التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لِلۡفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحۡصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ ضَرۡبٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ يَحۡسَبُهُمُ ٱلۡجَاهِلُ أَغۡنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعۡرِفُهُم بِسِيمَٰهُمۡ لَا يَسۡـَٔلُونَ ٱلنَّاسَ إِلۡحَافٗاۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ} (273)

استمع إلى القرآن الكريم وهو يصور حالة هذه الطائفة من المؤمنين تصويرا كريما نبيلا يستجيش المشاعر ، ويحرك القلوب لمساعدة هذه الطائفة المتعففة فيقول : { لِلْفُقَرَآءِ الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرض يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } .

لقد وصفهم الله - تعالى - أولا بالفقراء ، أي الذثين هم في حاجة إلى العون والمساعدة لفقرهم واحتياجهم إلى ضرورات الحياة .

وقوله : { لِلْفُقَرَآء } متعلق بمحذوف يفهم من الكلام السابق والتقدير : اجعلوا نفقتكم وصدقتكم للفقراء لأن الكلام السابق موضوعه للإِنقاق في سبيل الله ، وما يتعلق بذلك من آداب وفوائد .

والجملة استئناف بياني ، فكأنهم لما أمروا بالصدقات سألوا لمن هي ؟ فأجيبوا بأنها لهؤلاء الذين ذكرت الآية صفاتهم .

ومن فوائد الحذف هنا للمتعلق : تعليم المؤمنين الأدب في عطائهم للفقراء بأن لا يصرحوا لهم بأن ما يعطونه إياهم هو صدقة حتى لا يشعروهم بالمذلة والضعف ، وأيضاً ففي هذا الحذف لون من الإِيجاز البليغ الذي قل فيه اللفظ مع الوفاء بحق المعنى .

قال القرطبي : " والمراد بهؤلاء الفقراء ، فقراء المهاجرين من قريش وغيرهم ثم تتناول الآية كل من دخل تحت صفتهم غابر الدهر . وإنما خص فقراء المهاجرين بالذكر ، لأنه لم يكن هناك سواهم ، وهم أهل الصفة " وكانوا نحو من أربعمائة رجل ، وذلك أنهم كانوا يأتون فقراء وما لهم أهل ولأمال فبنيت لهم صفة في المسجد النبوي بالمدينة فقيل لهم : " أهل الصفة " .

أما الصفة الثانية من صفات هؤلاء الذين هم أولى الناس بالعون والمساعدة فهي قوله - تعالى - : { الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله } .

والإِحصار في اللغة هو أن يعرض للرجل ما يحول بينه وبين ما يريده بسبب مرض أو شيخوخة أو عدو أو ذهاب نفقة أو ما يجري مجرى هذه الأشياء .

والمعنى : اجعلو الكثير مما تنفقونه - أيها المؤمنون - لهؤلاء الفقراء الذين حصروا أنفسهم ووقفوها على الطاعات المتنوعة التي من أعظمها الجهاد في سبيل الله ، أو الذين منعوا من الكسب بسبب مرضهم أو شيخوختهم ، أو غير ذلك من الأسباب التي جعلتهم في حالة شديدة من الفاقة والاحتياج .

وعبر في الجملة الكريمة " بأحصروا " بالبناء للمجهول ، للإِشعار بأن فقرهم لم يكن بسبب تكاسلهم وإهمالهم في مباشرة الأسباب ، وإنما كان لأسباب خارجة عن إرادتهم .

وقوله : { فِي سَبِيلِ الله } تكريم وتشريف لهم ، أي أن ما نزل بهم من فقر واحتياج كان بسبب إيثارهم إعلاء كلمة الله على أي شيء آخر ، ففي سبيل الله هاجروا ، وفي سبيل الله تركوا أموالهم فصاروا فقراء ، وفي سبيل الله وقفوا أنفسهم على الجهاد ، وفي سبيل الله أصابهم ما أصابهم وهم يطلبون أداء ما كلفهم - سبحانه - بأدائه .

أما الصفة الثالثة من صفاتهم فقال فيها { لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرض } والضرب في الأرض هو السير فيها للتكسب والتجارة وغيرهما .

أي أنهم عاجزون عن السير في الأرض لتحصيل رزقهم بسبب اشتغالهم بالجهاد ، أو بسبب ضعفهم وقلة ذات يدهم .

والصفة الرابعة من صفاتهم هي قوله - تعالى - : { يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف } .

والتعفف : ترك الشيء والتنزه عن طلبه ، بقهر النفس والتغلب عليها . يقال عف عن الشيء يعف إذا كف عنه . والحسبان بمعنى الظن .

أي : يظنهم الجاهل بحالهم ، أو الذي لا فراسة عنده ، يظنهم أغنياء من أجل تجملهم وتعففهم عن السؤال ، أما صاحب الفراسة الصادقة ، والبصيرة النافذة ؛ فإنه يرحمهم ويعطف عيلهم لأنه يعرف ما لا يعرفه غيره .

و ( من ) في قوله : { مِنَ التعفف } للتعليل ، أو لابتداء الغاية لأن التعفف مبدأ هذا الحسبان .

أما الصفة الخامسة من صفاتهم فهي قوله - تعالى - : { تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ } والسيما والسماء : العلامة التي يعرف بها الشيء ، وأصلها من الوسم بمعنى العلامة .

والمعنى : تعرف فقرهم وحاجتهم - أيها الرسول الكريم أو أيها المؤمن العاقل - بما ترى في هيئتهم من آثار تشهد بقلة ذات يدهم .

قال الإِمام الرازي ما ملخصه : قال مجاهد : " سيماهم " التخشع والتواضع . أي - تعرفهم بتخشعهم وتواضعهم - وقال السدي : - تعرفهم بسيماهم - أي بأثر الجهد من الفقر والحاجة . وقال الضحاك : أي بصفرة ألوانهم ورثاثة ثيابهم . . ثم قال - رحمه الله - : وعندي أن كل ذلك فيه نظر والمراد شيء آخر هو أن لعباد الله المخلصين هيبة ووقعاً في قلوب الخلق ، وكل من رآهم تأثر منهم وتواض2ع لهم ، وذلك له إدراكات روحانية ، لا علامات جسمانية . ألا ترى أن الأسد إذا مر هابته سائر السباع بطباعها لا بالتجربة ، لأن الظاهر أن تلك التجربة ما وقعت ، والبازي إذا طار تهرب به منه الطيور الضعيفة وكل ذلك إدراكات روحانية لا جسمانية فكذا هنا . . .

وقد ذكر - سبحانه - في الجملة السابقة أن الجاهل بحالهم يظنهم أغنياء من أجل تعففهم عن السؤال ، وذكر هنا أنهم يعرفون بسيماهم ، وذلك للإِشعار بأن أنظار الناس تختلف باختلاف فراستهم ونفاذ بصيرتهم . فأصحاب الأنظار التي تأخذ الأمور بمظاهر يظنونهم أغنياء ، أما أصحاب البصيرة المستنيرة ، والحس والمرهف ، والفراسة الصائبة ، فإنهم يدركون ما عليه أولئك القوم من احتياج ، بسبب ما منحهم الله من فكر صائب ونظر نافذ ، وفي الحديث الشريف : " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " .

أما الصفة السادسة من صفاتهم فهي قوله - تعالى - : { لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } والإِلحاف - كما يقول صاحب الكشاف : هو الإِلحاح بأن لا يفارق - السائل المسئول - إلا بشيء يعطاه . من قولهم : لحفني من فضل لحافه أي أعطاني من فضل ما عنده . ومعناه : أنهم إن سألوا سألوا بتلطف ولم يحلفوا . وقيل هو نفي للسؤال والإِلحاف .

والذي عليه المحققون من العلماء أن النفي منصب على السؤال وعلى الألحاف أي أنهم لا يسألون أصلا تعففاً منهم ، لأنهم لو كانوا يسألون ما ظنهم الجاهل أغنياء من التعفف ، ولو كانوا يسألون ما كانوا متعففين ، ولو كانوا يسألون ما احتاج صاحب البصيرة النافذة إلى معرفة حالهم عن طريق التفرس في سماتهم لأن سؤالهم كان يغنيه عن ذلك .

وإنما جاء النفي بهذه الطريقة التي يوهم ظاهرها أن النفي متجه إلى الإِلحاف وحده ، للموازنة بينهم وبين غيرهم ، فإن غيرهم إذا كان يسأل الناس إلحافاً فهم لا يسألون مطلقاً لا بإلحاف ولا بدونه ، والنفي بهذه الطريقة فيه تعريض للمحلفين وثناء على المتعففين . ولذا قال بعضهم : وإذا علم أنهم لا يسألون البتة فقد علم أنهم لا يسألون الناس إلحافاً والمراد النبيه على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافاً ، ومثاله إذا حضر عندك رجلان أحدهما عقال وقور قليل الكلام ، والآخر طياش مهذار سفيه ، فإذا أردت أن تمدح أحدهما وتعرض بذم الآخر قلت : فلان رجل عاقل وقور لا بخوض في الترهات ولا يشرع في السفاهات ، ولم يكن غرضك من قولك لا يخوض في الترهات وصفه بذلك لأن ما تقدم من الأوصاف الحسنة يغني عن ذلك بل غرضك التنبيه على مذمة الثاني . فالأمر هنا كذلك لأن قوله : { لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } بعد قوله : { يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف } الغرض منه بيان مباينة أحد الجنسين عن الآخر في استيجاب المدح والتعظيم .

هذا وقد وردت أحاديث متعددة تمدح المتعففين عن السؤال ، وتذم الملحفين فيه ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان ولا التمرة والتمرتان إنما المسكين الذي يتعفف . اقرؤوا إن شئتم : { لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } " .

وروى مسلم في صحيحه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم " .

وروى مسلم - أيضاً - في صحيحه عن عوف بن مالك قال : كنا تسعة أو ثمانية أو سبعة عند رسول الله فقال : " ألا تبايعون رسول الله ؟ فقلنا علام نبايعك ؟ قال : أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً . والصلوات الخمس ، وتطيعوا ولا تسألوا الناس . فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فلا يسأل أحداً يناوله إياه " .

والخلاصة أن السؤال إنما يجوز عند الضرورة ، وأنه لا يصح لمؤمن أن يسأل الناس عنده ما يكفيه ، لأن السؤال ذل يربأ بنفسه عنه كل من يحافظ على مروءته وكرامته وشرفه .

وقوله : { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } تحريض للمؤمن على البذل والسخاء ، وترقية لنفسه على الشعور بمراقبة الله - تعالى - وعلى محبة فعل الخير .

أي : وما تنقوتا من خير سواء أكان المنفق قليلا أم كثيراً سراً أم علناً فإن الله يعلمه وسيجازيكم عليه بأجزل الثواب ، وأعظم العطاء .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{لِلۡفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحۡصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ ضَرۡبٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ يَحۡسَبُهُمُ ٱلۡجَاهِلُ أَغۡنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعۡرِفُهُم بِسِيمَٰهُمۡ لَا يَسۡـَٔلُونَ ٱلنَّاسَ إِلۡحَافٗاۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ} (273)

وقوله : { لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } يعني : المهاجرين الذين قد انقطعوا إلى الله وإلى رسوله ، وسكنوا المدينة وليس لهم سبب يردون به على أنفسهم ما يغنيهم{[4518]} و{ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرْض } يعني : سفرًا للتسبب في طلب المعاش . والضرب في الأرض : هو السفر ؛ قال الله تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } [ النساء : 101 ] ، وقال تعالى : { عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه } الآية [ المزمل : 20 ] .

وقوله : { يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ } أي : الجاهلُ بأمْرهم وحالهم يحسبهم أغنياء ، من تعففهم في لباسهم وحالهم ومقالهم . وفي هذا المعنى الحديث المتفق على صحته ، عن أبي هريرة قال :

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان ، واللقمة واللقمتان ، والأكلة والأكلتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يُفْطَنُ له فَيُتَصَدقَ عليه ، ولا يسأل الناس شيئا " {[4519]} . وقد رواه أحمد ، من حديث ابن مسعود أيضًا{[4520]} .

وقوله : { تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ } أي : بما يظهر لذوي الألباب من صفاتهم ، كما قال [ الله ]{[4521]} تعالى : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ } [ الفتح : 29 ] ، وقال : { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْل } [ محمد : 30 ] . وفي الحديث الذي في السنن : " اتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله " ، ثم قرأ : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } [ الحجر : 75 ] . {[4522]} .

وقوله : { لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا } أي : لا يُلحْون في المسألة ويكلفون الناس ما لا يحتاجون إليه ، فإن من سأل وله ما يغنيه عن السؤال ، فقد ألحف في المسألة ؛ قال البخاري :

حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شريك بن أبي نمر : أن عطاء بن يَسَار وعبد الرحمن بن أبي عَمْرَة الأنصاري قالا سمعنا أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس المسكينُ الذي ترده التمرة والتمرتان ، ولا اللقمة واللقمتان ، إنما المسكين الذي يتعفَّفُ ؛ اقرؤوا إن شئتم - يعني قوله - : { لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا }{[4523]} .

وقد رواه مُسْلِم ، من حديث إسماعيل بن جعفر المديني ، عن شريك بن عبد الله بن أبي نَمر ، عن عطاء بن يسار - وحده - عن أبي هريرة ، به{[4524]} .

وقال أبو عبد الرحمن النسائي{[4525]} : أخبرنا علي بن حجر ، حدثنا إسماعيل ، أخبرنا شريك - وهو ابن أبي نمر - عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان ، واللقمة واللقمتان ، إنما المسكين المتعفف ؛ اقرؤوا إن شئتم : { لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا } " {[4526]} .

وروى البخاري من حديث شعبة ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحوه{[4527]} .

وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني ابن أبي ذئب ، عن أبي الوليد ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس المسكين بالطواف عليكم ، فتطعمونه{[4528]} لقمة لقمة ، إنما المسكين المتعفف الذي لا يسأل الناس إلحافا " .

وقال ابن جرير : حدثني معتمر ، عن الحسن بن ماتك{[4529]} عن صالح بن سويد ، عن أبي هريرة قال : ليس المسكين الطواف الذي ترده الأكلة والأكلتان ، ولكن المسكين المتعفف في بيته ، لا يسأل الناس شيئا تصيبه الحاجة ؛ اقرؤوا إن شئتم : { لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا }

وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا أبو بكر الحنفي ، حدثنا عبد الحميد بن جعفر ، عن أبيه ، عن رجل من مزينة ، أنه قالت له أمه : ألا تنطلق فتسأل رسول الله صلى الله عليه سلم كما يسأله الناس ؟ فانطلقت أسأله ، فوجدته قائما يخطب ، وهو يقول : " ومن استعف أعفه الله ، ومن استغنى أغناه الله ، ومن يسأل الناس وله عدل خمس أواق فقد سأل الناس إلحافا " . فقلت بيني وبين نفسي : لناقة لي خير من خمس أواق ، ولغلامه ناقة أخرى فهي خير من خمس أواق فرجعت ولم أسأل{[4530]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال ، عن عمارة بن غزية ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد ، عن أبيه قال : سرحتني أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أسأله ، فأتيته فقعدت ، قال : فاستقبلني فقال : " من استغنى أغناه الله ، ومن استعف أعفَّه الله ، ومن استكف كفاه الله ، ومن سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف " . قال : فقلت : ناقتي الياقوتة خير من أوقية . فرجعت ولم أسأله .

وهكذا رواه أبو داود والنسائي ، كلاهما عن قتيبة . زاد أبو داود : وهشام بن عمار كلاهما عن عبد الرحمن بن أبي الرجال بإسناده ، نحوه{[4531]} .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الجماهير ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال ، عن عمارة بن غزية ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد قال : قال أبو سعيد الخدري : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سأل وله قيمة وقية فهو ملحف " والوقية : أربعون درهما{[4532]} .

وقال أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن رجل من بني أسد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سأل وله أوقية - أو عدلها - فقد سأل إلحافا " {[4533]} .

وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن حكيم بن جبير ، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد ، عن أبيه ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سأل وله ما يغنيه ، جاءت مسألته يوم القيامة خدوشا - أو كدوحا - في وجهه " . قالوا : يا رسول الله ، وما غناه ؟ قال : " خمسون درهما ، أو حسابها من الذهب " .

وقد رواه أهل السنن الأربعة ، من حديث حكيم بن جبير الأسدي الكوفي{[4534]} . وقد تركه شعبة بن الحجاج ، وضعفه غير واحد من الأئمة من جراء هذا الحديث .

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، حدثنا أبو حصين{[4535]} عبد الله بن أحمد بن يونس ، حدثني أبي ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين قال : بلغ الحارث - رجلا كان بالشام من قريش - أن أبا ذر كان به عوز ، فبعث إليه ثلاثمائة دينار ، فقال : ما وجد عبد الله رجلا هو أهون عليه مني ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من سأل وله أربعون فقد ألحف " ولآل أبي ذر أربعون درهما وأربعون شاة وماهنان . قال أبو بكر بن عياش : يعني خادمين{[4536]} .

وقال ابن مَرْدُوَيه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، أخبرنا إبراهيم بن محمد ، أنبأنا عبد الجبار ، أخبرنا سفيان ، عن داود بن سابور ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من سأل وله أربعون درهمًا فهو مُلْحِف ، وهو مثل سف الملة " يعني : الرمل .

ورواه النسائي ، عن أحمد بن سليمان ، عن يحيى بن آدم ، عن سفيان - وهو ابن عيينة - بإسناده نحوه{[4537]} .

قوله{[4538]} : { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } أي : لا يخفى عليه شيء منه ، وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمه يوم القيامة ، أحوج ما يكونون إليه .


[4518]:في أ: "بأنفسهم".
[4519]:صحيح البخاري برقم (4539) وصحيح مسلم برقم (1039).
[4520]:المسند (1/384).
[4521]:زيادة من جـ.
[4522]:رواه الترمذي في السنن برقم (3127) من طريق عمرو بن قيس، عن عطية، عن أبي سعيد، رضي الله عنه، به مرفوعا، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب إنما نعرفه من هذا الوجه، وقد روي عن بعض أهل العلم".
[4523]:صحيح البخاري برقم (4539).
[4524]:صحيح مسلم برقم (1039).
[4525]:في و: "ورواه النسائي ولفظه".
[4526]:سنن النسائي الكبرى برقم (11053).
[4527]:صحيح البخاري برقم (1476).
[4528]:في جـ، أ، و: "فتعطونه".
[4529]:في جـ، أ: "الحسن بن بابل"، وفي و: "أيمن بن نابل".
[4530]:المسند (4/138).
[4531]:المسند (3/9) وسنن أبي داود برقم (1628) وسنن النسائي (5/98).
[4532]:ورواه ابن خزيمة في صحيحه برقم (2447) وابن حبان في صحيحه برقم (846) من طريق عبد الله بن يوسف، عن عبد الرحمن ابن أبي الرجال به.
[4533]:المسند (4/36).
[4534]:المسند (1/388) وسنن أبي داود برقم (1626) وسنن الترمذي برقم (650) وسنن النسائي (5/97) وسنن ابن ماجة برقم (1840).
[4535]:في هـ: "أبو حصن" وهو خطأ.
[4536]:المعجم الكبير (2/150) وقال الهيثمي في المجمع (9/331): "رجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن يونس وهو ثقة".
[4537]:سنن النسائي الكبرى برقم (2375).
[4538]:في جـ: "وقوله".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{لِلۡفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحۡصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ ضَرۡبٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ يَحۡسَبُهُمُ ٱلۡجَاهِلُ أَغۡنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعۡرِفُهُم بِسِيمَٰهُمۡ لَا يَسۡـَٔلُونَ ٱلنَّاسَ إِلۡحَافٗاۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ} (273)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ للفقراء الّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أغنياء مِنَ التّعَفّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ }

أما قوله : { لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } فبيان من الله عزّ وجلّ عن سبيل النفقة ووجهها . ومعنى الكلام : وما تنفقوا من خير فلأنفسكم ، تنفقون للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله . واللام التي في الفقراء مردودة على موضع اللام في فلأنفسكم ، كأنه قال : { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ } يعني به : وما تتصدّقوا به من مال ، فللفقراء الذين أحصروا في سبيل الله ، فلما اعترض في الكلام بقوله : «فلأنفسكم » ، فأدخل الفاء التي هي جواب الجزاء فيه تركت إعادتها في قوله : «للفقراء » ، إذ كان الكلام مفهوما معناه . كما :

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فِلأَنْفُسِكُمْ } أما «ليس عليك هداهم » ، فيعني المشركين ، وأما النفقة فبين أهلها ، فقال : للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله .

وقيل : إن هؤلاء الفقراء الذين ذكرهم الله في هذه الآية ، هم فقراء المهاجرين عامة دون غيرهم من الفقراء . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } مهاجري قريش بالمدينة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ، أمر بالصدقة عليهم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه قوله : { لِلْفِقُرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } . . . الآية . قال : هم فقراء المهاجرين بالمدينة .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } قال : فقراء المهاجرين .

القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } .

يعني تعالى ذكره بذلك : الذين جعلهم جهادهم عدوّهم يحصرون أنفسهم فيحبسونها عن التصرف فلا يستطيعون تصرّفا . وقد دللنا فيما مضى قبل على أن معنى الإحصار : تصيير الرجل المحصر بمرضه أو فاقته أو جهاده عدوّه ، وغير ذلك من علله إلى حالة يحبس نفسه فيها عن التصرّف في أسبابه بما فيه الكفاية فيما مضى قبل .

وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : في ذلك بنحو الذي قلنا فيه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } قال : حصروا أنفسهم في سبيل الله للغزو .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } قال : كانت الأرض كلها كفرا لا يستطيع أحد أن يخرج يبتغي من فضل الله إذا خرج خرج في كفر . وقيل : كانت الأرض كلها حربا على أهل هذا البلد ، وكانوا لا يتوجهون جهة إلا لهم فيها عدوّ ، فقال الله عزّ وجلّ : { لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } . . . الآية¹ كانوا ههنا في سبيل الله .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : الذين أحصرهم المشركون فمنعوهم التصرّف . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } حصرهم المشركون في المدينة .

ولو كان تأويل الآية على ما تأوّله السدي ، لكان الكلام : للفقراء الذين حصروا في سبيل الله ، ولكنه «أحصروا » ، فدلّ ذلك على أن خوفهم من العدوّ الذي صير هؤلاء الفقراء إلى الحال التي حَبسوا وهم في سبيل الله أنفسهم ، لا أن العدوّ هم كانوا الحابسيهم ، وإنما يقال لمن حبسه العدوّ : حصره العدوّ ، وإذا كان الرجل المحبس من خوف العدوّ قيل : أحصره خوف العدوّ .

القول في تأويل قوله تعالى : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبا فِي الأرْضِ } .

يعني بذلك جل ثناؤه : لا يستطيعون تقلبا في الأرض ، وسفرا في البلاد ، ابتغاء المعاش وطلب المكاسب ، فيستغنوا عن الصدقات رهبة العدوّ ، وخوفا على أنفسهم منهم . كما :

حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبا فِي الأرْضِ } حبسوا أنفسهم في سبيل الله للعدوّ ، فلا يستطيعون تجارة .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبا فِي الأرْضِ } يعني التجارة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد قوله : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبا فِي الأرْضِ } كان أحدهم لا يستطيع أن يخرج يبتغي من فضل الله .

القول في تأويل قوله تعالى : { يَحْسَبُهُمُ الجاهِلُ أغْنِياءَ مِنَ التّعَفّفِ } .

يعني بذلك : يحسبهم الجاهل بأمرهم وحالهم أغنياء من تعففهم عن المسألة وتركهم التعرّض لما في أيدي الناس صبرا منهم على البأساء والضرّاء . كما :

حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { يَحْسَبُهُمُ الجاهِلُ أغْنِيَاءَ } يقول : يحسبهم الجاهل بأمرهم أغنياء من التعفف .

ويعني بقوله : { مِنَ التّعَفّفِ } من ترك مسألة الناس ، وهو التفعل من العفة عن الشيء ، والعفة عن الشيء : تركه ، كما قال رؤبة :

فَعَفّ عَنْ أسْرَارِها بَعْدَ العَسَقْ

يعني برىء وتجنب .

القول في تأويل قوله تعالى : { تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ } .

يعني بذلك جل ثناؤه : تعرفهم يا محمد بسيماهم ، يعني بعلامتهم وآثارهم ، من قول الله عزّ وجلّ : { سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السّجُودِ } هذه لغة قريش ، ومن العرب من يقول : «بسيمائهم » فيمدها ، وأما ثقيف وبعض أسد ، فإنهم يقولون : «بسيميائهم » ومن ذلك قول الشاعر :

غُلامٌ رَماهُ اللّهُ بالحُسْنِ يافِعالَهُ سِيمِيَاءُ لا تَشُقّ عَلى البَصَرْ

وقد اختلف أهل التأويل في السيما التي أخبر الله جل ثناؤه أنها لهؤلاء الفقراء الذين وصفت صفتهم وأنهم يعرفون بها ، فقال بعضهم : هو التخشع والتواضع . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ } قال : التخشع .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن ليث ، قال : كان مجاهد يقول : هو التخشع .

وقال آخرون يعني بذلك : تعرفهم بسيما الفقر وجهد الحاجة في وجوههم . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ } بسيما الفقر عليهم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ } يقول : تعرف في وجوههم الجهد من الحاجة .

وقال آخرون : معنى ذلك : تعرفهم برثاثة ثيابهم ، وقالوا : الجوع خفيّ . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ } قال : السيما : رثاثة ثيابهم ، والجوع خفيّ على الناس ، ولم تستطع الثياب التي يخرجون فيها تخفى على الناس .

وأول الأقوال في ذلك بالصواب : أن يقال : إن الله عزّ وجلّ أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يعرفهم بعلاماتهم وآثار الحاجة فيهم . وإنما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يدرك تلك العلامات والاَثار منهم عند المشاهدة بالعيان ، فيعرفهم وأصحابه بها ، كما يدرك المريض فيعلم أنه مريض بالمعاينة .

وقد يجوز أن تكون تلك السيما كانت تخشعا منهم ، وأن تكون كانت أثر الحاجة والضرّ ، وأن تكون كانت رثاثة الثياب ، وأن تكون كانت جميع ذلك ، وإنما تدرك علامات الحاجة وآثار الضرّ في الإنسان ، ويعلم أنها من الحاجة والضرّ بالمعاينة دون الوصف ، وذلك أن المريض قد يصير به في بعض أحوال مرضه من المرض نظر آثار المجهود من الفاقة والحاجة ، وقد يلبس الغنيّ ذو المال الكثير الثياب الرثة ، فيتزيا بزيّ أهل الحاجة ، فلا يكون في شيء من ذلك دلالة بالصفة على أن الموصوف به مختلّ ذو فاقة ، وإنما يدري ذلك عند المعاينة بسيماه ، كما وصفهم الله نظير ما يعرف أنه مريض عند المعاينة دون وصفه بصفته .

القول في تأويل قوله تعالى : { لاَ يَسألُونَ النّاسَ إلْحافا } .

يقال : قد ألحف السائل في مسألته إذا ألحّ فهو يلحف فيها إلحافا .

فإن قال قائل : أفكان هؤلاء القوم يسألون الناس غير إلحاف ؟ قيل : غير جائز أن يكون كانوا يسألون الناس شيئا على وجه الصدقة ، إلحافا أو غير إلحاف ، وذلك أن الله عزّ وجلّ وصفهم بأنهم كانوا أهل تعفف ، وأنهم إنما كانوا يعرفون بسيماهم ، فلو كانت المسألة من شأنهم لم تكن صفتهم التعفف ، ولم يكن بالنبيّ صلى الله عليه وسلم إلى علم معرفتهم بالأدلة والعلامة حاجة ، وكانت المسألة الظاهرة تنبىء عن حالهم وأمرهم . وفي الخبر الذي :

حدثنا به بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن هلال بن حصن ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : أعوزنا مرة فقيل لي : لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته . فانطلقت إليه مُعْنقا ، فكان أوّل ما واجهني به : «مَنْ اسْتَعَفّ أعَفّهُ الله ، ومَنِ اسْتَغْنَى أغْنَاهُ الله ، ومَنْ سَأَلَنا لَمْ نَدّخِرْ عَنْهُ شَيْئا نَجِدُهُ » ، قال : فرجعت إلى نفسي ، فقلت : ألا أستعفّ فيفعني الله ! فرجعت فما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا بعد ذلك من أمر حاجة حتى مالت علينا الدنيا فغرقتنا إلا من عصم الله .

الدلالة الواضحة على أن التعفف معنى ينفي معنى المسألة من الشخص الواحد ، وأن من كان موصوفا بالتعفف فغير موصوف بالمسألة إلحافا أو غير إلحاف .

فإن قال قائل : فإن كان الأمر على ما وصفت ، فما وجه قوله : { لاَ يَسْأَلُونَ النّاسَ إِلْحافا } وهم لا يسألون الناس إلحافا أو غير إلحاف ؟ قيل له : وجه ذلك أن الله تعالى ذكره لما وصفهم بالتعفف وعرّف عباده أنهم ليسوا أهل مسألة بحال بقوله : { يَحْسَبُهُمُ الجاهِلُ أغْنِيَاءَ مِنَ التّعَفّفِ } وأنهم إنما يعرفون بالسيما ، زاد عباده إبانة لأمرهم ، وحسن ثناء عليهم بنفي الشره والضراعة التي تكون في الملحّين من السؤال عنهم . وقال : كان بعض القائلين يقول في ذلك نظير قول القائل : فَلَمّا رأيت مثل فلان ، ولعله لم يره مثله أحدا ولا نظيرا .

وبنحو الذي قلنا في معنى الإلحاف قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { لاَ يَسألُونَ الناسَ إلْحافا } قال : لا يلحفون في المسألة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { لا يَسْألُونَ النّاسَ إِلْحافا } قال : هو الذي يلح في المسألة .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { لا يَسألُونَ النّاسَ إِلْحافا } ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «إِنّ اللّهَ يُحِبّ الحَلِيمَ الغَنِيّ المُتَعَفّفَ ، وَيُبْغِضُ الغَنِيّ الفاحِشَ البَذِيّ السّائِلَ المُلْحِفَ » قال : وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «إِنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثا ، قِيلَ وَقَالَ ، وَإضَاعَةَ المَالِ وَكَثْرَةَ السّوءَالِ » فإذا شئت رأيته في قيل وقال يومه أجمع وصدر ليلته ، حتى يُلقى جفية على فراشه ، لا يجعل الله له من نهاره ولا ليلته نصيبا ، وإذا شئت رأيته ذا مال في شهوته ولذاته وملاعبه ، ويعدله عن حقّ الله ، فذلك إضاعة المال ، وإذا شئت رأيته باسطا ذراعيه ، يسأل الناس في كفيه ، فإذا أعطي أفرط في مدحهم ، وإن منع أفرط في ذمهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لِلۡفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحۡصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ ضَرۡبٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ يَحۡسَبُهُمُ ٱلۡجَاهِلُ أَغۡنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعۡرِفُهُم بِسِيمَٰهُمۡ لَا يَسۡـَٔلُونَ ٱلنَّاسَ إِلۡحَافٗاۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ} (273)

لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( 273 )

هذه اللام في قوله { للفقراء } متعلقة بمحذوف( {[2678]} ) مقدر ، تقديره الإنفاق أو الصدقة للفقراء ، وقال مجاهد والسدي وغيرهما : المراد بهؤلاء الفقراء فقراء المهاجرين( {[2679]} ) من قريش وغيرهم ، قال الفقيه أو محمد : ثم تتناول الآية كل من دخل تحت صفة الفقر غابر الدهر( {[2680]} ) ، وإنما خص فقراء المهاجرين بالذكر لأنه لم يكن هناك سواهم ، لأن الأنصار كانوا أهل أموال وتجارة في قطرهم ، ثم بيّن الله تعالى من أحوال أولئك الفقراء المهاجرين ما يوجب الحنو عليهم ، بقوله : { الذين أحصروا في سبيل الله } والمعنى حبسوا( {[2681]} ) ومنعوا وذهب بعض اللغويين إلى أن أحصر وحصر بمعنى واحد من الحبس والمنع سواء كان ذلك بعدو أو بمرض ونحوه من الأعذار ، حكاه ابن سيده وغيره ، وفسر السدي هنا الإحصار بأنه بالعدو . وذهب بعضهم إلى أن أحصر إنما يكون بالمرض والأعذار . وحصر بالعدو . وعلى هذا فسر ابن زيد وقتادة ورجحه الطبري . وتأول في هذه الآية أنهم هم حابسو أنفسهم بربقة الدين وقصد الجهاد وخوف العدو إذا أحاط بهم الكفر ، فصار خوف العدو عذراً أحصروا به .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : هذا متجه كأن هذه الأعذار أحصرتهم أي جعلتهم ذوي حصر ، كما قالوا قبره أدخله في قبره وأقبره جعله ذا قبر ، فالعدو وكل محيط يحصر ، والأعذار المانعة «تُحصِر » بضم التاء وكسر الصاد أي تجعل المرء كالمحاط( {[2682]} ) به ، وقوله : { في سبيل الله } يحتمل الجهاد ويحتمل الدخول في الإسلام ، واللفظ يتناولهما( {[2683]} ) ، والضرب في الأرض هو التصرف في التجارة ، وضرب الأرض هو المشي إلى حاجة الإنسان في البراز ، وكانوا لا يستطيعون الضرب في الأرض لكون البلاد كلها كفراً مطبقاً ، وهذا في صدر الهجرة ، فقلتهم تمنع من الاكتساب بالجهاد . وإنكار الكفار عليهم إسلامهم يمنع من التصرف في التجارة . فبقوا فقراء إلا أنهم من الانقباض وترك المسألة والتوكل على الله بحيث { يحسبهم الجاهل } بباطن أحوالهم { أغنياء }( {[2684]} ) و { التعفف } تفعل ، وهو بناء مبالغة من عفَّ عن الشيء إذا أمسك عنه وتنزه عن طلبه . وبهذا المعنى فسر قتادة وغيره( {[2685]} ) ، وقرأ نافع وأبو عمرو والكسائي «يحسِبهم » بكسر السين . وكذلك هذا الفعل في كل القرآن ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة «يحسبهم » بفتح السين في كل القرآن ، وهما لغتان في «يحسب » كعهد ويعهد بفتح الهاء وكسرها في حروف كثيرة أتت كذلك ، قال أبو علي فتح السين في يحسب أقيس لأن العين من الماضي مكسورة فبابها أن تأتي في المضارع مفتوحة ، والقراءة بالكسر حسنة بمجيء السمع به ، وإن كان شاذاً عن القياس ، و { من } في قوله : { من التعفف } لابتداء الغاية أي من تعففهم ابتدأت محسبته ، وليست لبيان الجنس لأن الجاهل بهم لا يحسبهم أغنياء غناء تعفف ، وإنما يحسبهم أغنياء غناء مال ، ومحسبته من التعفف ناشئة ، وهذا على أنهم متعففون عفة تامة عن المسألة ، وهو الذي عليه جمهور المفسرين ، لأنهم قالوا في تفسير قوله تعالى : { لا يسألون الناس إلحافاً } : المعنى لا يسألون البتة .

وتحتمل الآية معنى آخر من فيه لبيان الجنس ، سنذكره بعد( {[2686]} ) والسيما مقصورة العلامة . وبعض العرب يقول : السيمياء بزيادة ياء وبالمد ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ] .

لَهُ سِيمِيَاءٌ لا تَشُقُّ على البَصَرْ( {[2687]} ) . . . واختلف المفسرون في تعيين هذه «السيما » التي يعرف بها هؤلاء المتعففون ، فقال مجاهد : هي التخشع والتواضع ، وقال السدي والربيع : هي جهد الحاجة وقضف( {[2688]} ) الفقر في وجوههم وقلة النعمة ، وقال ابن زيد : هي رثة الحال( {[2689]} ) ، وقال قوم ، وحكاه مكي : هي أثر السجود .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا حسن لأنهم كانوا متفرغين متوكلين لا شغل لهم في الأغلب إلا الصلاة ، فكان أثر السجود عليهم أبداً( {[2690]} ) ، و «الإلحاف » والإلحاح بمعنى واحد ، وقال قوم : هو مأخوذ من ألحف الشيء إذا غطاه وغمه بالتغطية ، ومنه اللحاف ، ومنه قول ابن الأحمر : [ الوافر ]

يَظَلُّ يَحُفُّهُنَّ بِقُفْقُفَيْهِ . . . وَيُلْحِفُهنَّ هَفهَافاً ثَخِينَا( {[2691]} )

يصف ذكر نعام يحضن بيضاً ، فكأن هذا السائل الملح يعم الناس بسؤاله فيلحفهم ذلك ، وذهب الطبري والزجاج وغيرهما إلى أن المعنى لا يسألون البتة .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : والآية تحتمل المعنيين نفي السؤال جملة ونفي الإلحاف فقط( {[2692]} ) ، أما الأولى فعلى أن يكون { التعفف } صفة ثابتة لهم ، ويحسبهم الجاهل بفقرهم لسبب تعففهم أغنياء من المال ، وتكون { من } لابتداء الغاية( {[2693]} ) ويكون قوله : { لا يسألون الناس إلحافاً } لم يرد به أنهم يسألون غير إلحاف بل المراد به التنبيه على سوء حالة من يسأل إلحافاً من الناس ، كما تقول : هذا رجل خير لا يقتل المسلمين . فقولك : «خير » قد تضمن أنه لا يقتل ولا يعصي بأقل من ذلك ، ثم نبهت بقولك لا يقتل المسلمين على قبح فعل غيره ممن يقتل ، وكثيراً ما يقال مثل هذا إذا كان المنبه عليه موجوداً في القضية مشاراً إليه في نفس المتكلم والسامع . وسؤال الإلحاف لم تخل منه مدة ، وهو مما يكره ، فلذلك نبه عليه .

وأما المعنى الثاني فعلى أن يكون { التعفف } داخلاً في المحسبة أي إنهم لا يظهر لهم سؤالاً ، بل هو قليل .

وبإجمال فالجاهل به مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عفة ، ف { من } لبيان الجنس( {[2694]} ) على هذا التأويل ، ثم نفى عنهم سؤال الإلحاف وبقي غير الإلحاف مقرراً لهم حسبما يقتضيه دليل الخطاب ، وهذا المعنى في نفي الإلحاف فقط هو الذي تقتضيه ألفاظ السدي ، وقال الزجّاج رحمه الله : المعنى لا يكون منهم سؤال فلا يكون إلحاف( {[2695]} ) .

وهذا كما قال امرؤ القيس : [ الطويل ]

عَلَى لاَحِبٍ يُهتَدَى بِمَنَارِهِ . . . ( {[2696]} )

أي ليس ثم منار فلا يكون اهتداء .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : إن كان الزجاج أراد لا يكون منهم سؤال البتة فذلك لا تعطيه الألفاظ التي بعد لا ، وإنما ينتفي السؤال إذا ضبط المعنى من أول الآية على ما قدمناه ، وإن كان أراد لا يكون منهم سؤال إلحاف فذلك نص الآية ، وأما تشبيهه الآية ببيت امرىء القيس فغير صحيح( {[2697]} ) ، وذلك أن قوله : على لاحب لا يهتدى بمناره وقوله الآخر : [ البسيط ] .

قِفْ بِالطُّلُولِ التي لَمْ يَعْفُهَا القدَمُ . . . ( {[2698]} )

وقوله الشاعر : [ المتقارب ]

وَمَنْ خفْتُ جَوْرِهِ فِي القَضَا . . . ء فَمَا خِفْتُ جَوْرَك يَا عَافِيهْ( {[2699]} )

وما جرى مجراه ترتيب يسبق منه أنه لا يهتدى بالمنار ، وإن كان المنار موجوداً فلا ينتفي إلا المعنى الذي دخل عليه حرف النفي فقط ، وكذلك ينتفي العفا وإن وجد القدم ، وكذلك ينتفي الخوف وإن وجد الجور ، وهذا لا يترتب في الآية ، ويجوز أن يريد الشعراء أن الثاني معدوم فلذلك أدخلوا على الأول حرف النفي إذ لا يصح الأول إلا بوجود الثاني ، أي ليس ثم منار ، فإذاً لا يكون اهتداء بمنار ، وليس ثم قدم فإذاً لا يكون عفا ، وليس ثم جور فإذاً لا يكون خوف ، وقوله تعالى : { لا يسألون الناس إلحافاً } ، لا يترتب فيه شيء من هذا ، لأن حرف النفي دخل على أمر عام للإلحاف وغيره ، ثم خصص بقوله : { إلحافاً } جزءاً من ذلك العام فليس بعدم الإلحاف ينتفي السؤال ، وبيت الشعر ينتفي فيه الأول بعدم الثاني إذ دخل حرف النفي فيه على شيء متعلق وجوده بوجود الذي يراد أنه معدوم ، والسؤال ليس هكذا مع الإلحاف ، بل الأمر بالعكس إذ قد يعدم الإلحاف منهم ويبقى لهم سؤال لا إلحاف فيه ، ولو كان الكلام لا يلحفون الناس سؤالاً لقرب الشبه بالأبيات المتقدمة ، وكذلك لو كان بعد لا يسألون شيء إذا عدم السؤال ، كأنك قلت تكسباً أو نحوه لصح الشبه( {[2700]} ) ، والله المستعان وقوله تعالى : { وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم } وعد محض أي يعلمه ويحصيه ليجازي عليه ويثيب .


[2678]:- يدل على هذا المحذوف ما سبق من ذكر الصدقة والنفقة.
[2679]:- وهم أهل الصفة، وكانوا نحوا من أربعمائة شخص، وكان زعيمهم أبو هريرة الصحابي الجليل، وكانوا يسكنون المسجد، ويعيشون على الناس بحكم الضرورة، ولما اتسع المسلمون وفتح الله عليهم خرجوا وملكوا.
[2680]:- لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب على ما عليه أكثر علماء الشريعة.
[2681]:- أي: حبسوا أنفسهم للجهاد في سبيل الله كما يأتي عن الإمام (ط) رحمه الله.
[2682]:- خلاصة هذا أن من أهل اللغة من جعل أُحصر وحُصر بمعنى، ومنهم من فرق بينهما فجعل حُصر في العدو وأُحصر في المرض ونحوه من الأعذار، وقد ارتضى هذا الفرق ابن عطية رحمه الله، ووجهه، ومرجعه إلى أن الاحصار في منع النفس كالمرض والحصر في منع الغير كالعدو والله أعلم وقد تقدم الكلام على هذا لدى قوله تعالى: [فإن أُحصرتم فما استيسر من الهدي].
[2683]:- هذا أوضح وأقرب، قال الإمام الباجي في شرح "الموطأ": جميع أعمال البر هي سبيل الله إلا أن هذه اللفظة إذا أُطلقت في الشرع اقتضت غزو العدو، ا هـ.
[2684]:- ليس الجهل هنا ضد العقل بل المراد به ضد الخبرة، أي الذي لا خبرة له بأمرهم.
[2685]:- قال أهل اللغة: عفَّ واستَعَفَّ وتَعَفَّفَ بمعنى واحد، ولعل ابن عطية رحمه الله راعى المقام فقال بكثرة التعفف، والله أعلم.
[2686]:- أي في قوله: «والآية تحتمل المعنيين: نفي السؤال جملة، ونفي الإلحاف فقط الخ».
[2687]:- الشاعر هو أُسيد بن عنقاء الفزاري، كما في "الأمالي"، وفي معجم الشعراء أنه لقيس ابن عنقا الفزاري، والبيت بتمامه: غلام رماه الله بالحُسن يافِعاً له سيمياءُ لا تشُقَّ على البصَر
[2688]:- يقال فلان قضيف: أي نحيف وهزيل قليل اللحم والشحم.
[2689]:- أي الهيئة، وفي بعض النسخ: "رئة الثياب"، ويقال في اللغة: رثت هيئته، ورثت ثيابه أي ضعفت وهانت، والرثة بكسر الراء.
[2690]:- أي بادياً عليهم على الدوام، لتفرغهم، وكثرة قيامهم، وفي كتاب الله العزيز: [سيماهم في وجوههم من أثر السّجود]، وهذا في الصحابة كلهم إلا أنه في هؤلاء الفقراء أكثر.
[2691]:- البيت لعمر بن أحمر بن العمود الباهلي – وقَفْقَفا الطائر والظليم: جناحاه – ويُلْحِفْهُنَّ: يجعل عليهن لحافاً من الجناحين – والهفَّاف والهَفْهَاف: الرقيق الشفاف من الثياب، والثخين: الكثيف – يريد الشاعر أن هذا الظليم يحضن البيض، ويجعل عليه جناحين كاللحاف الرقيق الشفاف مع كثافته – وإنما كان كثيفا لكثرة الريش مع تراكبه.
[2692]:- إذا ورد النفي على موصوف بصفة فإنما يتسلّط على تلك الصفة دون متعلقها نحو: لا رجل قائم – فمعناه، نفي القيام مع وجود الرجل، وهذا هو الأكثر في كلامهم، وقد يتجه النفي إلى الموصوف فينتفي الوصف بانتفائه، فقولهم: لا رجل قائم معناهك لا رجل موجود فلا قيام، وهي طريقة معروفة. قال امرؤ القيس: على لاحبٍ لا يُهتدى بِمَنَـارِه إذا ساقه العَوْدُ النِّباطيُّ جَرْجـرا أي: لا منار فلا هداية به، وليس المراد أن هناك مناراً لا يهتدى به. وقال الشاعر: لا يُفْـزعُ الأرْنَبَ أهْوَالُــهَا ولا تَـرى الضَّب بِها يَنْجَحِــرْ أي: لا أرنب فلا يفزعها هول، ولا ضبَّ فلا انجحار. ويُخَرَّج على هذه الطريقة قوله تعالى: [لا يسألون الناس إلحافا] أي لا سؤال فلا إلحاف، ولقد أشار إلى هذه الطريقة ابن عطية رحمه الله ووضحها بقوله: أريد به التنبيه على سوء حالة من يسأل إلحافاً من الناس إلخ. والله أعلم.
[2693]:- ها هنا أقوال ثلاثة – قيل: (من) لابتداء الغاية، وقيل: لبيان الجنس، وقيل: سببية وهو أظهر، وكونها لبيان الجنس يؤول إلى أنها سببية، إلا أنها على السببية تتعلق بـ [يَحْسَبَهُمُ]، وعلى بيان الجنس تتعلق بـ [أغنياء].
[2694]:- أي جنس الغنى أهو غني عفة النفس أم غنى وجود المال ؟ والغنى في الحقيقة هو غنى النفس لا غنى المال، وهذا في الجاهل بالتعفف والعالم بالفقر. والمعنى الأول في العالم بالتعفف والجاهل بالفقر، وكيفما كان الأمر فالعفة والقناعة صفة شريفة، فقد قال أهل التحقيق والتوفيق: من لم يرض باليسر فهو أسير.
[2695]:- هذا قول الإمام الطبري، والزجاج، وكثير من المفسرين، ووجهه أن التعفف صفة ثابتة لهم لا تفارقهم، ومجرد السؤال ينافيها.
[2696]:- تمامه: ............................ إذا ساقه العَوْدُ النباطيُّ جَرْجَـراَ واللاحب: الطريق الواضح – سافَه الطريق: لازمه – والعَوْدُ: المُسِنُّ من الإبل وفيه بقية – وجَرْجَر البعير: ردد صوته في حنجرته عند الضجر.
[2697]:- وجْهُهُ – كما أشار إليه- أن تركيب الآية الكريمة غير تركيب الشعراء الثلاثة – ففي الآية دخل النفي على الموصوف، وفي الأبيات دخل على الصفة، وكان يجب أن يكون المعنى على تشبيه الزجاج الآية ببيت امرئ القيس - «لا إلحاف فلا سؤال»، وهذا غير صحيح، لأنه لا يلزم من نفي الخاص نفي العام، وأما في الأبيات فإنه ينتفي الثاني بانتفاء الأول ضرورة انتفاء الخاص بانتفاء العام، والجواب كما قاله بعض المحققين: أن التشبيه في مطلق انتفاء الشيئين بصرف النظر عن خصوصية النفي. أي: لا سؤال، ولا إلحاف، كما أنه لا منار ولا هداية.
[2698]:- الشاعر هو زهير بن أبي سلمى، والبيت من جملة قصيدة يمدح بها هَرم بن سنان. وهو بتمامه: قِفْ بالدِّيار التي لمْ يُعْفِهَا القِـدَمُ بلى، وغيَّرها الأرْواح والدِّيَمُ ولم يعفها: لم يمحها ويذهب بأثرها – والأرواح: جمع ريح، وهو غير قياسي – والدِّيَـمُ: جمع ديمة – والديمة هي المطر بطول زمانه في سكون.
[2699]:- اختصم أبو دلامة مع رجل إلى (عافية) قاضي أبي جعفر المنصور، فادعى الرجل عليه فقال له القاضي ما تقول ؟ فقال: اسمع أولا وأنشأ يقول: لقـدْ خَاصَمَتْنِي دُهَاة الرِّجــال وخاصَمتُها سنةً وافِيَــهْ فمـــا أدْحَضَ الله لي حُجَّـةً ولا خَيَّبَ الله لي قَافِيَــهْ ومنْ خِفْتُ مِنْ جُورِه في القضاء فلستُ أخاَفُـكَ يا عافِيَــهْ فغضب وقال: لأشكونك إلى أمير المؤمنين، وقال أبو دلامة: ولم تشكوني ؟ قال: لأنك هجوتني. قال: والله إذن يعزلك، قال: ولم يعزلني ؟ قال: لأنك لا تعرف المديح من الهجاء. انظر الأغاني.
[2700]:- أي: لو كان تركيب الآية: «لا يلحفون الناس سؤالا»، أو: «لا يسألون الناس تكسّبا» لكان التشبيه قريبا، وقد قدمنا أن مراد الزجاج – رحمه الله – التشبيه المطلق، أي انتفاء الأمرين في الآية، وفي بيت امرئ القيس بصرف النظر عن خصوصية النفي وبذلك تندفع مناقشة ابن عطية له كما نبه على ذلك أبو (ح) وتأمل قول ابن عطية: «لا يسألون شيء إذا عدم عدم السؤال» فلعل صواب الكلام: «لايسألون عن شيء، أو: لا يسألون شيئا». والله أعلم. وقوله - «لصح الشبه» جواب "لو" في قوله: "لو كان بعد".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لِلۡفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحۡصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ ضَرۡبٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ يَحۡسَبُهُمُ ٱلۡجَاهِلُ أَغۡنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعۡرِفُهُم بِسِيمَٰهُمۡ لَا يَسۡـَٔلُونَ ٱلنَّاسَ إِلۡحَافٗاۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ} (273)

{ للفقراء } متعلّق بتنفقون الأخير ، وتعلّقه به يؤذن بتعلّق معناه بنظائره المقدّمة ، فما من نفقة ذكرت آنفاً إلاّ وهي للفقراء لأنّ الجمل قد عضد بعضها بعضاً .

و { الذين أحصروا } أي حبسوا وأرصدوا . ويحتمل أنّ المراد بسبيل الله هنا الجهاد ؛ فإن كان نزولها في قوم جرحوا في سبيل الله فصاروا زمْنَى ، ففي للسبيبة والضرب في الأرض المشي للجهاد بقرينة قوله : { في سبيل الله } ، والمعنى أنّهم أحقّاء بأن ينفق عليهم لعجزهم الحاصل بالجهاد ؛ وإن كانوا قوماً بصدد القتال يحتاجون للمعونة ، ففي للظرفية المجازية ؛ وإن كان المراد بهم أهل الصفة{[196]} ، وهم فقراء المهاجرين الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم بمكة وجاؤوا دار الهجرة لا يستطيعون زراعة ولا تجارة ، فمعنى أحصروا في سبيل الله عِيقوا عن أعمالهم لأجل سبيل الله وهو الهجرة ، ففي للتعليل . وقد قيل : إنّ أهل الصفة كانوا يخرجون في كل سريّة يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه فسبيل الله هو الجهاد . ومعنى « أحصروا » على هذا الوجه أرصدوا . و ( في ) باقية على التعليل .

والظاهر من قوله : { لا يستطيعون ضرباً } أنّهم عاجزون عن التجارة لقلّة ذات اليد ، والضرب في الأرض كناية عن التجر لأنّ شأن التاجر أن يسافر ليبتاع ويبيع فهو يضرب الأرض برجليه أو دابّته .

وجملة { لا يستطيعون ضرباً } يجوز أن تكون حالاً ، وأن تكون بياناً لجملة أحصروا .

وقوله : { يحسبهم الجاهل أغنياء } حال من الفقراء ، أي الجاهل بحالهم من الفقر يظنّهم أغنياء ، ومن للابتداء لأنّ التعفّف مبدأ هذا الحسبان .

والتعفّف تكلّف العفاف وهو النزاهة عمّا يليق . وفي « البخاري » باب الاستعفاف عن المسألة ، أخرج فيه حديث أبي سعيد : أنّ الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ، ثم سألوه فأعطاهم ، حتى نفِدَ ما عنده فقال : " ما يكون عندي من خير فلن أدّخره عنكم ، ومن يستعفف يُعِفّه الله ، ومن يستغنِ يُغْنِه الله ، ومن يتصبّر يصبِّره الله " .

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي وخلف ويعقوب يحسِبهم بكسر السين وقرأه الباقون بفتح السين ، وهما لغتان .

ومعنى { تعرفهم بسماهم } أي بعلامة الحاجة والخطاب لغير معيَّن ليعم كلّ مخاطب ، وليس للرسول لأنّه أعلم بحالهم . والمخاطب بتَعْرفهم هو الذي تصدّى لتطّلع أحوال الفقراء ، فهو المقابل للجاهل في قوله : { يحسبهم الجاهل أغنياء } .

والجملة بيان لجملة { يحسبهم الجاهل أغنياء } ، كأنّه قيل : فبماذا تصل إليهم صدقات المسلمين إذا كان فقرهم خفيّاً ، وكيف يُطّلع عليهم فأحيل ذلك على مظنّة المتأمّل كقوله : { إن في ذلك لآيات للمتوسمين } [ الحجر : 75 ] .

والسيما العلامة ، مشتقة من سَام الذي هو مقلوب وَسَم ، فأصلها وِسْمَى ، فوزنها عِفْلَى ، وهي في الصورة فِعْلى ، يدل لذلك قولهم سِمَة ؛ فإنّ أصلها وِسْمَة .

ويقولون سِيمى بالقصر وسِيماء بالمد وسِيميَاء بزيادة ياء بعد الميم وبالمد ، ويقولون سَوّم إذا جَعَل سِمة . وكأنّهم إنّما قلبوا حروف الكلمة لقصد التوصّل إلى التخفيف بهذه الأوزان لأنّ قلب عين الكلمة متأتّ بخلاف قلب فائها . ولم يسمع من كلامهم فِعْل مجردٌ من سوّم المقلوب ، وإنّما سمع منه فعل مضاعف في قولهم سَوّم فرسه .

وقوله : { لا يسألون الناس إلحافاً } بيان لقوله يحسبهم الجاهل أغنياء بياناً ثانياً ، لكيفية حُسبانهم أغنياء في أنّهم لا يسألون الناس . وكان مُقتضى الظاهر تقديمه على الذي قبله إلاّ أنّه أخّر للاهتمام بما سبقه من الحقّ على توسّم احتياجهم بأنّهم محصرون لا يستطيعون ضرباً في الأرض لأنّه المقصود من سياق الكلام .

فأنت ترى كيف لم يغادر القرآن شيئاً من الحثّ على إبلاغ الصدقات إلى أيدي الفقراء إلاّ وقد جاء به ، وأظهر به مزيد الاعتناء .

والإلحاف الإلحاح في المسألة . ونُصب على أنّه مفعول مطلق مُبيّن للنوع ، ويجوز أن يكون حالاً من ضمير يسألون بتأويل مُلحفين . وأيَّا ما كان فقد نفي عنهم السؤال المقيّد بالإلحاف أو المقيدون فيه بأنّهم مُلحفون وذلك لا يفيد نفي صدور المسألة منهم مع أنّ قوله : { يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف } يدل على أنّهم لا يسألون أصلاً ، وقد تأوّله الزجاج والزمخشري بأنّ المقصود نفي السؤال ونفيُ الإلحاف معاً كقول امرىء القيس :

* عَلَى لاَحِبٍ لاَ يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ *

يُريد نفي المنار والاهتداء ، وقرينة هذا المقصود أنّهم وصفوا بأنّهم يُحسبون أغنياء من التعفّف ، ونظيره قوله تعالى : { ما للظالمين من حميم ولا شفيعٍ يُطاعُ } [ غافر : 18 ] أي لا شفيع أصلاً ، ثم حيث لا شفيع فلا إطاعة ، فأنتج لا شفيع يطاع ، فهو مبالغة في نفي الشفيع لأنّه كنفيه بنفي لازمه وجعلوه نوعاً من أنواع الكناية ، وقال التفتازاني : « إنّما تحسن هذه الطريقة إذا كان القيد الواقع بعد النفي بمنزلة اللازم للنفي لأنّ شأن اللاّحب أن يكون له مَنار ، وشأنَ الشفيع أن يُطاع ، فيكون نفي اللازم نفياً للملزوم بطريق برهاني ، وليس الإلحاف بالنسبة إلى السؤال كذلك ، بل لا يبعد أن يكون ضدُّ الإلحاف وهو الرفق والتلطّف أشبه باللازم » ( أي أن يكون المنفي مُطرّد اللزوم للمنفي عنه ) . وجوّز صاحب « الكشاف » أن يكون المعنى أنّهم إن سألوا سألوا بتلطّف خفيف دون إلحاف ، أي إنّ شأنهم أن يتعفّفوا ، فإذا سألوا سألوا بغير إلحاف ، وهو بعيد لأنّ فصل الجملة عن التي قبلها دليل على أنّها كالبيان لها ، والأظهر الوجه الأول الذي جعل في « الكشاف » ثانياً وأجاب الفخر بأنّه تعالى وصفهم بالتعفّف فأغنى عن ذكر أنّهم لا يسألون ، وتعين أنّ قوله : { لا يسألون الناس إلحافاً } تعريض بالملحفين في السؤال ، أي زيادة فائدة في عدم السؤال .

{ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } .

أعيد التحريض على الإنفاق فذكر مرة رابعَة ، وقوله : { فإن الله به عليم } كناية عن الجزاء عليه لأن العلم يكنّى به عن أثره كثيراً ، فلما كان الإنفاق مرغّباً فيه من الله ، وكان عِلم الله بذلك معروفاً للمسلمين ، تعيَّن أن يكون الإخبارُ بأنّه عليم به أنّه عليم بامتثال المنفق ، أي فهو لا يضيع أجره إذ لا يمنعه منه مانع بعد كونه عليماً به ، لأنّه قدير عليه . وقد حصل بمجموع هذه المرات الأربع من التحريض ما أفاد شدة فضل الإنفاق بأنّه نفع للمنفِق ، وصلة بينه وبين ربّه ، ونوال الجزاء من الله ، وأنّه ثابت له في علم الله .


[196]:- الصفة – بضم الصاد وتشديد الفاء – بهو واسع طويل السمك، وهو موضع بناء النبيء صلى الله عليه وسلم في المسجد النبوي بالمدينة كالرواق ليأوي إليه فقراء المهاجرين الذين خرجوا من أموالهم بمكة وكانوا أربعمائة في عددهم وكانوا يقلون ويكثرون، منهم أبو ذر جندب الغفاري ومنهم أبو هريرة. ومنهم جعيل بن سراقة الضمري ولم أقف على غيرهم. وذكر مرتضى في شرح القاموس أنه جمع من أسمائهم اثنين وتسعين، وعن أبي ذر كنا إذا أمسينا حضرنا باب رسول الله فيأمر كل رجل فينصرف برجل ويبقى من بقي مع رسول الله عشرة أو أقل يؤتى رسول الله بعشائه فتتعشى معه فإذا فرغنا قال لنا: ناموا في المسجد، كان هذا في صدر أيام الهجرة ثم فتح الله على المسلمين فاستغغنوا وخرجوا ودامت الصفة حياة النبيء صلى الله عليه وسلم فقد عد أبو هريرة من أصحابها وهو أسم عام خيبر.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{لِلۡفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحۡصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ ضَرۡبٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ يَحۡسَبُهُمُ ٱلۡجَاهِلُ أَغۡنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعۡرِفُهُم بِسِيمَٰهُمۡ لَا يَسۡـَٔلُونَ ٱلنَّاسَ إِلۡحَافٗاۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ} (273)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم بين على من ينفق، فقال: النفقة {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله}: حبسوا {الذين أحصروا}: حبسوا أنفسهم بالمدينة في طاعة الله عز وجل، فهم أصحاب الصفة... منهم ابن مسعود، وأبو هريرة، والموالي أربعمائة رجل لا أموال لهم بالمدينة، فإذا كان الليل أوَوْا إلى صفَّة المسجد، فأمر الله عز وجل بالنفقة عليهم، {لا يستطيعون ضربا في الأرض}: سيرا، يعني التجارة.

{يحسبهم الجاهل} بأمرهم وشأنهم {أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم} بسيما الفقر عليهم لتركهم المسألة، {لا يسئلون الناس إلحافا} فيلحفون في المسألة.

{وما تنفقوا من خير}: من مال للفقراء أصحاب الصفة. {فإن الله به عليم}: بما أنفقتم عليم...

تفسير الإمام مالك 179 هـ :

أخرج مالك عن رجل من بني أسد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا).

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

أما قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ} فبيان من الله عزّ وجلّ عن سبيل النفقة ووجهها. ومعنى الكلام: وما تنفقوا من خير فلأنفسكم، تنفقون للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله.

وقيل: إن هؤلاء الفقراء الذين ذكرهم الله في هذه الآية، هم فقراء المهاجرين عامة دون غيرهم من الفقراء. {الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ}: الذين جعلهم جهادهم عدوّهم يحصرون أنفسهم فيحبسونها عن التصرف فلا يستطيعون تصرّفا. وقد دللنا فيما مضى قبل على أن معنى الإحصار: تصيير الرجل المحصر بمرضه أو فاقته أو جهاده عدوّه، وغير ذلك من علله إلى حالة يحبس نفسه فيها عن التصرّف في أسبابه بما فيه الكفاية فيما مضى قبل.

وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: في ذلك بنحو الذي قلنا فيه.. قال ابن زيد في قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ} قال: كانت الأرض كلها كفرا لا يستطيع أحد أن يخرج يبتغي من فضل الله، إذا خرج خرج في كفر. وقيل: كانت الأرض كلها حربا على أهل هذا البلد، وكانوا لا يتوجهون جهة إلا لهم فيها عدوّ، فقال الله عزّ وجلّ: {لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ}... الآية كانوا ههنا في سبيل الله.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: الذين أحصرهم المشركون فمنعوهم التصرّف... عن السدي: {لِلْفُقَرَاءِ الّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ}: حصرهم المشركون في المدينة.

ولو كان تأويل الآية على ما تأوّله السدي، لكان الكلام: للفقراء الذين حصروا في سبيل الله، ولكنه «أحصروا»، فدلّ ذلك على أن خوفهم من العدوّ الذي صير هؤلاء الفقراء إلى الحال التي حَبسوا وهم في سبيل الله أنفسهم، لا أن العدوّ هم كانوا الحابسيهم، وإنما يقال لمن حبسه العدوّ: حصره العدوّ، وإذا كان الرجل المحبس من خوف العدوّ قيل: أحصره خوف العدوّ.

{لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبا فِي الأرْضِ}: لا يستطيعون تقلبا في الأرض، وسفرا في البلاد، ابتغاء المعاش وطلب المكاسب، فيستغنوا عن الصدقات رهبة العدوّ، وخوفا على أنفسهم منهم... حبسوا أنفسهم في سبيل الله للعدوّ، فلا يستطيعون تجارة.

حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبا فِي الأرْضِ} يعني التجارة.

{يَحْسَبُهُمُ الجاهِلُ أغْنِياءَ مِنَ التّعَفّفِ}: يحسبهم الجاهل بأمرهم وحالهم أغنياء من تعففهم عن المسألة وتركهم التعرّض لما في أيدي الناس صبرا منهم على البأساء والضرّاء.

{مِنَ التّعَفّفِ}: من ترك مسألة الناس. {تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ}: تعرفهم يا محمد بسيماهم، يعني بعلامتهم وآثارهم، من قول الله عزّ وجلّ: {سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السّجُودِ} هذه لغة قريش، ومن العرب من يقول: «بسيمائهم» فيمدها، وأما ثقيف وبعض أسد، فإنهم يقولون:«بسيميائهم.

وقد اختلف أهل التأويل في السيما التي أخبر الله جل ثناؤه أنها لهؤلاء الفقراء الذين وصفت صفتهم وأنهم يعرفون بها؛ فقال بعضهم: هو التخشع والتواضع. وقال آخرون يعني بذلك: تعرفهم بسيما الفقر وجهد الحاجة في وجوههم.

وقال آخرون: معنى ذلك: تعرفهم برثاثة ثيابهم، وقالوا: الجوع خفيّ. وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن يقال: إن الله عزّ وجلّ أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يعرفهم بعلاماتهم وآثار الحاجة فيهم. وإنما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يدرك تلك العلامات والآثار منهم عند المشاهدة بالعيان، فيعرفهم وأصحابه بها، كما يدرك المريض فيعلم أنه مريض بالمعاينة.

وقد يجوز أن تكون تلك السيما كانت تخشعا منهم، وأن تكون كانت أثر الحاجة والضرّ، وأن تكون كانت رثاثة الثياب، وأن تكون كانت جميع ذلك، وإنما تدرك علامات الحاجة وآثار الضرّ في الإنسان، ويعلم أنها من الحاجة والضرّ بالمعاينة دون الوصف، وذلك أن المريض قد يصير به في بعض أحوال مرضه من المرض نظر آثار المجهود من الفاقة والحاجة، وقد يلبس الغنيّ ذو المال الكثير الثياب الرثة، فيتزيا بزيّ أهل الحاجة، فلا يكون في شيء من ذلك دلالة بالصفة على أن الموصوف به مختلّ ذو فاقة، وإنما يدري ذلك عند المعاينة بسيماه، كما وصفهم الله نظير ما يعرف أنه مريض عند المعاينة دون وصفه بصفته.

{لاَ يَسألُونَ النّاسَ إلْحافا}: يقال: قد ألحف السائل في مسألته إذا ألحّ، فهو يلحف فيها إلحافا.

فإن قال قائل: أفكان هؤلاء القوم يسألون الناس غير إلحاف؟ قيل: غير جائز أن يكون كانوا يسألون الناس شيئا على وجه الصدقة، إلحافا أو غير إلحاف، وذلك أن الله عزّ وجلّ وصفهم بأنهم كانوا أهل تعفف، وأنهم إنما كانوا يعرفون بسيماهم، فلو كانت المسألة من شأنهم لم تكن صفتهم التعفف، ولم يكن بالنبيّ صلى الله عليه وسلم إلى علم معرفتهم بالأدلة والعلامة حاجة، وكانت المسألة الظاهرة تنبئ عن حالهم وأمرهم. وفي الخبر الذي:

حدثنا به بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن هلال بن حصن، عن أبي سعيد الخدري، قال: أعوزنا مرة فقيل لي: لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته. فانطلقت إليه مُعْنقا، فكان أوّل ما واجهني به: «مَنْ اسْتَعَفّ أعَفّهُ الله، ومَنِ اسْتَغْنَى أغْنَاهُ الله، ومَنْ سَأَلَنا لَمْ نَدّخِرْ عَنْهُ شَيْئا نَجِدُهُ»، قال: فرجعت إلى نفسي، فقلت: ألا أستعفّ فيعفني الله! فرجعت فما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا بعد ذلك من أمر حاجة حتى مالت علينا الدنيا فغرقتنا إلا من عصم الله.

الدلالة الواضحة على أن التعفف معنى ينفي معنى المسألة من الشخص الواحد، وأن من كان موصوفا بالتعفف فغير موصوف بالمسألة إلحافا أو غير إلحاف.

فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت، فما وجه قوله: {لاَ يَسْأَلُونَ النّاسَ إِلْحافا} وهم لا يسألون الناس إلحافا أو غير إلحاف؟ قيل له: وجه ذلك أن الله تعالى ذكره لما وصفهم بالتعفف وعرّف عباده أنهم ليسوا أهل مسألة بحال بقوله: {يَحْسَبُهُمُ الجاهِلُ أغْنِيَاءَ مِنَ التّعَفّفِ} وأنهم إنما يعرفون بالسيما، زاد عباده إبانة لأمرهم، وحسن ثناء عليهم بنفي الشره والضراعة التي تكون في الملحّين من السؤال عنهم.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{تعرفهم بسيماهم}... أي بتحملهم {لا يسألون الناس إلحافا} إي إلحاحا ولا غير إلحاح...

{أحصروا في سبيل الله}... الإحصار منع النفس عن التصرف لمرض أو حاجة أو مخافة، فإذا منعه العدو قيل أحْصَرَهُ... وفي هذه الآية دلالة على أن من له ثياب الكسوة ذات قيمة كثيرة لا تمنعه إعطاء الزكاة، لأن الله تعالى قد أمَرَنا بإعطاء الزكاة مَنْ ظاهر حاله مُشْبِهٌ لأحوال الأغنياء. ويدلّ على أن الصحيح الجسم جائز أن يُعْطَى من الزكاة، لأن الله تعالى أمر بإعطاء هؤلاء القوم، وكانوا من المهاجرين الذين كانوا يقاتلون مع النبي صلى الله عليه وسلم المشركين ولم يكونوا مَرْضَى ولا عُمياناً...

{تعرفهم بسيماهم}... السِّيما العلامة... قال الله تعالى: {سيماهم في وجوههم من أثر السجود} [الفتح: 29] يعني علامتهم. فجائز أن تكون العلامة المذكورة في قوله تعالى: {تعرفهم بسيماهم} ما يظهر في وجه الإنسان من كسوف البال وسوء الحال، وإن كانت بزتهم وثيابهم وظاهر هيئتهم حسنة جميلة؛ وجائز أن يكون الله تعالى قد جَعَل لنبيه عَلَماً يستدلّ به إذا رآهم عليه على فقرهم؛ وإن كنا لا نعرف ذلك منهم إلا بظهور المسألة منهم أو بما يظهر من بذاذة هيئتهم... وهذا يدلّ على أن لما يظهر من السِّيما حظّاً في اعتبار حال من يظهر ذلك عليه... ونظيرُهُ أيضاً قوله تعالى: {إن كان قميصه قُدَّ من قُبُل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قُدَّ من دبر فكذبت وهو من الصادقين} [يوسف: 26و 27] فاعتبر العلامة؛ ومن نحوه قوله تعالى: {ولتعرفنهم في لَحْن القول} [محمد: 30] وإخوة يوسف عليه السلام لَطَّخوا قميصه بدمٍ وجعلوه علامة لصدقهم، قال الله تعالى: {وجاؤوا على قميصه بدم كذب}

[يوسف: 18]...

{لا يسألون الناس إلحافاً} يعني والله أعلم: إلحاحاً وإدامةً للمسألة؛ لأن الإلحاف في المسألة هو الاستقصاء فيها وإدامتها، وهذا يدل على كراهة الإلحاف في المسألة...

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} فيه وجهان: أحدهما: أن يسأل وله كفاية. والثاني: أنه الاشتمال بالمسألة، ومنه اشتق اسم اللحاف.

آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :

قول الله تعالى هو الحجة في اللغة والشريعة قال الله تعالى {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} وإنما نزلت هذه الآية في أمر الحديبية إذ منع الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم من إتمام عمرته، وسمى الله تعالى منع العدو إحصارا...

فصح أن الإحصار والحصر بمعنى واحد، وأنهما إسمان يقعان على كل مانع من عدو، أو مرض، أو غير ذلك أي شيء كان...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

اعمدوا للفقراء، واجعلوا ما تنفقون للفقراء، كقوله تعالى: {في تسع آيات} [النمل: 12] ويجوز أن يكون: صدقاتكم للفقراء...

و {الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله} هم الذين أحصرهم الجهاد {لاَ يَسْتَطِيعُونَ} لاشتغالهم به {ضَرْبًا فِي الأرض} للكسب. وقيل هم أصحاب الصفة، وهم نحو من أربعمائة رجل من مهاجري قريش لم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر، فكانوا في صفة المسجد وهي سقيفته يتعلمون القرآن بالليل، ويرضخون النوى بالنهار. وكانوا يخرجون في كل سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن كان عنده فضل أتاهم به إذا أمسى.

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا} سَيَأْتِي تَحْقِيقُ الْفَقْرِ فِي آيَةِ الصَّدَقَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَنْ هُمْ؟ قِيلَ: هُمْ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَيُحْكَى عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تُعْطَى لِكَافِرٍ، وَمَعْنَاهُ صَدَقَةُ الْفَرْضِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ} قِيلَ: هُوَ الْخُشُوعُ. وَقِيلَ: الْخَصَاصَةُ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْخُشُوعَ قَدْ يَكُونُ عَلَى الْغِنَى قَالَ تَعَالَى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} فَعَمَّ الْفَقِيرَ وَالْغَنِيَّ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا} ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَإِنَّمَا الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلَا يَفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ».

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الْوَاجِبُ عَلَى مُعْطِي الصَّدَقَةِ كَانَ إمَامًا أَوْ مَالِكًا أَنْ يُرَاعِيَ أَحْوَالَ النَّاسِ، فَمَنْ عَلِمَ فِيهِ صَبْرًا عَلَى الْخَصَاصَةِ وَتَحَلِّيًا بِالْقَنَاعَةِ آثَرَ عَلَيْهِ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الصَّبْرَ، فَرُبَّمَا وَقَعَ فِي التَّسَخُّطِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ: «إنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ».

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: {إلْحَافًا}. مَعْنَاهُ الشُّمُولُ بِالْمَسْأَلَةِ إمَّا لِلنَّاسِ، وَإِمَّا فِي الْأَمْوَالِ؛ فَيَسْأَلُ مِنَ النَّاسِ جَمَاعَةً، وَيَسْأَلُ مِنَ الْمَالِ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَبِنَاءُ

" لُحِفَ "لِلشُّمُولِ، وَمِنْهُ اللِّحَافُ؛ وَهُوَ الثَّوْبُ الَّذِي يَشْتَمِلُ بِهِ، وَنَحْوُهُ الْإِلْحَاحُ؛ يُقَالُ: أَلْحَفَ فِي الْمَسْأَلَةِ إذَا شَمِلَ رِجَالًا أَوْ مَالًا، وَأَلَحَّ فِيهَا إذَا كَرَّرَهَا...

رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُلْحِفُوا فِي الْمَسْأَلَةِ، فَوَاَللَّهِ لَا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا فَتُخْرِجُ لَهُ مَسْأَلَتُهُ مِنِّي شَيْئًا وَأَنَا كَارِهٌ فَيُبَارِكُ اللَّهُ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتُهُ». وَرَوَى مَالِكٌ عَنِ الْأَسَدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «نَزَلْت أَنَا وَأَهْلِي بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَقَالَ لِي أَهْلِي: اذْهَبْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلْهُ لَنَا شَيْئًا نَأْكُلُهُ، وَجَعَلُوا يَذْكُرُونَ مِنْ حَاجَتِهِمْ فَذَهَبْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدْت عِنْدَهُ رَجُلًا يَسْأَلُهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا أَجِدُ مَا أُعْطِيك. فَوَلَّى الرَّجُلُ عَنْهُ وَهُوَ مُغْضَبٌ، وَهُوَ يَقُولُ: لَعَمْرُك إنَّك لَتُعْطِي مَنْ شِئْت، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّهُ لَيَغْضَبُ عَلَيَّ أَلَّا أَجِدَ مَا أُعْطِيهِ، مَنْ سَأَلَ مِنْكُمْ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ أَوْ عِدْلُهَا فَقَدْ سَأَلَ إلْحَافًا. فَقَالَ الْأَسَدِيُّ: لَلَقْحَةٌ لَنَا خَيْرٌ مِنْ أُوقِيَّةٍ»... فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُلْحِفَ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ الرَّجُلَ بَعْدَمَا رَدَّهُ عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ عَنِ السُّؤَالِ، إلَّا أَنْ يَسْأَلَ زَائِدًا عَلَى مَا عِنْدَهُ، وَيُغْنِيهِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ؛ فَذَلِكَ جَائِزٌ. وَسَمِعْت بِجَامِعِ الْخَلِيفَةِ بِبَغْدَادَ رَجُلًا يَقُولُ: هَذَا أَخُوكُمْ يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ مَعَكُمْ، وَلَيْسَ لَهُ ثِيَابٌ يُقِيمُ بِهَا سُنَّةَ الْجُمُعَةِ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى رَأَيْت عَلَيْهِ ثِيَابًا جُدُدًا، فَقِيلَ لِي: كَسَاهُ إيَّاهَا فُلَانٌ لِأَخْذِ الثَّنَاءِ بِهَا. وَيُكَرِّرُ الْمَسْأَلَةَ إذَا رَدَّهُ الْمَسْئُولُ وَالسَّائِلُ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مَا سَأَلَهُ إيَّاهُ أَوْ جَاهِلٌ بِحَالِهِ، فَيُعِيدُ عَلَيْهِ السُّؤَالَ إعْذَارًا أَوْ إنْذَارًا ثَلَاثًا لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ، وَالْأَفْضَلُ تَرْكُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

الحسبان هو الظن، وقوله {الجاهل} لم يرد به الجهل الذي هو ضد العقل، وإنما أراد الجهل الذي هو ضد الاختبار...

لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :

{وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم} يعني أن الله تعالى يعلم مقادير الإنفاق ويجازي عليها ففيه حث على الصدقة والإنفاق في الطاعة...

التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :

ذكر سبحانه المصرف الذي توضع فيه الصدقة، فقال تعالى: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا}. فوصفهم بست صفات: إحداها: الفقر.

الثانية: حبسهم أنفسهم في سبيله تعالى وجهاد أعدائه، ونصر دينه، وأصل الحصر: «المنع»، فمنعوا أنفسهم من تصرفها في أشغال الدنيا، وقصروها على بذلها لله في سبيله.

الثالثة: عجزهم عن الأسفار للتكسب، (والضرب في الأرض): هو السفر. قال تعالى: {علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله} [المزمل: 20] وقال تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} [النساء: 101].

الرابعة: شدة تعففهم. وهو حسن صبرهم، وإظهارهم الغنى. حتى يحسبهم الجاهل أغنياء من تعففهم، وعدم تعرضهم وكتمانهم حاجتهم.

الخامسة: أنهم يعرفون بسيماهم. وهي العلامة الدالة على حالتهم التي وصفهم الله بها. وهذا لا ينافي حسبان الجاهل أنهم أغنياء، لأن الجاهل له ظاهر الأمر، والعارف: هو المتوسم المتفرس الذي يعرف الناس بسيماهم. فالمتوسمون خواص للمؤمنين، كما قال تعالى: {إن في ذلك لآيات للمتوسمين} [الحجر: 75].

السادسة: تركهم مسألة الناس، فلا يسألونهم شيئا، والإلحاف: هو الإلحاح والنفي متسلط عليهما معا، أي لا يسألون ولا يلحفون، فليس يقع منهم سؤال يكون بسببه إلحاف.

وفيه: كالتنبيه على أن المذموم من السؤال: هو سؤال الإلحاف. فأما السؤال بقدر الضرورة من غير إلحاف فالأفضل تركه ولا يحرم. فهذه ست صفات للمستحقين للصدقة فألغاها أكثر الناس ولحظوا منها ظاهر الفقر وزيه من غير حقيقته. وأما سائر الصفات المذكورة فعزيز أهلها، ومن يعرفهم أعز. والله يختص بتوفيقه من يشاء، فهؤلاء هم المحسنون في أموالهم.

القسم الثاني: (الظالمون)، وهم ضد هؤلاء، وهم الذين يذبحون المحتاج المضطر، فإذا دعته الحاجة إليهم لم ينفسوا كربته إلا بزيادة على ما يبذلونه له. وهم أهل الربا. فذكرهم تعالى بعد هذا فقال: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين} [البقرة: 278]. فصدر الآية بالأمر بتقواه المضادة للربا، وأمر بترك ما بقي من الربا بعد نزول الآية، وعفا لهم عما قبضوه به قبل التحريم، ولولا ذلك لردوا ما قبضوه به قبل التحريم، وعلق هذا الامتثال على وجود الإيمان منهم. والمعلق على شرط منتف عند انتفائه.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{يحسبهم الجاهل} أي الذي ليس عنده فطنة الخلص {أغنياء من} أجل {التعفف} عن المسألة والتلويح بها قناعة بما أعطاهم الله سبحانه وتعالى مولاهم ورضي عنه وشرف نفس، والتعفف تكلف العفة وهي كف ما ينبسط للشهوة من الآدمي إلا بحقه ووجهه -قاله الحرالي...

ولما ذكر خفاءهم على الغبي ذكر جلاءهم عند المتوسم فقال: {تعرفهم} أي يا أبصر الموقنين وأفطنهم أنت ومن رسخت قدمه في متابعتك {بسيماهم} قال الحرالي: وهي صيغة مبالغة من السمة والوسم وهي العلامة الخفية التي تتراءى للمستبصر...

وتلك العلامة والله سبحانه وتعالى أعلم هي السكينة والوقار وضعف الصوت ورثاثة الحال مع علو الهمة والبراءة من الشماخة والكبر والبطر والخيلاء ونحو ذلك {لا يسئلون} لطموح أبصار بصائرهم عن الخلق إلى الخالق {الناس} من ملك ولا غيره {إلحافاً} سؤال إلزام، أخذاً من اللحاف الذي يتغطى به للزومه لما يغطيه، ومنه لاحفه أي لازمه...

ولما ذكر سبحانه وتعالى أخفى مواضع النفقة أشار إلى إخفائها لا سيما في ذلك الموضع فقال: {وما تنفقوا من خير} أي في أي وقت أنفقتموه {فإن الله} أي المستجمع لصفات الكمال {به عليم} وإن اجتهدتم في إخفائه بإعطائه لمن لا يسأل بأن لا يعرف أو بغير ذلك، وذكر العلم في موضع الجزاء أوعظ مرغب وأخوف مرهب كما يتحقق ذلك بإمعان التأمل لذلك...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

(قال) [الأستاذ] أولئك الذين نزلت فيهم الآية كانوا من الذين هاجروا بدينهم وتركوا أموالهم فحيل بينهم وبينها فهم محصرون في سبيل الله بهذه الهجرة ومحصرون بحبس أنفسهم على حفظ القرآن، وقد كان حفظه أفضل العبادات على الإطلاق لأنه حفظ الدين كله وأنتم تعرفون أنهم ما كانوا يحفظونه لأجل تلاوته أمام الجنائز، ولا في الأعراس والمآتم ولا لاستجداء الناس به ولا لمجرد التعبد بتلاوة ألفاظه وإنما كانوا يحفظونه للفهم والاهتداء والعمل به، ولحفظ أصل الدين بحفظه. وكانوا أيضا يحفظون ما يبينه به النبي صلى الله عليه وسلم من سنته.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ثم يخص بالذكر مصرفا من مصارف الصدقة؛ ويعرض صورة شفة عفة كريمة نبيلة، لطائفة من المؤمنين. صورة تستجيش المشاعر، وتحرك القلوب لإدراك نفوس أبية بالمدد فلا تهون، وبالإسعاف فلا تضام، وهي تأنف السؤال وتأبى الكلام... لقد كان هذا الوصف الموحي ينطبق على جماعة من المهاجرين، تركوا وراءهم أموالهم وأهليهم؛ وأقاموا في المدينة ووقفوا أنفسهم على الجهاد في سبيل الله، وحراسة رسول الله [ص]... ولكن النص عام، ينطبق على سواهم في جميع الأزمان. ينطبق على الكرام المعوزين، الذين تكتنفهم ظروف تمنعهم من الكسب قهرا، وتمسك بهم كرامتهم أن يسألوا العون. إنهم يتجملون كي لا تظهر حاجتهم؛ يحسبهم الجاهل بما وراء الظواهر أغنياء في تعففهم، ولكن ذا الحس المرهف والبصيرة المفتوحة يدرك ما وراء التجمل. فالمشاعر النفسية تبدو على سيماهم وهم يدارونها في حياء...

.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة آفات الصدقات التي تذهب بخيرها بالنسبة لمعطيها من منٍّ وأذى ورياء وقصد إلى الخبيث دون الطيب ينفق منه، مع أن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، ثم بين أنه لا يصح أن يكون الكفر أو العصيان سببا للمنع حيث يجب العطاء، ليحمل المشرك على الإيمان، والعاصي على الطاعة.

بعد هذا بين سبحانه موضع الصدقات والصفات التي توجب العطاء في مستحقها، وقد قصد سبحانه وتعالى إلى بيان موضع الأولوية فيها، فقال تعالى:...

{للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله} أي أن الصدقة تكون للفقراء الذين اتصفوا بهذه الصفات، وكانوا على تلك الأحوال،... و عبر في الآية الكريمة ب [أحصروا] بالبناء للمجهول للإشارة إلى أن فقرهم لم يكن نتيجة امتناع عن العمل المجدي النافع، ولم يكن تخاذلا وكسلا، أو تهاونا في طلب الرزق الحلال، إنما كان بمنع من غيرهم، أو ليس لهم فيه إرادة حرة قد آثروا فيها الكسل على العمل، وإنما كان المنع عجزا، أو لأنهم بمقتضى التوزيع العادل والتنسيق الكامل في الأعمال تحبسهم الجماعة عن طلب الرزق لينصرفوا إلى عمل آخر يجدي وينفع كالجهاد في سبيل الله، فكانوا ممنوعين عن طلب الرزق بحكم الواقع أو التكليف ولم يكونوا ممتنعين...

حينئذ يكون قوله تعالى: {في سبيل الله} أعم من الحال التي ذكرها أولئك المفسرون بأن يكون معناها، أي في سبيل القيام بما يجب عليهم، سواء أكان ذلك الواجب رزقا يطلبونه، ولكنهم يعجزون عن الحصول عليه، فهم في سبيل هذا الطلب في سبيل الله، أم كان ذلك الواجب خدمة عامة حبسوا أنفسهم لها، أو القيام بأمر من الفروض الكفائية التي تخصصوا في بعضها كطلب العلم، فإن هؤلاء على المجتمع فرادى وجماعات وعلى الدولة أن تسهل لهم الحياة، وتمكنهم من الاستمرار على طلب ما يطلبون... {وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم} هذه الجملة السامية ختمت بها الآية الكريمة، لثلاثة أمور:

أولها: تربية الشعور بمراقبة الله في نفس المؤمن، فإنه إذا أحس أن الله سبحانه وتعالى مطلع على كل ما يعمل من خير وشر، أحس بمراقبته سبحانه، ودام ذكره له، وشعوره بعظمته، فيكون في مقام العبودية الرفيع، ويعبد الله كأنه يراه، كما قال صلى الله عليه وسلم:"اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".

ثانيها: هو الإحساس برضا الله عنه عند فعل الخير، إذ إن الله يراه وهو يفعله، والإحساس بمرضاة الله مقام جليل، فرضوان الله أكبر من كل نعيم.

[و] ثالثها: العلم بالجزاء الأخروي؛ فإنه يثيبه عليه، لأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

هذه الآية الكريمة توضح صفات الفقير المسلم، الذي لا ينزل به الفقر إلى درجة التطاول على الناس وإحراجهم، كما لا تنزل به الحاجة إلى درجة التبذل والاستغلال الدنيء، وفي نفس الوقت تشير نفس الآية إلى أن فقر هذا الفقير واحتياجه ليس صفة لازمة له، ولاصقة به على الدوام، وإنما هو أمر عارض في حياته، بسبب فقدان وسائل العمل، وتعذر وجوه الكسب، وهذا معنى قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ}. أي أقفلت في وجوههم كافة الطرق: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ}. أي لا يجدون مجالا للكسب والاتجار، إذ الضرب في الأرض في لغة القرآن خاصة، والاستعمال العربي عامة معناه السعي للتكسب والتنقل للبيع والشراء {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء}. أي أن الجاهل بحقيقة حالهم يعتقد أنهم في سعة وغنى {مِنَ التَّعَفُّفِ}. أي لعدم قيامهم بأي إزعاج للغير، أو إلحاح عليه {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}. أي يعرفهم أخوهم المؤمن بما له من صدق الفراسة، حيث إن المؤمن ينظر بنور الله، وهم لا يلحون في السؤال، فضلا عن طلب ما يزيد على حاجتهم بقصد الاستغلال. وهكذا لا ينزل الفقر بالمسلم حالة اضطراره إلى درجة البؤس والذلة والمهانة، لأن الإسلام حريص على إعزازه والأخذ بيده ورفع مستواه المادي المنخفض، إلى درجة مستواه الروحي الإسلامي الممتاز...

وهذه الآية نفسها يقتضي مفهومها أنه بمجرد ما يجد الفقير المسلم وسيلة للعمل ووجها للكسب لا يسوغ له أن يتكل على غيره، ولا يسوغ لغيره أن يساعده على التواكل والكسل، باسم الاحتياج ووصف الفقر، بل يحاول أن ينتقل من صف الفقراء المعسرين، إلى صف القادرين على الكسب الموسرين.

ومما يجب التنبيه إليه في هذا المقام ما ذكره القاضي أبو بكر (ابن العربي) المعافري إذ قال:"الواجب على معطي الصدقة-كان إماما أو مالكا-أن يراعي أحوال الناس، فمن علم فيه صبرا على الخصاصة، وتحليا بالقناعة، آثر عليه من لا يستطيع الصبر، فربما وقع التسخط. قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه، مخافة أن يكبه الله في النار على وجهه"...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

وإذا نظرنا إلى قول الحق: {لا يستطيعون ضرباً في الأرض} و (الضرب) هو فعل من جارحة بشدة على متأثر بهذا الضرب، وما هو الضرب في الأرض؟ إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يبين لنا أن الكفاح في الحياة يجب أن يكون في منتهى القوة، وإنك حين تذهب في الأرض فعليك أن تضربها حرثاً، وتضربها بذراً، لا تأخذ الأخذ بهوادة ولين ولذلك يقول الحق: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور 15} (سورة الملك)... إن الأرض مسخّرة من الحق سبحانه للإنسان، يسعى فيها، ويضرب فيها، ويأكل من رزق الله الناتج منها...

{وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم} يجب أن تعلم أنه قبل أن تعطي قد علم الله أنك ستعطي، فالأمر محسوب عنده بميزان، ويجيء تصرف خلقه على وفق قدره، وما قدره قديما يلزم حاليا، وهو سبحانه قد قدر؛ لأنه علم أن عبده سيفعل وقد فعل. وكل فعل من الأفعال له زمن يحدث فيه، وله هيئة يحدث عليها. والزمن ليل أو نهار...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

المستحقون للنفقة:

ولكن من هم هؤلاء الذين يستحقون الإنفاق، في ما يدعو إليه الله من الإنفاق في سبيله، هل هم الذين لا يتركون مجالاً للمسألة إلا وانطلقوا فيه، ممن تحوّل السؤال عندهم إلى مهنة للتعيش، الأمر الذي قد يجعل من هذا التشريع تشجيعاً للبطالة والامتناع عن العمل والإخلاد إلى الراحة في الكسب السهل؟ عند حدود العجز؟ أو الذين فرضت عليهم ظروف الالتزام بالإسلام الخروج من ديارهم، والابتعاد عن مواقعهم الطبيعية فيها للكسب الحلال بفعل ضغط القوى الكافرة المشركة التي منعتهم من الحصول على حاجاتهم الخاصة...

وتجيب الآية على هذا السؤال، فتحدد الفئة الثانية كمورد للإنفاق، لأن الله لا يريد للناس القادرين على العمل أن يستسلموا للسؤال طلباً للعيش السهل، لأن ذلك يحوّل المجتمع إلى مجموعات من العاطلين الذين يعيشون كلاً على غيرهم، وهو ما يبغضه الإسلام ويحاربه، بل يريد لهم الحصول على حاجتهم بعرق جبينهم وكدّ سواعدهم...

أما الفئات العاجزة التي لا تملك وسائل العيش الكريم، فإن المجتمع بكامله مسؤول عنها في ما يستطيعه من الإنفاق عليها ورعاية أمورها ورفع مستواها المادي والمعنوي. ثم تبشر الآية الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله سراً وعلانية، بالأمن عند الله والسرور برضاه وثوابه، جزاءً لهم على ما قدموه لله من طاعة وللمجتمع من خدمات كبيرة...

{لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ومُنعوا من ممارسة حرياتهم في التحرك العملي من أجل كسب العيش بفعل الظروف السياسية والأمنية والاجتماعية الخانقة، والضغوط الخارجية القاسية، فلم يملكوا سبيلاً إلى تلبية حاجاتهم الضرورية...

وفي ضوء هذا، فإن كلمة {لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} تشمل كل الذين توفرت فيهم هذه الصفة على مدى الزمن ممن لم يكن شأنهم في ترك العمل المعيشي من باب الكسل والاسترخاء والبعد عن المسؤولية، بل من باب القيام بمسؤولياتهم العامة التي توحي بها كلمة {سَبِيلِ اللَّهِ} ليسافروا إلى هذا المكان أو ذاك مما تتوفر فيه الوسائل الطبيعية للحصول على الرزق، وذلك من جهة الموانع الخارجية أو الداخلية المحيطة بأوضاعهم الخاصة والعامة التي تضغط على حرياتهم في الحركة في الذهاب والتصرف، فلم تكن المسألة عجزاً طبيعياً في الذات، بل من خلال الأجواء المتنوّعة...

ولكننا نلاحظ أن الآية ليست في مقام بيان التفاصيل من حيث الإشارة إلى ما هو واجب أو راجح أو غير واجب وراجح في السؤال، بل في مقام بيان الطبيعة القوية لهؤلاء، بحيث يتمردون على آلام الحاجة وقد يموتون تحت تأثير ذلك، فهي من نوع الحاجة الملحّة القاسية التي قد تدفع الآخرين إلى أن يسألوا الناس إلحافاً ولكنهم لا يفعلون ذلك، ما يفرض على الناس اكتشافهم وسدّ حاجتهم بالصدقات، لأنها شرّعت لأمثال هؤلاء من أجل حلّ مشكلتهم الضاغطة الصعبة.

{وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ} في الموارد التي أرادكم الله أن تنفقوا فيها من الخير المنفتح على حاجات الناس والحياة {فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} فهو يجازيكم عليه...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

الاستجداء بدون حاجة حرام:

إنّ أحد الذنوب الكبيرة هو السؤال والاستجداء والطلب من الناس من دون حاجة...