعالى- هو الذي نهاهم عن الشرك ، وهو الذي أمرهم بإخلاص العبادة له .
استمع إلى القرآن وهو يصور هذه المعاني بأسلوبه البديع فيقول : [ أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض ، أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون . أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين . أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرءوف رحيم . أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجلا لله وهم داخرون . ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون . يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون . وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون ] .
( ز ) ثم انتقلت السورة إلى سرد أنواع من جهالات المشركين ، ومن سوء تفكيرهم ، حتى يزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم ، ويشكروا الله –تعالى- على توفيقه إياهم على الدخول في الإسلام .
لقد ذكرت السورة الكريمة ألوانا متعددة من جهالات الكافرين ، ومن ذلك قوله –تعالى- : [ ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم ، تالله لتسألن عما كنتم تفترون . ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون ] .
[ ويجعلون لله ما يكرهون ، وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون ] .
( ح ) هكذا تصور سورة النحل ما كان عليه المشركون من غباء وغفلة وسوء تفكير ، ثم تعود –سورة النعم- مرة أخرى إلى الحديث عن نعم الله –تعالى- على عباده ، فتتحدث عن نعمة الكتاب ، وعن نعمة الماء . وعن نعمة الأنعام ، وعن نعمة الثمار والفواكه ، وعن نعمة العسل المتخذ من بطون النحل وعن نعمة التفاضل في الأرزاق ، وعن نعمة الأزواج والبنين والحفدة .
قال –تعالى- : [ وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه ، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون . والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ، إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون . وإن لكم في الأنعام لعبرة ، نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ] .
إلى أن يقول –سبحانه- : [ والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا ، وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات ، أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون ] .
( ط ) ثم تسوق السورة الكريمة مثلين مشتملين على الفرق الشاسع ، بين المؤمن والكافر ، وبين الإله الحق والآلهة الباطلة ، فتقول : " ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ، ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا ، هل يستوون ؟ الحمد لله ، بل أكثرهم لا يعلمون ، وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء ، وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ] .
( ي ) وبعد إيراد هذين المثلين البليغين ، تعود سورة النعم إلى الحديث عن أنواع أخرى من نعم الله على خلقه ، لكي يشكروه عليها ، ويستعملوها فيما خلقت له فتتحدث عن نعمة إخراج الإنسان من بطن أمه ، وعن نعمة البيوت التي هي محل سكن الإنسان ، وعن نعمة الظلال ، وعن نعمة الجبال ، وعن نعمة الثياب .
قال –تعالى- : [ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ] . [ والله جعل لكم من بيوتكم سكنا ، وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ، ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها ، أثاثاً ومتاعا إلى حين . والله جعل لكم مما خلق ظلالا ، وجعل لكم من الجبال أكناناً ، وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم ، كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون ] .
( ك ) ثم بعد أن تصور السورة الكريمة أحوال المشركين يوم القيامة عندما يرون العذاب ، وتحكي ما يقولون عندما يرون شركاءهم ، وتقرر أن الله يبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وأن الرسول –صلى الله عليه وسلم- سيكون شهيدا على من بعث إليهم .
بعد كل ذلك تسوق السورة عددا من الآيات الآمرة بمكارم الأخلاق والناهية عن منكراتها فتقول : [ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، يعظكم لعلكم تذكرون . وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ، وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ، إن الله يعلم ما تفعلون ] .
( ل ) وبعد هذه التوجيهات السامية المشتملة على الترغيب والترهيب ، وعلى الأوامر والنواهي . تتحدث آيات السورة عن آداب تلاوة القرآن وعن الشبهات التي أثارها المشركون حوله مع الرد عليها بما يدحضها ، وعن حكم من تلفظ بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، فتقول : [ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ] .
ثم تقول : [ ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر ، لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ] .
ثم تقول : [ من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ] .
( م ) ثم تعود السورة الكريمة لضرب الأمثال ، فتسوق مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم بالنعم فلم يقابلوها بالشكر ، فانتقم الله –تعالى- منهم . كما تسوق جانبا من حياة سيدنا إبراهيم كمثال للشاكرين الذين استعملوا نعم الله فيما خلقت له .
استمع إلى قوله –تعالى- : [ وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان ، فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ] .
ثم إلى قوله –تعالى- : [ إن إبراهيم كان أمة قانتا حنيفا ولم يك من المشركين . شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم . وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين . ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ] .
( ن ) وأخيرا تختتم السورة الكريمة بتلك الآيات الجامعة لأحكم الأساليب وأكملها وأجملها وأنجعها في الدعوة إلى الله –تعالى- وفي معاملة الناس فتقول : [ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين . وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله ، ولا تحزن عليهم ولاتك في ضيق مما يمكرون . إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ] .
6- وبعد ، فهذا عرض إجمالي لأهم المقاصد التي اشتملت عليها السورة الكريمة ، ومنه نرى :
( أ ) عنايتها الفائقة بإقامة الأدلة على وحدانية الله –تعالى- وعلى صدق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في دعوته ، وعلى أن يوم القيامة حق ، وعلى أن القرآن من عند الله –عز وجل .
( ب ) كما نرى تفصيلها القول في بيان آلاء الله –تعالى- على خلقه ، وقد سبحت السورة في هذا الجانب سبحا عظيما ، فذكّرت الإنسان بنعمة خلقه ، وبنعمة تسخير الأنعام والشمس ، والقمر ، والنجوم ، والماء ، والجبال ، والأشجار . . كل ذلك وغيره لمنفعته ومصلحته .
( ج ) كما نلمس اهتمامها بضرب الأمثال للمؤمن والكافر ، والشاكر والجاحد والإله الحق والآلهة الباطلة . . وذلك لأن في ضرب الأمثال تقريبا للبعيد وتوضيحا للخفي ، بأسلوب من شأنه أن يكون أوقع في القلوب ، وأثبت في النفوس وأدعى إلى التدبر والتفكر .
( د ) كما ندرك حرصها على إيراد أقوال المشركين وشبههم ! ثم الرد عليها بطريقة تقنع العقول ، وترضي العواطف ، بأن الإسلام هو الدين الحق ، وبذلك يزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم .
( ه ) كما نحس –عند قراءتها- بعنايتها بتوجيه المؤمنين إلى مكارم الأخلاق ، وأمهات الفضائل ، كالعدل ، والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، والوفاء ، والصبر ، والشكر . . . وبنهيهم عن الرذائل كالغدر والجحود ، ونقض العهود ، والاستكبار ، والظلم .
وأخيرا فإن المتأمل في هذه السورة –أيضاً- يراها حافلة بأسلوب الترغيب والترهيب ، والتبشير والإنذار ، والوعد والوعيد .
الوعيد للكافرين بسوء المصير إذا ما لجوا في ضلالهم وطغيانهم كما في قوله –تعالى- : [ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ] .
والوعد للمؤمنين بالحياة الطيبة في الدارين ، كما في قوله –تعالى- : [ من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ] .
والآن فلنبدأ في التفسير التحليلي لسورة النعم ، ونسأل الله –تعالى- أن يرزقنا التوفيق والسداد .
افتتحت السورة الكريمة ، بتهديد الكافرين الذين كانوا ينكرون البعث ، وما يترتب عليه من ثواب أو عقاب ، ويستبعدون نصر الله - تعالى - لأوليائه ، فقال - تعالى - : { أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } والفعل { أتى } هنا ، بمعنى قرب ودنا بدليل { فلا تستعجلوه } ، لأن المنهى عن الاستعجال يقتضى أن الأمر الذى استعجل حصوله لم يحدث بعد .
والمراد بأمر الله : ما اقتضته سنته وحكمته - سبحانه - من إثابة المؤمنين ونصرهم ، وتعذيب الكافرين ودحرهم .
والفاء فى قوله { فلا تستعجلوه } للتفريع . والاستعجال : طلب حصول الشئ قبل وقته . والضمير المنصوب فى { تستعجلوه } يعود على { أمر الله } ، لأنه هو المتحدث عنه ، أو على { الله } - تعالى - ، فلا تستعجلوا الله فيما قضاه وقدره .
والمعنى : قرب ودنا مجئ أمر الله - تعالى - وهو إكرام المؤمنين بالنصر والثواب ، وإهانة الكافرين بالخسران والعقاب ، فلا تستعجلوا - أيها المشركون - هذا الأمر ، فإنه آت لا ريب فيه ، ولكن فى الوقت الذى يحدده الله تعالى - ويشاؤه .
وعبر عن قرب إتيان أمر الله - تعالى - بالفعل الماضى { أتى } للإِشعار بتحقق هذا الإِتيان ، وللتنويه بصدق المخبر به ، حتى لكأن ما هو واقع عن قريب ، قد صار فى حكم الواقع فعلا . وفى إبهام أمر الله ، إشارة إلى تهويله وتعظيمه ، لإِضافته إلى من لا يعجزه شئ فى الأرض ولا فى السماء .
قوله { فلا تستعجلوه } زيادة فى الإِنذار والتهديد ، أى : فلا جدوى من استعجالكم ، فإنه نازل بكم سواء استعجلتم أم لم تستعجلوا .
والظاهر أن الخطاب هنا للمشركين ، لأنهم هم الذين كانوا يستعجلون قيام الساعة ، ويستعجلون نزول العذاب بهم ، وقد حكى القرآن عنهم ذلك فى آيات :
منها قوله - تعالى - : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا والذين آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الحق أَلاَ إِنَّ الذين يُمَارُونَ فَي الساعة لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } ومنها قوله - سبحانه - : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } وقال بعض العلماء : و " يجوز أن يكون الخطاب هنا شاملا للمؤمنين ، لأن عذاب الله - تعالى - وإن كان الكافرون يستعجلونه ، تهكما به ، لظنهم أنه غير آت ، فإن المؤمنين يضمرون فى نفوسهم استبطاءه ، ويحبون تعجيله للكافرين " .
وقوله : { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } جملة مستأنفة ، قصد بها إبطال إشراكهم ، وزيادة توبيخهم وتهديدهم .
أى : تنزه الله - تعالى - وتعاظم بذاته وصفاته ، عن إشراك المشركين ، المؤدى بهم إلى الأقوال الفاسدة ، والأفعال السيئة ، والعاقبة الوخيمة ، والعذاب المهين . وقوله : { يشركون } : قراءة الجمهور ، وفيها التفات من الخطاب فى قوله { فلا تستعجلوه } إلى الغيبة ، تحقيرا لشأن المشركين ، وحطا من درجتهم عن رتبة الخطاب ، وحكاية لشنائعهم التى يتبرأ منها العقلاء .
وقرأ حمزة والكسائى { تشركون } تبعا لقوله - تعالى - { فلا تستعجلوه } وعلى قراءتهما لا التفات فى الآية .
{أتى أمر الله فلا تستعجلوه} كانوا يستعجلون ما أو عدهم الرسول صلى الله عليه وسلم من قيام الساعة ، أو إهلاك الله تعالى إياهم كما فعل يوم بدر استهزاء وتكذيبا ، ويقولون إن صح ما تقوله فالأصنام تشفع لنا وتخلصنا منه فنزلت ، والمعنى أن الأمر الموعود به بمنزلة الآتي المتحقق من حيث إنه واجب الوقوع ، فلا تستعجلوا وقوعه فإنه لا خير لكم فيه ولا خلاص لكم منه . { سبحانه تعالى عما يشركون } تبرأ وجل عن أن يكون له شريك فيدفع ما أراد بهم . وقرأ حمزة و الكسائي بالتاء على وفق قوله : { فلا تستعجلوه } والباقون بالياء على تلوين الخطاب ، أو على أن الخطاب للمؤمنين أو لهم ولغيرهم ، لما روي أنه لما نزلت أتى أمر الله فوثب النبي صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رؤوسهم فنزلت { فلا تستعجلوه } .
هذه السورة كانت تسمى سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها من نعمه على عباده ، وهي مكية غير قوله تعالى : { وإن عوقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } الآية ، نزلت بالمدينة في شأن التمثيل بحمزة رضي الله عنه وقتلى أحد ، وغير قوله تعالى : { واصبر و ما صبرك إلا بالله } ، وغير قوله : { ثم إن ربك للذين هاجروا } الآية ، وأما قوله تعالى : { والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا } فمكي في شأن هجرة الحبشة{[1]} .
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال جبريل في سرد الوحي : { أتى أمر الله } وثب رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً ، فلما قال { فلا تستعجلوه } سكن{[7238]} . وقوله { أمر الله } قال فيه جمهور المفسرين : إنه يريد القيامة وفيها وعيد للكفار ، وقيل : المراد نصر محمد عليه السلام ، وقيل : المراد تعذيب كفار مكة بقتل محمد صلى الله عليه وسلم لهم وظهوره عليهم ، ذكر نحو هذا النقاش عن ابن عباس ، وقيل : المراد فرائض الله وأحكامه في عباده وشرعه لهم ، هذا هو قول الضحاك ، ويضعفه قوله { فلا تستعجلوه } إنا لا نعرف استعجالاً إلا ثلاثة اثنان منها للكفار وهي في القيامة وفي العذاب ، والثالث للمؤمنين في النصر وظهور الإسلام ، وقوله { أتى } على هذا القول إخبار عن إتيان ما يأتي ، وصح ذلك من جهة التأكيد ، وإذا كان الخبر حقاً فيؤكد المستقبل بأن يخرج في صيغة الماضي ، أي كأنه لوضوحه والثقة به قد وقع ، ويحسن ذلك في خبر الله تعالى لصدق وقوعه ، وقال قوم : { أتى } بمعنى قرب ، وهذا نحو ما قلت ، وإنما يجوز الكلام بهذا عندي لمن يعلم قرينه التأكيد ويفهم المجاز ، وأما إن كان المخاطب لا يفهم القرينة فلا يجوز وضع الماضي موضع المستقبل ، لأن ذلك يفسد الخبر ويوجب الكذب ، وإنما جار في الشرط لوضوح القرينة ب { أن } ، ومن قال : إن الأمر القيامة ، قال : إن قوله { فلا تستعجلوه } رد على المكذبين بالبعث القائلين متى هذا الوعد ، ومن قال : إن الأمر تعذيب الكفار بنصر محمد صلى الله عليه وسلم وقتله لهم ، قال إن قوله { فلا تستعجلوه } رد على القائلين { عجل لنا قطنا }{[7239]} [ ص : 16 ] ونحوه من العذاب ، أو على مستبطئي النصر من المؤمنين في قراءة من قرأ بالتاء ، وقرأ الجمهور «فلا تستعجلوه » بالتاء على مخاطبة المؤمنين أو على مخاطبة الكافرين بمعنى قل لهم : «فلا تستعجلوه » ، وقرأ سعيد بن جبير بالياء على غيبة المشركين ، وقرأ حمزة والكسائي بالتاء من فوق وجميع الباقين قرأ «يشركون » بالياء ، ورجح الطبري القراءة بالتاء من فوق في الحرفين ، قال أبو حاتم : قرأ «يشركون » بالياء ، من تحت في هذه والتي بعدها الأعرج وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن نصاح والحسن وأبو رجاء ، وقرأ عيسى الأولى بالتاء من فوق ، والثانية بالياء من تحت ، وقرأهما جميعاً بالتاء من فوق أبو العالية وطلحة والأعمش وأبو عبد الرحمن ويحيى بن وثاب والجحدري ، وقد روى الأصمعي عن نافع التاء في الأولى . وقوله { سبحانه } معناه تنزيهاً له ، وحكى الطبري عن ابن جريج ، قال : لما نزلت { أتى أمر الله فلا تستعجلوه } قال رجال من الكفار ، إن هذا يزعم أن أمر الله قد أتى فأمسكوا عما أنتم بسبيله حتى ننظر ، فلما لم يروا شيئاً عادوا فنزلت :{ اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون }{[7240]} [ الأنبياء : 1 ] فقالوا مثل ذلك : فنزلت { ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم }{[7241]} [ هود : 8 ] ، وقال أبو بكر بن حفص : لما نزلت { أتى أمر الله } رفعوا رؤوسهم ، فنزلت { فلا تستعجلوه } ، وحكى الطبري عن أبي صادق أنه قرأ : «يا عبادي أتى أمر الله فلا تستعجلوه » . و { سبحانه } نصب على المصدر أي تنزيهاً له .
سميت هذه السورة عند السلف سورة النحل ، وهو اسمها المشهور في المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة .
ووجه تسميتها بذلك أن لفظ النحل لم يذكر في سورة أخرى .
وعن قتادة أنها تسمى سورة النعم أي بكسر النون وفتح العين . قال ابن عطية : لما عدد الله فيها من النعم على عباده .
وهي مكية في قول الجمهور وهو عن أبن عباس وابن الزبير . وقيل ؛ إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة أحد ، وهي قوله تعالى { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } إلى آخر السورة . قيل : نزلت في نسخ عزم النبي صلى الله عليه وسلم على أن يمثل بسبعين من المشركين أن أظفره الله بهم مكافأة على تمثيلهم بحمزة .
وعن قتادة وجابر بن زيد أن أولها مكي إلى قوله تعالى { والذين هاجروا في الله من بعد ظلموا } فهو مدني إلى آخر السورة .
وسيأتي في تفسير قوله تعالى { ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء } ما يرجح أن بعض السورة مكي وبعضها مدني ، وبعضها نزل بعد الهجرة إلى الحبشة كما يدل عليه قوله تعالى { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا } ، وبعضها متأخر النزول عن سورة الأنعام لقوله في هذه { وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل } ، يعني بما قص من قبل قوله تعالى { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } الآيات .
وذكر القرطبي أنه روي عن عثمان بن مظعون : أما نزلت هذه الآية قرأتها على أبي طالب فتعجب وقال : يا آل غالب اتبعوا ابن أخي تفلحوا فوالله إن الله أرسله ليأمركم بمكارم الأخلاق .
وروى أحمد عن ابن عباس أن عثمان بن مظعون لما نزلت هذه الآية كان جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم قال : فذلك حين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمدا صلى الله عليه وسلم .
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره الله أن يضعها في موضعها هذا من هذه السورة .
وهذه السورة نزلت بعد سورة الأنبياء وقبل سورة ألم السجدة . وقد عدت الثانية والسبعين في ترتيب نزول السور .
وآيها مائة وثمان وعشرون بلا خلاف . ووقع للخفاجي عن الداني أنها نيف وتسعون . ولعله خطأ أو تحريف أو نقص .
معظم ما اشتملت عليه السورة إكثار متنوع الأدلة على تفرد الله تعالى بالإلهية ، والأدلة على فساد دين الشرك وإظهار شناعته .
وأدلة إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم .
وإنزال القرآن عليه صلى الله عليه وسلم .
وإن شريعة الإسلام قائمة على أصول ملة إبراهيم عليه السلام .
وإثبات البعث والجزاء ؛ فابتدئت بالإنذار بأنه قد اقترب حلول ما أنذر به المشركون من عذاب الله الذي يستهزئون به ، وتلا ذلك قرع المشركين وزجرهم على تصلبهم في شركهم وتكذيبهم .
وانتقل إلى الاستدلال على إبطال عقيدة الشرك ؛ فابتدئ بالتذكير بخلق السماوات والأرض ، وما في السماء من شمس وقمر ونجوم ، وما في الأرض من ناس وحيوان ونبات وبحار وجبال ، وأعراض الليل والنهار .
وما في أطوار الإنسان وأحواله من العبر .
وخصت النحل وثمراتها بالذكر لوفرة منافعها والاعتبار بإلهامها إلى تدبير بيوتها وإفراز شهدها .
والتنويه بالقرآن وتنزيهه عن اقتراب الشيطان ، وإبطال افترائهم على القرآن .
والاستدلال على إمكان البعث وأنه تكوين كتكوين الموجودات .
والتحذير مما حل بالأمم التي أشركت بالله وكذبت رسله عليهم السلام عذاب الدنيا وما ينتظرهم من عذاب الآخرة . وقابل ذلك بضده من نعيم المتقين المصدقين والصابرين على أذى المشركين والذين هاجروا في الله وظلموا .
والتحذير من الارتداد عن الإسلام ، والترخيص لمن أكره على الكفر في التقية من المكرهين .
والأمر بأصول من الشريعة ؛ من تأصيل العدل ، والإحسان ، والمواساة ، والوفاء بالعهد ، وإبطال الفحشاء والمنكر والبغي ، ونقض العهود ، وما على ذلك من جزاء بالخير في الدنيا والآخرة .
وأدمج في ذلك ما فيها من العبر والدلائل ، والامتنان على الناس بما في ذلك من المنافع الطيبات المنتمة ، والمحاسن ، وحسن المناظر ، ومعرفة الأوقات ، وعلامات السير في البر والبحر ، ومن ضرب الأمثال .
والتحذير من الوقوع في حبائل الشيطان .
والإنذار بعواقب كفران النعمة .
ثم عرض لهم بالدعوة إلى التوبة { ثم إن ربك للذين علموا السوء بجهالة } الخ . . . .
لمّا كان معظم أغراض هذه السورة زجر المشركين عن الإشراك وتوابعه وإنذارهم بسوء عاقبة ذلك ، وكان قد تكرّر وعيدهم من قبل في آيات كثيرة بيوم يكون الفارقَ بين الحق والباطل فتزول فيه شوكتهم وتذهب شدّتهم . وكانوا قد استبطأوا ذلك اليوم حتى اطمأنوا أنه غير واقع فصاروا يهزأون بالنبي عليه الصلاة والسلام والمسلمين فيستعجلون حلول ذلك اليوم .
صدّرت السورة بالوعيد المصوغ في صورة الخبر بأن قد حلّ ذلك المتوعد به . فجيء بالماضي المراد به المستقبل المحققُ الوقوع بقرينة تفريع { فلا تستعجلوه } ، لأن النهي عن استعجال حلول ذلك اليوم يقتضي أنه لما يحل بعد .
والأمر : مصدر بمعنى المفعول ، كالوعد بمعنى الموعود ، أي ما أمر الله به . والمرادُ من الأمر به تقديره وإرادة حصوله في الأجل المسمّى الذي تقتضيه الحكمة .
وفي التعبير عنه بأمر الله إبهام يفيد تهويله وعظمته لإضافته لمن لا يعظم عليه شيء . وقد عبّر عنه تارات بوعد الله ومرّات بأجل الله ونحو ذلك .
والخطاب للمشركين ابتداء لأن استعجال العذاب من خصالهم ، قال تعالى : { ويستعجلونك بالعذاب } [ سورة الحج : 47 ] ويجوز أن يكون شاملاً للمؤمنين لأن عذاب الله وإن كان الكافرون يستعجلون به تهكّماً لظنّهم أنه غير آتتٍ ، فإن المؤمنين يضمرون في نفوسهم استبطاءه ويحبّون تعجيله للكافرين .
فجملة { فلا تستعجلوه } تفريع على { أتى أمر الله } وهي من المقصود بالإنذار .
والاستعجال : طلب تعجيل حصول شيء ، فمفعوله هو الذي يقع التعجيل به . ويتعدّى الفعل إلى أكثر من واحد بالباء فقالوا : استعجل بكذا . وقد مضى في سورة الأنعام ( 57 ) قوله تعالى : { ما عندي ما تستعجلون به } فضمير { تستعجلوه } إما عائد إلى الله تعالى ، أي فلا تستعجلوا الله . وحذف المتعلق ب { تستعجلوه } لدلالة قوله : { أتى أمر الله } عليه . والتقدير فلا تستعجلوا الله بأمره ، على نحو قوله تعالى : { سأريكم آياتي فلا تستعجلون } [ سورة الأنبياء : 37 ] .
وقيل الضمير عائد إلى أمر { الله } ، وعليه تكون تعدية فعل الاستعجال إليه على نزع الخافض .
والمراد من النهي هنا دقيق لم يذكروه في موارد صيغ النهي . ويجدر أن يكون للتسوية كما ترد صيغة الأمر للتسوية ، أي لا جدوى في استعجاله لأنه لا يعجّل قبل وقته المؤجّل له .
مستأنفة استئنافاً ابتدائياً لأنها المقصود من الوعيد ، إذ الوعيد والزّجر إنما كانا لأجل إبطال الإشراك ، فكانت جملة { أتى أمر الله } كالمقدمة ، وجملة { سبحانه وتعالى عما يشركون } كالمقصد .
و ( ما ) في قوله : { عما يشركون } مصدرية ، أي عن إشراكهم غيره معه .
وقرأ الجمهور { يشركون } بالتحتية على طريقة الالتفات ، فعدل عن الخطاب ليختص التبرؤ من شأنهم أن ينزلوا عن شرف الخطاب إلى الغيبة .
وقرأه حمزة والكسائي بالمثناة الفوقية تبعاً لقوله : { فلا تستعجلوه } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
سورة النحل مكية كلها، غير قوله تعالى: {وإن عاقبتم...} [آية:126-128] إلى آخر السورة. وقوله تعالى: {ثم إن ربك للذين هاجروا...} [آية:110] الآية. وقوله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه...} [الآية:106] الآية. وقوله تعالى: {والذين هاجروا...} [آية:41] الآية. وقوله تعالى: {وضرب الله مثلا قرية...} [الآية:112] الآية. فإن هذه الآيات مدنيات.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
سورة النحل هي مكية إلا آية هي قوله "والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا "الآية.
وقال الشعبي: نزلت النحل كلها بمكة إلا قوله "وإن عاقبتم..." إلى آخرها.
وقال قتادة: من أول السورة إلى قوله "كن فيكون" مكي، والباقي مدني.
وقال مجاهد: أولها مكي وآخرها مدني..
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
هذه السورة تسمى سورة النعم، وقيل: سورة الآلاء.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
...مكية غير قوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} الآية، نزلت بالمدينة في شأن التمثيل بحمزة رضي الله عنه وقتلى أحد...
وأما قوله تعالى: {والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا} فمكي في شأن هجرة الحبشة.
السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني 977 هـ :
...والمقصود من هذه السورة الدلالة على أنه تعالى تام القدرة والعلم فاعل بالاختيار منزه عن شوائب النقص وأدل ما فيها على هذا المعنى أمر النحل، لما ذكر من شأنها في دقة الفهم في ترتيب بيوتها ورحبها وسائر أمرها من اختلاف ألوان ما يخرج منها من أعسالها وجعله شفاء مع أكلها من الثمار النافعة والضارة وغير ذلك من الأمور ووسمها بالنعم واضح...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
سورة النحل سميت بها لاشتمالها على قوله تعالى: {وأوحى ربك إلى النحل} المشير إلى أنه لا يبعد أن يلهم الله عز وجل بعض خواص عباده، أن يستخرجوا الفوائد الحلوة الشافية من هذا الكتاب بحمل كلماته على مواضع الشرف، وعلى المعاني المثمرة، وعلى التصرفات العالية، مع تحصيل الأخلاق الفاضلة وسلوك سبيل التصفية والتزكية. وهذا أكمل ما يعرف به فضائل القرآن ويدرك به مقاصده. قاله المهايمي. وقال بعضهم: تسمية السورة بذلك تسمية بالأمر المهم. ليتفطن الغرض الذي يرمي إليه، ك (الجمعة) لأهمية الاجتماع الأسبوعي وما ينجم عنه من مصالح الأمور العامة، والحديد لمنافعه العظيمة. و (النحل)، و (العنكبوت)، و (النمل)، للتفطن لصغار الحيوانات الحكيمة الصنائع، وهكذا، وسيأتي طرف من حكمة النحل وأسراره عند آيته في هذه السورة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السورة هادئة الإيقاع، عادية الجرس؛ ولكنها مليئة حافلة. موضوعاتها الرئيسية كثيرة منوعة؛ والإطار الذي تعرض فيه واسع شامل؛ والأوتار التي توقع عليها متعددة مؤثرة، والظلال التي تلونها عميقة الخطوط. وهي كسائر السور المكية تعالج موضوعات العقيدة الكبرى: الألوهية. والوحي. والبعث. ولكنها تلم بموضوعات جانبية أخرى تتعلق بتلك الموضوعات الرئيسية. تلم بحقيقة الوحدانية الكبرى التي تصل بين دين إبراهيم -عليه السلام- ودين محمد صلى الله عليه وسلم وتلم بحقيقة الإرادة الإلهية والإرادة البشرية فيما يختص بالإيمان والكفر والهدى والضلال. وتلم بوظيفة الرسل، وسنة الله في المكذبين لهم. وتلم بموضوع التحليل والتحريم وأوهام الوثنية حول هذا الموضوع. وتلم بالهجرة في سبيل الله، وفتنة المسلمين في دينهم، والكفر بعد الإيمان وجزاء هذا كله عند الله.. ثم تضيف إلى موضوعات العقيدة موضوعات المعاملة: العدل والإحسان والإنفاق والوفاء بالعهد، وغيرها من موضوعات السلوك القائم على العقيدة.. وهكذا هي مليئة حافلة من ناحية الموضوعات التي تعالجها. فأما الإطار الذي تعرض فيه هذه الموضوعات، والمجال الذي تجري فيه الأحداث، فهو فسيح شامل.. هو السماوات والأرض. والماء الهاطل والشجر النامي. والليل والنهار والشمس والقمر والنجوم. والبحار والجبال والمعالم والسبل والأنهار. وهو الدنيا بأحداثها ومصائرها، والأخرى بأقدارها ومشاهدها. وهو الغيب بألوانه وأعماقه في الأنفس والآفاق. في هذا المجال الفسيح يبدو سياق السورة وكأنه حملة ضخمة للتوجيه والتأثير واستجاشة العقل والضمير. حملة هادئة الإيقاع، ولكنها متعددة الأوتار. ليست في جلجلة الأنعام والرعد، ولكنها في هدوئها تخاطب كل حاسة وكل جارحة في الكيان البشري، وتتجه إلى العقل الواعي كما تتجه إلى الوجدان الحساس. إنها تخاطب العين لترى، والأذن لتسمع، واللمس ليستشعر، والوجدان ليتأثر، والعقل ليتدبر. وتحشد الكون كله: سماؤه وأرضه، وشمسه وقمره، وليله ونهاره، وجباله وبحاره وفجاجه وأنهاره وظلاله وأكنانه نبته وثماره، وحيوانه وطيوره. كما تحشد دنياه وآخرته، وأسراره وغيوبه.. كلها أدوات توقع بها على أوتار الحواس والجوارح والعقول والقلوب، مختلف الإيقاعات التي لا يصمد لها فلا يتأثر بها إلا العقل المغلق والقلب الميت، والحس المطموس. هذه الإيقاعات تتناول التوجيه إلى آيات الله في الكون، وآلائه على الناس كما تتناول مشاهد القيامة، وصور الاحتضار، ومصارع الغابرين؛ تصاحبها اللمسات الوجدانية التي تتدسس إلى أسرار الأنفس، وإلى أحوال البشر وهم أجنة في البطون، وهم في الشباب والهرم والشيخوخة، وهم في حالات الضعف والقوة، وهم في أحوال النعمة والنقمة. كذلك يتخذ الأمثال والمشاهد والحوار والقصص الخفيف أدوات للعرض والإيضاح. فأما الظلال العميقة التي تلون جو السورة كله فهي الآيات الكونية تتجلى فيها عظمة الخلق، وعظمة النعمة، وعظمة العلم والتدبير.. كلها متداخلة.. فهذا الخلق الهائل العظيم المدبر عن علم وتقدير، ملحوظ فيه أن يكون نعمة على البشر، لا تلبي ضروراتهم وحدها، ولكن تلبي أشواقهم كذلك، فتسد الضرورة. وتتخذ للزينة، وترتاح بها أبدانهم وتستروح لها نفوسهم، لعلهم يشكرون.. ومن ثم تتراءى في السورة ظلال النعمة وظلال الشكر، والتوجيهات إليها، والتعقيب بها في مقاطع السورة، وتضرب عليها الأمثال، وتعرض لها النماذج، وأظهرها نموذج إبراهيم (شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم). كل أولئك في تناسق ملحوظ بين الصور والظلال والعبارات والإيقاعات، والقضايا والموضوعات نرجو أن نقف على نماذج منه في أثناء استعراضنا للسياق. ونبدأ الشوط الأول، وموضوعه هو التوحيد؛ وأدواته هي آيات الله في الخلق، وأياديه في النعمة، وعلمه الشامل في السر والعلانية، والدنيا والآخرة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سميت هذه السورة عند السلف سورة النحل، وهو اسمها المشهور في المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة. ووجه تسميتها بذلك أن لفظ النحل لم يذكر في سورة أخرى.
معظم ما اشتملت عليه السورة إكثار متنوع الأدلة على تفرد الله تعالى بالإلهية، والأدلة على فساد دين الشرك وإظهار شناعته. وأدلة إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. وإنزال القرآن عليه صلى الله عليه وسلم. وإن شريعة الإسلام قائمة على أصول ملة إبراهيم عليه السلام. وإثبات البعث والجزاء؛ فابتدئت بالإنذار بأنه قد اقترب حلول ما أنذر به المشركون من عذاب الله الذي يستهزئون به، وتلا ذلك قرع المشركين وزجرهم على تصلبهم في شركهم وتكذيبهم. وانتقل إلى الاستدلال على إبطال عقيدة الشرك؛ فابتدئ بالتذكير بخلق السماوات والأرض، وما في السماء من شمس وقمر ونجوم، وما في الأرض من ناس وحيوان ونبات وبحار وجبال، وأعراض الليل والنهار. وما في أطوار الإنسان وأحواله من العبر. وخصت النحل وثمراتها بالذكر لوفرة منافعها والاعتبار بإلهامها إلى تدبير بيوتها وإفراز شهدها. والتنويه بالقرآن وتنزيهه عن اقتراب الشيطان، وإبطال افترائهم على القرآن. والاستدلال على إمكان البعث وأنه تكوين كتكوين الموجودات. والتحذير مما حل بالأمم التي أشركت بالله وكذبت رسله عليهم السلام عذاب الدنيا وما ينتظرهم من عذاب الآخرة. وقابل ذلك بضده من نعيم المتقين المصدقين والصابرين على أذى المشركين والذين هاجروا في الله وظلموا. والتحذير من الارتداد عن الإسلام، والترخيص لمن أكره على الكفر في التقية من المكرهين. والأمر بأصول من الشريعة؛ من تأصيل العدل، والإحسان، والمواساة، والوفاء بالعهد، وإبطال الفحشاء والمنكر والبغي، ونقض العهود، وما على ذلك من جزاء بالخير في الدنيا والآخرة. وأدمج في ذلك ما فيها من العبر والدلائل، والامتنان على الناس بما في ذلك من المنافع الطيبات المنتمة، والمحاسن، وحسن المناظر، ومعرفة الأوقات، وعلامات السير في البر والبحر، ومن ضرب الأمثال. ومقابلة الأعمال بأضدادها. والتحذير من الوقوع في حبائل الشيطان. والإنذار بعواقب كفران النعمة. ثم عرض لهم بالدعوة إلى التوبة {ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة} الخ...
وملاك طرائق دعوة الإسلام {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة}. وتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم ووعده بتأييد الله إياه.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
...ولا يمكن أن يقال إن فصولها منقطعة عن بعضها، بل إن التساوق بينها أو بين أكثرها أكثر ظهورا، وهذا يبرر القول إن فصولها نزلت متتابعة فدونت متتابعة كما نزلت إلى أن تمت. وقد روي أن الآيات [126-128] مدنية، وأسلوبها ومضمونها وسياقها يسوغ التوقف في ذلك ويجعل الرجحان لمكيتها.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يذهب أكثر المفسّرين إلى أنّ قسماً من آيات هذه السورة مكيّة، وقسمها الآخر آيات مدنيّة، في حين يعتبر بعضهم أنّ آياتها مكيةً على الإِطلاق. وعند ملاحظة طبيعة السورة المكية والمدنية يتبيّن لنا أنّ الرأي الأوّل أكثر صواباً، ويعزز ذلك ما تبحثه الآية (41) (والذين هاجروا في اللّه...)، والآية (101) (ثمّ إنّ ربّك للذين هاجروا من بعدما فتنوا ثمّ جاهدوا فصبروا...) حيث أنّها تناولت بوضوح موضوع الهجرة والجهاد معاً.. وكما هو بيّن فإِنّ الموضوعين يتناسبان مع الحوادث التي جرت بعد هجرة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مكّة إلى المدينة. وإِذا اعتبرنا الهجرة المشار إِليها في الآية (41) هي هجرة المسلمين الأُولى حين هاجر جمع منهم من مكّة إلى الحبشة برئاسة جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه)، فيستبعد أن تكون الهجرة والجهاد المشار إِليهما في الآية (101) الهجرة الأُولى، ولا تنطبق الآية المباركة إِلاّ على هجرة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة. بالإضافة إلى أنّ الآية (126) (وإِن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به...) قد نزلت في غزوة أُحد التي وقعت بعد الهجرة الثّانية، وهذا معروف عند المفسّرين.
وقال بعض المفسّرين: إِنّ الآيات الأربعين الأوّل من السورة نزلت في مكّة وبقية الآيات نزلت في المدينة، في حين يعتبر البعض الآخر منهم جميع آياتها مكّية سوى الآيات المتعلقة بغزوة أُحد (الآيات الثلاثة الأخيرة). فالمتيقن بخصوص السورة أنّ آياتها مكّية ومدينة، إِلاّ أنّه لا يمكن تشخيص ما هو مكي أو مدني بالدقة الكافية سوى الموارد المذكورة.
...فقراءة الآيات التي تتناول جانباً كبيراً من النعم الإِلهية بتدبر وتفكر مع وجود العزم على العمل والسير وفق الشكر للمنعم، تكون سبيلا لأنْ يستعمل الإِنسان كل نعمة بما ينبغي عليه أن يستعمل، فلا يحبس ولا يهمل، ويكون من الشاكرين.. فإِنْ أصبح كذلك فهل سيتعرض لمحاسبة بعد؟
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أتى أمر الله}، وذلك أن كفار مكة لما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم الساعة، فخوفهم بها أنها كائنة، فقالوا: متى تكون؟ تكذيبا بها، فأنزل الله عز وجل: يا عبادي، {أتى أمر الله}
{فلا تستعجلوه}، أي فلا تستعجلوا وعيدي...
{سبحانه}، نزه الرب تعالى نفسه عن شرك أهل مكة، ثم عظم نفسه جل جلاله، فقال: {وتعالى}، يعني: وارتفع، {عما يشركون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
أتى أمر الله فقرُب منكم أيها الناس ودنا، فلا تستعجلوا وقوعه. ثم اختلف أهل التأويل في الأمر الذي أعلم الله عباده مجيئه وقُربه منهم ما هو، وأيّ شيء هو؟:
فقال بعضهم: هو فرائضه وأحكامه...
وقال آخرون: بل ذلك وعيد من الله لأهل الشرك به، أخبرهم أن الساعة قد قَرُبت وأن عذابهم قد حضر أجله فدنا...
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: هو تهديد من الله أهل الكفر به وبرسوله، وإعلام منه لهم قرب العذاب منهم والهلاك، وذلك أنه عقّب ذلك بقوله سبحانه وتعالى:"عَمّا يُشْرِكُونَ" فدلّ بذلك على تقريعه المشركين ووعيده لهم. وبعد، فإنه لم يبلغنا أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم استعجل فرائض قبل أن تُفرض عليهم فيقال لهم من أجل ذلك: قد جاءتكم فرائض الله فلا تستعجلوها. وأما مستعجلو العذاب من المشركين فقد كانوا كثيرا. وقوله سبحانه وتعالى: {عَمّا يُشْرِكُونَ} يقول تعالى ذكره: تنزيها لله وعلوّا له عن الشرك الذي كانت قريش ومن كان من العرب على مثل ما هم عليه يَدين به...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أتى أمر الله فلا تستعجلوه} وجوه:
أحدها: أن يعرف قوله: {أمر الله} وإرادته، وما الذي استعجلوه، وأن ما استعجلوه الساعة والقيامة بقوله: {يستعجل بها الذين لا يؤمنون} الآية (الشورى: 8) ونحوه من الآيات.
والثاني: {أمر الله} رسوله الذي كان يستنصر به أهل الكتاب على المشركين كقوله: {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا} الآية (البقرة: 89) وكان يتمنى مشركو العرب أن يكون لهم رسول كسائر الكفرة كقوله: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم} الآية (فاطر: 42) فلا تستعجلوا ذهاب ما كنتم تتمنون بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم أو شيء آخر، والله أعلم.
ثم إنه لم يُرد بقوله: {أتى أمر الله} وقوعه، ولكن قربه، أي قرب آثار أمر الله كما يقال: أتاك الخير، وأتاك أمر كذا على إرادة القرب لا على الوقوع. وجائز أن يكون قوله: {أتى أمر الله} أي ظهرت أعلام الله وآثاره، وليس على إتيان أمره من مكان كقوله: {جاء الحق وزهق الباطل} وآثاره هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه كان به يختم النبوة، فهو كان إعلام الساعة على ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (بعثت أنا والساعة كهاتين) (البخاري: 6503) أشار إلى إصبعيه لقربهما منه، والله أعلم.
{سبحانه وتعالى عما يشركون} سبحان: هي كلمة إجلال الله يجريها على ألسن أوليائه على تبرئته مما قالت الملحدة فيه، وتعاليه عن جميع ما نسبوا إليه من الولد والصاحبة والشريك وغيره من الأشباه والأضداد،
{وتعالى} عن ذلك. سبحان الله، حرف يذكر على إثر شيء مستبعد أو مستعجب أو مستعظم جوابا لذلك، وهو ما ذكره على إثر وصف وقول، لا يليق بالله من الولد والشريك ونحوه، فقال: سبحان الله على التنزيه مما وصفوه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وانما قال "أتى أمر الله "ولم يقل يأتي، لأن الله تعالى قرب الساعة، فجعلها كلمح البصر، فقال "وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب" وقال "اقتربت الساعة" وكل ما هو آت قريب، فعبر بلفظ الماضي ليكون أبلغ في الموعظة، وإن كان قوله "فلا تستعجلوه" يدل على أنه في معني يأتي... ومعنى "تعالى ": تعاظم بأعلى صفات المدح عن أن يكون له شريك في العبادة، وجميع صفات النقص منتفية عنه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
والكائناتُ كلُّها والحادثات بأَسْرِها من جملة أمره، أي حصل أمرُ تكوينه وهو أمر من أموره لأنه حاصلٌ بتقديره وتيسيره، وقَضَائه وتدبيره؛ فما يحصل من خير وشرَّ، ونفع وضرِّ، وحلو ومُرِّ. فذلك من جملة أمره تعالى.
{فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} وأصحاب التوحيد لا يستعجلون شيئاً باختيارهم لأنهم قد سقطت عنهم الإرادات والمطالبات، وهم خامدون تحت جريان تصريف الأقدار؛ فليس لهم إيثار ولا اختيار فلا يستعجلون أمراً، وإذا أَمَّلوا شيئاً، أو أُخْبِروا بحصول شيءٍ فلا استعجال لهم، بل شأنهم التأنِّي والثباتُ والسكونُ، وإذا بَدَا من التقدير حُكمٌ فلا استعجالَ لهم لما يَرِدُ عليهم، بل يتقبلون مفاجأةَ التقدير بوجهٍ ضاحك، ويستقبلون ما يبدو من الغيب من الردِّ والقبول، والمنع والفتوح بوصف الرضا، ويحمدون الحق -سبحانه وتعالى- على ذلك.
{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}: تعالى عما يشركون بربهم، والكفار لم ييسر لهم حتى أَنَّه لا سكَنَ لقلوبهم من حديثه.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
والاستعجال: طلب الشيء قبل حينه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
كانوا يستعجلون ما وعدوا من قيام الساعة أو نزول العذاب بهم يوم بدر، استهزاء وتكذيباً بالوعد، فقيل لهم {أتى أَمْرُ الله} الذي هو بمنزلة الآتي الواقع وإن كان منتظراً لقرب وقوعه {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ}...
{سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} تبرأ عز وجل عن أن يكون له شريك، وأن تكون آلهتهم له شركاء، أو عن إشراكهم. على أنّ «ما» موصولة أو مصدرية،...فإن قلت: كيف اتصل هذا باستعجالهم؟ قلت: لأنّ استعجالهم استهزاء وتكذيب وذلك من الشرك.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... قوله {أمر الله} قال فيه جمهور المفسرين: إنه يريد القيامة وفيها وعيد للكفار، وقيل: المراد نصر محمد عليه السلام، وقيل: المراد تعذيب كفار مكة بقتل محمد صلى الله عليه وسلم لهم وظهوره عليهم، ذكر نحو هذا النقاش عن ابن عباس، وقيل: المراد فرائض الله وأحكامه في عباده وشرعه لهم، هذا هو قول الضحاك، ويضعفه قوله {فلا تستعجلوه} إنا لا نعرف استعجالاً إلا ثلاثة اثنان منها للكفار وهي في القيامة وفي العذاب، والثالث للمؤمنين في النصر وظهور الإسلام، وقوله {أتى} على هذا القول إخبار عن إتيان ما يأتي، وصح ذلك من جهة التأكيد، وإذا كان الخبر حقاً فيؤكد المستقبل بأن يخرج في صيغة الماضي، أي كأنه لوضوحه والثقة به قد وقع، ويحسن ذلك في خبر الله تعالى لصدق وقوعه، وقال قوم: {أتى} بمعنى قرب، وهذا نحو ما قلت، وإنما يجوز الكلام بهذا عندي لمن يعلم قرينه التأكيد ويفهم المجاز، وأما إن كان المخاطب لا يفهم القرينة فلا يجوز وضع الماضي موضع المستقبل، لأن ذلك يفسد الخبر ويوجب الكذب، وإنما جار في الشرط لوضوح القرينة ب {أن}، ومن قال: إن الأمر القيامة، قال: إن قوله {فلا تستعجلوه} رد على المكذبين بالبعث القائلين متى هذا الوعد، ومن قال: إن الأمر تعذيب الكفار بنصر محمد صلى الله عليه وسلم وقتله لهم، قال إن قوله {فلا تستعجلوه} رد على القائلين {عجل لنا قطنا} [ص: 16] ونحوه من العذاب، أو على مستبطئي النصر من المؤمنين في قراءة من قرأ بالتاء...
اعلم أن معرفة تفسير هذه الآية مرتبة على سؤالات ثلاثة:
فالسؤال الأول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخوفهم بعذاب الدنيا تارة وهو القتل والاستيلاء عليهم كما حصل في يوم بدر، وتارة بعذاب يوم القيامة، وهو الذي يحصل عند قيام الساعة، ثم إن القوم لما لم يشاهدوا شيئا من ذلك احتجوا بذلك على تكذيبه وطلبوا منه الإتيان بذلك العذاب وقالوا له ائتنا به. وروي أنه لما نزل قوله تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر} قال الكفار فيما بينهم إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى ننظر ما هو كائن، فلما تأخرت قالوا ما نرى شيئا مما تخوفنا به، فنزل قوله: {اقترب للناس حسابهم} فأشفقوا وانتظروا يومها فلما امتدت الأيام قالوا: يا محمد ما نرى شيئا مما تخوفنا به فنزل قوله: {أتى أمر الله} فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رؤوسهم فنزل قوله: {فلا تستعجلوه} والحاصل أنه عليه السلام لما أكثر من تهديدهم بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة ولم يروا شيئا نسبوه إلى الكذب.
فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} وفي تقرير هذا الجواب وجهان:
الوجه الأول: أنه وإن لم يأت ذلك العذاب إلا أنه كان واجب الوقوع والشيء إذا كان بهذه الحالة والصفة فإنه يقال في الكلام المعتاد أنه قد أتى ووقع إجراء لما يجب وقوعه بعد ذلك مجرى الواقع يقال لمن طلب الإغاثة وقرب حصولها: قد جاءك الغوث فلا تجزع.
والوجه الثاني: وهو أن يقال أن أمر الله بذلك وحكمه به قد أتى وحصل ووقع، فأما المحكوم به فإنما لم يقع، لأنه تعالى حكم بوقوعه في وقت معين فقبل مجيء ذلك الوقت لا يخرج إلى الوجود والحاصل كأنه قيل: أمر الله وحكمه بنزول العذاب قد حصل ووجد من الأزل إلى الأبد فصح قولنا أتى أمر الله، إلا أن المحكوم به والمأمور به إنما لم يحصل، لأنه تعالى خصص حصوله بوقت معين فلا تستعجلوه ولا تطلبوا حصوله قبل حضور ذلك الوقت.
السؤال الثاني: قالت الكفار: هب أنا سلمنا لك يا محمد صحة ما تقوله من أنه تعالى حكم بإنزال العذاب علينا إما في الدنيا وإما في الآخرة، إلا أنا نعبد هذه الأصنام فإنها شفعاؤنا عند الله فهي تشفع لنا عنده فنتخلص من هذا العذاب المحكوم به بسبب شفاعة هذه الأصنام.
فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله: {سبحانه وتعالى عما يشركون} فنزه نفسه عن شركة الشركاء والأضداد، والأنداد وأن يكون لأحد من الأرواح والأجسام أن يشفع عنده إلا بإذنه و {ما} في قوله: {عما يشركون} يجوز أن تكون مصدرية، والتقدير: سبحانه وتعالى عن إشراكهم ويجوز أن تكون بمعنى الذي، أي سبحانه وتعالى عن هذه الأصنام التي جعلوها شركاء لله، لأنها جمادات خسيسة، فأي مناسبة بينها وبين أدون الموجودات فضلا عن أن يحكم بكونها شركاء لمدبر الأرض والسموات.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ختم الحجر بالإشارة إلى إتيان اليقين، وهو صالح لموت الكل ولكشف الغطاء بإتيان ما يوعدون مما يستعجلون به استهزاء من العذاب في الآخرة بعد ما يلقون في الدنيا، ابتدأ هذه بمثل ذلك سواء، غير أنه ختم تلك باسم الرب المفهم للإحسان لطفاً بالمخاطب، وافتتح هذه باسم الأعظم الجامع لجميع معاني الأسماء لأن ذلك أليق بمقام التهديد، ولما ستعرفه من المعاني المتنوعة في أثناء السورة، وسيكرر هذا الاسم فيها تكريراً تعلم منه صحة هذه الدعوى...
{أتى أمر الله} أي الملك الأعظم الذي له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، بما يذل الأعداء، ويعز الأولياء، ويشفي صدورهم، ويقر أعينهم. ولما كانت العجلة نقصاً، قال مسبباً عن هذا الإخبار: {فلا تستعجلوه} أيها الأعداء استهزاء، وأيها الأولياء استكفاء واستشفاء، وذلك مثل ما أفهمه العطف في قوله تعالى {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم} كما تقدم...
{سبحانه...}...وقد آل الأمر في نظم الآية إلى أن صار كأنه قيل: إنه لا يعجل لأنه منزه عن النقص، ولا بد من إنفاذ أمره لأنه متعالٍ عن الكفوء؛ أو يقال: لا تستعجلوه لأنه تنزه عن النقص فلا يعجل، وتعالى عن أن يكون له كفوء يدفع ما يريد فلا بد من وقوعه، فهي واقعة موقع التعليل لصدر الآية كما أن صدر الآية تعليل لآخر سورة الحجر.
السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني 977 هـ :
أحدهما أنه ماض لفظاً مستقبل معنى إذ المراد به يوم القيامة وإنما أبرزه في صورة ما وقع وانقضى تحقيقاً له ولصدق المخبر به.
والثاني: أنه على بابه والمراد مقدّماته وأوائله وهو نصر رسوله صلى الله عليه وسلم.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{أتى أَمْرُ الله} أي الساعةُ أو ما يعُمها وغيرَها من العذاب الموعود للكفرة، عبّر عن ذلك بأمر الله للتفخيم والتهويل وللإيذان بأن تحققَه في نفسه وإتيانِه منوطٌ بحكمه النافذِ وقضائِه الغالب، وإتيانُه عبارةٌ عن دنوّه واقترابِه على طريقة نظمِ المتوقَّعِ في سلك الواقع، أو عن إتيان مباديه القريبةِ على نهج إسنادِ حال الأسبابِ إلى المسبَّبات. وأياً ما كان ففيه تنبيهٌ على كمال قربِه من الوقوع واتصالِه وتكميلٌ لحسن موقع التفريعِ في قوله عز وجل: {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} فإن النهيَ عن استعجال الشيءِ وإن صح تفريعُه على قرب وقوعِه أو على وقوع أسبابه القريبة لكنه ليس بمثابة تفريعِه على وقوعه، إذ بالوقوع يستحيل الاستعجالُ رأساً لا بما ذكر من قرب وقوعِه ووقوعِ مباديه، والخطابُ للكفرة خاصة كما يدل عليه القراءةُ على صيغة نهي الغائبِ، واستعجالُهم وإن كان بطريق الاستهزاءِ، لكنه حُمل على الحقيقة ونُهوا عنه بضرب من التهكم لا مع المؤمنين، سواءٌ أريد بأمر الله ما ذُكر أو العذابُ الموعود للكفرة خاصة، أما الأولُ فلأنه يتصور من المؤمنين استعجالُ الساعة أو ما يعمها وغيرَها من العذاب حتى يعمهم النهيُ عنه، وأما الثاني فلأن استعجالَهم له بطريق الحقيقةِ واستعجالَ الكفرة بطريق الاستهزاءِ كما عرَفْته فلا ينتظمُهما صيغةٌ واحدة، والالتجاءُ إلى إرادة معنىً مجازيَ يعمهما معاً من غير أن يكون هناك رعايةُ نكتة سرّية تعسفٌ لا يليق بشأن التنزيلِ الجليلِ...
{سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزه وتقدّس بذاته وجل عن إشراكهم المؤدِّي إلى صدور أمثالِ هذه الأباطيلِ عنهم، أو عن أن يكون له شريكٌ فيدفعَ ما أراد بهم بوجه من الوجوه، وصيغةُ الاستقبالِ للدلالة على تجدد إشراكِهم واستمرارِه، والالتفاتُ إلى الغَيبة للإيذان باقتضاء ذكرِ قبائحِهم للإعراض عنهم وطرحِهم عن رتبة الخطاب، وحكايةِ شنائعهم لغيرهم، وعلى تقدير تخصيصِ الخطابِ بالمؤمنين تفوت هذه النُّكتةُ كما يفوت ارتباطُ المنهيِّ عنه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
.. لقد كان مشركو مكة يستعجلون الرسول [صلى الله عليه وسلم] أن يأتيهم بعذاب الدنيا أو عذاب الآخرة. وكلما امتد بهم الأجل ولم ينزل بهم العذاب زادوا استعجالا، وزادوا استهزاء، وزادوا استهتارا؛ وحسبوا أن محمدا يخوفهم ما لا وجود له ولا حقيقة، ليؤمنوا له ويستسلموا. ولم يدركوا حكمة الله في إمهالهم ورحمته في إنظارهم؛ ولم يحاولوا تدبر آياته في الكون، وآياته في القرآن. هذه الآيات التي تخاطب العقول والقلوب، خيرا من خطابها بالعذاب! والتي تليق بالإنسان الذي أكرمه الله بالعقل والشعور، وحرية الإرادة والتفكير. وجاء مطلع السورة حاسما جازما: أتى أمر الله.. يوحي بصدور الأمر وتوجه الإرادة؛ وهذا يكفي لتحققه في الموعد الذي قدره الله لوقوعه (فلا تستعجلوه) فإن سنة الله تمضي وفق مشيئته، لا يقدمها استعجال. ولا يؤخرها رجاء. فأمر الله بالعذاب أو بالساعة قد قضي وانتهى، أما وقوعه ونفاذه فسيكون في حينه المقدر، لا يستقدم ساعة ولا يتأخر. وهذه الصيغة الحاسمة الجازمة ذات وقع في النفس مهما تتماسك أو تكابر، وذلك فوق مطابقتها لحقيقة الواقع؛ فأمر الله لا بد واقع، ومجرد قضائه يعد في حكم نفاذه، ويتحقق به وجوده، فلا مبالغة في الصيغة ولا مجانبة للحقيقة، في الوقت الذي تؤدي غايتها من التأثر العميق في الشعور. فأما ما هم عليه من شرك بالله الواحد، وتصورات مستمدة من هذا الشرك فقد تنزه الله عنه وتعالى: (سبحانه وتعالى عما يشركون) بكل صوره وأشكاله، الناشئة عن هبوط في التصور والتفكير. أتى أمر الله المنزه عن الشرك المتعالي عما يشركون.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
...وفي التعبير عنه بأمر الله إبهام يفيد تهويله وعظمته لإضافته لمن لا يعظم عليه شيء. وقد عبّر عنه تارات بوعد الله ومرّات بأجل الله ونحو ذلك.
والخطاب للمشركين ابتداء...ويجوز أن يكون شاملاً للمؤمنين لأن عذاب الله وإن كان الكافرون يستعجلون به تهكّماً لظنّهم أنه غير آتتٍ، فإن المؤمنين يضمرون في نفوسهم استبطاءه ويحبّون تعجيله للكافرين.
وحذف المتعلق ب {تستعجلوه} لدلالة قوله: {أتى أمر الله} عليه. والتقدير فلا تستعجلوا الله بأمره، على نحو قوله تعالى: {سأريكم آياتي فلا تستعجلون} [سورة الأنبياء: 37].
والمراد من النهي هنا دقيق لم يذكروه في موارد صيغ النهي. ويجدر أن يكون للتسوية كما ترد صيغة الأمر للتسوية، أي لا جدوى في استعجاله لأنه لا يعجّل قبل وقته المؤجّل له.
مستأنفة استئنافاً ابتدائياً لأنها المقصود من الوعيد، إذ الوعيد والزّجر إنما كانا لأجل إبطال الإشراك، فكانت جملة {أتى أمر الله} كالمقدمة، وجملة {سبحانه وتعالى عما يشركون} كالمقصد.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
...إن هذه الأجواء توحي بأن المسألة هي مسألة عذابٍ ينتظر الجاحدين في الآخرة، لا مسألة هزيمةٍ تنتظرهم في الدنيا، ويضاف إلى ذلك، أن كلمة الاستعجال التي وردت في الآية تتحدث عن العذاب الذي كان الكافرون يستعجلون الأنبياء إنزاله. إن ذلك كله يجعلنا نستظهر هذا المعنى الذي يوحي بأن أمر الله قد جاء، من خلال قرار الله الحاسم الذي يملك القدرة على تنفيذه، وملاحقة كل المتمرّدين عليه، ما يجعل من قضية الوقت مسألةً غير أساسية في الموضوع، لأن الوقت لا يمثل مشكلة إلا للذين يضيّع الوقت الفرصة عليهم، أما بالنسبة إلى الله، فإنه لا يخاف الفوت، فلا يعجل في تنفيذ إرادته. ومن هنا جاءت الآية لتؤكد المسألة كما لو كانت حاضرةً، فلا مجال لاستعجالها، لأنها آتية لا ريب فيها في وقتها المقرر عند الله.