التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۗ وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡيَتَٰمَىٰۖ قُلۡ إِصۡلَاحٞ لَّهُمۡ خَيۡرٞۖ وَإِن تُخَالِطُوهُمۡ فَإِخۡوَٰنُكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ ٱلۡمُفۡسِدَ مِنَ ٱلۡمُصۡلِحِۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَأَعۡنَتَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (220)

219

أما السؤال الثالث والأخير الذي ورد في هاتين الآيتين فهو قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } .

أخرج أبو داود والحاكم والنسائي وغيرهم عن ابن عباس قال : لما نزل قوله - تعالى - { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } وقوله - تعالى - : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه . وشرابه من شرابه ، قفجعل يفضل له الشيء من طعامه وشرابه ، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد ، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه سولم فأنزل الله - تعالى - { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } فخلطوا طعامهم وشرابهم بشرابهم .

والمعنى : ويسألونك يا محمد عن القيام بأمر اليتامى أو التصرف في أموالهم أو عن أموالهم وكيف يكونوا معهم فقل لهم : إن المطلوب هو إصلاحهم بالتهذيب والتربية الرشيدة والمعاملة الحسنة ، وإصلاح أموالهم بالمحافظة عليها وعدم إنفاقها إلا في الوجوه المشروعة فهذا الإِصلاح المفيد لهم ولأموالهم خير من مجانبتهم ، وتركهم ، ولذا قال - تعالى - بعد ذلك : { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } أي : وإن تعاشروهم وتضموهم إليكم فاعتبروهم إخوانكم في العقيدة الإِنسانية ، وعاملوهم بمقتضى ما تفرضه الأخوة من تراحم وتعاطف ومساواة .

والجملة الكريمة معطوفة على ما قبلها . و " إصلاح " مبتدأ وسوغ الابتداء به مع أنه نركة وصفة بالجار والمجرور " لهم " و " خير " خبره ، وقوله : { فَإِخْوَانُكُمْ } الفاء واقعة في جواب الشرط ، وإخوانكم خبر لمبتدأ محذوف والتقدير فهم إخوانكم ، والجملة في محل جزم على أنها جواب الشرط .

وقوله : { والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح } وعد ووعيد ، وترغيب في الإِصلاح وترهيب من الإِفساد ، أي : والله يعلم المفسد لشئون هؤلاء اليتامى من المصلح لها ، كما أنه - سبحانه - لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وسيجازي كل إنسان على حسب عمله ، فاحذورا الإِفساد ولا تتحروا غير الإِصلاح .

ثم قال - تعالى - { وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ } العنت : الشدة والمشقة والتضييق . يقال : أعنته في كذا يعنته إعناتا ، إّا أجهده وألزمنه ما يشقع عليه .

أي : ولو شاء الله لضيق عليكم وأحرجكم بتحريم مخالطة هؤلاء اليتامى ، وبغير ذلك ما يشرع لكم ، ولكنه - سبحانه - وسع عليكم وخفف فأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن ، فاشكروه على ذلك .

ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : إن الله - تعالى - غالب على أمره لا يعجزه أمر من الأمور التي من جملتها إعناتكم قادر على أن يعز من أعز اليتامى ويذل من سذلهم ، حكيم في كل تصرفاته وأفعاله ، فلا يضع الأشياء إلا في مواضعها .

وقدق استدل العلماء بهذه الآية على جواز التصرف في أموال اليتامى على وجه الإصلاح ، وعلى أن للوالي أن يخالط اليتيم بنفيسه في المصاهرة والمشاركة وغير ذلك مما تقتضيه المصلحة .

وقد وردت أحاديث متعددة في رعاية اليتيم وإصلاح أحواله ومن ذلك ما رواه البخاري عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا ، وأشار بالسبابة والوسطى وفرق بينهما " .

وروى الطبراين عن أبي الدرداء . قال : " أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يشكو قسوة قلبه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أتحب أن يلين وتدرك حاجتك ؟ ارحم اليتيم ، وامسح رأسه ، وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك " .

وبذلك نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد اشتملتا على أفضل ألوان الإِصلاح للأفراد والجماعات في مطاعمهم ومشاربهم ونفقتهم وعلاقتهم بغيرهم ولا سيما اليتامى الذين فقدوا الأب الحاني ، والقلب الرحيم ، ومن شأن الأمة التي تعمل بهذا التوجيه السامي الحكيم أن تنال السعادة في دنياها . ورضاه الله - في أخراها .

ثم تحدثت السورة بعد ذلك في اثنتين وعشرين آية عن بعض أحكام وآداب الزواج والمعاشرة ، والإِيلاء والطلاق ، والعدة ، والنفقة ، والرضاعة ، والخطبة ، والمتعة ، وغير ذلك مما يتعلق بصيانة الأسرة وتقويتها ، وبنائها على أفضل الدعائم ، وأحكم الروابط ، إذ الأسرة هي اللبنة الأساسية في بناء المجتمع ، ومن مجموعها يتكون ، فإذا صلحت الوحدات والمكونات صلح البنيان ، وإذا تصدعت تصدع .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۗ وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡيَتَٰمَىٰۖ قُلۡ إِصۡلَاحٞ لَّهُمۡ خَيۡرٞۖ وَإِن تُخَالِطُوهُمۡ فَإِخۡوَٰنُكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ ٱلۡمُفۡسِدَ مِنَ ٱلۡمُصۡلِحِۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَأَعۡنَتَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (220)

215

( ويسألونك عن اليتامى ؟ قل : إصلاح لهم خير . وإن تخالطوهم فإخوانكم . والله يعلم المفسد من المصلح . ولو شاء الله لأعنتكم ، إن الله عزيز حكيم ) . .

إن التكافل الاجتماعي هو قاعدة المجتمع الإسلامي . والجماعة المسلمة مكلفة أن ترعى مصالح الضعفاء فيها . واليتامى بفقدهم آباءهم وهم صغار ضعاف أولى برعاية الجماعة وحمايتها . رعايتها لنفوسهم وحمايتها لأموالهم . ولقد كان بعض الأوصياء يخلطون طعام اليتامى بطعامهم . وأموالهم بأموالهم للتجارة فيها جميعا ؛ وكان الغبن يقع أحيانا على اليتامى . فنزلت الآيات في التخويف من أكل أموال الأيتام . عندئذ تحرج الأتقياء حتى عزلوا طعام اليتامى من طعامهم . فكان الرجل يكون في حجره اليتيم . يقدم له الطعام من ماله . فإذا فضل منه شيء بقي له حتى يعاود أكله أو يفسد فيطرح ! وهذا تشدد ليس من طبيعة الإسلام . فوق ما فيه من الغرم أحيانا على اليتيم . فعاد القرآن يرد المسلمين إلى الاعتدال واليسر في تناول الأمور ؛ وإلى تحري خير اليتيم والتصرف في حدود مصلحته . فالإصلاح لليتامى خير من اعتزالهم . والمخالطة لا حرج فيها إذا حققت الخير لليتيم . فاليتامى أخوان للأوصياء . كلهم أخوة في الإسلام . أعضاء في الأسرة المسلمة الكبيرة . والله يعلم المفسد من المصلح ، فليس المعول عليه هو ظاهر العمل وشكله . ولكن نيته وثمرته . والله لا يريد إحراج المسلمين وإعناتهم والمشقة عليهم فيما يكلفهم . ولو شاء الله لكلفهم هذا العنت . ولكنه لا يريد . وهو العزيز الحكيم . فهو قادر على ما يريد . ولكنه حكيم لا يريد إلا الخير واليسر والصلاح .

وهكذا يربط الأمر كله بالله ؛ ويشده إلى المحور الأصيل التي تدور عليه العقيدة ، وتدور عليه الحياة . . وهذه هي ميزة التشريع الذي يقوم على العقيدة . فضمانة التنفيذ للتشريع لا تجيء أبدا من الخارج ، إن لم تنبثق وتتعمق في أغوار الضمير . .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۗ وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡيَتَٰمَىٰۖ قُلۡ إِصۡلَاحٞ لَّهُمۡ خَيۡرٞۖ وَإِن تُخَالِطُوهُمۡ فَإِخۡوَٰنُكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ ٱلۡمُفۡسِدَ مِنَ ٱلۡمُصۡلِحِۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَأَعۡنَتَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (220)

{ في الدنيا والآخرة } في أمر الدارين فتأخذون بالأصلح والأنفع فيهما ، وتجتنبون عما يضركم ولا ينفعكم ، أو يضركم أكثر مما ينفعكم . { ويسألونك عن اليتامى } لما نزلت { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } الآية اعتزلوا اليتامى ومخالطتهم والاهتمام بأمرهم فشق ذلك عليهم ، فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت { قل إصلاح لهم خير } أي مداخلتهم لإصلاحهم ، أو إصلاح أموالهم خير من مجانبتهم . { وإن تخالطوهم فإخوانكم } حث على المخالطة ، أي أنهم إخوانكم في الدين ومن حق الأخ أن يخالط الأخ . وقيل المراد بالمخالطة المصاهرة . { والله يعلم المفسد من المصلح } وعيد ووعد لمن خالطهم لإفساد وإصلاح ، أي يعلم أمره فيجازيه عليه . { ولو شاء الله لأعنتكم } أي ولو شاء الله إعناتكم لأعنتكم ، أي كلفكم ما يشق عليكم ، من العنت وهي المشقة ولم يجوز لكم مداخلتهم . { إن الله عزيز } غالب يقدر على الإعنات . { حكيم } يحكم ما تقتضيه الحكمة وتتسع له الطاقة .