ثم فصل - سبحانه - هذا الشىء العظيم تفصيلاً يزيد فى وجل القلوب فقال : { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ . . } .
والضمير فى " ترونها " ، يعود إلى الزلزلة لأنها هى المتحدث عنها والظرف " يوم " منصوب بالفعل تذهل ، والرؤية بصرية لأنهم يرون ذلك بأعينهم .
والذهول : الذهاب عن الأمر والانشغال عنه مع دهشة وحيرة وخوف ، ومنه قول عبد الله ابن رواحة - رضى الله عنه - :
ضربا يُزيل الهامَ عن مَقِيله . . . ويُذْهِل الخليلَ عن خليله
أى : أن هذه الزلزلة من مظاهر شدتها ورهبتها ، أنكم ترون الأم بسببها تنسى وتترك وليدها الذى ألقمته ثديها . وكأنها لا تراه ولا تحس به من شدة الفزع .
قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : لم قيل { مُرْضِعَةٍ } دون مرضع ؟ قلت : المرضعة التى هى فى حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبى ، والمرضع : التى من شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع فى حال وصفها به ، فقيل : مرضعة ، ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه ، وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة { عَمَّآ أَرْضَعَتْ } عن إرضاعها : أو عن الذى أرضعته وهو الطفل .
وقوله - سبحانه - : { وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا } بيان لحالة ثانية تدل على شدة الزلزلة وعلى عنف آثارها .
أى : وترونها - أيضاً - تجعل كل حاملتضع حملها قبل تمامه من شدة الفزع .
ثم بين - سبحانه - حالة ثالثة لللآثار التى تدل على شدة هذه الزلزلة فقال : { وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ } .
أى : وترى - أيها المخاطب - الناس فى هذا الوقت العصيب ، هيئتهم كهيئة السكارى من قوة الرعب والفزع . وما هم على الحقيقة بسكارى ، لأنهم لم يشربوا ما يسكرهم ولكن عذاب الله شديد . أى : ولكن شدة عذابه - سبحانه - هى التى جعلتهم بهذه الحالة التى تشبه حالة السكارى فى الذهول والاضطراب .
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذا المعنى فقال : " وتراهم سكارى على التشبيه ، وما هم بسكارى على التحقيق ، ولكن ما رهقهم من خوف عذاب الله ، هو الذى أذهب عقولهم ، وطير تمييزهم ، وردهم فى نحو حال من يذهب السكر بعقله وتمييزه . . " .
وقد علق صاحب الانتصاف على عبارة صاحب الكشاف هذه فقال : قال الأحمد : والعلماء يقولون : إن من أدلة المجاز صدق نقيضه ، كقولك : زيد حمار ، إذا وصفته بالبلادة ، ثم يصدق أن تقول : وما هو بحمار ، فتنفى عنه الحقيقة ، فكذلك الآية ، بعد أن أثبت السكر المجازى نفى الحقيقة أبلغ نفى مؤكد بالباء ، والسر فى تأكيده : التنبيه على أن هذا السكر الذى هو بهم فى تلك الحالة ليس من المعهود فى شىء ، وإنما هو أمر لم يعهدوا مثله من قبل . والاستدراك بقوله { ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ } راجع إلى قوله : { وَمَا هُم بسكارى } وكأنه تعليل لإثبات السكر المجازى ، فكأنهى قيل : إذا لم يكونوا سكارى من الخرم فما هذا السكر الغريب وما سببه ؟ فقال : شدة عذاب الله - تعالى - " .
هذا ، وقد اختلف العلماء فى وقت هذه الزلزلة المذكورة هنا ، فمنهم من يرى أنها تكون فى آخر عمر الدنيا ، وأول أحوال الساعة ومنهم من يرى أنها تكون يوم القيامة ، بعد خروج الناس من قبروهم للحساب .
وقد وفى هذه المسألة حقها الإمام ابن كثير فقال ما ملخصه : " قال قائلون : هذه الزلزلة كائنة فى آخر عمر الدنيا . وأول أحوال الساعة .
وقال آخرون : بل ذلك هول وفزع وزلزال وبلبال ، كائن يوم القيامة فى العرصات ، بعد القيام من القبور .
ثم ساق - رحمه الله - سبعة أحاديث استدل بها أصحاب الرأى الثانى .
ومن هذه الأحاديث ما رواه الشيخان عن أبى سعيد الخدرى قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يقول الله - تعالى - يوم القيامة : يا آدم . فيقول : لبيك ربنا وسعديك . فيُنَادَى بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار ، قال : يا رب ، وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف - أراه قال - تسعمائة وتسعة وتسعين ، فحينئذ تضع الحامل حملها ويشيب الوليد ، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد " . فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم . فقال - صلى الله عليه وسلم - : " مِن يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين ومنكم واحد ، ثم أنتم فى الناس كالشعرة البيضاء فى الثور الأسود ، وإنى لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة - فكبرنا - ثم قال : ثلث أهل الجنة - فكبرنا - ثم قال : شطر أهل الجنة فكبرنا " " .
وعلى الرأى الأول تكون الزلزلة بمعناها الحقيقى ، بأن تتزلزل الأرض وتضطرب ، ويعقبها طلوع الشمس من مغربها ، ثم تقوم الساعة .
وعلى الرأى الثانى تكون الزلزلة المقصود بها شدة الخوف والفزع ، كما فى قوله - تعالى - فى شأن المؤمنين بعد أن أحاطت بهم جيوش الأحزاب : { هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً } فالمقصود : أصيبوا بالفزع والخوف ، وليس المقصود أن الأرض تحركت واضطربت من تحتهم .
ثم يأخذ في التفصيل . فإذا هو أشد رهبة من التهويل . . إذا هو مشهد حافل بكل مرضعة ذاهلة عما أرضعت تنظر ولا ترى ، وتتحرك ولا تعي . وبكل حامل تسقط حملها للهول المروع ينتابها . . وبالناس سكارى وما هم بسكارى ، يتبدى السكر في نظراتهم الذاهلة ، وفي خطواتهم المترنحة . . مشهد مزدحم بذلك الحشد المتماوج ، تكاد العين تبصره لحظة التلاوة ، بينما الخيال يتملاه . والهول الشاخص يذهله ، فلا يكاد يبلغ أقصاه . . وهو هول حي لا يقاس بالحجم والضخامة ، ولكن يقاس بوقعه في النفوس الآدمية : في المرضعات الذاهلات عما أرضعن - وما تذهل المرضعة عن طفلها وفي فمه ثديها إلا للهول الذي لا يدع بقية من وعي - والحوامل الملقيات حملهن ، وبالناس سكارى وما هم بسكارى : ( ولكن عذاب الله شديد ) . .
{ يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت } تصوير لهولها والضمير لل{ زلزلة } ، و { يوم } منصوب ب { تذهل } ، وقرئ { تذهل } و { تذهل } مجهولا ومعروفا أي تذهلها الزلزلة ، والذهول الذهاب عن الأمر بدهشة ، والمقصود الدلالة على أن هولها بحيث إذا دهشت التي ألقمت الرضيع ثديها نزعته من فيه وذهلت عنه ، و { ما } موصولة أو مصدرية { وتضع كل ذات حمل حملها } جنينها . { وترى الناس سكارى } كأنهم سكارى . { وما هم بسكارى } على الحقيقة . { ولكن عذاب الله شديد } فأرهقهم هوله بحيث طير عقولهم وأذهب تمييزهم ، وقرئ { ترى } من أريتك قائما أو رؤيت قائما بنصب الناس ورفعه على أنه نائب مناب الفاعل ، وتأنيثه على تأويل الجماعة وإفراده بعد جمعه لأن الزلزلة يراها الجميع ، وأثر السكر إنما يراه كل أحد على غيره وقرأ حمزة والكسائي " سكرى " كعطشى إجراء للسكر مجرى العلل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.