أما السؤال الثالث والأخير الذي ورد في هاتين الآيتين فهو قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } .
أخرج أبو داود والحاكم والنسائي وغيرهم عن ابن عباس قال : لما نزل قوله - تعالى - { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } وقوله - تعالى - : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه . وشرابه من شرابه ، قفجعل يفضل له الشيء من طعامه وشرابه ، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد ، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه سولم فأنزل الله - تعالى - { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } فخلطوا طعامهم وشرابهم بشرابهم .
والمعنى : ويسألونك يا محمد عن القيام بأمر اليتامى أو التصرف في أموالهم أو عن أموالهم وكيف يكونوا معهم فقل لهم : إن المطلوب هو إصلاحهم بالتهذيب والتربية الرشيدة والمعاملة الحسنة ، وإصلاح أموالهم بالمحافظة عليها وعدم إنفاقها إلا في الوجوه المشروعة فهذا الإِصلاح المفيد لهم ولأموالهم خير من مجانبتهم ، وتركهم ، ولذا قال - تعالى - بعد ذلك : { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } أي : وإن تعاشروهم وتضموهم إليكم فاعتبروهم إخوانكم في العقيدة الإِنسانية ، وعاملوهم بمقتضى ما تفرضه الأخوة من تراحم وتعاطف ومساواة .
والجملة الكريمة معطوفة على ما قبلها . و " إصلاح " مبتدأ وسوغ الابتداء به مع أنه نركة وصفة بالجار والمجرور " لهم " و " خير " خبره ، وقوله : { فَإِخْوَانُكُمْ } الفاء واقعة في جواب الشرط ، وإخوانكم خبر لمبتدأ محذوف والتقدير فهم إخوانكم ، والجملة في محل جزم على أنها جواب الشرط .
وقوله : { والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح } وعد ووعيد ، وترغيب في الإِصلاح وترهيب من الإِفساد ، أي : والله يعلم المفسد لشئون هؤلاء اليتامى من المصلح لها ، كما أنه - سبحانه - لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وسيجازي كل إنسان على حسب عمله ، فاحذورا الإِفساد ولا تتحروا غير الإِصلاح .
ثم قال - تعالى - { وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ } العنت : الشدة والمشقة والتضييق . يقال : أعنته في كذا يعنته إعناتا ، إّا أجهده وألزمنه ما يشقع عليه .
أي : ولو شاء الله لضيق عليكم وأحرجكم بتحريم مخالطة هؤلاء اليتامى ، وبغير ذلك ما يشرع لكم ، ولكنه - سبحانه - وسع عليكم وخفف فأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن ، فاشكروه على ذلك .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : إن الله - تعالى - غالب على أمره لا يعجزه أمر من الأمور التي من جملتها إعناتكم قادر على أن يعز من أعز اليتامى ويذل من سذلهم ، حكيم في كل تصرفاته وأفعاله ، فلا يضع الأشياء إلا في مواضعها .
وقدق استدل العلماء بهذه الآية على جواز التصرف في أموال اليتامى على وجه الإصلاح ، وعلى أن للوالي أن يخالط اليتيم بنفيسه في المصاهرة والمشاركة وغير ذلك مما تقتضيه المصلحة .
وقد وردت أحاديث متعددة في رعاية اليتيم وإصلاح أحواله ومن ذلك ما رواه البخاري عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا ، وأشار بالسبابة والوسطى وفرق بينهما " .
وروى الطبراين عن أبي الدرداء . قال : " أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يشكو قسوة قلبه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أتحب أن يلين وتدرك حاجتك ؟ ارحم اليتيم ، وامسح رأسه ، وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك " .
وبذلك نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد اشتملتا على أفضل ألوان الإِصلاح للأفراد والجماعات في مطاعمهم ومشاربهم ونفقتهم وعلاقتهم بغيرهم ولا سيما اليتامى الذين فقدوا الأب الحاني ، والقلب الرحيم ، ومن شأن الأمة التي تعمل بهذا التوجيه السامي الحكيم أن تنال السعادة في دنياها . ورضاه الله - في أخراها .
ثم تحدثت السورة بعد ذلك في اثنتين وعشرين آية عن بعض أحكام وآداب الزواج والمعاشرة ، والإِيلاء والطلاق ، والعدة ، والنفقة ، والرضاعة ، والخطبة ، والمتعة ، وغير ذلك مما يتعلق بصيانة الأسرة وتقويتها ، وبنائها على أفضل الدعائم ، وأحكم الروابط ، إذ الأسرة هي اللبنة الأساسية في بناء المجتمع ، ومن مجموعها يتكون ، فإذا صلحت الوحدات والمكونات صلح البنيان ، وإذا تصدعت تصدع .
قال ابن جرير : حدثنا سفيان بن وَكِيع ، حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : { وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ الإسراء : 34 ] و { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } [ النساء : 10 ] انطلق من كان عنده يتيم فعزَل طعامه من طعامه ، وشرابه من شرابه ، فجعل يفضُل له الشيء من طعامه فيُحبَس له حتى يأكله أو يفسد ، فاشتد ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم{[3802]} .
وهكذا رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن أبي حاتم ، وابن مَرْدويه ، والحاكم في مستدركه من طرق ، عن عطاء بن السائب ، به{[3803]} . وكذا رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس . وكذا رواه السدي ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود - بمثله . وهكذا ذكر{[3804]} غير واحد في سبب نزول هذه الآية كمجاهد ، وعطاء ، والشعبي ، وابن أبي ليلى ، وقتادة ، وغير واحد من السلف والخلف .
قال وَكِيع بن الجراح : حدثنا هشام الدَّسْتَوائي{[3805]} عن حماد ، عن إبراهيم قال : قالت عائشة : إني لأكره أن يكون مال اليتيم عندي عُرّة{[3806]} حتى أخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي .
فقوله : { قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ } أي : على حدَة { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } أي : وإن خلطتم طعامكم بطعامهم وشرابكم بشرابهم ، فلا بأس عليكم ؛ لأنهم إخوانكم في الدين ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ } أي : يعلم مَنْ قَصْدُه ونيته الإفسادَ أو الإصلاح .
وقوله : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : ولو شاء لضيّق عليكم وأحرجَكم{[3807]} ولكنه وَسَّع عليكم ، وخفَّف عنكم ، وأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن ، كما قال : { وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ الأنعام : 152 ] ، ، بل قد جوز الأكل منه للفقير بالمعروف ، إما بشرط ضمان البدل لمن أيسر ، أو مجانًا كما سيأتي بيانه في سورة النساء ، إن شاء الله ، وبه الثقة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.