أما السؤال الثالث والأخير الذي ورد في هاتين الآيتين فهو قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } .
أخرج أبو داود والحاكم والنسائي وغيرهم عن ابن عباس قال : لما نزل قوله - تعالى - { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } وقوله - تعالى - : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه . وشرابه من شرابه ، قفجعل يفضل له الشيء من طعامه وشرابه ، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد ، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه سولم فأنزل الله - تعالى - { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } فخلطوا طعامهم وشرابهم بشرابهم .
والمعنى : ويسألونك يا محمد عن القيام بأمر اليتامى أو التصرف في أموالهم أو عن أموالهم وكيف يكونوا معهم فقل لهم : إن المطلوب هو إصلاحهم بالتهذيب والتربية الرشيدة والمعاملة الحسنة ، وإصلاح أموالهم بالمحافظة عليها وعدم إنفاقها إلا في الوجوه المشروعة فهذا الإِصلاح المفيد لهم ولأموالهم خير من مجانبتهم ، وتركهم ، ولذا قال - تعالى - بعد ذلك : { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } أي : وإن تعاشروهم وتضموهم إليكم فاعتبروهم إخوانكم في العقيدة الإِنسانية ، وعاملوهم بمقتضى ما تفرضه الأخوة من تراحم وتعاطف ومساواة .
والجملة الكريمة معطوفة على ما قبلها . و " إصلاح " مبتدأ وسوغ الابتداء به مع أنه نركة وصفة بالجار والمجرور " لهم " و " خير " خبره ، وقوله : { فَإِخْوَانُكُمْ } الفاء واقعة في جواب الشرط ، وإخوانكم خبر لمبتدأ محذوف والتقدير فهم إخوانكم ، والجملة في محل جزم على أنها جواب الشرط .
وقوله : { والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح } وعد ووعيد ، وترغيب في الإِصلاح وترهيب من الإِفساد ، أي : والله يعلم المفسد لشئون هؤلاء اليتامى من المصلح لها ، كما أنه - سبحانه - لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وسيجازي كل إنسان على حسب عمله ، فاحذورا الإِفساد ولا تتحروا غير الإِصلاح .
ثم قال - تعالى - { وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ } العنت : الشدة والمشقة والتضييق . يقال : أعنته في كذا يعنته إعناتا ، إّا أجهده وألزمنه ما يشقع عليه .
أي : ولو شاء الله لضيق عليكم وأحرجكم بتحريم مخالطة هؤلاء اليتامى ، وبغير ذلك ما يشرع لكم ، ولكنه - سبحانه - وسع عليكم وخفف فأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن ، فاشكروه على ذلك .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : إن الله - تعالى - غالب على أمره لا يعجزه أمر من الأمور التي من جملتها إعناتكم قادر على أن يعز من أعز اليتامى ويذل من سذلهم ، حكيم في كل تصرفاته وأفعاله ، فلا يضع الأشياء إلا في مواضعها .
وقدق استدل العلماء بهذه الآية على جواز التصرف في أموال اليتامى على وجه الإصلاح ، وعلى أن للوالي أن يخالط اليتيم بنفيسه في المصاهرة والمشاركة وغير ذلك مما تقتضيه المصلحة .
وقد وردت أحاديث متعددة في رعاية اليتيم وإصلاح أحواله ومن ذلك ما رواه البخاري عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا ، وأشار بالسبابة والوسطى وفرق بينهما " .
وروى الطبراين عن أبي الدرداء . قال : " أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يشكو قسوة قلبه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أتحب أن يلين وتدرك حاجتك ؟ ارحم اليتيم ، وامسح رأسه ، وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك " .
وبذلك نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد اشتملتا على أفضل ألوان الإِصلاح للأفراد والجماعات في مطاعمهم ومشاربهم ونفقتهم وعلاقتهم بغيرهم ولا سيما اليتامى الذين فقدوا الأب الحاني ، والقلب الرحيم ، ومن شأن الأمة التي تعمل بهذا التوجيه السامي الحكيم أن تنال السعادة في دنياها . ورضاه الله - في أخراها .
ثم تحدثت السورة بعد ذلك في اثنتين وعشرين آية عن بعض أحكام وآداب الزواج والمعاشرة ، والإِيلاء والطلاق ، والعدة ، والنفقة ، والرضاعة ، والخطبة ، والمتعة ، وغير ذلك مما يتعلق بصيانة الأسرة وتقويتها ، وبنائها على أفضل الدعائم ، وأحكم الروابط ، إذ الأسرة هي اللبنة الأساسية في بناء المجتمع ، ومن مجموعها يتكون ، فإذا صلحت الوحدات والمكونات صلح البنيان ، وإذا تصدعت تصدع .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
وذلك أن الله عز وجل أنزل في أموال اليتامى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا}، (النساء:10) فلما نزلت هذه الآية، أشفق المسلمون من خلطة اليتامى، فعزلوا بيت اليتيم وطعامه وخدامه على حدة مخافة العذر، فشق ذلك على المسلمين، وعلى اليتامى اعتزالهم، فقال ثابت بن رفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم: قد سمعنا ما أنزل الله عز وجل في اليتامى فعزلناهم والذي لهم، وعزلنا الذي لنا، فشق ذلك علينا وعليهم، وليس كلنا يجد سعة في عزل اليتيم وطعامه وخادمه، فهل يصلح لنا خلطتهم، فيكون البيت والطعام واحد والخدمة وركوب الدابة، ولا نرزأهم شيئا، إلا أن نعود عليهم بأفضل منه. فأنزل الله عز وجل في قول ثابت بن رفاعة الأنصاري: {ويسألونك عن اليتامى}. ثم قال سبحانه: {إن تخالطوهم} في المسكن والطعام والخدمة وركوب الدابة،
{والله يعلم المفسد} لمال اليتيم، {من المصلح} لماله،
{ولو شاء الله لأعنتكم}، يقول: لآثمكم في دينكم، فحرم عليكم خلطتهم في الذي لهم، كتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير، فلم تنتفعوا بشيء منه.
{إن الله عزيز}: في ملكه {حكيم}: يعني ما حكم في أموال اليتامى.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل فيما نزلت هذه الآية؛ فقال بعضهم نزلت في الذين عزلوا أموال اليتامى الذين كانوا عندهم، وكرهوا أن يخالطوهم في مأكل أو في غيره، وذلك حين نزلت "وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ "[سورة الأنعام: 152]، وقوله: "إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا" [سورة النساء: 10].
عن ابن عباس، قال: "لما نزلت وَلا تَقْرَبُوا مَالَ اليَتيمِ إلاّ بالّتِي هِيَ أحْسَنُ" "وإنّ الّذِينَ يَأكُلُونَ أمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْما إنّمَا يَأكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نارا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرا" انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل الشيء من طعامه، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد. فاشتدّ ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: "وَيَسألُونَكَ عَنِ الَيتامَى قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإنْ تُخالِطُوهُمْ فإخْوانُكُمْ" فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم.
وقال آخرون في ذلك: عن ابن عباس في قوله: "إنّ الّذِينَ يَأكُلُونَ أمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْما إنّمَا يَأكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ" الآية، قال: كان يكون في حجر الرجل اليتيم، فيعزل طعامه وشرابه وآنيته، فشقّ ذلك على المسلمين، فأنزل الله: "وَإنْ تُخالِطُوهُمْ فَإخْوانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِح" فأحلّ خلطهم.
وقال آخرون: بل كان اتقاء مال اليتيم واجتنابه من أخلاق العرب، فاستفتوا في ذلك لمشقته عليهم، فأفتوا بما بينه الله في كتابه. فتأويل الآية إذًا: ويسألك يا محمد أصحابك عن مال اليتامى، وخلطهم أموالهم به في النفقة والمطاعمة والمشاربة والمساكنة والخدمة، فقل لهم: تفضلكم عليهم بإصلاحكم أموالهم من غير مرزئة شيء من أموالهم، وغير أخذ عوض من أموالهم على إصلاحكم ذلك لهم، خير لكم عند الله، وأعظم لكم أجرا، لما لكم في ذلك من الأجر والثواب، وخير لهم في أموالهم في عاجل دنياهم، لما في ذلك من توفر أموالهم عليهم. وإن تخالطوهم فتشاركوهم بأموالكم أموالهم في نفقاتكم ومطاعمكم ومشاربكم ومساكنكم، فتضموا من أموالهم عوضا من قيامكم بأمورهم وأسبابهم وإصلاح أموالهم، فهم إخوانكم، والإخوان يعين بعضهم بعضا، ويكنف بعضهم بعضا فذو المال يعين ذا الفاقة، وذو القوّة في الجسم يعين ذا الضعف. يقول تعالى ذكره: فأنتم أيها المؤمنون وأيتامكم كذلك إن خالطتموهم بأموالكم، فخلطتم طعامكم بطعامهم، وشرابكم بشرابهم وسائر أموالكم بأموالهم، فأصبتم من أموالهم فضل مرفق بما كان منكم من قيامكم بأموالهم وولائهم، ومعاناة أسبابهم على النظر منكم لهم نظر الأخ الشفيق لأخيه العامل فيما بينه وبينه بما أوجب الله عليه وألزمه، فذلك لكم حلال، لأنكم إخوان بعضكم لبعض. فإن قال لنا قائل: وكيف قال "فإخْوَانُكُمْ" فرفع الإخوان، وقال في موضع آخر: "فإنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أوْ رُكْبانا". قيل: لافتراق معنييهما، وذلك أن أيتام المؤمنين إخوان المؤمنين، خالطهم المؤمنون بأموالهم أو لم يخالطوهم. فمعنى الكلام: وإن تخالطوهم فهم إخوانكم. والإخوان مرفوعون بالمعنى المتروك ذكره وهو "هم" لدلالة الكلام عليه، وإنه لم يُرد بالإخوان الخبر عنهم أنهم كانوا إخوانا من أجل مخالطة ولاتهم إياهم. ولو كان ذلك المراد لكانت القراءة نصبا، وكان معناه حينئذٍ وإن تخالطوهم فخالطوا إخوانكم، ولكنه قرئ رفعا لما وصفت من أنهم إخوان للمؤمنين الذين يلونهم خالطوهم أو لم يخالطوهم.
وأما قوله: "فَرِجالاً أوْ رُكْبانا" فنصب لأنهما حالان للفعل غير دائبين، ولا يصلح معهما هو، وذلك أنك لو أظهرت هو معهما لاستحال الكلام.
"وَاللّهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ": إن ربكم وإن أذن لكم في مخالطتكم اليتامى على ما أذن لكم به، فاتقوا الله في أنفسكم أن تخالطوهم وأنتم تريدون أكل أموالهم بالباطل، وتجعلون مخالطتكم إياهم ذريعة لكم إلى إفساد أموالهم، وأكلها بغير حقها، فتستوجبوا بذلك منه العقوبة التي لا قبل لكم بها، فإنه يعلم من خالط منكم يتيمه، فشاركه في مطعمه ومشربه ومسكنه وخدمه ورعاته في حال مخالطته إياه ما الذي يقصد بمخالطته إياه إفساد ماله، وأكله بالباطل، أم إصلاحه وتثميره، لأنه لا يخفى عليه منه شيء، ويعلم أيكم المريد إصلاح ماله، من المريد إفساده. "وَلَوْ شاءَ اللّهُ لأعَنْتَكُمْ": ولو شاء الله لحرّم ما أحله لكم من مخالطة أيتامكم بأموالكم أموالهم، فجهدكم ذلك وشقّ عليكم، ولم تقدروا على القيام باللازم لكم من حقّ الله تعالى، والواجب عليكم في ذلك من فرضه، ولكنه رخص لكم فيه، وسهله عليكم، رحمة بكم ورأفة.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "لأَعْنَتَكُمْ"؛ فقال بعضهم: "وَلَوْ شاءَ اللّهُ لأعْنَتَكُمْ": لحرّم عليكم المرعى والأدم.
يعني بذلك مجاهد، رعي مواشي والي اليتيم مع مواشي اليتيم والأكل من إدامه، لأنه كان يتأول في قوله: "وَإنْ تُخالِطُوهُمْ فَإخْوَانُكُمْ" أنه خلطة الولي اليتيم بالرعي والأدم.
عن ابن عباس: "وَلَوْ شاءَ اللّهُ لأعْنَتَكُمْ": ولو شاء الله لأحرجكم، فضيق عليكم، ولكنه وسع ويسّر، فقال: "وَمَنْ كانَ غَنِيّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيرا فَلْيأكُلْ بالمَعْرُوفِ".
عن قتادة: "وَلَوْ شاءَ اللّهُ لأَعْنَتَكُمْ": لجهدكم، فلم تقوموا بحقّ ولم تؤدّوا فريضة عن الربيع نحوه، إلا أنه قال: فلم تعملوا بحق.
وهذه الأقوال التي ذكرناها عمن ذُكرَت عنه، وإن اختلفت ألفاظ قائليها فيها، فإنها متقاربات المعاني لأن من حرم عليه شيء فقد ضيق عليه في ذلك الشيء، ومن ضيق عليه في شيء، فقد أحرج فيه، ومن أحرج في شيء أو ضيق عليه فيه فقد جهد، وكل ذلك عائد إلى المعنى الذي وصفت من أن معناه الشدة والمشقة، ولذلك قيل: عَنِت فلان: إذا شق عليه وجهده فهو يعنت عنتا، كما قال تعالى ذكره: "عَزِيرٌ عَلَيْهِ ما عَنِتّمْ" يعني ما شقّ عليكم وآذاكم وجهدكم، ومنه قوله تعالى ذكره: "ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العَنَتَ مِنْكُمْ" فهذا إذا عنت العانت، فإن صيره غيره كذلك قيل: أعنته فلان في كذا: إذا جهده وألزمه أمرا جهده القيام به يعنته إعناتا، فكذلك قوله: لأَعْنَتَكُمْ معناه: لأوجب لكم العنت بتحريمه عليكم ما يجهدكم ويحرجكم مما لا تطيقون القيام باجتنابه وأداء الواجب له عليكم فيه.
وقال آخرون: معنى ذلك: لأوبقكم وأهلككم... قال ابن عباس: ولو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا.
"إنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ": إن الله عزيز في سلطانه لا يمنعه مانع مما أحلّ بكم من عقوبة، لو أعنتكم بما يجهدكم القيام به من فرائضه، فقصرتم في القيام به، ولا يقدر دافع أن يدفعه عن ذلك ولا عن غيره مما يفعله بكم وبغيركم من ذلك لو فعله هو، لكنه بفضل رحمته منّ عليكم بترك تكليفه إياكم ذلك، وهو حكيم في ذلك لو فعله بكم، وفي غيره من أحكامه وتدبيره لا يدخل أفعاله خلل ولا نقص ولا وهي ولا عيب، لأنه فعل ذي الحكمة الذي لا يجهل عواقب الأمور، فيدخل تدبيره مذمة عاقبة، كما يدخل ذلك أفعال الخلق لجهلهم بعواقب الأمور، لسوء اختيارهم فيها ابتداء.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير} كأن في السؤال إضمارا لأنه قال: {ويسألونك عن اليتامى} ولم يبين في أي حكم، وإضماره، والله أعلم، أن يقال: يسألونك عن مخالطة اليتامى؛ يبين ذلك قوله: {وإن تخالطوهم فإخوانكم} أن السؤال كان عن المخالطة.
وقوله: {قل إصلاح لهم خير} فيه دليل إضمار، وهو طلب الصلاح لهم: إما بالتولي لهم في أموالهم والنظر لهم بما يعقب نفعا لهم، أو طلب التخلق بالأخلاق الحسنة والاعتياد بالعادة المحمودة. فذلك إصلاح خير بطلبكم الصلاح لهم، أو خير لهم بما يعود نفع ذلك إليهم، وإلا فظاهر الصلاح حسن لكل أحد، فلا وجه لتخصيصهم به، فدل على أنه طلب النفع والنظر لهم، والله أعلم.
وقوله: {وإن تخالطوهم فإخوانكم} فيه دليل الترغيب كقوله: {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم} [الأحزاب: 5] رغبهم عز وجل بما أخبر أنهم {فإخوانكم في الدين} بطلب الصلاح والنظر والنفع لهم؛ إذ تستوجب بعضهم قبل بعض المعونة لهم والحفظ والصلاح كقوله: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} [الحجرات: 10]
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إصلاح حالهم بما يكون في تأديبهم أتَمّ من إصلاح مالهم، ثم الصبر على الاحتمال عنهم مع بذل النصح...
{وَاللهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. فيُعاملُ كلاً على سواكن قلبه من القُصُود لا على ظواهر كَسْبِه من جميع الفنون...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
وَكَّلَ الْحَاضِنِينَ فِي ذَلِكَ إلَى أَمَانَتِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ}، وَكُلُّ أَمْرٍ مَخُوفٍ وَكَّلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ الْمُكَلَّفَ إلَى أَمَانَتِهِ لَا يُقَالُ فِيهِ إنَّهُ يَتَذَرَّعُ إلَى مَحْظُورٍ فَيُمْنَعُ مِنْهُ، كَمَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ النِّسَاءَ مُؤْتَمَنَاتٍ عَلَى فُرُوجِهِنَّ، مَعَ عِظَمِ مَا يَتَرَكَّبُ عَلَى قَوْلِهِنَّ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَيَرْتَبِطُ بِهِ مِنْ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ وَالْأَنْسَابِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكْذِبْنَ. وَهَذَا فَنٌّ بَدِيعٌ فَتَأْمُلُوهُ وَاِتَّخِذُوهُ دُسْتُورًا فِي الْأَحْكَامِ وَأَمِّلُوهُ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ بِرَحْمَتِهِ.
أما قوله: {والله يعلم المفسد من المصلح} فقيل: المفسد لأموالهم من المصلح لها، وقيل: يعلم ضمائر من أراد الإفساد والطمع في مالهم بالنكاح من المصلح، يعني: إنكم إذا أظهرتم من أنفسكم إرادة الإصلاح فإذا لم تريدوا ذلك في قلوبكم بل كان مرادكم منه غرضا آخر فالله مطلع على ضمائركم عالم بما في قلوبكم، وهذا تهديد عظيم، والسبب أن اليتيم لا يمكنه رعاية الغبطة لنفسه، وليس له أحد يراعيها فكأنه تعالى قال: لما لم يكن له أحد يتكفل بمصالحه فأنا ذلك المتكفل وأنا المطالب لوليه، وقيل: والله يعلم المصلح الذي يلي من أمر اليتيم ما يجوز له بسببه الانتفاع بماله ويعلم المفسد الذي لا يلي من إصلاح أمر اليتيم ما يجوز له بسببه الانتفاع بماله، فاتقوا أن تتناولوا من مال اليتيم شيئا من غير إصلاح منكم لمالهم.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنه لما ذكر السؤال عن الخمر والميسر، وكان تركهما مدعاة إلى تنمية المال، وذكر السؤال عن النفقة، وأجيبوا بأنهم ينفقون ما سهل عليهم، ناسب ذلك النظر في حال اليتيم، وحفظ ماله، وتنميته، وإصلاح اليتيم بالنظر في تربيته، فالجامع بين الآيتين أن في ترك الخمر والميسر إصلاح أحوالهم أنفسهم، وفي النظر في حال اليتامى إصلاحاً لغيرهم ممن هو عاجز أن يصلح نفسه، فيكون قد جمعوا بين النفع لأنفسهم ولغيرهم.
{وإن تخالطوهم فإخوانكم} هذا التفات من غيبة إلى خطاب لأن قبله {و يسألونك}، فالواو ضمير للغائب، وحكمة هذا الالتفات ما في الإقبال بالخطاب على المخاطب ليتهيأ لسماع ما يلقى إليه وقبوله والتحرز فيه، فالواو ضمير الكفلاء، وهم ضمير اليتامى، والمعنى: أنهم إخوانكم في الدين، فينبغي أن تنظروا لهم كما تنظرون لإخوانكم من النسب من الشفقة والتلطف والإصلاح لذواتهم وأموالهم.
وقد اكتنف هذه المخالطة الإصلاح قبل وبعد، فقبل بقوله: {قل إصلاح له خير} وبعد بقوله: {والله يعلم المفسد من المصلح} فالأولى أن يراد بالمخالطة ما فيه إصلاح لليتيم بأي طريق كان، من مخالطة في مطعم أو مسكن أو متاجرة أو مشاركة أو مضاربة أو مصاهرة أو غير ذلك.
{والله يعلم المفسد من المصلح} جملة معناها التحذير، أخبر تعالى فيها أنه عالم بالذي يفسد من الذي يصلح، ومعنى ذلك: أنه يجازي كلاً منهما على الوصف الذي قام به، وكثيراً ما ينسب العلم إلى الله تعالى على سبيل التحذير، لأن من علم بالشيء جازى عليه، فهو تعبير بالسبب عن المسبب، و: يعلم، هنا متعدٍ إلى واحد، وجاء الخبر هنا بالفعل المقتضي للتجدد، وإن كان علم الله لا يتجدد، لأنه قصد به العقاب والثواب للمفسد والمصلح، وهما وصفان يتجدّدان من الموصوف بهما، فتكرر ترتيب الجزاء عليهما لتكررهما، وتعلق العمل بالمفسد أولاً ليقع الإمساك عن الإفساد. ومن، متعلقة ب"يعلم" على تضمين ما يتعدّى بمن، كأن المعنى: والله يميز بعلمه المفسد من المصلح.
وظاهر الألف واللام أنها للاستغراق في جميع أنواع المفسد والمصلح، والمصلح في مال اليتيم من جملة مدلولات ذلك، ويجوز أن تكون الألف واللام للعهد، أي: المفسد في مال اليتيم من المصلح فيه، والمفسد بالإهمال في تربيته من المصلح له بالتأديب، وجاءت هذه الجملة بهذا التقسيم لإن المخالطة على قسمين: مخالطة بإفساد، ومخالطة بإصلاح. ولأنه لما قيل: {قل إصلاح لهم خير} فهم مقابله، وهو أن الإفساد شر، فجاء هذا التقسيم باعتبار الإصلاح ومقابله.
ومفعول شاء، محذوف لدلالة الجواب عليه، التقدير: ولو شاء الله إعناتكم، واللام في الفعل الموجب الأكثر في لسان العرب المجيء بها فيه، وفي هذه الجملة الشرطية إعلام وتذكير بإحسان الله وإنعامه على أوصياء اليتامى، إذ أزال إعناتهم ومشقتهم في مخالطتهم، والنظر في أحوالهم وأموالهم.
[و] في وصفه تعالى بالعزة، وهو الغلبة والاستيلاء، إشارة إلى أنه مختص بذلك لا يشارك فيه، فكأنه لما جعل لهم ولاية على اليتامى نبههم على أنهم لا يقهرونهم، ولا يغالبونهم، ولا يستولون عليهم استيلاء القاهر، فإن هذا الوصف لا يكون إلاَّ لله.
وفي وصفه تعالى بالحكمة إشارة إلى أنه لا يتعدّى ما أذن هو تعالى فيهم وفي أموالهم، فليس لكم نظر إلاَّ بما أذنت فيه لكم الشريعة، واقتضته الحكمة الإلهية. إذ هو الحكيم المتقن لما صنع وشرع، فالإصلاح لهم ليس راجعاً إلى نظركم، إنما هو راجع لاتباع ما شرع في حقهم.
تضمنت الآية أنّ للموصى في خلطه بمال اليتيم ثلاث حالات: النظر في المصلحة، والنظر في المفسدة، والنظر المطلق.
والأول مستفاد من قوله: « قٌلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ».
والثاني من قوله: « والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح».
والثالث من لفظ « إِخْوَانُكُمْ» فإنه يقتضي التساوي.
{والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح...}. في الآية سؤال وهو أن القاعدة في التمييز أن يميز القليل من الكثير وتقرر في الوجود وفي الشرع أن الفساد أكثر من الصلاح. قال الله عز وجل في سورة غافر: {إِنَّ الساعة لآتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ}.
قال ابن عرفة: والجواب أنه باعتبار الطلب لا باعتبار الوجود الخارجي فنبه بالآية على أنّ المطلوب تكثير الصّلاح وتقليل الفساد حتى يكون في الوجود أكثر من الفساد. قيل لابن عرفة: أو إشارة إلى عموم علم الله تعالى ما قلتموه في السؤال إنما يكون في المخلوقين لقصورهم وعجز إدراكهم، فيكون تمييز القليل من الكثير أهون عليهم من العكس. قلت: أو يجاب بأن الآية خرجت مخرج التخويف فالمناسب فيها تعلق العلم والقدرة بالمفسد ليميز من المصلح. انتهى. إن الآية خرجت مخرج التمدح بكمال قدرة الله تعالى والامتنان على خلقه بتيسير التكليف، والتَّمدح إنما يكون بالجائز.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان العفو غير مقصور على المال بل يعم القوى البدنية والعقلية، وكان النفع لليتيم من أجل ما يرشد إليه التفكر في أمور الآخرة، و كان الجهاد من أسباب القتل الموجب لليتم، وكانوا يلون يتاماهم، فنزل التحريج الشديد في أكل أموالهم، فجانبوهم واشتد ذلك عليهم، سألوا عنهم، فأفتاهم سبحانه وتعالى فيهم وندبهم إلى مخالطتهم على وجه الإصلاح الذي لا يكون لمن يتعاطى الخمر والميسر فقال: {ويسألونك عن اليتامى} أي في ولايتهم لهم وعملهم في أموالهم وأكلهم منها ونحو ذلك مما يعسر حصره؛ وأمره بالجواب بقوله: {قل إصلاح لهم خير} أي من تركه، ولا يخفى الإصلاح على ذي لب فجمع بهذا الكلام اليسير المضبوط بضابط العقل الذي أقامه تعالى حجة على خلقه ما لا يكاد يعد، وفي قوله: {لهم} ما يشعر بالحث على تخصيصهم بالنظر في أحوالهم ولو أدى ذلك إلى مشقة على الولي. ولما كان ذلك قد يكون مع مجانبتهم وكانوا قد يرغبون في نكاح يتيماتهم قال: {وإن تخالطوهم} أي بنكاح أو غيره ليصير النظر في الصلاح مشتركاً بينكم وبينهم، لأن المصالح صارت كالواحدة. قال الحرالي: وهي رتبة دون الأولى، والمخالطة مفاعلة من الخلطة وهي إرسال الأشياء التي شأنها الانكفاف بعضها في بعض كأنه رفع التحاجز بين ما شأنه ذلك {فإخوانكم} جمع أخ وهو الناشئ مع أخيه من منشأ واحد على السواء بوجه ما...
أي فعليكم من مناصحتهم ما يقودكم الطبع إليه من مناصحة الإخوان ويحل لكم من الأكل من أموالهم بالمعروف وما يحل من أموال إخوانكم؛
ولما كان ذلك مما قد يدخل فيه الشر الذي يظهر فاعله أنه لم يرد به إلا الخير وعكسه قال مرغباً مرهباً: {والله} أي الذي له الإحاطة بكل شيء {يعلم} أي في كل حركة وسكون.
ولما كان الورع مندوباً إليه محثوثاً عليه لا سيما في أمر اليتامى فكان التحذير بهذا المقام أولى قال: {المفسد} أي الذي الفساد صفة له {من المصلح} فاتقوا الله في جميع الأمور ولا تجعلوا خلطتكم إياهم ذريعة إلى أكل أموالهم.
ولما كان هذا أمراً لا يكون في بابه أمر أصلح منه ولا أيسر منّ عليهم بشرعه في قوله: {ولو شاء الله} أي بعظمة كماله {لأعنتكم} أي كلفكم في أمرهم وغيره ما يشق عليكم مشقة لا تطاق فحد لكم حدوداً وعينها يصعب الوقوف عندها وألزمكم لوازم يعسر تعاطيها، من الإعنات وهو إيقاع العنت وهو أسوأ الهلاك الذي يفحش نعته -قاله الحرالي. ثم علل ذلك بقوله: {إن الله} أي الملك الأعظم {عزيز} يقدر على ما يريد {حكيم} يحكمه بحيث لا يقدر أحد على نقض شيء منه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم بين جل شأنه أن هذا البيان المعد للتفكر ليس بمصالح الدنيا وحدها، ولا بطلب الآخرة على انفرادها، وإنما هو متعلق بهما جميعا فقال {في الدنيا والآخرة} أي تتفكرون في أمورهما معا، فتجتمع لكم مصالح الجسد والروح فتكونون أمة وسطا، وأناسي كاملين، لا كالذين حسبوا أن الآخرة لا تنال إلا بترك الدنيا وإهمال منافعها ومصالحها بالمرة فخسروها وخسروا الآخرة معها، لأن الدنيا مزرعة الآخرة، ولا كالذين انصرفوا إلى اللذات الجسدية كالبهائم ففسدت أخلاقهم وأظلمت أرواحهم، وكانوا بلاء على الناس وعلى أنفسهم، فخسروا الآخرة والدنيا معها. وهذا الإرشاد إلى التفكر في مصالح الدنيا والآخرة جميعها هو في معنى ما جاء في الدعاء بقوله تعالى: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة} (البقرة: 201) وتقدم تفسيرها.
فالله تعالى يبين في مثل هذه الآيات أن الإسلام هاد ومرشد إلى توسيع دائرة الفكر واستعمال العقل في مصالح الدارين، وقدم الدنيا في الذكر، لأنها مقدمة في الوجود بالفعل، وكل ما أمرنا الله تعالى به وهدانا إليه فهو من ديننا، ولذلك قال علمائنا إن جميع الفنون والصناعات التي يحتاج إليها الناس في معايشهم من الفروض الدينية إذا أهملت الأمة شيئا منها فلم يقم به من أفردها من يكفيها أمر الحاجة إليه، كانت كلها عاصية لله تعالى مخالفة لدينه، إلا من كان عاجزا عن دفع ضرر الحاجة وعن الأمر به للقادر عليه، فأولئك هم المعذورون بالتقصير.
على هذا قام صرح مجد الإسلام عدة قرون، كان المسلمون كلما عرض لهم شيء بسبب التوسع في العمران يتوقف عليه حفظه وتعميم دعوته النافعة قاموا به حق القيام، وعدوا القيام به من الدين بمثل هذه الآية وغيرها من الآيات، ومضوا على ذلك قرونا كانوا فيها أبسط الأمم وأعلاها حضارة وعمرانا، وبرا وإحسانا، إلى أن غلا أقوام في الدين واتبعوا سنن من قبلهم في إهمال مصالح الدنيا، زعما أن ذلك من الزهد المطلوب، أو التوكيل المحبوب، وما هو منها في شيء! وكان من أثر ذلك أن أهملت الشريعة فلا توجد حكومة إسلامية على وجه الأرض تقيمها، لأنه لا يوجد من أهلها من يصلح لحكم الناس في هذه العصور التي اتسعت فيها مصالح الأمم والحكومات، بالتوسع في العلوم والصناعات وارتباط العالم بعضه ببعض، ثم صار علماء المسلمين أنفسهم يعدون الاشتغال العلوم والفنون التي تتوقف عليها مصالح الدينا صادة عن الدين مبعدة عنه. وهذا هو دخول جحر الضب الذي دخله من قبلنا وهو كما ترى خروج عن هدى القرآن!
وقد يقال إذا كان المنقطع لعلوم الدين لا يأمن على عقيدته أن تذهب ودينه أن يفسد إذا هو تفكر في مصالح الدنيا وعرف العلوم التي لا تقوم هذه المصالح بدونها، فكيف يكون حال من يدرسون هذه العلوم الدنيوية من المسلمين وليسوا على شيء يعتد به من العلوم الدينية؟ لا جرم أن القضاء على الإسلام، بأنه آفة العمران، وعدو العلم والنظام، وهو قضاء جائز يبطله القرآن، وتنقضه سيرة السلف الصالحين الذين سبقونا بالإيمان، ولكن أين من يتبعهما الآن؟. وقد قام فريق من الذين لم ينظروا في كتاب الله مرة نظرة معتبر، ولم يتل منه آية تلاوة مفكر متدبر، يقسمون المسلمين إلى قسمين: قسم لا تجب المبالاة بدينه، ولا يهتم به في شكه أو يقينه، فله أن يتعلم ما يشاء صحت عقيدته أو فسدت، صلحت أعماله أو خسرت. وقسم آخر يجب أن يصان عقله عن كل فكر، ويحاط بجميع الوسائل التي تمنعه من النظر في ما عليه الناس من خير وشر، وما تعرض في الكون من نفع وضر، كي لا يفسد النظر عقيدته، ويظل الفكر السليم بصيرته.
وهذا القسم هو الذي تفوض إليه الرياسة الدينية، ويعهد إليه بقيادة الأمة في صلاح الأعمال، وانتظام الأحوال، وأعظم قسم في الأمة هو القسم الأول بحكم الضرورة، بل هو الأمة كلها بالتقريب، وقد صار بيده زمام جميع أمورها وقوة الحكم فيها، إذ لا يمكن أن يتيسر لهذا القسم الثاني وهو خلو من العلم بحالها، ودون كل واحد منها في العقل، وفوقه في الغباوة والجهل، أن يقود واحدا منها بله قيادتها كلها؟ فهل يتفق مثل هذا للخلف، مع شيء من سنة السلف؟ ألا عاقل يقول لهؤلاء المشعوذين كيف ساغ في عقولهم أن يسلم إلى الجاهل، قيادة العاقل؟ وكيف يتيسر حفظ الدين، بالعول عن سنن المرسلين، ومخالفة سير السلف الصالحين؟
ثم قال تعالى: {ويسألونك عن اليتامى} الخ أخرج أبو داود والنسائي والحاكم وغيرهما عن ابن عباس قال لما نزلت {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} (الأنعام: 152) و {إن الذين يأكلون أموال اليتامى} (النساء: 10) الآية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: {يسألونك عن اليتامى} الآية 166. ذكره السيوطي في أسباب النزول.
نعم إن آيات الوصية في اليتامى كثيرة ومنها ما نزل في مكة لقوله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} (الإسراء: 34) في سورة الإسراء وقوله تعالى: {فأما اليتيم فلا تقهر} (الضحى: 9) في سورة الضحى وقوله عز وجل: {فذلك الذي يدع اليتيم} (الماعون: 2) في سورة الماعون، جعل دع اليتيم وهو دفعه وجره بعنف أول آيات التكذيب بالدين.
وأجمع ما ورد في ذلك وآكده آيات سورة النساء وهي مدنية كسورة البقرة، ومنها قوله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا} (النساء: 10) ولكن سورتها نزلت بعد سورة البقرة. وقد كان السابقون الأولون من المؤمنين يحفظون حدود الله تعالى ويأخذون القرآن بقوة لأنهم لبلاغتهم يفهمون الوعيد في مثل هذه الآية فتحدث لهم من الذكرى والعظة ما لا يجد مثله من لم يؤت بلاغتهم. وليس المراد ببلاغتهم أنهم قرأوا علم المعاني والبيان فحفظوا في أذهانهم عللا كثيرة للتقديم والتأخير في المسند إليه ونحو ذلك، وإنما هي مقاصد الكلام ومغازيه تغوص في أعماق القلوب كما يغوص الماء في الإسفنج، فلا تدع فيها مكانا يتعاصى على تأثيرها كما قال الأستاذ الإمام.
هذا الاتعاظ والاعتبار بوصايا الكتاب العزيز في اليتامى قد ملك نفوس المؤمنين فتركهم في حيرة وحرج من أمر القيام عليهم واستغلال أموالهم، خوفا أن ينالهم شيء من الظلم المذكور في آية سورة النساء لأن الظلم كل ما نقص من الحق، وشاهده قوله تعالى: {كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا} (الكهف: 33) فإذا اختلط اثنان في النفقة وأكل أحدهما مما اشترى بمالهما أكثر من الآخر، تكون الزيادة من مال الآخر، فإن كان راشدا فرضاه ولو بالعرف أو القرينة إذن يبيح هذا التناول، وأما إذا كان الخليط يتيما فإن الزيادة تكون مظنة الظلم أو هي منه حتما، ولذلك تأثم الصحابة عليهم الرضوان من مخالطة اليتامى بعد نزول آية النساء، وإن كانت العادة جارية بتسامح الناس في مؤاكلة الخلطاء والشركاء من غير تدقيق فكان بعضهم يأبى القيام على اليتيم وبعضهم يعزل اليتيم عن عياله فلا يخالطونه في شيء حتى إنهم كانوا يطبخون له وحده. ثم إنهم فطنوا إلى أن هذا على ما فيه من الحرج عليهم لا مصلحة فيه لليتيم بل هو مفسدة له في تربيته ومضيعة لماله، وفيه من القهر المنهي عنه ما لا يخفى، فإنه يكون في البيت كالكلب أو الداوجن في مأكله ومشربه. ومن هنا جاءت الحيرة واحتيج إلى السؤال عن طريق الجمع بين الأمرين، والتوحيد بين المصلحتين، بأن يعيش اليتيم في بيت كافله عزيزا كريما كأحد عياله، ويسلم الكافل من أكل شيء من ماله بغير حق، وكان من فضل الله تعالى ورحمته أن أنزل الوحي في إزالة الحيرة وكشف الغمة، فقال لنبيه {قل} لهؤلاء السائلين عن القيام على اليتامى وكفالتهم، وعن المصلحة في عزلهم أو مخالطتهم {إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم} يعني أي إصلاح لهم خير من عدمه فلا تتركوا شيئا مما تعلمون أن فيه صلاحا لهم في أموالهم وأحوالهم من تربية وتهذيب، هذا ما أفاده تنكير {إصلاح}.
وإن تخالطونهم لرؤيتكم الخير لهم في المخالطة في المعيشة فهم إخوانكم في الدين، وإنما شأن الإخوان المخالطة في المعاشرة. وقد أزالت الكلمة الأولى من هذا الجواب الوجيز شبهة المتأثمين من كفالتهم، وكشفت الكلمة الثانية شبهة القوام للتحرجين من مخالطتهم، ومن هذا الجواب عرفنا حقيقة السؤال، وهذا من ضروب الإيجاز التي لم تعرف إلا من القرآن.
أما معنى كون الإصلاح لهم خيرا فهو أن القيام عليهم لإصلاح نفوسهم بالتهذيب والتربية، وإصلاح أموالهم بالتثمير والتنمية، هو خير من إهمال شأنهم وتركهم لأنفسهم، تفسد أخلاقهم وتضيع حقوقهم خير لهم لما فيه من مصالحتهم، وخير للقوام والكافلين لما فيه من درء مفسدة إهمالهم، ومن المصلحة العامة في صلاح حالهم، ولما في ذلك من حسن القدرة في الدنيا، وحسن المثوبة في الأخرى.
وأما قوله: {وإن تخالطونهم فإخوانكم} فمعناه أنه لا وجه للتأثم من مخالطتهم في المأكل والمشرب والمكسب، فهم إخوانكم في الدين، ومن شأن الإخوة أن يكونوا خلطاء وشركاء في الملك والمعاش، ولا ضرر على أحد منهم في ذلك، بل هو نافع لهم، لأن كل واحد منهم يسعى في مصلحة الجميع، والمخالطة مبنية بينهم على المسامحة لانتفاء مظنة الطمع وتحقق الإخلاص وحسن النية. كأنه يقول: وإن تخالطوهم فعليكم أن تعاملوهم معاملة الإخوة في ذلك فيكون اليتيم في البيت كالأخ الصغير تراعى مصلحته بقدر الإمكان، ويتحرى أن يكون في كفته الرجحان.
وقيل إن المراد بالمخالطة المصاهرة وأخوة الإسلام علة لحلها، وقد أطال أبو مسلم في ترجيح هذا الوجه. وهذا الذي هدانا إليه الكتاب العزيز في شأن اليتامى من معاملتهم كالإخوان مبني على ما أودع الفطرة السليمة من الحب والإخلاص للأقربين، وقد طرأ الفساد على هذه الرابطة النسبية في بلاد كثيرة بما أفسدت السياسة في الأمة، فصار الأخ يطمع في مال أخيه، ويحفر له من المهاوي ما لعله هو يقع فيه، وأمثال هؤلاء الذين فسدت طباعهم واعتلت خلائقهم، ولا يوكل إليهم الرجوع إلى الفطرة وتحكيمها في معاملة اليتامى كالأخوة، لذلك لم يكتف القرآن بذلك حتى وضع للضمير والوجدان، قاعدة يرجع إليها في هذا الشأن، فقال:
{والله يعلم المفسد من المصلح} أي أنه لم يكل أمر مخالطة اليتامى إلى حكم نزعة القرابة وعاطفة الأخوة من قلوبكم إلا وهو يعلم ما تضمر هذه القلوب من قصد الإصلاح لهم أو الإفساد، فعليكم أن تراقبوه في أعمالكم ونياتكم، وتعلموا أن سيحاسبكم على مثقال الذرة مما تعملون لهم.
والمصلح هو من يأتي بالإصلاح عملا، والمفسد هو من يأتي بالإفساد فعلا، وحال كل منهم ظاهرة للعيان، وإنما أيقظ الله تعالى القلوب إلى ذكر علمه بذلك لتلاحظ اطلاعه على العمل، وتتذكر جزاءه عليه فتراقبه فيما خفي منه، لعلها تأمن من مزالق الشهوة، وتسلم من مزال الشبهة، فإن شهوة الطمع تولد لصاحبها شبهة أكل مال اليتيم، كما يأكل كل صاحبها مال أخيه الضعيف، ولا عاصم من ذلك إلا بمراقبة الله تعالى وتقواه. وإلا فإننا نرى أكثر الأوصياء على الأيتام في هذا الزمان يظهرون للملاء إصلاح أحوالهم، وتثمير أموالهم، مع العفة والزهادة فيها، وهم في الباطن يأكلونها أكلا لما، حتى أن واحدهم يصبح غنيا بعد فقر ولا عمل له إلا القيام على اليتيم، والأجرة المفروضة له على الوصاية لا غناء فيها فيكون غنيا بها. وكل من يطلب أن يكون على يتيم ويسعى لذلك سعيه فهو موضع للظنة، وقلما يوجد فيهم من يرضى بما يفرض له على عمله،
{إن الله عزيز حكيم} فلو شاء إعانتكم لعز على غيره منعه من ذلك، إذ لا عزة تعلو عزته، ولكن مضت حكمته بأن تكون شريعته جامعة لمصالح عباده، جارية على سنن الفطرة المعتدلة التي فطرهم عليها...
هكذا جعل الأستاذ الإمام ذكر العزيز في هذا المقام لتقرير إمكان تعلق المشيئة بالإعنات، وذكر الحكيم لتقرير التفضل بعدم تعليق المشيئة به، وكل من الأمرين مفهوم من قوله: {ولو شاء الله لأعنتكم}
ويحتمل أن يكون ذكر الاسمين الكريمين تقريرا لعزته وحكمته تعالى في المسائل الثلاث في الآيتين فإنها وردت في الآيات معطوفا آخرها على أولها، ولله العزة بمنع الناس بعض الشهوات، وبتكليفهم الإنفاق من فضول أموالهم، وبتكليفهم تحري الإصلاح للأيتام مع الإذن بمخالطتهم، ومن حكمته أن منعهم ما يضرهم من ذلك، وكلفهم ما فيه مصالحهم، وأن هداهم إلى وجه منفعة النافع ومضرة الضار.
و [أشار] الأستاذ الإمام: [إلى] النكتة في وصل السؤال عن اليتامى بالسؤال عن الإنفاق والسؤال عن الخمر والميسر أنه لما كان ذانك السؤالان مبينين لحال فريقين من الناس في الإنفاق وبذل المال على ما تقدم ناسب أن يذكر بعدهما السؤال عن صنف هو من أحق أصناف الناس بالإنفاق عليه وبذل المال في سبيل تربيته وإصلاح شأنه، وهو صنف اليتامى، وليس الترغيب بالإنفاق عليهم ببعيد من هذه الآية، وقد تكرر في غير هذه السورة. كأنه سبحانه وتعالى يذكرنا عند الإذن بمخالطة اليتامى والترغيب في الإصلاح لهم، بأن النفقة عليهم من أموالنا مندوب إليها، وإنهم من المستحقين لما ننفقه من العفو الزائد عن حاجتنا، فلا يليق بنا أن نعكس القضية ونطمع في فضول أموالهم، لأنهم ضعفاء قاصرون لا يستطيعون دفاعا عن حقوقهم، ولا ذودا عن مصالحهم. فجمع الأسئلة الثلاثة في الآيتين وعطف بعضها على بعض في غاية الإحكام والالتئام.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهكذا يربط الأمر كله بالله؛ ويشده إلى المحور الأصيل التي تدور عليه العقيدة، وتدور عليه الحياة.. وهذه هي ميزة التشريع الذي يقوم على العقيدة. فضمانة التنفيذ للتشريع لا تجيء أبدا من الخارج، إن لم تنبثق وتتعمق في أغوار الضمير.. إن التكافل الاجتماعي هو قاعدة المجتمع الإسلامي. والجماعة المسلمة مكلفة أن ترعى مصالح الضعفاء فيها. واليتامى بفقدهم آباءهم وهم صغار ضعاف أولى برعاية الجماعة وحمايتها. رعايتها لنفوسهم وحمايتها لأموالهم. ولقد كان بعض الأوصياء يخلطون طعام اليتامى بطعامهم. وأموالهم بأموالهم للتجارة فيها جميعا؛ وكان الغبن يقع أحيانا على اليتامى. فنزلت الآيات في التخويف من أكل أموال الأيتام. عندئذ تحرج الأتقياء حتى عزلوا طعام اليتامى من طعامهم. فكان الرجل يكون في حجره اليتيم. يقدم له الطعام من ماله. فإذا فضل منه شيء بقي له حتى يعاود أكله أو يفسد فيطرح! وهذا تشدد ليس من طبيعة الإسلام. فوق ما فيه من الغرم أحيانا على اليتيم. فعاد القرآن يرد المسلمين إلى الاعتدال واليسر في تناول الأمور؛ وإلى تحري خير اليتيم والتصرف في حدود مصلحته. فالإصلاح لليتامى خير من اعتزالهم. والمخالطة لا حرج فيها إذا حققت الخير لليتيم. فاليتامى أخوان للأوصياء. كلهم أخوة في الإسلام. أعضاء في الأسرة المسلمة الكبيرة. والله يعلم المفسد من المصلح، فليس المعول عليه هو ظاهر العمل وشكله. ولكن نيته وثمرته. والله لا يريد إحراج المسلمين وإعناتهم والمشقة عليهم فيما يكلفهم. ولو شاء الله لكلفهم هذا العنت. ولكنه لا يريد. وهو العزيز الحكيم. فهو قادر على ما يريد. ولكنه حكيم لا يريد إلا الخير واليسر والصلاح.
وهكذا يربط الأمر كله بالله؛ ويشده إلى المحور الأصيل التي تدور عليه العقيدة، وتدور عليه الحياة.. وهذه هي ميزة التشريع الذي يقوم على العقيدة. فضمانة التنفيذ للتشريع لا تجيء أبدا من الخارج، إن لم تنبثق وتتعمق في أغوار الضمير..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف تبيين معاملة اليتامى على تبيين الإنفاق لتعلق الأمرين بحكم تحريم الميسر أو التنزيه عنه فإن الميسر كان باباً واسعاً للإنفاق على المحاويج وعلى اليتامى، فكان تحريم الميسر مما يثير سؤالا عن سد هذا الباب على اليتامى وفيه صلاح عظيم لهم وكان ذلك السؤال مناسبة حسنة للتخلص إلى الوصاية باليتامى وذكر مجمل أحوالهم في جملة إصلاح الأحوال التي كانوا عليها قبل الإسلام، فكان هذا وجه عطف هذه الجملة على التي قبلها بواو العطف لاتصال بعض هذه الأسئلة ببعض كما تقدم في قوله: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو}.
والإصلاح جعل الشيء صالحاً أي ذا صلاح والصلاح ضد الفساد، وهو كون شيء بحيث يحصل به منتهى ما يطلب لأجله، فصلاح الرجل صدور الأفعال والأقوال الحسنة منه، وصلاح الثمرة كونها بحيث ينتفع بأكلها دون ضر، وصلاح المال نماؤه المقصود منه، وصلاح الحال كونها بحيث تترتب عليها الآثار الحسنة.
و {إصلاح لهم} مبتدأ ووصفه، واللام للتعليل أو الاختصاص. ووصف الإصلاح ب {لهم} دون الإضافة إذ لم يقل إصلاحهم لئلا يتوهم قصره على إصلاح ذواتهم لأن أصل إضافة المصدر أن تكون لذات الفاعل أو ذات المفعول فلا تكون على معنى الحرف، ولأن الإضافة لما كانت من طرق التعريف كانت ظاهرة في عهد المضاف فعدل عنها لئلا يتوهم أن المراد إصلاح معين كما عدل عنها في قوله: {ايتوني بأخ لكم من أبيكم} [يوسف: 59] ولم يقل بأخيكم ليوهمهم أنه لم يرد أخاً معهوداً عنده، والمقصود هنا جميع الإصلاح لا خصوص إصلاح ذواتهم فيشمل إصلاح ذواتهم وهو في الدرجة الأولى ويتضمن ذلك إصلاح عقائدهم وأخلاقهم بالتعليم الصحيح والآداب الإسلامية ومعرفة أحوال العالم، ويتضمن إصلاح أمزجتهم بالمحافظة عليهم من المهلكات والأخطار والأمراض وبمداواتهم، ودفع الأضرار عنهم بكفاية مؤنهم من الطعام واللباس والمسكن بحسب معتاد أمثالهم دون تقتير ولا سرف، ويشمل إصلاح أموالهم بتنميتها وتعهدها وحفظها. ولقد أبدع هذا التعبير، فإنه لو قيل إصلاحهم لتوهم قصره على ذواتهم فيحتاج في دلالة الآية على إصلاح الأموال إلى القياس ولو قيل قل تدبيرهم خير لتبادر إلى تدبير المال فاحتيج في دلالتها على إصلاح ذواتهم إلى فحوى الخطاب. فالمعنى إصلاح أمورهم خير من إهمالهم أي أفضل ثواباً وأبعد عن العقاب، أي خير في حصول غرضكم المقصود من إهمالهم فإنه ينجر منه إثم الإضاعة ولا يحصل فيه ثواب السعي والنصيحة، ويحتمل أن يكون صفة مقابل الشر إن كان خطاباً لتغيير الأحوال التي كانوا عليها قبل الإسلام، فالمعنى إصلاحهم في أموالهم وأبدانهم وترك إضاعتهم في الأمرين كما تقدم خير، وهو تعريض بأن ما كانوا عليه في معاملتهم ليس بخير بل هو شر، فيكون مراداً من الآية على هذا: التشريع والتعريض إذ التعريض يجامع المعنى الأصلي، لأنه من باب الكناية والكناية تقع مع إرادة المعنى الأصلي.
وقوله {فإخوانكم} جواب الشرط ولذلك قرن بالفاء لأن الجملة الاسمية غير صالحة لمباشرة أداة الشرط ولذلك ف (إخوانكم) خبر مبتدأ محذوف تقديره فهم إخوانكم، وهو على معنى التشبيه البليغ، والمراد بالأخوة أخوة الإسلام التي تقتضي المشاورة والرفق والنصح.
وقوله: {والله يعلم المفسد من المصلح} وعد ووعيد، لأن المقصود من الأخبار بعلم الله الإخبار بترتب آثار العلم عليه، وفي هذا إشارة إلى أن ما فعله بعض المسلمين من تجنب التصرف في أموال اليتامى تنزه لا طائل تحته لأن الله يعلم المتصرف بصلاح والمتصرف بغير صلاح وفيه أيضاً ترضية لولاة الأيتام فيما ينالهم من كراهية بعض محاجيرهم وضربهم على أيديهم في التصرف المالي وما يلاقون في ذلك من الخصاصة، فإن المقصد الأعظم هو إرضاء الله تعالى لا إرضاء المخلوقات، وكان المسلمون يومئذٍ لا يهتمون إلاّ بمرضاة الله تعالى وكانوا يحاسبون أنفسهم على مقاصدهم، وفي هذه إشارة إلى أنه ليس من المصلحة أن يعرض الناس عن النظر في أموال اليتامى اتقاء لألسنة السوء، وتهمة الظن بالإثم فلو تمالأ الناس على ذلك وقاية لأعراضهم لضاعت اليتامى، وليس هذا من شأن المسلمين فإن على الصلاح والفساد دلائل ووراء المتصرفين عدالة القضاة وولاة الأمور يجازون المصلح بالثناء والحمد العلن ويجازون المفسد بالبعد بينه وبين اليتامى وبالتغريم بما أفاته بدون نظر.
و (مِن) في قوله: {من المصلح} تفيد معنى الفصل والتمييز وهو معنى أثبته لها ابن مالك في « التسهيل» قائلاً « وللفصْل» وقال في « الشرح»: « وأشرت بذكر الفصل إلى دخولها على ثاني المتضادين نحو {والله يعلم المفسد من المصلح} و {حتى يميز الخبيث من الطيب} [آل عمران: 179] اه وهو معنى رشيق لا غنى عن إثباته وقد أشار إليه في « الكشاف» عند قوله تعالى: {أتأتون الذكران من العالمين} في سورة الشعراء وجعله وجهاً ثانياً فقال: « أو أتأتون أنتم من بين من عداكم من العالمين الذكران يعني أنكم يا قوم لوط وحدكم مختصون بهذه الفاحشة» اهـ فجعل معنى (مِن) معنى من بين، وهو لا يتقوم إلاّ على إثبات معنى الفصل، وهو معنى متوسط بين معنى من الابتلاء ومعنى البدلية حين لا يصلح متعلق المجرور لمعنى الابتدائية المحض ولا لمعنى البدلية المحض فحدث معنى وسط، وبحث فيه ابن هشام في « مغني اللبيب» أن الفصل حاصل من فعل {يميز} ومن فعل {يعلم} واستظهر أن من للابتداء أو بمعنى عن.
وقوله: {إن الله عزيز حكيم} تذييل لما اقتضاه شرط (لو) من الإمكان وامتناع الوقوع أي إن الله عزيز غالب قادر فلو شاء لكلفكم العنت، لكنه حكيم يضع الأشياء مواضعها فلذا لم يكلفكموه. وفي جمع الصفتين إشارة إلى أن تصرفات الله تعالى تجري على ما تقتضيه صفاته كلها وبذلك تندفع إشكالات عظيمة فيما يعبَّر عنه بالقضاء والقدر.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
الإجابة فيه وأساسها أيضا إماطة الأذى عن الجماعة الإسلامية، فإنه إذا كان الإنفاق على الفقراء يحمي المجتمع من الفقر وأهواله وغوائله، فحماية اليتامى وكلاءتهم تحمي المجتمع من أن يكون منهم شريرون يبغضون المجتمع، ويجلبون له الويلات وهم في كنف المجتمع ورعايته. لقد سألوا عن اليتامى أيضمونهم إليهم ويأكلون معهم أم يدعونهم وأموالهم، وكيف يرعونها، وكيف يقومون عليها؟ سألوا هذه الأسئلة وما يشبهها، وقد قرؤوا قوله تعالى: {فأما اليتيم فلا تقهر} (الضحى9) وقوله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} (الأنعام 152) وقوله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا 10} (النساء) فكانوا من أمرهم في حيرة: إن قاربوهم وأموالهم يخشون على أنفسهم أن ينالوا إثما، وإن تركوها ضاعوا وهم في كفالة المجتمع كله، فأمر الله نبيه أن يقول لهم إن المطلوب إصلاحهم، فقال سبحانه: {قل إصلاح لهم خير} أي أن المطلوب إصلاحهم وإصلاح مالهم. وذكر إصلاحهم، لأنه المقصد الأول، ولأن إصلاح مالهم إصلاح لهم، وخير لهم ولكم، وإصلاح حالهم بالتهذيب والتربية والعطف والمحبة، والرأفة، وعدم تكليفهم ما يشق عليهم، لأن الغلطة معهم تربي فيهم الجفوة، وتنشأ عنه القسوة، فينشئون وهم يبغضون الناس، ويتربصون بهم الدوائر.
وإذا كان المطلوب هو الإصلاح بكل وسائله، وهو الغاية المطلوبة فإن كان الإصلاح بمخالطتهم وضمهم إليهم من غير أن تؤكل أموالهم، فالمخالطة سائغة جائزة،و لذا قال سبحانه: {و إن تخالطوهم فإخوانكم]} أي عند المخالطة استشعروا أنهم إخوانكم في الدين والإنسانية وأبناء إخوانكم، وعاملوهم بتلك الأخوة الرحيمة الرابطة، ولا تنظروا إليهم شذرا، وتؤكلوهم نزرا، لأنهم غرباء عن بيتكم، بل أشعروهم أنهم دائما في بيت أهلهم وذويهم، حتى لا تتربى نفوسهم على الجفوة فيبغضون الناس، ويتربصوا بهم الدوائر، ويكون ذلك في طبعهم إذا كبروا وبلغوا أشدهم..
ثم قال سبحانه: {و الله يعلم المصلح من المفسد} وهذا ترغيب في الإصلاح، وترهيب من الفساد، لأنه إذا كان يعلم المؤمن أن الله مطلع على ما يفعل، تجنب الشر، وآثر الخير، فتجنب إهمال اليتيم لكيلا يفسد، وعمد إلى تهذيبه لكي يكون عضوا عاملا في الجماعة يبني كما يبني غيره، وتقوم الجماعة على سواعد قوية يشترك الجميع في إقامتها. ثم إنه إذا علم الله المصلح فسيجزيه خير الجزاء، وما دام يعلم المفسد، فحسابه وعقابه بمقدار فساده.
ثم قال سبحانه: {و لو شاء الله لأعنتكم}... وأعنتكم: أوقعكم في المشقة، وذلك بأن يترككم تهملون أيتامكم، فيكونون إلبا عليكم في قابل حياتهم، وشوكة في جنب الدولة، ويكون منهم قطاع الطريق واللصوص والمنتهكون لحرمات المنازل، ويفتكون بمجتمعكم، وينزلون الأذى بكم، ولكن الله سبحانه كان من رحمته أن دعاكم إلى العناية باليتامى ليكونوا عاملين بدل أن يكونوا هادمين، وليكونوا قوة للجماعة بدل أن يكونوا قوة عليها هادمة في بنائها.
ذيل الله سبحانه الآيات بقوله تعالى: {إن الله عزيز حكيم} للإشارة إلى ثلاثة أمور:
أولها: أن الله سبحانه عزيز يعز من يشاء ويذل من يشاء، فمن أذل يتيما أذله الله، ومن أعزه أعزه الله سبحانه.
و ثانيها: أن الله سبحانه وتعالى هو الغالب على كل شيء، فهو الذي سيجزي القوامين على اليتامى بما يفعلون، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
و ثالثها: أن هذا التنظيم هو من حكمته ورحمته، فمن رحمته بخلقه أن حثهم على معاونة اليتيم وإصلاحه، والقيام على شئونه، وليكون التراحم بين الناس، وليضعف الشر فيهم، ويكثر الخير والإنتاج. والله سبحانه وتعالى بكل شيء عليم.
نعرف أن اليتامى قد لا يدخلون في دائرة المحتاجين لكن الله ينبهنا إلى أن المسألة في اليتيم ليست مسألة احتياج إلى الاقتيات، ولكنه في حاجة إلى أن نعوضه بالتكافل الإيماني عما فقده من الأب، وذلك يمنع عنه الحقد على الأطفال الذين لم يمت آباؤهم. وحين يجد اليتيم أن كل المؤمنين آباء له فيشعر بالتكافل الذي يعوّضه حنان الأب ولا يعاني من نظرة الأسى التي ينظر بها إلى أقرانه المتميزين عليه بوجوده آبائهم، وبذلك تخلع منه الحقد. وإياكم أن تفهموا أن الشكلية الاجتماعية تكفي الوصي في أن يكون مشرفاً على مال اليتيم دون حساب؛ لأن الله يعلم المفسد من المصلح. فلا يحاول أحد أن يقول أمام الناس: إنه قد فتح بيته لليتيم وإنه يرعى اليتيم بينما الأمر على غير ذلك؛ لأن الله يعلم المفسد من المصلح.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} كيف تكون علاقاتهم معهم، في ما يفعلونه في أموالهم وتربيتهم ورعايتهم؟ فقد كانوا يمثّلون مشكلةً أساسية في الضمير الديني للإنسان المسلم، فقد يتحرّج الكثيرون من التعامل معهم خوفاً من الإثم. فكان الجواب تحديداً للخطّ العام والإطار الشامل لذلك: {قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} فلا بُدَّ من دراسة كلّ أمورهم في نطاق الإصلاح لدنياهم وآخرتهم، لأنهم أمانة اللّه لدى المجتمع، فعلى أفراده أن يراعوا جانب الصلاح معهم، كما يراعون ذلك في جانب الأمانة العادية في ما يتعلّق بحفظها ورعايتها. وقد تكون القضية أبعد عمقاً وتأثيراً في جانب اليتامى، لأنَّ إصلاح أمر الإنسان الذي لا يملك تدبير شؤونه ورعايتها قد يدخل في تعقيدات كثيرة تحتاج إلى المزيد من الدقة والتأمّل والإيمان، لئلا يفسد الإنسان الأمر من حيث يريد إصلاحه، أو يفسد الأمر الصالح من حيث لا يريد إفساده.
ثُمَّ أكد القضية من جهة أخرى، فأثار أمامهم موضوع المخالطة لهم {وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ}، وأراد من المسلمين أن يخالطوهم من موقع الشعور بأنهم أخوة في الدِّين، كما يخالط الأخ أخاه في النسب من حيث احترامه له ورعايته لأموره، وحفظه لماله، على هدى قوله تعالى: {وَءَاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَلَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} [النساء: 2]. وأن لا ينظروا إليهم نظرة فوقية إشفاقية من خلال ضعفهم الطبيعي وحاجتهم الملحّة إليهم؛ فإنَّ ذلك يثقل على نفوسهم، ويهدّم معنوياتهم، ويُعقّد حياتهم، ويعطّل نموهم الطبيعي في الحياة. وربما كانت هذه الفقرة واردة في الإذن لهم في ما كانوا يتحرجون فيه من مخالطتهم في المأكل والملبس والمشرب ونحو ذلك، ورخصة لهم في ذلك إذا تحرّوا الصلاح بالتوفير على الأيتام.
وتختم الآية الجواب بتعميق الإحساس بقضية الممارسة الواعية لإصلاح أمر اليتامى؛ {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ}، وذلك بالإيحاء بأنَّ اللّه يراقب عمل الإنسان في داخل النفس وخارجها، ويعلم المفسد من المصلح في ما يقومان به من الإفساد والإصلاح، ويحاسب كلاً منهما على ما عمله من خير أو شر.
ثُمَّ أكّد عليهم بأنَّ اللّه يريد للنّاس من خلال تشريعاته أن يحقّق لهم الانسجام والراحة والطمأنينة، فتلك هي مشيئته في ما يريد للنّاس من حياة، {وَلَوْ شَآءَ اللّه لأَعْنَتَكُمْ} لأوقعهم في العنت، وهو المشقة. وفي ضوء ذلك، لا بُدَّ للإنسان من أن يفهم التشريع في كلّ ما يحلّله وما يحرّمه من أمور الحياة، حتى في الأمور التي يشعرون معها بالتعب والمعاناة، فإنَّ نتائج ذلك لا تبتعد عن مصالحهم الحقيقية.
وكانت خاتمة الآية {إِنَّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، باعتبار أنَّ عزته توحي بقوّة مشيئته، كما أنَّ حكمته توحي بارتباط التشريع بمصلحة الإنسان. وقد يستوحي الفقيه من قوله سبحانه: {قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} أنَّ التصرّف في أمر اليتيم، سواء [أكان] متعلقاً بماله [أم] بحياته الخاصة والعامة، لا بُدَّ أن تكون فيه مصلحة له، لأنَّ ذلك هو الذي يتبادر من قوله: {إِصْلاَحٌ لَّهُمْ}.