ثم ساق القرآن مثلا مشاهداً يدل على نصر الله - تعالى - لأوليائه وخذلانه لأعدائه ، فقال : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين } .
والمراد بالآية هنا العلامة والبرهان والشاهد على صدق الشىء المخبر عنه .
والفئة - كما يقول القرطبي - الجماعة من الناس ، وسميت الجماعة من الناس فئة لأنها يفاء إليها ، أي يرجع إليها في وقت الشدة ، ولا خلاف في أن الإشارة بهاتين الفئتين هي إلى يوم بدر . ثم قال : ويحتمل أن يكون المخاطب بهذه الآية جميع المؤمنين ، ويحتمل أن يخاطب بها جميع الكفار ، ويحتمل أن يخاطب بها يهود المدينة ، وبكل احتمال منها قد قال قوم . وفائدة الخطاب للمؤمنين تثبيت النفوس وتشجيعها ، حتى يقدموا على مثليهم وأمثالهم كما قد وقع .
والمعنى : قد كان لكم أيها الناس علامة عظيمة ، ودلالة واضحة على أن الكافرين سيغلبون والمؤمنين سينصرون بما جرى في غزوة بدر ، فقد رأيتم كيف أن الله - تعالى - قد نصر المؤمنين مع قلة عددهم ، وهزم الكافرين مع كثرة عددهم وعددعم . ولقد كان المؤمنون يرون أعداءهم أكثر منهم عددا وعدة ومع ذلك لم يهابوهم ولم يجبنوا عن لقائهم ، بل أقدموا على قتالهم بإيمان وشجاعة فرزقهم الله النصر على أعدائهم .
ووصف - سبحانه - الفئة المؤمنة بأنها تقاتل في سبيل الله ، على سبيل المدح لها ، والإعلاء من شأنها ، وبيان الغاية السامية التي من أجلها قاتلت ، ومن أجلها تم لها النصر فهي لم تقاتل لأجل عرض من أعراض الدنيا وإنما قاتلت لإعلاء كلمة الله ونصرة الحق .
ووصف الفئة الأخرى بأنها كافرة ؛ لأنها لم تؤمن بالحق ، ولم تتبع الطريق المستقيم ، بل كفرت بكل ما يصلحها في دينها ودنياها .
ولم يصفها بالقتال كما وصف الفئة المؤمنة . إسقاطا لقتال تلك الفئة الكافرة عن درجة الاعتبار ، وإيذانا بأن الرعب الذي ألقاه الله في قلوبهم عند لقائهم للمؤمنين ، جعلهم بأنهم ليسوا أهلا لأن يوصفوا بالقتال .
هذا وللعلماء أقوال في المراد من قوله - تعالى - { يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين } وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذه الأقوال فقال : { يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ } أي : يرى المشركون المسلمين مثلى عدد المشركين أي قريبا من ألفين ، أو مثلى عدد المسلمين أي ستمائة ونيفا وعشرين . أراهم الله إياهم مع قلتهم أضعافهم ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم . وكان ذلك مددا لهم من الله كما أمدهم بالملائكة . والدليل عليه قراءة نافع " ترونهم " بالتاء ، أي ترون يا مشركي قريش المسلمين مثلى فئتكم الكافرة ، أو مثلى أنفسهم . فإن قلت فهذا مناقض لقوله في سورة الأنفال { وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ } قلت : قللوا أولا في أعينهم حتى اجترؤا عليهم : فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا ، فكان التقليل والتكثير في حالين مختلفين . . . وتقليلهم تارة وتكثيرهم تارة أخرى في أعينهم أبلغ في القدرة وإظهار الآية . وقيل : يرى المسلمون المشركين مثلى المسلمين على ما قرر عليه أمرهم من مقاومة الواحد الاثيني في قوله { فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } بعدما كلفوا أن يقاوم الواحد العشرة في قوله - تعالى - { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } والذى نراه أن الرأى الذى عبر عنه صاحب الكشاف بقوله : وقيل : يرى المسلمون المشركين مثل المسلمين . . . إلخ هذا الرأى هو أقرب الأقوال إلى الصواب ؛ لأن المسلمين في غزوة بدر كانوا أقل عددا وعدة من المشركين ، ولأن التعبير بقوله - تعالى - { رَأْيَ العين } يفيد أن رؤية هذه الكثرة من المشركين كانت رؤية بصرية بالمشاهدة ، وليست بالتقدير أو التخيل ، وهذا يتحقق في رؤية المؤمنين للمشركين :
فإن قيل : إن المشركين في بدر كانوا ثلاثة أمثال المؤمنين تقريبا - كما حكى لنا التاريخ - ولم يكونوا مثليهم أي ضعفهم ؟
فالجواب على ذلك أن هذا التقدير للمشركين من جانب المؤمنين كان تقديراً تقريبيا وليس تقديرا عدديا ، فثلاثة الأمثال قد ترى رأى العين مثلين أو نقول : إن المراد بكلمة مثلين مجرد التكرار وليس المراد بها التثنية على الحقيقة ، كما في قوله - تعالى - { فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } فالمراد تكرار النظر مرة ومرات وليس المراد التحديد بكرتين .
وقد رجح ابن جرير الطبرى هذا الرأى ، فقد قال بعد سرده لجملة من أقوال العلماء : وأولى هذه القراءات بالصواب : قراءة من قرأ { يَرَوْنَهُمْ } بمعنى : وأخرى كافرة يراهم المسلمون مثليهم ، يعني : مثلى عدد المسلمين ، لتقليل الله إياهم في أعينهم في حال . فكان حزرهم إياهم كذلك . . ثم قال : وأما قوله : { رَأْيَ العين } فإنه مصدر رأيته يقال رأيته رأياً ورؤية ، ويقال هو منى رأى العين ، ورأى العين - بالنصب والرفع - يراد حيث يقع عليه بصرى .
. فمعنى ذلك : يرونهم حيث تلحقهم أبصارهم وتراهم عيونهم مثليهم " .
وقوله - تعالى - { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ } . . إلخ من تمام القول المأمور به جىء به لتقرير وتحقيق ما قبله . و { كَانَ } هنا ناقصة ، و { آيَةٌ } اسمها ، وترك التأنيث في - كان - لوجود الفاصل بينها وبين اسمها ، ولأن المرفوع بها وهو اسمها مجازى التأنيث أو باعتبار أن الآية برهان ودليل . وقوله { لَكُمْ } خبر كان . وقوله { فِئَةٌ } خبر لمبتدأ محذوف أى . إحداهما فئة تقاتل في سبيل الله . وقوله { وأخرى } نعت لمقدر أى وفئة أخرى كافرة . والجملة مستأنفة لتقرير " ما في الفئتين من الآية " ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله { والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار } .
أى : والله - تعالى - يؤيد بنصره من يشاء نصره وفوزه ، فهو القادر على أن يجعل الفئة القليلة تغلب الفئة الكثيرة ، لاراد لمشيئته ولا معقب لحكمه وإن الذين يغترون بقوتهم وحدها ، ويغترون بما بين أيديهم من أموال وعتاد ورجال ، ولا يعملون حسابا للقدر ، الذي يجريه الله على حسب مشيئته وإرادته هؤلاء الذين غرهم بالله الغرور ، تداهمهم الهزيمة من حيث لا يحتسبون ، وقد يفجؤهم الخسران والخذلان من الطريق الذى توهموا فيه الكسب والانتصار .
لذا أمر الله - تعالى- عباده بالاعتبار والاتعاظ فقال : { إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار } واسم الإشارة ذلك يعود إلى المذكور الذى رأوه وشاهدوه وهو أن الفئة القليلة المؤمنة غلبت الفئة الكثيرة الكافرة .
والعبرة - الاعتبار والاتعاظ وأصله من العبو وهو النفور من أحد الجانبين إلى الآخر ، وسمى الاتعاظ عبرة ، لأن المعتبر المتعظ يعبر عن الجهل إلى العلم ، ومن الهلاك إلى النجاة .
أى : إن في ذلك الذي شاهده الناس وعاينوه من انتصار الفئة القليلة التي تقاتل في سبيل الله ، على الفئة الكثيرة التي تقاتل في سبيل الطاغوت ، لعبرة عظيمة ، ودلالة واضحة ، لأصحاب المدارك السليمة والعقول الواعية التي تفهم الأمور على حقيقتها ، وتؤمن بأن الله - تعالى - قادر على كل شيء ، أما أصحاب القلوب المطموسة والنفوس المغرورة بقوتها . فهي عن الاعتبار والاتعاظ بمعزل .
قال الفخر الرازي ما ملخصه : " واعلم أن العلماء ذكروا في تفسير كون تلك الواقعة آية بينة وعبرة واضحة - وجوها : منها أن المسلمين كان قد اجتمع فيهم من أسباب الضعف عن المقاومة أمور منها قلة العدد ، وأنهم خرجوا غير قاصدين للحرب فلم يتأهبوا ، ومنه قلة السلاح ، ومنها أنها كانت ابتداء غارة في الحرب لأنها أول غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم وكان قد حصل للمشركين أضداد هذه المعاني من الكثرة والتأهب وغير ذلك ومع هذا فقد انتصر المؤمنون ، ولما كان ذلك خارجا عن العادة كان معجزا " .
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد أنذرت الكافرين بسوء العاقبة إذا ما استمروا على كفرهم ، وساقت لهم ما يؤيد ذلك من واقع ما شاهدوه ، وبشرت المؤمنين بنصر الله لهم ، وحثنهم على الاتعاظ والاعتبار ، لأن من شأن المعتبرين أن يكونوا مراقبين لله - تعالى - ومنفذين لأوامره ، ومبتعدين عن نواهيه ، ومن كان كذلك كان الله معه بنصره وتأييده .
أي : قد كان لكم - أيها اليهود القائلون ما قلتم - { آيَةٌ } أي : دلالة على أن الله معز دينه ، وناصر رسوله ، ومظهر كلمته ، ومعل أمره { فِي فِئَتَيْنِ } أي : طائفتين { الْتَقَتَا } أي : للقتال { فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وهم المسلمون ، { وَأُخْرَى كَافِرَةٌ } وهم مشركو قريش يوم بدر .
وقوله : { يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ } قال بعض العلماء - فيما حكاه ابن جرير : يرى المشركون يوم بدر المسلمين مثليهم في العدد رأي أعينهم ، أي : جعل الله ذلك فيما رأوه سببًا لنصرة الإسلام عليهم . وهذا لا إشكال عليه إلا من جهة واحدة ، وهي أن المشركين بعثوا عمر بن سعد يومئذ قبل القتال يحزر{[4838]} لهم المسلمين ، فأخبرهم بأنهم ثلاثمائة ، يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا . وهكذا كان الأمر ، كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ثم لما وقع القتال أمدّهم الله بألف من خواص الملائكة وساداتهم .
والقول الثاني : " أن المعنى في قوله : { يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ } أي : ترى الفئة المسلمة الفئة الكافرة مثليهم ، أي : ضعفيهم في العدد ، ومع هذا نصرهم{[4839]} الله عليهم . وهذا لا إشكال فيه على ما رواه العوفي ، عن ابن عباس أن المؤمنين كانوا يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا والمشركين{[4840]} كانوا ستمائة وستة وعشرين رجلا . وكأن هذا القول مأخوذ من ظاهر هذه الآية ، ولكنه خلاف المشهور عند أهل التواريخ والسير وأيام الناس ، وخلاف المعروف عند الجمهور من أن المشركين كانوا ما بين التسعمائة إلى الألف كما رواه محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأل ذلك العبد
الأسود لبني الحجاج عن عدّة قريش ، فقال : كثير ، قال : " كم ينحرون كل يوم ؟ " قال : يومًا تسعًا{[4841]} ويومًا عشرًا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " القوم ما بين التسعمائة إلى الألف " {[4842]} .
وروى{[4843]} أبو إسحاق السَّبِيعي ، عن حارثة ، عن علي ، قال : كانوا ألفًا ، وكذا قال ابن مسعود . والمشهور أنهم كانوا ما بين التسعمائة إلى الألف ، وعلى كل تقدير فقد كانوا ثلاثة أمثال المسلمين ، وعلى هذا فيشكل هذا القول والله أعلم . لكن وجه ابن جرير هذا ، وجعله صحيحًا كما تقول : عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها ، وتكون{[4844]} محتاجًا إلى ثلاثة آلاف ، كذا قال . وعلى هذا فلا إشكال .
لكن بقي سؤال آخر وهو وارد على القولين ، وهو أن يقال : ما الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى في قصة بدر : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا } ؟ [ الأنفال : 44 ] والجواب : أن هذا كان في حال ، والآخر كان في حال{[4845]} أخرى ، كما قال السُّدِّي ، عن [ مرة ] الطيب{[4846]} عن ابن مسعود في قوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا [ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ] {[4847]} } الآية ، قال : هذا يوم بدر . قال عبد الله بن مسعود : وقد نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يُضْعَفون علينا ، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدًا ، وذلك قوله{[4848]} تعالى : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ } .
وقال أبو إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جانبي{[4849]} تراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة . قال : فأسرنا رجلا منهم فقلنا : كم كنتم ؟ قال : ألفا . فعندما عاين كل الفريقين الآخر رأى المسلمون المشركين مثليهم ، أي : أكثر منهم بالضعف ، ليتوكلوا ويتوجهوا ويطلبوا الإعانة من ربهم ، عز وجل . ورأى المشركون المؤمنين كذلك ليحصل لهم الرعب والخوف والجزع والهلع ، ثم لما حصل التصاف{[4850]} والتقى الفريقان قلل الله هؤلاء في أعين هؤلاء ، وهؤلاء في أعين هؤلاء ، ليقدم كل منهما على الآخر .
{ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا } أي : ليفرّق بين الحق والباطل ، فيظهر كلمة الإيمان على الكفر ، ويعز المؤمنين ويذل الكافرين ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ } [ آل عمران : 123 ] وقال هاهنا : { وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ } أي : إن في ذلك لمعتبرًا لمن له بصيرة وفهم يهتدي به إلى حكم الله وأفعاله ، وقدره الجاري بنصر عباده المؤمنين في هذه الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد .
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَىَ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لاُوْلِي الأبْصَارِ }
يعني بذلك جل ثناؤه : قل يا محمد للذين كفروا من اليهود الذين بين ظهراني بلدك : قد كان لكم آية يعني علامة ودلالة على صدق ما أقول إنك ستغلبون وعبرة ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ } عبرة وتفكر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله ، إلا أنه قال : ومتفكّر { في فِئَتَيْنِ } يعني في فرقتين وحزبين . والفئة : الجماعة من الناس التقتا للحرب ، وإحدى الفئتين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان معه ممن شهد وقعة بدر ، والأخرى مشركو قريش ، فئة تقاتل في سبيل الله ، جماعة تقاتل في طاعة الله وعلى دينه ، وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وأخرى كافرة وهم مشركو قريش . كما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَيَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ } أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر ، { وأُخْرَى كافرَةٌ } فئة قريش الكفار .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَيَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ } محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، { وأُخرَى كافرَةٌ } : قريش يوم بدر .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ } قال : في محمد وأصحابه ومشركي قريش يوم بدر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَيَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ } قال ذلك يوم بدر ، التقى المسلمون والكفار .
ورفعت { فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ } وقد قيل قبل ذلك في فئتين ، بمعنى : إحداهما تقاتل في سبيل الله على الابتداء ، كما قال الشاعر :
فكنتُ كَذِي رِجْلَيْنِ : رِجْلٌ صحيحةٌ *** وَرِجْلٌ رَمَى فِيها الزّمانُ فَشَلّتِ
فكنتُ كذِي رِجْلَيْنِ : رِجْلٌ صحيحةٌ *** ورِجْلٌ بِها رَيْبٌ من الحَدَثَانِ
فَأمّا التي صَحّتْ فأزْدُشَنُوءةٍ *** وَأمّا التي شَلّتْ فأزد عُمَانِ
وكذلك تفعل العرب في كل مكرر على نظير له قد تقدمه إذا كان مع المكرر خبر ترده على إعراب الأول مرة وتستأنفه ثانية بالرفع ، وتنصبه في التام من الفعل والناقص ، وقد جُرّ ذلك كلّه ، فخفض على الرد على أول الكلام ، كأنه يعني إذا خفض ذلك فكنت كذي رجلين كذي رجل صحيحة ورجل سقيمة . وكذلك الخفض في قوله : «فئة » ، جائز على الرد على قوله : «في فئتين التقتا » ، في فئة تقاتل في سبيل الله . وهذا وإن كان جائزا في العربية ، فلا أستجيز القراءة به لإجماع الحجة من القراء على خلافه ، ولو كان قوله : «فئة » جاء نصبا كان جائزا أيضا على قوله : قد كان لكم آية في فئتين التقتا مختلفتين .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأيَ العَيْنِ } .
اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته قراء أهل المدينة : «ترونهم » بالتاء ، بمعنى : قد كان لكم أيها اليهود آية في فئتين التقتا ، فئة تقاتل في سبيل الله ، والأخرى كافرة ، ترون المشركين مثلي المسلمين رأي العين . يريد بذلك عظتهم . يقول : إن لكم عبرة أيها اليهود فيما رأيتم من قلة عدد المسلمين ، وكثرة عدد المشركين ، وظفر هؤلاء مع قلة عددهم بهؤلاء مع كثرة عددهم . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة والبصرة وبعض المكيين : { يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ } بالياء ، بمعنى : يرى المسلمون الذين يقاتلون في سبيل الله الجماعة الكافرة مثلي المسلمين في القدر . فتأويل الاَية على قراءتهم : قد كان لكم يا معشر اليهود عبرة ومتفكّر في فئتين التقتا ، فئة تقاتل في سبيل الله ، وأخرى كافرة ، يرى هؤلاء المسلمون مع قلة عددهم هؤلاء المشركين في كثرة عددهم .
فإن قال قائل : وما وجه تأويل قراءة من قرأ ذلك بالياء ، وأي الفئتين رأت صاحبتها مثليها ؟ الفئة المسلمة هي التي رأت المشركة مثليها ، أم المشركة هي التي رأت المسلمة كذلك ، أم غيرهما رأت إحداهما كذلك ؟ قيل : اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : الفئة التي رأت الأخرى مثلي أنفسها الفئة المسلمة ، رأت عدد الفئة المشركة مثلي عدد الفئة المسلمة ، قلّلها الله عز وجل في أعينها حتى رأتها مثلي عدد أنفسها ، ثم قللها في حال أخرى ، فرأتها مثل عدد أنفسها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وأُخْرَى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رأيَ العَيْنِ } قال : هذا يوم بدر ، قال عبد الله بن مسعود : قد نظرنا إلى المشركين ، فرأيناهم يضعفون علينا ، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحدا ، وذلك قول الله عز وجل : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلّلُكُمْ فِي أعْيُنِهِمْ } .
فمعنى الاَية على هذا التأويل : قد كان لكم يا معشر اليهود آية في فئتين التقتا : إحداهما مسلمة ، والأخرى كافرة ، كثير عدد الكافرة ، قليل عدد المسلمة ، ترى الفئة القليل عددها ، الكثير عددها أمثالاً لها أنها تكثرها من العدد بمثل واحد ، فهم يرونهم مثليهم ، فيكون أحد المثلين عند ذلك ، العدد الذي هو مثل عدد الفئة التي رأتهم ، والمثل الاَخر : الضعف الزائد على عددهم ، فهذا أحد معنيي التقليل الذي أخبر الله عز وجل المؤمنين أنه قللهم في أعينهم¹ والمعنى الاَخر منه : التقليل الثاني على ما قاله ابن مسعود ، وهو أن أراهم عدد المشركين مثل عددهم لا يزيدون عليهم ، فذلك التقليل الثاني الذي قال الله جل ثناؤه : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أعْيُنِكُمْ قَلِيلاً } .
وقال آخرون من أهل هذه المقالة : إن الذين رأوا المشركين مثلي أنفسهم هم المسلمون ، غير أن المسلمين رأوهم على ما كانوا به من عددهم ، لم يقللوا في أعينهم ، ولكن الله أيدهم بنصره . قالوا : ولذلك قال الله عز وجل لليهود : قد كان لكم فيهم عبرة¹ يخوفهم بذلك أن يحل بهم منهم ، مثل الذي حل بأهل بدر على أيديهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ } . أنزلت في التخفيف يوم بدر ، فإنّ المؤمنين كانوا يومئذٍ ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، وكان المشركون مثليهم ، فأنزل الله عز وجل : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئْتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رأيَ العَيْنِ } وكان المشركون ستة وعشرين وستمائة ، فأيد الله المؤمنين ، فكان هذا الذي في التخفيف على المؤمنين .
وهذه الرواية خلاف ما تظاهرت به الأخبار عن عدة المشركين يوم بدر ، وذلك أن الناس إنما اختلفوا في عددهم على وجهين ، فقال بعضهم : كان عددهم ألفا ، وقال بعضهم : ما بين التسعمائة إلى الألف . ذكر من قال كان عددهم ألفا :
حدثني هارون بن إسحاق الهمداني ، قال : حدثنا مصعب بن المقدام ، قال : حدثنا إسرائيل ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن حارثة ، عن علي ، قال : سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر ، فسبقنا المشركين إليها ، فوجدنا فيها رجلين ، منهم رجل من قريش ، ومولى لعقبة بن أبي معيط¹ فأما القرشي فانفلت ، وأما مولى عقبة ، فأخذناه ، فجعلنا نقول : كم القوم ؟ فيقول : هم والله كثير شديد بأسهم . فجعل المسلمون إذا قال ذلك صدّقوه ، حتى انتهوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : «كَمِ القَوْمُ ؟ » فقال : هم والله كثير شديد بأسهم . فجهد النبي صلى الله عليه وسلم على أن يخبرهم كم هم ، فأبى . ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله : «كَمْ تَنْحَرُون مِنَ الجُزُرِ ؟ » قال : عشرة كل يوم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «القَوْمُ ألْفٌ » .
حدثني أبو سعيد بن يوشع البغدادي ، قال : حدثنا إسحاق بن منصور ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة عن عبد الله ، قال : أسرنا رجلاً منهم يعني من المشركين يوم بدر فقلنا : كم كنتم ؟ قال : ألفا .
ذكر من قال : كان عددهم ما بين التسعمائة إلى الألف :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : قال ابن إسحاق : ثني يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم نفرا من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له عليه ، فأصابوا راوية من قريش فيها أسلم غلام بني الحجاج ، وعريض أبو يسار غلام بني العاص ، فأتوا بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما : «كَمِ القَوْم ؟ » قالا : كثير . قال : «ما عِدّتُهُمْ ؟ » قالا : لا ندري . قال : «كَمْ تَنْحَرُونَ كُلّ يَوْمٍ ؟ » قالا : يوما تسعا ويوما عشرا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «القَوْمُ مَا بَيْنَ التّسْعِمَائَةِ إلى الألْفِ » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فَئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيهِمْ رأيَ العَيْنِ } ذلكم يوم بدر ألف المشركون ، أو قاربوا ، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ } إلى قوله : { رأيَ العَيْنِ } قال : يضعفون عليهم فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين يوم بدر .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رأيَ العَيْنِ } قال : كان ذلك يوم بدر ، وكان المشركون تسعمائة وخمسين ، وكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وثلاثة عشر .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وبضعة عشر ، والمشركون ما بين التسعمائة إلى الألف .
فكل هؤلاء الذين ذكرنا مخالفون القول الذي رويناه عن ابن عباس في عدد المشركين يوم بدر . فإذا كان ما قاله من حكيناه ممن ذكر أن عددهم كان زائدا على التسعمائة ، فالتأويل الأول الذي قلناه على الرواية التي روينا عن ابن مسعود أولى بتأويل الاَية .
وقال آخرون : كان عدد المشركين زائدا على التسعمائة ، فرأى المسلمون عددهم على غير ما كانوا به من العدد ، وقالوا : أرى الله المسلمين عدد المشركين قليلاً آية للمسلمين . قالوا : وإنما عنى الله عز وجل بقوله : { يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ } المخاطبين بقوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ } قالوا : وهم اليهود غير أنه رجع من المخاطبة إلى الخبر عن الغائب ، لأنه أمر من الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك لهم ، فحسن أن يخاطب مرة ، ويخبر عنهم على وجه الخبر مرة أخرى ، كما قال : { حتى إذَا كُنْتُمْ فِي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيّبَةٍ } .
وقالوا : فإن قال لنا قائل : فكيف قيل : { يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأيَ العَيْنِ } وقد علمتم أن المشركين كانوا يومئذٍ ثلاثة أمثال المسلمين ؟ قلنا لهم : كما يقول القائل وعنده عبد : أحتاج إلى مثله ، أنا محتاج إليه وإلى مثله ، ثم يقول : أحتاج إلى مثليه ، فيكون ذلك خبرا عن حاجته إلى مثله وإلى مثلي ذلك المثل ، وكما يقول الرجل : معي ألف وأحتاج إلى مثليه ، فهو محتاج إلى ثلاثة¹ فلما نوى أن يكون الألف داخلاً في معنى المثل ، صار المثل أشرف والاثنان ثلاثة ، قال : ومثله في الكلام : أراكم مثلكم ، كما يقال : إن لكم ضعفكم ، وأراكم مثليكم ، يعني أراكم ضعفيكم ، قالوا : فهذا على معنى ثلاثة أمثالهم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أن الله أرى الفئة الكافرة عدد الفئة المسلمة مثلي عددهم . وهذا أيضا خلاف ما دل عليه ظاهر التنزيل ، لأن الله جل ثناؤه قال في كتابه : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلّلُكُمْ فِي أعْيُنِهِمْ } فأخبر أن كلاً من الطائفتين قُلل عددهم في مرأى الأخرى .
وقرأ آخرون ذلك : «تُرَوْنَهم » بضم التاء ، بمعنى : يريكموهم الله مثليهم .
( وأولى هذه القراءات بالصواب قراءة من قرأ : { يَرَوْنَهُمْ } بالياء ، بمعنى : وأخرى كافرة ، يراهم المسلمون مثليهم ، يعني : مثلي عدد المسلمين ، لتقليل الله إياهم في أعينهم في حال ، فكان حزرهم إياهم كذلك ، ثم قللهم في أعينهم عن التقليل الأول ، فحزروهم مثل عدد المسلمين ، ثم تقليلاً ثالثا ، فحزروهم أقل من عدد المسلمين . ) كما :
حدثني أبو سعيد البغدادي ، قال : حدثنا إسحاق بن منصور ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله ، قال : لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي : تراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة . قال : فأسرنا رجلاً منهم ، فقلنا كم كنتم ؟ قال : ألفا .
وقد رُوي عن قتادة أنه كان يقول : لو كانت «تُرونهم » ، لكانت «مثليكم » .
حدثني المثنى ، قال : ثني عبد الرحمن بن أبي حماد ، عن ابن المعرك ، عن معمر ، عن قتادة بذلك .
ففي الخبرين اللذين روينا عن عبد الله بن مسعود ما أبان عن اختلاف حزر المسلمين يومئذٍ عدد المشركين في الأوقات المختلفة ، فأخبر الله عز وجل عما كان من اختلاف أحوال عددهم عند المسلمين اليهود على ما كان به عندهم ، مع علم اليهود بمبلغ عدد الفئتين ، إعلاما منه لهم أنه مؤيد المؤمنين بنصره ، لئلا يغتروا بعددهم وبأسهم ، وليحذروا منه أن يحل بهم من العقوبة على أيدي المؤمنين ، مثل الذي أحل بأهل الشرك به من قريش على أيديهم ببدرهم .
وأما قوله : { رأيَ العَيْنِ } فإنه مصدر رأيته ، يقال : رأيته رَأْيا ورؤية ، ورأيت في المنام رؤيَا حسنة غير مُجْراة ، يقال : هو مني رأي العين ورأي العين بالنصب والرفع ، يراد حيث يقع عليه بصري ، وهو من الرائي مثله ، والقوم رأوا إذا جلسوا حيث يرى بعضهم بعضا . فمعنى ذلك : يرونهم حيث تلحقهم أبصارهم ، وتراهم عيونهم مثليهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللّهُ يُوءَيّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنّ فِي ذَلِكَ لَعْبَرَةً لأُولِي الأبْصَارِ } .
يعني بقوله جل ثناؤه : { واللّهُ يُوءَيّد } : يقوّي بنصره من يشاء ، من قول القائل : قد أيدت فلانا بكذا : إذا قويته وأعنته ، فأنا أؤيده تأييدا ، و«فعلت » منه : إدْتُه فأنا أئيده أيدا¹ ومنه قول الله عز وجل : { وَاذْكُرْ عَبْدَنا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ } يعني ذا القوة .
وتأويل الكلام : قد كان لكم آية يا معشر اليهود في فئتين التقتا : إحداهما تقاتل في سبيل الله ، وأخرى كافرة ، يراهم المسلمون مثليهم رأي أعينهم ، فأيدنا المسلمة وهم قليل عددهم ، على الكافرة وهم كثير عددهم حتى ظفروا بهم معتبر ومتفكر ، والله يقوي بنصره من يشاء . وقال جل ثناؤه : إن في ذلك : يعني إن فيما فعلنا بهؤلاء الذين وصفنا أمرهم من تأييدنا الفئة المسلمة مع قلة عددهم ، على الفئة الكافرة مع كثرة عددها { لَعِبْرَةً } يعني لمتفكرا ومتعظا لمن عقل وادّكر فأبصر الحق . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { إِنّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأبْصَارِ } يقول : لقد كان لهم في هؤلاء عبرة وتفكر ، أيدهم الله ونصرهم على عدوهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .
وقوله تعالى : { قد كان لكم آية في فئتين } الآية تحتمل أن يخاطب بها المؤمنون وأن يخاطب بها جميع الكفار وأن يخاطب بها يهود المدينة ، وبكل احتمال منها قد قال قوم ، فمن رأى أن الخطاب بها للمؤمنين فمعنى الآية تثبيت النفوس وتشجيعها ، لأنه لما قال للكفار ما أمر به أمكن أن يستبعد ذلك المنافقون وبعض ضعفة المؤمنين ، كما قال قائل يوم الخندق : يعدنا محمد أموال كسرى وقيصر ، ونحن لا نأمن على أنفسنا في المذهب ، وكما قال عدي بن حاتم حين أخبره النبي عليه السلام بالأمنة التي تأتي ، فقلت في نفسي : وأين دعار طيىء الذين سعروا البلاد ؟ الحديث بكماله{[2984]} ، فنزلت الآية مقوية لنفوس المؤمنين ومبينة صحة ما أخبر به بالمثال الواقع ، فمن قرأ «ترونهم » بالتاء من فوق فهي مخاطبة لجميع المؤمنين إذ قد رأى ذلك جمهور منهم ، والهاء والميم في «ترونهم » تجمع المشركين ، وفي «مثلهم » لجميع المؤمنين{[2985]} ، ومن قرأ بالياء من تحت فالمعنى يرى الجمع من المؤمنين جمع الكفار مثلي جمع المؤمنين ، ومن رأى أن الخطاب لجميع الكفار ومن رأى أنه لليهود فالآية عنده داخلة فيما أمر محمد عليه السلام أن يقوله لهم احتجاجاً عليهم ، وتبييناً لصورة الوعيد المتقدم في أنهم سيغلبون ، فمن قرأ بالياء من تحت ، فالعنى يرى الجمع من المؤمنين جمع الكفار مثلي جمع المؤمنين ، ومن قرأ بالتاء فالمعنى لو حضرتم أو إن كنتم حضرتم وساغت العبارة لوضوح الأمر في نفسه ووقوع اليقين به لكل إنسان في ذلك العصر ، ومن قرأ بضم التاء أو الياء فكأن المعنى ، أن اعتقاد التضعيف في جميع الكفار إنما كان تخميناً وظناً لا يقيناً ، فلذلك ترك في العبارةضرب من الشك وذلك أن أرى بضم الهمزة تقولها فيما بقي عندك فيه نظر و-أرى- بفتح الهمزة تقولها فيما قد صح نظرك فيه ، ونحا هذا المنحى أبو الفتح وهو صحيح ، قال أبو علي : والرؤية في هذه الآية عين ، ولذلك تعدت إلى مفعول واحد ، و { مثليهم } نصب على الحال من الهاء والميم في { ترونهم } وأجمع الناس على الفاعل ب { ترونهم } المؤمنون والضمير المتصل هو للكفار ، إلا ما حكى الطبري عن قوم أنهم قالوا : بل كثر الله عدد المؤمنين في عيون الكفار حتى كانوا عندهم ضعفيهم ، وضعف الطبري هذا القول ، وكذلك هو مردود من جهات ، بل قلل الله كل طائفة في عين الأخرى ، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ، فقلل الكفار في عيون المؤمنين ليقع التجاسر ويحتقر العدو ، وهذا مع اعتقاد النبي وقوله ، واعتقاد أولي الفهم من أصحابه أنهم من التسعمائة إلى الألف{[2986]} ، لكن أذهب الله عنهم البهاء وانتشار العساكر وفخامة الترتيب ، حتى قال ابن مسعود في بعض ما روي عنه : لقد قلت لرجل إلى جنبي أتراهم سبعين ؟ فقال : أظنهم مائة ، فلما أخذنا الأسرى أخبرونا أنهم كانوا ألفاً ، وقلل الله المؤمنين في عيون الكفار ليغتروا ولا يحزموا ، وتظاهرت الروايات أن جمع الكفار ببدر كان نحو الألف فوق التسعمائة وأن جمع المؤمنين كان ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً وقيل وثلاثة عشر ، فكان الكفار ثلاثةاثلاث من المؤمنين ، لكن رجع بنو زهرة مع الأخنس بن شريق ، ورجع طالب بن أبي طالب{[2987]} وأتباع وناس كثير حتى بقي للقتال من يقرب من المثلين ، وقد ذكر النقاش نحواً من هذا فذكر الله تعالى المثلين ، إذ أمرهما متيقن لم يدفعه قط أحد ، وقد حكى الطبري عن ابن عباس : أن المشركين في قتال بدر كانوا ستمائة وستة وعشرين رجلاً ، وقد ذهب الزجاج وبعض المفسرين ، أنهم كانوا نحو الألف وأراهم الله للمؤمنين مثليهم فقط ، قال : فهذا التقليل في الآية الأخرى ، ثم نصرهم عليهم مع علمهم بأنهم مثلاهم في العدد ، لأنه كان أعلم المسلمين أن المائة منهم تغلب المائتين من الكفار ، وروى علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي عليه السلام أنه قال يوم بدر : القوم ألف{[2988]} ، وقوله تعالى : { لكم آية } يريد علامة وأمارة ومعتبراً ، والفئة : الجماعة من الناس سميت بذلك لأنها يفاء إليها ، أي يرجع في وقت الشدة ، وقال الزجاج : الفئة الفرقة ، مأخوذة من فأوت رأسه بالسيف ، ويقال : فأيته إذا فلقته ، ولا خلاف أن الإشارة بهاتين الفئتين هي إلى يوم بدر ، وقرأ جمهور الناس «فئةٌ تقاتل » برفع «فئةٌ » على خبر ابتداء ، تقديره إحداهما فئة ، وقرأ مجاهد والحسن والزهري وحميد : : فئةٍ «بالخفض على البدل ، ومنهم من رفع » كافرةٌ «ومنهم من خفضها على العطف ، وقرأ ابن أبي عبلة : » فئةً «بالنصب وكذلك » كافرة «قال الزجاج : يتجه ذلك على الحال كأنه قال : التقتا مؤمنة وكافرة ، ويتجه أن يضمر فعل أعني ونحوه و { رأي العين } نصب على المصدر ، و { ويؤيد } معناه يقوي من الأيد وهو القوة .