أما السؤال الثالث والأخير الذي ورد في هاتين الآيتين فهو قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } .
أخرج أبو داود والحاكم والنسائي وغيرهم عن ابن عباس قال : لما نزل قوله - تعالى - { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } وقوله - تعالى - : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه . وشرابه من شرابه ، قفجعل يفضل له الشيء من طعامه وشرابه ، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد ، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه سولم فأنزل الله - تعالى - { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } فخلطوا طعامهم وشرابهم بشرابهم .
والمعنى : ويسألونك يا محمد عن القيام بأمر اليتامى أو التصرف في أموالهم أو عن أموالهم وكيف يكونوا معهم فقل لهم : إن المطلوب هو إصلاحهم بالتهذيب والتربية الرشيدة والمعاملة الحسنة ، وإصلاح أموالهم بالمحافظة عليها وعدم إنفاقها إلا في الوجوه المشروعة فهذا الإِصلاح المفيد لهم ولأموالهم خير من مجانبتهم ، وتركهم ، ولذا قال - تعالى - بعد ذلك : { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } أي : وإن تعاشروهم وتضموهم إليكم فاعتبروهم إخوانكم في العقيدة الإِنسانية ، وعاملوهم بمقتضى ما تفرضه الأخوة من تراحم وتعاطف ومساواة .
والجملة الكريمة معطوفة على ما قبلها . و " إصلاح " مبتدأ وسوغ الابتداء به مع أنه نركة وصفة بالجار والمجرور " لهم " و " خير " خبره ، وقوله : { فَإِخْوَانُكُمْ } الفاء واقعة في جواب الشرط ، وإخوانكم خبر لمبتدأ محذوف والتقدير فهم إخوانكم ، والجملة في محل جزم على أنها جواب الشرط .
وقوله : { والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح } وعد ووعيد ، وترغيب في الإِصلاح وترهيب من الإِفساد ، أي : والله يعلم المفسد لشئون هؤلاء اليتامى من المصلح لها ، كما أنه - سبحانه - لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وسيجازي كل إنسان على حسب عمله ، فاحذورا الإِفساد ولا تتحروا غير الإِصلاح .
ثم قال - تعالى - { وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ } العنت : الشدة والمشقة والتضييق . يقال : أعنته في كذا يعنته إعناتا ، إّا أجهده وألزمنه ما يشقع عليه .
أي : ولو شاء الله لضيق عليكم وأحرجكم بتحريم مخالطة هؤلاء اليتامى ، وبغير ذلك ما يشرع لكم ، ولكنه - سبحانه - وسع عليكم وخفف فأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن ، فاشكروه على ذلك .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : إن الله - تعالى - غالب على أمره لا يعجزه أمر من الأمور التي من جملتها إعناتكم قادر على أن يعز من أعز اليتامى ويذل من سذلهم ، حكيم في كل تصرفاته وأفعاله ، فلا يضع الأشياء إلا في مواضعها .
وقدق استدل العلماء بهذه الآية على جواز التصرف في أموال اليتامى على وجه الإصلاح ، وعلى أن للوالي أن يخالط اليتيم بنفيسه في المصاهرة والمشاركة وغير ذلك مما تقتضيه المصلحة .
وقد وردت أحاديث متعددة في رعاية اليتيم وإصلاح أحواله ومن ذلك ما رواه البخاري عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا ، وأشار بالسبابة والوسطى وفرق بينهما " .
وروى الطبراين عن أبي الدرداء . قال : " أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يشكو قسوة قلبه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أتحب أن يلين وتدرك حاجتك ؟ ارحم اليتيم ، وامسح رأسه ، وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك " .
وبذلك نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد اشتملتا على أفضل ألوان الإِصلاح للأفراد والجماعات في مطاعمهم ومشاربهم ونفقتهم وعلاقتهم بغيرهم ولا سيما اليتامى الذين فقدوا الأب الحاني ، والقلب الرحيم ، ومن شأن الأمة التي تعمل بهذا التوجيه السامي الحكيم أن تنال السعادة في دنياها . ورضاه الله - في أخراها .
ثم تحدثت السورة بعد ذلك في اثنتين وعشرين آية عن بعض أحكام وآداب الزواج والمعاشرة ، والإِيلاء والطلاق ، والعدة ، والنفقة ، والرضاعة ، والخطبة ، والمتعة ، وغير ذلك مما يتعلق بصيانة الأسرة وتقويتها ، وبنائها على أفضل الدعائم ، وأحكم الروابط ، إذ الأسرة هي اللبنة الأساسية في بناء المجتمع ، ومن مجموعها يتكون ، فإذا صلحت الوحدات والمكونات صلح البنيان ، وإذا تصدعت تصدع .
( ويسألونك عن اليتامى ؟ قل : إصلاح لهم خير . وإن تخالطوهم فإخوانكم . والله يعلم المفسد من المصلح . ولو شاء الله لأعنتكم ، إن الله عزيز حكيم ) . .
إن التكافل الاجتماعي هو قاعدة المجتمع الإسلامي . والجماعة المسلمة مكلفة أن ترعى مصالح الضعفاء فيها . واليتامى بفقدهم آباءهم وهم صغار ضعاف أولى برعاية الجماعة وحمايتها . رعايتها لنفوسهم وحمايتها لأموالهم . ولقد كان بعض الأوصياء يخلطون طعام اليتامى بطعامهم . وأموالهم بأموالهم للتجارة فيها جميعا ؛ وكان الغبن يقع أحيانا على اليتامى . فنزلت الآيات في التخويف من أكل أموال الأيتام . عندئذ تحرج الأتقياء حتى عزلوا طعام اليتامى من طعامهم . فكان الرجل يكون في حجره اليتيم . يقدم له الطعام من ماله . فإذا فضل منه شيء بقي له حتى يعاود أكله أو يفسد فيطرح ! وهذا تشدد ليس من طبيعة الإسلام . فوق ما فيه من الغرم أحيانا على اليتيم . فعاد القرآن يرد المسلمين إلى الاعتدال واليسر في تناول الأمور ؛ وإلى تحري خير اليتيم والتصرف في حدود مصلحته . فالإصلاح لليتامى خير من اعتزالهم . والمخالطة لا حرج فيها إذا حققت الخير لليتيم . فاليتامى أخوان للأوصياء . كلهم أخوة في الإسلام . أعضاء في الأسرة المسلمة الكبيرة . والله يعلم المفسد من المصلح ، فليس المعول عليه هو ظاهر العمل وشكله . ولكن نيته وثمرته . والله لا يريد إحراج المسلمين وإعناتهم والمشقة عليهم فيما يكلفهم . ولو شاء الله لكلفهم هذا العنت . ولكنه لا يريد . وهو العزيز الحكيم . فهو قادر على ما يريد . ولكنه حكيم لا يريد إلا الخير واليسر والصلاح .
وهكذا يربط الأمر كله بالله ؛ ويشده إلى المحور الأصيل التي تدور عليه العقيدة ، وتدور عليه الحياة . . وهذه هي ميزة التشريع الذي يقوم على العقيدة . فضمانة التنفيذ للتشريع لا تجيء أبدا من الخارج ، إن لم تنبثق وتتعمق في أغوار الضمير . .
قال ابن جرير : حدثنا سفيان بن وَكِيع ، حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : { وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ الإسراء : 34 ] و { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } [ النساء : 10 ] انطلق من كان عنده يتيم فعزَل طعامه من طعامه ، وشرابه من شرابه ، فجعل يفضُل له الشيء من طعامه فيُحبَس له حتى يأكله أو يفسد ، فاشتد ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم{[3802]} .
وهكذا رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن أبي حاتم ، وابن مَرْدويه ، والحاكم في مستدركه من طرق ، عن عطاء بن السائب ، به{[3803]} . وكذا رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس . وكذا رواه السدي ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود - بمثله . وهكذا ذكر{[3804]} غير واحد في سبب نزول هذه الآية كمجاهد ، وعطاء ، والشعبي ، وابن أبي ليلى ، وقتادة ، وغير واحد من السلف والخلف .
قال وَكِيع بن الجراح : حدثنا هشام الدَّسْتَوائي{[3805]} عن حماد ، عن إبراهيم قال : قالت عائشة : إني لأكره أن يكون مال اليتيم عندي عُرّة{[3806]} حتى أخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي .
فقوله : { قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ } أي : على حدَة { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } أي : وإن خلطتم طعامكم بطعامهم وشرابكم بشرابهم ، فلا بأس عليكم ؛ لأنهم إخوانكم في الدين ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ } أي : يعلم مَنْ قَصْدُه ونيته الإفسادَ أو الإصلاح .
وقوله : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : ولو شاء لضيّق عليكم وأحرجَكم{[3807]} ولكنه وَسَّع عليكم ، وخفَّف عنكم ، وأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن ، كما قال : { وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ الأنعام : 152 ] ، ، بل قد جوز الأكل منه للفقير بالمعروف ، إما بشرط ضمان البدل لمن أيسر ، أو مجانًا كما سيأتي بيانه في سورة النساء ، إن شاء الله ، وبه الثقة .
{ في الدنيا والآخرة } في أمر الدارين فتأخذون بالأصلح والأنفع فيهما ، وتجتنبون عما يضركم ولا ينفعكم ، أو يضركم أكثر مما ينفعكم . { ويسألونك عن اليتامى } لما نزلت { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } الآية اعتزلوا اليتامى ومخالطتهم والاهتمام بأمرهم فشق ذلك عليهم ، فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت { قل إصلاح لهم خير } أي مداخلتهم لإصلاحهم ، أو إصلاح أموالهم خير من مجانبتهم . { وإن تخالطوهم فإخوانكم } حث على المخالطة ، أي أنهم إخوانكم في الدين ومن حق الأخ أن يخالط الأخ . وقيل المراد بالمخالطة المصاهرة . { والله يعلم المفسد من المصلح } وعيد ووعد لمن خالطهم لإفساد وإصلاح ، أي يعلم أمره فيجازيه عليه . { ولو شاء الله لأعنتكم } أي ولو شاء الله إعناتكم لأعنتكم ، أي كلفكم ما يشق عليكم ، من العنت وهي المشقة ولم يجوز لكم مداخلتهم . { إن الله عزيز } غالب يقدر على الإعنات . { حكيم } يحكم ما تقتضيه الحكمة وتتسع له الطاقة .
قوله { في الدنيا والآخرة } يتعلق بتتفكرون لا بيبين ، لأن البيان واقع في الدنيا فقط . والمعنى ليحصل لكم فكر أي علم في شؤون الدنيا والآخرة ، وما سوى هذا تكلف .
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فإخوانكم والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
عطف تبيين معاملة اليتامى على تبيين الإنفاق لتعلق الأمرين بحكم تحريم الميسر أو التنزيه عنه فإن الميسر كان باباً واسعاً للإنفاق على المحاويج وعلى اليتامى ، وقد ذكر لبيد إطعام اليتامى بعد ذكر إطعام لحوم جزور الميسر فقال :
ويُكَلِّلُون إذَا الرياحُ تَنَاوَحَتْ *** خُلْجاً تَمُدُّ شوَارعا أَيْتَامُها
أي تمد أيدياً كالرماح الشوارع في اليبس أي قلة اللحم على عظام الأيدي فكان تحريم الميسر مما يثير سؤالا عن سد هذا الباب على اليتامى وفيه صلاح عظيم لهم وكان ذلك السؤال مناسبة حسنة للتخلص إلى الوصاية باليتامى وذكر مجمل أحوالهم في جملة إصلاح الأحوال التي كانوا عليها قبل الإسلام ، فكان هذا وجه عطف هذه الجملة على التي قبلها بواو العطف لاتصال بعض هذه الأسئلة ببعض كما تقدم في قوله : { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو } .
وقد روي أن السائل عن اليتامى عبد الله بن رواحة ، وأخرج أبو داود عن ابن عباس لما نزل قول الله عز وجل : { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } [ الإسراء : 34 ] { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } [ النساء : 10 ] الآيات انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم فذكر ذلك لرسول الله فأنزل الله { ويسألونك عن اليتامى } الآية مع أن سورة النساء نزلت بعد سورة البقرة ، فلعل ذكر آية النساء وهم من الراوي وإنما أراد أنه لما نزلت الآيات المحذرة من مال اليتيم مثل آية سورة الإسراء ( 34 ) { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } ففي تفسير الطبري بسنده إلى ابن عباس : لما نزلت : { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } عزلوا أموال اليتامى فذكروا ذلك لرسول الله فنزلت { وإن تخالطوهم } أو أن مراد الراوي لما سمع الناس آية سورة النساء تجنبوا النظر في اليتامى فذكروا بآية البقرة إن كان السائل عن آية البقرة غير المتجنب حين نزول آية النساء وأياً ما كان فقد ثبت أن النظر في مصالح الأيتام من أهم مقاصد الشريعة في حفظ النظام فقد كان العرب في الجاهلية كسائر الأمم في حال البساطة يكون المال بيد كبير العائلة فقلما تجد لصغير مالاً ، وكان جمهور أموالهم حاصلاً من اكتسابهم لقلة أهل الثروة فيهم ، فكان جمهور العرب إما زارعاً أو غارساً أو مغيراً أو صائداً ، وكل هذه الأعمال تنقطع بموت مباشريها ، فإذا مات كبير العائلة وترك أبناء صغاراً لم يستطيعوا أن يكتسبوا كما اكتسب آباؤهم إلا أبناء أهل الثروة ، والثروة عندهم هي الأنعام والحوائط إذ لم يكن العرب أهل ذهب وفضة وإن الأنعام لا تصلح إلا بمن يرعاها فإنها عروض زائلة وإن الغروس كذلك ولم يكن في ثروة العرب ملك الأرض إذ الأرض لم تكن مفيدة إلا للعامل فيها ، على أن من يتولى أمر اليتيم يستضعفه ويستحل ماله فينتفع به لنفسه ، وكرم العربي وسرفه وشربه وميسره لا تغادر له مالاً وإن كثر . وتغلُّب ذلك على مِلاك شهوات أصحابه فلا يستطيعون تركه يدفعهم إلى تطلب إرضاء نهمتهم بكل وسيلة فلا جرم أن يصبح اليتيم بينهم فقيراً مدحوراً ، وزد إلى ذلك أن أهل الجاهلية قد تأصل فيهم الكبر على الضعيف وتوقير القوى فلما عدم اليتيم ناصره ومن يذب عند كان بحيث يعرض للمهانة والإضاعة ويتخذ كالعبد لوليه ، من أجل ذلك كله صار وصف اليتيم عندهم ملازماً لمعنى الخصاصة والإهمال والذل ، وبه يظهر معنى امتنان الله تعالى على نبيه أن حفظه في حال اليتم مما ينال اليتامى في قوله : { ألم يجدك يتيماً فآوى } [ الضحى : 6 ] . فلما جاء الإسلام أمرَهم بإصلاح حال اليتامى في أموالهم وسائر أحوالهم حتى قيل إن أولياء اليتامى تركوا التصرف في أموالهم واعتزلوا اليتامى ومخالطتهم فنزلت هذه الآية .
والإصلاح جعل الشيء صالحاً أي ذا صلاح والصلاح ضد الفساد ، وهو كون شيء بحيث يحصل به منتهى ما يطلب لأجله ، فصلاح الرجل صدور الأفعال والأقوال الحسنة منه ، وصلاح الثمرة كونها بحيث ينتفع بأكلها دون ضر ، وصلاح المال نماؤه المقصود منه ، وصلاح الحال كونها بحيث تترتب عليها الآثار الحسنة .
و { إصلاح لهم } مبتدأ ووصفه ، واللام للتعليل أو الاختصاص . ووصف الإصلاح ب { لهم } دون الإضافة إذ لم يقل إصلاحهم لئلا يتوهم قصره على إصلاح ذواتهم لأن أصل إضافة المصدر أن تكون لذات الفاعل أو ذات المفعول فلا تكون على معنى الحرف ، ولأن الإضافة لما كانت من طرق التعريف كانت ظاهرة في عهد المضاف فعدل عنها لئلا يتوهم أن المراد إصلاح معين كما عدل عنها في قوله : { ايتوني بأخ لكم من أبيكم } [ يوسف : 59 ] ولم يقل بأخيكم ليوهمهم أنه لم يرد أخاً معهوداً عنده ، والمقصود هنا جميع الإصلاح لا خصوص إصلاح ذواتهم فيشمل إصلاح ذواتهم وهو في الدرجة الأولى ويتضمن ذلك إصلاح عقائدهم وأخلاقهم بالتعليم الصحيح والآداب الإسلامية ومعرفة أحوال العالم ، ويتضمن إصلاح أمزجتهم بالمحافظة عليهم من المهلكات والأخطار والأمراض وبمداواتهم ، ودفع الأضرار عنهم بكفاية مؤنهم من الطعام واللباس والمسكن بحسب معتاد أمثالهم دون تقتير ولا سرف ، ويشمل إصلاح أموالهم بتنميتها وتعهدها وحفظها . ولقد أبدع هذا التعبير ، فإنه لو قيل إصلاحهم لتوهم قصره على ذواتهم فيحتاج في دلالة الآية على إصلاح الأموال إلى القياس ولو قيل قل تدبيرهم خير لتبادر إلى تدبير المال فاحتيج في دلالتها على إصلاح ذواتهم إلى فحوى الخطاب .
و { خير } في الآية يحتمل أن يكون أفعل تفضيل إن كان خطاباً للذين حملهم الخوف من أكل أموال اليتامى على اعتزال أمورهم وترك التصرف في أموالهم بعلة الخوف من سوء التصرف فيها كما يقال :
إن السلامة من سلمى وجارتها *** أن لا تحل على حالٍ بواديها
فالمعنى إصلاح أمورهم خير من إهمالهم أي أفضل ثواباً وأبعد عن العقاب ، أي خير في حصول غرضكم المقصود من إهمالهم فإنه ينجر منه إثم الإضاعة ولا يحصل فيه ثواب السعي والنصيحة ، ويحتمل أن يكون صفة مقابل الشر إن كان خطاباً لتغيير الأحوال التي كانوا عليها قبل الإسلام ، فالمعنى إصلاحهم في أموالهم وأبدانهم وترك إضاعتهم في الأمرين كما تقدم خير ، وهو تعريض بأن ما كانوا عليه في معاملتهم ليس بخير بل هو شر ، فيكون مراداً من الآية على هذا : التشريع والتعريض إذ التعريض يجامع المعنى الأصلي ، لأنه من باب الكناية والكناية تقع مع إرادة المعنى الأصلي .
وجملة { وإن تخالطوهم فإخوانكم } عطف على جملة { إصلاح لهم خير } والمخالطة مفاعلة من الخلط وهو جمع الأشياء جمعاً يتعذر معه تمييز بعضها عن بعض فيما تراد له ، فمنه خلط الماء بالماء والقمح والشعير وخلط الناس ومنه اختلط الحابل بالنابل ، وهو هنا مجاز في شدة الملابسة والمصاحبة والمراد بذلك ما زاد على إصلاح المال والتربية عن بعد فيشمل المصاحبة والمشاركة والكفالة والمصاهرة إذ الكل من أنواع المخالطة .
وقوله { فإخوانكم } جواب الشرط ولذلك قرن بالفاء لأن الجملة الاسمية غير صالحة لمباشرة أداة الشرط ولذلك ف ( إخوانكم ) خبر مبتدأ محذوف تقديره فهم إخوانكم ، وهو على معنى التشبيه البليغ ، والمراد بالأخوة أخوة الإسلام التي تقتضي المشاورة والرفق والنصح . ونقل الفخر عن الفراء « لو نصبته كان صواباً بتقدير فإخوانكم تخالطون » وهو تقدير سمج ، ووجود الفاء في الجواب ينادي على أن الجواب جملة اسمية محضة ، وبعد فمحمل كلام الفراء على إرادة جواز تركيب مثله في الكلام العربي لا على أن يقرأ به ، ولعل الفراء كان جريئاً على إساغة قراءة القرآن بما يسوغ في الكلام العربي دون اشتراط صحة الرواية .
والمقصود من هذه الجملة الحث على مخالطتهم لأنه لما جعلهم إخواناً كان من المتأكد مخالطتهم والوصاية بهم في هاته المخالطة ، لأنهم لما كانوا إخواناً وجب بذل النصح لهم كما يبذل للأخ وفي الحديث " حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " ويتضمن ذلك التعريض بإبطال ما كانوا عليه من احتقار اليتامى والترفع عن مخالطتهم ومصاهرتهم . قال تعالى : { وترغبون أن تنكحوهن } [ النساء : 127 ] أي عن أن تنكحوهن لأن الأخوة تتضمن معنى المساواة فيبطل الترفع .
وقوله : { والله يعلم المفسد من المصلح } وعد ووعيد ، لأن المقصود من الأخبار بعلم الله الإخبار بترتب آثار العلم عليه ، وفي هذا إشارة إلى أن ما فعله بعض المسلمين من تجنب التصرف في أموال اليتامى تنزه لا طائل تحته لأن الله يعلم المتصرف بصلاح والمتصرف بغير صلاح وفيه أيضاً ترضية لولاة الأيتام فيما ينالهم من كراهية بعض محاجيرهم وضربهم على أيديهم في التصرف المالي وما يلاقون في ذلك من الخصاصة ، فإن المقصد الأعظم هو إرضاء الله تعالى لا إرضاء المخلوقات ، وكان المسلمون يومئذٍ لا يهتمون إلاّ بمرضاة الله تعالى وكانوا يحاسبون أنفسهم على مقاصدهم ، وفي هذه إشارة إلى أنه ليس من المصلحة أن يعرض الناس عن النظر في أموال اليتامى اتقاء لألسنة السوء ، وتهمة الظن بالإثم فلو تمالأ الناس على ذلك وقاية لأعراضهم لضاعت اليتامى ، وليس هذا من شأن المسلمين فإن على الصلاح والفساد دلائل ووراء المتصرفين عدالة القضاة وولاة الأمور يجازون المصلح بالثناء والحمد العلن ويجازون المفسد بالبعد بينه وبين اليتامى وبالتغريم بما أفاته بدون نظر .
و ( مِن ) في قوله : { من المصلح } تفيد معنى الفصل والتمييز وهو معنى أثبته لها ابن مالك في « التسهيل » قائلاً « وللفصْل » وقال في « الشرح » : « وأشرت بذكر الفصل إلى دخولها على ثاني المتضادين نحو { والله يعلم المفسد من المصلح } و { حتى يميز الخبيث من الطيب } [ آل عمران : 179 ] اه وهو معنى رشيق لا غنى عن إثباته وقد أشار إليه في « الكشاف » عند قوله تعالى : { أتأتون الذكران من العالمين } في سورة الشعراء وجعله وجهاً ثانياً فقال : « أو أتأتون أنتم من بين من عداكم من العالمين الذكران يعني أنكم يا قوم لوط وحدكم مختصون بهذه الفاحشة » اهـ فجعل معنى ( مِن ) معنى من بين ، وهو لا يتقوم إلاّ على إثبات معنى الفصل ، وهو معنى متوسط بين معنى من الابتلاء ومعنى البدلية حين لا يصلح متعلق المجرور لمعنى الابتدائية المحض ولا لمعنى البدلية المحض فحدث معنى وسط ، وبحث فيه ابن هشام في « مغني اللبيب » أن الفصل حاصل من فعل { يميز } ومن فعل { يعلم } واستظهر أن من للابتداء أو بمعنى عن .
وقوله : { ولو شاء الله لأعنتكم } تذييل لما دل عليه قوله : { قل إصلاح لهم خير } على ما تقدم . والعنت : المشقة والصعوبة الشديدة أي ولو شاء الله لكلفكم ما فيه العنت وهو أن يحرم عليكم مخالطة اليتامى فتجدوا ذلك شاقاً عليكم وعنتاً ، لأن تجنب المرء مخالطة أقاربه من إخوة وأبناء عم ورؤيته إياهم مضيعة أمورهم لا يحفل بهم أحد يشق على الناس في الجبلة وهم وإن فعلوا ذلك حذراً وتنزهاً فليس كل ما يبتدىء المرء فعله يستطيع الدوام عليه .
وحذف مفعول المشيئة لإغناء ما بعده عنه ، وهذا حذف شائع في مفعول المشيئة فلا يكادون يذكرونه . وقد مضى القول فيه عند قوله تعالى : { ولو شاء الله لذهب بسمعهم } [ البقرة : 20 ] .
وقوله : { أن الله عزيز حكيم } تذييل لما اقتضاه شرط ( لو ) من الإمكان وامتناع الوقوع أي إن الله عزيز غالب قادر فلو شاء لكلفكم العنت ، لكنه حكيم يضع الأشياء مواضعها فلذا لم يكلفكموه . وفي جمع الصفتين إشارة إلى أن تصرفات الله تعالى تجري على ما تقتضيه صفاته كلها وبذلك تندفع إشكالات عظيمة فيما يعبَّر عنه بالقضاء والقدر .