التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَتَىٰٓ أَمۡرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسۡتَعۡجِلُوهُۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة النحل

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ومن والاه .

أما بعد : فقد سبق لي –بحمد الله وتوفيقه- أن قمت بتفسير سور : الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، والتوبة ، ويونس ، وهود ، ويوسف ، والرعد ، وإبراهيم ، والحجر .

وهأنذا أقدم للقارئ الكريم تفسير سورة " النحل " ، وقد حاولت فيه أن أكشف عما اشتملت عليه السورة الكريمة من توجيهات سامية ، وآداب عالية ، وإرشادات حكيمة ، ومجادلات بالتي هي أحسن .

وقد مهدت لتفسيرها بكلمة ، بينت فيها زمان نزولها ، وعدد آياتها . وسبب تسميتها بهذا الاسم ، والمقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها .

والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم ، ونافعا لعباده ، وشفيعا لنا يوم نلقاه –سبحانه- .

وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

المؤلف

د . محمد سيد طنطاوي

تعريف بسورة النحل

1- سورة النحل هي السورة السادسة عشرة في ترتيب المصحف ، فقد سبقتها سور : الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، والتوبة ، ويونس ، وهود ، ويوسف ، والرعد ، وإبراهيم ، والحجر .

أما في ترتيب النزول ، فكان ترتيبها التاسعة والستين ، وكان نزولها بعد سورة الكهف( {[1]} ) .

2- وعدد آياتها ثمان وعشرون ومائة آية .

3- وسميت بسور النحل ، لقوله –تعالى- فيها [ وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا . . . ]( {[2]} ) .

وتسمى –أيضا- بسورة النعم ، لأن الله –تعالى- عدد فيها أنواعا من النعم التي أنعم بها على عباده .

4- وسورة النحل من السور المكية : أي التي كان نزولها قبل الهجرة النبوية الشريفة .

قال القرطبي : " وهي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر . وتسمى سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها من نعمه على عباده . وقيل : هي مكية إلا قوله –تعالى- [ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به . . ] الآية . نزلت بالمدينة في شأن التمثيل بحمزة وقتلى أحد . . " ( {[3]} ) .

وقال الآلوسي : وأطلق جمع القول بأنها مكية ، وأخرج ذلك ابن مردويه عن ابن عباس ، وابن الزبير –رضي الله عنهم- وأخرجه النحاس من طريق مجاهد عن الحبر أنها نزلت بمكة سوى ثلاث آيات من آخرها ، فإنهن نزلن بين مكة والمدينة في منصرف النبي –صلى الله عليه وسلم- من غزوة أحد( {[4]} ) .

والذي تطمئن إليه النفس ، أن سورة النحل كلها مكية ، وذلك لأن الروايات التي ذكروها في سبب نزول قوله –تعالى- ، [ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به . . ] إلخ السورة . فيها مقال . فقد ذكر الإمام ابن كثير عند سردها ، أن بعضها مرسل وفيه مبهم ، وبعضها في إسناده ضعف . . ( {[5]} ) .

5- ( أ ) وإذا ما قرأنا سورة النحل بتدبر وتفكر ، نراها في مطلعها تؤكد أن يوم القيامة حق ، وأنه آت لا ريب فيه ، وأن المستحق للعبادة والطاعة إنما هو الله الخالق لكل شيء .

قال –تعالى- : [ أتى أمر الله فلا تستعجلوه ، سبحانه وتعالى عما يشركون ، ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده ، أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون ] .

( ب ) ثم تسوق ألوانا من الأدلة على وحدانية الله وقدرته ، عن طريق خلق السموات والأرض وخلق الإنسان والحيوان ، وعن طريق إنزال الماء من السماء ، وتسخير الليل والنهار ، والشمس والقمر والنجوم . . وغير ذلك من النعم التي لا تحصى .

استمع إلى بعض هذه الآيات التي تحكي جانبا من هذه النعم فتقول : [ خلق السموات والأرض بالحق ، تعالى عما يشركون . خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين . والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع تأكلون . ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون . وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم ] .

ثم تقول : [ وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون . وعلامات وبالنجم هم يهتدون . أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون . وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ، إن الله لغفور رحيم ] .

( ج ) وبعد أن توبخ السورة المشركين لتسويتهم بين من يخلق ومن لا يخلق تحكي جانبا من أقاويلهم الباطلة التي وصفوا بها القرآن الكريم ، وتصور استسلامهم لقضاء الله العادل فيهم يوم الحساب ، فتقول : [ وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا : أساطير الأولين . ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ، ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ، ألا ساء ما يزرون ] .

إلى أن تقول : [ الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ، فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء ، بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون . فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين ] .

( د ) وكعادة القرآن الكريم في قرنه الترهيب بالترغيب ، وفي عقده المقارنات بين مصير المؤمنين ومصير الكافرين ، جاءت الآيات بعد ذلك لتبشير المتقين بحسن العاقبة .

جاء قوله –تعالى- : [ وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا ، للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ، ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين ] .

( ه ) ثم تعود السورة الكريمة مرة أخرى إلى حكاية أقوال المشركين حول مسألتين من أخطر المسائل ، وهما مسألة الهداية والإضلال ، ومسألة البعث بعد الموت بعد أن حكت ما قالوه في شأن القرآن الكريم .

استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكي أقوالهم ثم يرد عليها بما يبطلها فيقول : [ وقال الذين أشركوا لو شاء الله ماعبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء ، كذلك فعل الذين من قبلهم ، فهل على الرسل إلا البلاغ المبين . ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ، فمنهم من هدى الله ، ومنهم من حقت عليه الضلالة ، فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين ، وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت ، بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون . ليبين لهم الذين يختلفون فيه ، وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين ] .

( و ) ثم تهدد السورة الكريمة أولئك الجاحدين لنعم الله ، الماكرين للسيئات ، بأسلوب يستثير النفوس ويبعث الرعب في القلوب ، وتدعوهم إلى التأمل والتفكر في ملكوت السموات والأرض ، لعل هذا التفكر يكون سببا في هدايتهم ، وتخبرهم بأن الله –تعالى- هو الذي نهاهم عن الشرك ، وهو الذي أمرهم بإخلاص العبادة له .

استمع إلى القرآن وهو يصور هذه المعاني بأسلوبه البديع فيقول : [ أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض ، أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون . أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين . أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرءوف رحيم . أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجلا لله وهم داخرون . ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون . يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون . وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون ] .

( ز ) ثم انتقلت السورة إلى سرد أنواع من جهالات المشركين ، ومن سوء تفكيرهم ، حتى يزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم ، ويشكروا الله –تعالى- على توفيقه إياهم على الدخول في الإسلام .

لقد ذكرت السورة الكريمة ألوانا متعددة من جهالات الكافرين ، ومن ذلك قوله –تعالى- : [ ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم ، تالله لتسألن عما كنتم تفترون . ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون ] .

[ ويجعلون لله ما يكرهون ، وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون ] .

( ح ) هكذا تصور سورة النحل ما كان عليه المشركون من غباء وغفلة وسوء تفكير ، ثم تعود –سورة النعم- مرة أخرى إلى الحديث عن نعم الله –تعالى- على عباده ، فتتحدث عن نعمة الكتاب ، وعن نعمة الماء . وعن نعمة الأنعام ، وعن نعمة الثمار والفواكه ، وعن نعمة العسل المتخذ من بطون النحل وعن نعمة التفاضل في الأرزاق ، وعن نعمة الأزواج والبنين والحفدة .

قال –تعالى- : [ وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه ، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون . والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ، إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون . وإن لكم في الأنعام لعبرة ، نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ] .

إلى أن يقول –سبحانه- : [ والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا ، وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات ، أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون ] .

( ط ) ثم تسوق السورة الكريمة مثلين مشتملين على الفرق الشاسع ، بين المؤمن والكافر ، وبين الإله الحق والآلهة الباطلة ، فتقول : " ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ، ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا ، هل يستوون ؟ الحمد لله ، بل أكثرهم لا يعلمون ، وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء ، وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ] .

( ي ) وبعد إيراد هذين المثلين البليغين ، تعود سورة النعم إلى الحديث عن أنواع أخرى من نعم الله على خلقه ، لكي يشكروه عليها ، ويستعملوها فيما خلقت له فتتحدث عن نعمة إخراج الإنسان من بطن أمه ، وعن نعمة البيوت التي هي محل سكن الإنسان ، وعن نعمة الظلال ، وعن نعمة الجبال ، وعن نعمة الثياب .

قال –تعالى- : [ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ] . [ والله جعل لكم من بيوتكم سكنا ، وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ، ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها ، أثاثاً ومتاعا إلى حين . والله جعل لكم مما خلق ظلالا ، وجعل لكم من الجبال أكناناً ، وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم ، كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون ] .

( ك ) ثم بعد أن تصور السورة الكريمة أحوال المشركين يوم القيامة عندما يرون العذاب ، وتحكي ما يقولون عندما يرون شركاءهم ، وتقرر أن الله يبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وأن الرسول –صلى الله عليه وسلم- سيكون شهيدا على من بعث إليهم .

بعد كل ذلك تسوق السورة عددا من الآيات الآمرة بمكارم الأخلاق والناهية عن منكراتها فتقول : [ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، يعظكم لعلكم تذكرون . وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ، وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ، إن الله يعلم ما تفعلون ] .

( ل ) وبعد هذه التوجيهات السامية المشتملة على الترغيب والترهيب ، وعلى الأوامر والنواهي . تتحدث آيات السورة عن آداب تلاوة القرآن وعن الشبهات التي أثارها المشركون حوله مع الرد عليها بما يدحضها ، وعن حكم من تلفظ بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، فتقول : [ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ] .

ثم تقول : [ ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر ، لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ] .

ثم تقول : [ من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ] .

( م ) ثم تعود السورة الكريمة لضرب الأمثال ، فتسوق مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم بالنعم فلم يقابلوها بالشكر ، فانتقم الله –تعالى- منهم . كما تسوق جانبا من حياة سيدنا إبراهيم كمثال للشاكرين الذين استعملوا نعم الله فيما خلقت له .

استمع إلى قوله –تعالى- : [ وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان ، فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ] .

ثم إلى قوله –تعالى- : [ إن إبراهيم كان أمة قانتا حنيفا ولم يك من المشركين . شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم . وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين . ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ] .

( ن ) وأخيرا تختتم السورة الكريمة بتلك الآيات الجامعة لأحكم الأساليب وأكملها وأجملها وأنجعها في الدعوة إلى الله –تعالى- وفي معاملة الناس فتقول : [ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين . وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله ، ولا تحزن عليهم ولاتك في ضيق مما يمكرون . إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ] .

6- وبعد ، فهذا عرض إجمالي لأهم المقاصد التي اشتملت عليها السورة الكريمة ، ومنه نرى :

( أ ) عنايتها الفائقة بإقامة الأدلة على وحدانية الله –تعالى- وعلى صدق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في دعوته ، وعلى أن يوم القيامة حق ، وعلى أن القرآن من عند الله –عز وجل .

( ب ) كما نرى تفصيلها القول في بيان آلاء الله –تعالى- على خلقه ، وقد سبحت السورة في هذا الجانب سبحا عظيما ، فذكّرت الإنسان بنعمة خلقه ، وبنعمة تسخير الأنعام والشمس ، والقمر ، والنجوم ، والماء ، والجبال ، والأشجار . . كل ذلك وغيره لمنفعته ومصلحته .

( ج ) كما نلمس اهتمامها بضرب الأمثال للمؤمن والكافر ، والشاكر والجاحد والإله الحق والآلهة الباطلة . . وذلك لأن في ضرب الأمثال تقريبا للبعيد وتوضيحا للخفي ، بأسلوب من شأنه أن يكون أوقع في القلوب ، وأثبت في النفوس وأدعى إلى التدبر والتفكر .

( د ) كما ندرك حرصها على إيراد أقوال المشركين وشبههم ! ثم الرد عليها بطريقة تقنع العقول ، وترضي العواطف ، بأن الإسلام هو الدين الحق ، وبذلك يزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم .

( ه ) كما نحس –عند قراءتها- بعنايتها بتوجيه المؤمنين إلى مكارم الأخلاق ، وأمهات الفضائل ، كالعدل ، والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، والوفاء ، والصبر ، والشكر . . . وبنهيهم عن الرذائل كالغدر والجحود ، ونقض العهود ، والاستكبار ، والظلم .

وأخيرا فإن المتأمل في هذه السورة –أيضاً- يراها حافلة بأسلوب الترغيب والترهيب ، والتبشير والإنذار ، والوعد والوعيد .

الوعيد للكافرين بسوء المصير إذا ما لجوا في ضلالهم وطغيانهم كما في قوله –تعالى- : [ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ] .

والوعد للمؤمنين بالحياة الطيبة في الدارين ، كما في قوله –تعالى- : [ من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ] .

والآن فلنبدأ في التفسير التحليلي لسورة النعم ، ونسأل الله –تعالى- أن يرزقنا التوفيق والسداد .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

افتتحت السورة الكريمة ، بتهديد الكافرين الذين كانوا ينكرون البعث ، وما يترتب عليه من ثواب أو عقاب ، ويستبعدون نصر الله - تعالى - لأوليائه ، فقال - تعالى - : { أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } والفعل { أتى } هنا ، بمعنى قرب ودنا بدليل { فلا تستعجلوه } ، لأن المنهى عن الاستعجال يقتضى أن الأمر الذى استعجل حصوله لم يحدث بعد .

والمراد بأمر الله : ما اقتضته سنته وحكمته - سبحانه - من إثابة المؤمنين ونصرهم ، وتعذيب الكافرين ودحرهم .

والفاء فى قوله { فلا تستعجلوه } للتفريع . والاستعجال : طلب حصول الشئ قبل وقته . والضمير المنصوب فى { تستعجلوه } يعود على { أمر الله } ، لأنه هو المتحدث عنه ، أو على { الله } - تعالى - ، فلا تستعجلوا الله فيما قضاه وقدره .

والمعنى : قرب ودنا مجئ أمر الله - تعالى - وهو إكرام المؤمنين بالنصر والثواب ، وإهانة الكافرين بالخسران والعقاب ، فلا تستعجلوا - أيها المشركون - هذا الأمر ، فإنه آت لا ريب فيه ، ولكن فى الوقت الذى يحدده الله تعالى - ويشاؤه .

وعبر عن قرب إتيان أمر الله - تعالى - بالفعل الماضى { أتى } للإِشعار بتحقق هذا الإِتيان ، وللتنويه بصدق المخبر به ، حتى لكأن ما هو واقع عن قريب ، قد صار فى حكم الواقع فعلا . وفى إبهام أمر الله ، إشارة إلى تهويله وتعظيمه ، لإِضافته إلى من لا يعجزه شئ فى الأرض ولا فى السماء .

قوله { فلا تستعجلوه } زيادة فى الإِنذار والتهديد ، أى : فلا جدوى من استعجالكم ، فإنه نازل بكم سواء استعجلتم أم لم تستعجلوا .

والظاهر أن الخطاب هنا للمشركين ، لأنهم هم الذين كانوا يستعجلون قيام الساعة ، ويستعجلون نزول العذاب بهم ، وقد حكى القرآن عنهم ذلك فى آيات :

منها قوله - تعالى - : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا والذين آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الحق أَلاَ إِنَّ الذين يُمَارُونَ فَي الساعة لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } ومنها قوله - سبحانه - : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } وقال بعض العلماء : و " يجوز أن يكون الخطاب هنا شاملا للمؤمنين ، لأن عذاب الله - تعالى - وإن كان الكافرون يستعجلونه ، تهكما به ، لظنهم أنه غير آت ، فإن المؤمنين يضمرون فى نفوسهم استبطاءه ، ويحبون تعجيله للكافرين " .

وقوله : { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } جملة مستأنفة ، قصد بها إبطال إشراكهم ، وزيادة توبيخهم وتهديدهم .

أى : تنزه الله - تعالى - وتعاظم بذاته وصفاته ، عن إشراك المشركين ، المؤدى بهم إلى الأقوال الفاسدة ، والأفعال السيئة ، والعاقبة الوخيمة ، والعذاب المهين . وقوله : { يشركون } : قراءة الجمهور ، وفيها التفات من الخطاب فى قوله { فلا تستعجلوه } إلى الغيبة ، تحقيرا لشأن المشركين ، وحطا من درجتهم عن رتبة الخطاب ، وحكاية لشنائعهم التى يتبرأ منها العقلاء .

وقرأ حمزة والكسائى { تشركون } تبعا لقوله - تعالى - { فلا تستعجلوه } وعلى قراءتهما لا التفات فى الآية .


[1]:- سورة إبراهيم: الآية 1.
[2]:- سورة الإسراء. الآية 9.
[3]:- سورة المائدة: الآيتان 15، 16.
[4]:- سورة الجن: الآيتان 1، 2.
[5]:- سورة البقرة: الآيتان 23، 24.
 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{أَتَىٰٓ أَمۡرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسۡتَعۡجِلُوهُۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة النحل

وهي مكية .

يخبر تعالى عن اقتراب الساعة ودنوها معبرًا بصيغة الماضي الدال على التحقق{[16306]} والوقوع لا محالة [ كما قال تعالى ]{[16307]} :{ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 1 ] ، وقال : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } [ القمر : 1 ] .

وقوله : { فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ } أي : قرب ما تباعد فلا تستعجلوه .

يحتمل أن يعود الضمير على الله ، ويحتمل أن يعود على العذاب ، وكلاهما متلازم ، كما قال تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } [ العنكبوت : 53 ، 54 ] .

وقد ذهب الضحاك في تفسير هذه الآية إلى قول عجيب ، فقال في قوله : { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ } أي : فرائضه وحدوده .

وقد رده ابن جرير فقال : لا نعلم أحدًا استعجل الفرائض{[16308]} والشرائع قبل وجودها{[16309]} بخلاف العذاب فإنهم استعجلوه قبل كونه ، استبعادًا وتكذيبًا .

قلت : كما قال تعالى : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ } [ الشورى : 18 ] .

وقال ابن أبي حاتم : ذُكر عن يحيى بن آدم ، عن أبي بكر بن عياش ، عن محمد بن عبد الله - مولى المغيرة بن شعبة - عن كعب بن علقمة ، عن عبد الرحمن بن حُجيرة ، عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تطلع عليكم عند الساعة سحابة سوداء من المغرب مثل الترس ، فما تزال ترتفع في السماء ، ثم ينادي مناد فيها : يا أيها الناس . فيقبل الناس بعضهم على بعض : هل سمعتم ؟ فمنهم من يقول : نعم . ومنهم من يشك . ثم ينادي{[16310]} الثانية : يا أيها الناس . فيقول الناس بعضهم لبعض : هل سمعتم ؟ فيقولون : نعم . ثم ينادي الثالثة : يا أيها الناس ، أتى أمر الله فلا تستعجلوه . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فوالذي نفسي بيده ، إن الرجلين لينشران الثوب فما يطويانه أبدا ، وإن الرجل ليمدن حوضه فما يسقي فيه{[16311]} شيئًا أبدًا ، وإن الرجل ليحلب ناقته فما يشربه أبدًا - قال - ويشتغل{[16312]} الناس " {[16313]} .

ثم إنه تعالى نزه نفسه عن شركهم به غيره ، وعبادتهم معه ما سواه من الأوثان والأنداد ، تعالى وتقدس علوًا كبيرًا ، وهؤلاء هم المكذبون بالساعة ، فقال : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }


[16306]:في أ: "التحقيق".
[16307]:زيادة من ت، ف، أ.
[16308]:في ف، أ: "بالفرائض".
[16309]:في أ: "وجودهما".
[16310]:في ت، أ: "ينادي مناد".
[16311]:في ف: "منه".
[16312]:في ت: "ويستعمل".
[16313]:ورواه الحاكم في المستدرك (4/539): حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا الحسن بن علي بن عفان، حدثنا يحيى بن آدم به، وقال: "صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه". ورواه الطبراني في المعجم الكبير (17/325): حدثنا الحسين التستري، حدثنا أبو كريب، حدثنا يحيى بن آدم به، وقال المنذري في الترغيب والترهيب (4/382): "رواه الطبراني بإسناد جيد رواته ثقات مشهورون".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أَتَىٰٓ أَمۡرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسۡتَعۡجِلُوهُۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (1)

بسم الله الرحمَن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى :

{ أَتَىَ أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمّا يُشْرِكُونَ } .

يقول تعالى ذكره : أتى أمر الله فقرُب منكم أيها الناس ودنا ، فلا تستعجلوا وقوعه .

ثم اختلف أهل التأويل في الأمر الذي أعلم الله عباده مجيئه وقُربه منهم ما هو ، وأيّ شيء هو ؟ فقال بعضهم : هو فرائضه وأحكامه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : { أتَى أمْرُ اللّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ } قال : الأحكام والحدود والفرائض .

وقال آخرون : بل ذلك وعيد من الله لأهل الشرك به ، أخبرهم أن الساعة قد قَرُبت وأن عذابهم قد حضر أجله فدنا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : لما نزلت هذه الآية ، يعني : أتَى أمْرُ اللّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ قال رجال من المنافقين بعضهم لبعض : إن هذا يزعم أن أمر الله أتى ، فأمسِكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى تنظروا ما هو كائن فلما رأوا أنه لا ينزل شيء ، قالوا : ما نراه نزل شيء فنزلت : اقْتَرَبَ للنّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ في غَفْلَة مُعْرِضُون فقالوا : إن هذا يزعم مثلها أيضا . فلما رأوا أنه لا ينزل شيء ، قالوا : ما نراه نزل شيء فنزلت : وَلَئِنْ أخّرْنا عَنْهُمُ العَذَابَ إلى أُمّة مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنّ ما يَحْبَسُهُ ألا يَوْمَ يأتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفا عَنْهُمْ وَحاقَ بِهمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ .

حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، قال : حدثنا سفيان ، عن إسماعيل ، عن أبي بكر بن حفص ، قال : لما نزلت : { أتَى أمْرُ اللّهِ } رفعوا رءوسهم ، فنزلت : { فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ } .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا أبو بكر بن شعيب ، قال : سمعت صادق أبا يقرأ : «يا عِبادَي أتَى أمْرُ اللّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ » .

وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : هو تهديد من أهل الكفر به وبرسوله ، وإعلام منه لهم قرب العذاب منهم والهلاك وذلك أنه عقّب ذلك بقوله سبحانه وتعالى : عَمّا يُشْرِكُونَ فدلّ بذلك على تقريعه المشركين ووعيده لهم . وبعد ، فإنه لم يبلغنا أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم استعجل فرائض قبل أن تُفرض عليهم فيقال لهم من أجل ذلك : قد جاءتكم فرائض الله فلا تستعجلوها . وأما مستعجلو العذاب من المشركين ، فقد كانوا كثيرا .

وقوله سبحانه وتعالى : { عَمّا يُشْرِكُونَ } يقول تعالى ذكره : تنزيها لله وعلوّا له عن الشرك الذي كانت قريش ومن كان من العرب على مثل ما هم عليه يَدين به .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله تعالى : { عَمّا يُشْرِكُونَ } فقرأ ذلك أهل المدينة وبعض البصريين والكوفيين : { عَمّا يُشْرِكُونَ } بالياء على الخبر عن أهل الكفر بالله وتوجيه للخطاب بالاستعجال إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك قرءوا الثانية بالياء . وقرأ ذلك عامّة قرّاء الكوفة بالتاء على توجيه الخطاب بقوله : فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبقوله تعالى : «عَمّا تُشْرِكُونَ » إلى المشركين . والقراءة بالتاء في الحرفين جميعا على وجه الخطاب للمشركين أولى بالصواب لما بيّنت من التأويل أن ذلك إنما هو وعيد من الله للمشركين ؛ ابتدأ أول الآية بتهديدهم وختم آخرها بنكير فعلهم واستعظام كفرهم على وجه الخطاب لهم .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَتَىٰٓ أَمۡرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسۡتَعۡجِلُوهُۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سميت هذه السورة عند السلف سورة النحل ، وهو اسمها المشهور في المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة .

ووجه تسميتها بذلك أن لفظ النحل لم يذكر في سورة أخرى .

وعن قتادة أنها تسمى سورة النعم أي بكسر النون وفتح العين . قال ابن عطية : لما عدد الله فيها من النعم على عباده .

وهي مكية في قول الجمهور وهو عن أبن عباس وابن الزبير . وقيل ؛ إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة أحد ، وهي قوله تعالى { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } إلى آخر السورة . قيل : نزلت في نسخ عزم النبي صلى الله عليه وسلم على أن يمثل بسبعين من المشركين أن أظفره الله بهم مكافأة على تمثيلهم بحمزة .

وعن قتادة وجابر بن زيد أن أولها مكي إلى قوله تعالى { والذين هاجروا في الله من بعد ظلموا } فهو مدني إلى آخر السورة .

وسيأتي في تفسير قوله تعالى { ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء } ما يرجح أن بعض السورة مكي وبعضها مدني ، وبعضها نزل بعد الهجرة إلى الحبشة كما يدل عليه قوله تعالى { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا } ، وبعضها متأخر النزول عن سورة الأنعام لقوله في هذه { وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل } ، يعني بما قص من قبل قوله تعالى { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } الآيات .

وذكر القرطبي أنه روي عن عثمان بن مظعون : أما نزلت هذه الآية قرأتها على أبي طالب فتعجب وقال : يا آل غالب اتبعوا ابن أخي تفلحوا فوالله إن الله أرسله ليأمركم بمكارم الأخلاق .

وروى أحمد عن ابن عباس أن عثمان بن مظعون لما نزلت هذه الآية كان جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم قال : فذلك حين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمدا صلى الله عليه وسلم .

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره الله أن يضعها في موضعها هذا من هذه السورة .

وهذه السورة نزلت بعد سورة الأنبياء وقبل سورة ألم السجدة . وقد عدت الثانية والسبعين في ترتيب نزول السور .

وآيها مائة وثمان وعشرون بلا خلاف . ووقع للخفاجي عن الداني أنها نيف وتسعون . ولعله خطأ أو تحريف أو نقص .

أغراض هذه السورة

معظم ما اشتملت عليه السورة إكثار متنوع الأدلة على تفرد الله تعالى بالإلهية ، والأدلة على فساد دين الشرك وإظهار شناعته .

وأدلة إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم .

وإنزال القرآن عليه صلى الله عليه وسلم .

وإن شريعة الإسلام قائمة على أصول ملة إبراهيم عليه السلام .

وإثبات البعث والجزاء ؛ فابتدئت بالإنذار بأنه قد اقترب حلول ما أنذر به المشركون من عذاب الله الذي يستهزئون به ، وتلا ذلك قرع المشركين وزجرهم على تصلبهم في شركهم وتكذيبهم .

وانتقل إلى الاستدلال على إبطال عقيدة الشرك ؛ فابتدئ بالتذكير بخلق السماوات والأرض ، وما في السماء من شمس وقمر ونجوم ، وما في الأرض من ناس وحيوان ونبات وبحار وجبال ، وأعراض الليل والنهار .

وما في أطوار الإنسان وأحواله من العبر .

وخصت النحل وثمراتها بالذكر لوفرة منافعها والاعتبار بإلهامها إلى تدبير بيوتها وإفراز شهدها .

والتنويه بالقرآن وتنزيهه عن اقتراب الشيطان ، وإبطال افترائهم على القرآن .

والاستدلال على إمكان البعث وأنه تكوين كتكوين الموجودات .

والتحذير مما حل بالأمم التي أشركت بالله وكذبت رسله عليهم السلام عذاب الدنيا وما ينتظرهم من عذاب الآخرة . وقابل ذلك بضده من نعيم المتقين المصدقين والصابرين على أذى المشركين والذين هاجروا في الله وظلموا .

والتحذير من الارتداد عن الإسلام ، والترخيص لمن أكره على الكفر في التقية من المكرهين .

والأمر بأصول من الشريعة ؛ من تأصيل العدل ، والإحسان ، والمواساة ، والوفاء بالعهد ، وإبطال الفحشاء والمنكر والبغي ، ونقض العهود ، وما على ذلك من جزاء بالخير في الدنيا والآخرة .

وأدمج في ذلك ما فيها من العبر والدلائل ، والامتنان على الناس بما في ذلك من المنافع الطيبات المنتمة ، والمحاسن ، وحسن المناظر ، ومعرفة الأوقات ، وعلامات السير في البر والبحر ، ومن ضرب الأمثال .

ومقابلة الأعمال بأضدادها .

والتحذير من الوقوع في حبائل الشيطان .

والإنذار بعواقب كفران النعمة .

ثم عرض لهم بالدعوة إلى التوبة { ثم إن ربك للذين علموا السوء بجهالة } الخ . . . .

وملاك طرائق دعوة الإسلام { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة } .

وتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم ووعده بتأييد الله إياه .

{ أتى أمر الله فلا تستعجلوه }

لمّا كان معظم أغراض هذه السورة زجر المشركين عن الإشراك وتوابعه وإنذارهم بسوء عاقبة ذلك ، وكان قد تكرّر وعيدهم من قبل في آيات كثيرة بيوم يكون الفارقَ بين الحق والباطل فتزول فيه شوكتهم وتذهب شدّتهم . وكانوا قد استبطأوا ذلك اليوم حتى اطمأنوا أنه غير واقع فصاروا يهزأون بالنبي عليه الصلاة والسلام والمسلمين فيستعجلون حلول ذلك اليوم .

صدّرت السورة بالوعيد المصوغ في صورة الخبر بأن قد حلّ ذلك المتوعد به . فجيء بالماضي المراد به المستقبل المحققُ الوقوع بقرينة تفريع { فلا تستعجلوه } ، لأن النهي عن استعجال حلول ذلك اليوم يقتضي أنه لما يحل بعد .

والأمر : مصدر بمعنى المفعول ، كالوعد بمعنى الموعود ، أي ما أمر الله به . والمرادُ من الأمر به تقديره وإرادة حصوله في الأجل المسمّى الذي تقتضيه الحكمة .

وفي التعبير عنه بأمر الله إبهام يفيد تهويله وعظمته لإضافته لمن لا يعظم عليه شيء . وقد عبّر عنه تارات بوعد الله ومرّات بأجل الله ونحو ذلك .

والخطاب للمشركين ابتداء لأن استعجال العذاب من خصالهم ، قال تعالى : { ويستعجلونك بالعذاب } [ سورة الحج : 47 ] ويجوز أن يكون شاملاً للمؤمنين لأن عذاب الله وإن كان الكافرون يستعجلون به تهكّماً لظنّهم أنه غير آتتٍ ، فإن المؤمنين يضمرون في نفوسهم استبطاءه ويحبّون تعجيله للكافرين .

فجملة { فلا تستعجلوه } تفريع على { أتى أمر الله } وهي من المقصود بالإنذار .

والاستعجال : طلب تعجيل حصول شيء ، فمفعوله هو الذي يقع التعجيل به . ويتعدّى الفعل إلى أكثر من واحد بالباء فقالوا : استعجل بكذا . وقد مضى في سورة الأنعام ( 57 ) قوله تعالى : { ما عندي ما تستعجلون به } فضمير { تستعجلوه } إما عائد إلى الله تعالى ، أي فلا تستعجلوا الله . وحذف المتعلق ب { تستعجلوه } لدلالة قوله : { أتى أمر الله } عليه . والتقدير فلا تستعجلوا الله بأمره ، على نحو قوله تعالى : { سأريكم آياتي فلا تستعجلون } [ سورة الأنبياء : 37 ] .

وقيل الضمير عائد إلى أمر { الله } ، وعليه تكون تعدية فعل الاستعجال إليه على نزع الخافض .

والمراد من النهي هنا دقيق لم يذكروه في موارد صيغ النهي . ويجدر أن يكون للتسوية كما ترد صيغة الأمر للتسوية ، أي لا جدوى في استعجاله لأنه لا يعجّل قبل وقته المؤجّل له .

{ سبحانه وتعالى عما يشركون }

مستأنفة استئنافاً ابتدائياً لأنها المقصود من الوعيد ، إذ الوعيد والزّجر إنما كانا لأجل إبطال الإشراك ، فكانت جملة { أتى أمر الله } كالمقدمة ، وجملة { سبحانه وتعالى عما يشركون } كالمقصد .

و ( ما ) في قوله : { عما يشركون } مصدرية ، أي عن إشراكهم غيره معه .

وقرأ الجمهور { يشركون } بالتحتية على طريقة الالتفات ، فعدل عن الخطاب ليختص التبرؤ من شأنهم أن ينزلوا عن شرف الخطاب إلى الغيبة .

وقرأه حمزة والكسائي بالمثناة الفوقية تبعاً لقوله : { فلا تستعجلوه } .