التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا عَرَّضۡتُم بِهِۦ مِنۡ خِطۡبَةِ ٱلنِّسَآءِ أَوۡ أَكۡنَنتُمۡ فِيٓ أَنفُسِكُمۡۚ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ سَتَذۡكُرُونَهُنَّ وَلَٰكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّآ أَن تَقُولُواْ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗاۚ وَلَا تَعۡزِمُواْ عُقۡدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ ٱلۡكِتَٰبُ أَجَلَهُۥۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ فَٱحۡذَرُوهُۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٞ} (235)

ثم بين - سبحانه - حكم الخطبة للنساء المعتدات بياناً يقوم على أدب النفس ، وأدب الاجتماع ، ورعاية المشاعر والعواطف مع رعاية المصالح والضرورات فقال - تعالى - :

{ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ . . . }

قوله - تعالى - : { فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ } أي : لو حتم وأشرتم به . من التعريض الذي هو ضد التصريح ومعناه أن يضمن كلامه ما يصلح للدلالة على مقصوده ، ويصلح لدلالة على غير مقصوده ، إلا أن إشعاره بجانب المقصود أتم وأرجح وأصله من عرض الشيء - بضم العين - أي جانبه ومن أمثلته أن يقول الفقير المحتاج للمحتاج إليه : جئتك لأسلم عليك . . وهو يقصد عطاءه .

و { خِطْبَةِ النسآء } مخاطبة المرأة أو أوليائها في أمر زواجها . والخطبة - بكسر الخاء كالجلسة - مأخوذة من الخطب أي الشأن لأنها شأن من الشئون وقيل من الخطاب لأنها نوع - مخاطبة تجري بين جانب الرجل وجانب المرأة . والمراد خطبة النساء اللائي فارقهن أزواجهن . و { أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ } أخفيتم وأسررتم من الإِكنان وهوالإِضمار من غير إعلان .

والمعنى : ولا حرج ولا إثم عليكم أيها الرجال المبتغون للزواج في التعريض بخطبة المرأة أثناء عداتها لتتزوجوهن بعد انقضائها ، كما أنه لا إثم عليكم كذلك في الرغبة في الزواج بهن ، مع إخفاء ذلك وستره من غير كشف وإعلان لأن التصريح بالخطبة أثناء العدة عمل يتنافى مع آداب الإسلام ، ومع تعاليم شريعته ، ومع الأخلاق الكريمة ، والعقول السليمة ، والنفوس الشريفة .

قال القرطبي : قال ابن عطية : أجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو نص في تزوجها وتنبيه عليه لا يجوز ، وكذلك أجمعت على أن الكلام معه بما هو رفث وذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز وكذلك ما أشبهه وجوز ما عدا ذلك . ولا يجوز التعريض لخطبة المطلقة طلاقاً رجعياً إجماعاً لأنها كالزوجة . وأما من كانت في عدة البينونة فالصحيح جواز التعريض لخطبتها " .

والتعريض في خطبة النساء أساليبه مختلفة ، ومما ذكره العلماء في هذا الشأن أن يقول الرجل للمرأة : أني أرغب في الزواج أو أن يقول لوليها : لا تسبقني بها إلى غيري .

ومن أساليب التعريض ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مع السيدة أم سلمة ، فقد جخل عليها وهي متأيمة من زوجها أبي سلمة فقال لها : " لقد علمت أني رسول الله وخيرته وموضعي في قومي " فكان كلامه خطبة لها بأسلوب التعريض .

ومنها ما ذكره صاحب الكشاف عن عبد الله بن سليمان عن خالته - سكينة بنت حنظلة - قالت : " دخل على أبو جعفر محمد بن علي وأنا في عدتي فقال : قد علمت قرابتي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقرابتي من جدي علي بن أبي طالب ، وموضعي في العرب ، وقدمي في الإِسلام . قالت : فقلت : غفر الله لك يا أبا جعفر ! أتخطبني في عدتي وأنت يؤخذ عنك ؟ فقال : أو قد فعلت إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعي .

وقوله - تعالى - : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ } إلخ معطوف على ما قبله في الآية السابقة لأن الكلام في الآيتين في الأحكام المتعلقة بعدة النساء .

و ( ما ) في قوله : { فِيمَا عَرَّضْتُمْ } موصولة . و { مِنْ خِطْبَةِ النسآء } بيان لما ، و ( آل ) في النساء للعهد والمعهودات هن الزوجات اللائي سبق الحديث عنهن في الآيات التي قبل هذه . و { أَوْ } في قوله : { أَوْ أَكْنَنتُمْ } للإِباحة أو التخيير ، ومفعول أكن محذوف يعود إلى ما الموصولة في قوله : { فِيمَا عَرَّضْتُمْ } والتقدير : أو أكننتموه . { في أَنْفُسِكُمْ } متعلق بأكننتم .

وقوله - تعالى - : { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } كالتعليل لما قبله وهو قوله : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ } إلخ . ونهى عما يردى ويفسد ، وإباحة لما لا ضرر فيه .

أي : علم الله أنكم يا معشر الرجال ستذكرون هؤلاء النسوة المعتدات بمالهن من جمال ومن حسن عشرة ومن غير ذلك من شئونهن وأن تفكروا فيهن وتهفوا إليهن نفوسكم ، والله - تعالى - فضلا منه وكرماً قد أباح لكم أن تذكروهن ولكنه ينهاكم عن أن تواعدوهن وعداً سرياً بأن تقولوا لهم في السر ما تستحيون من قوله في العلن لقبحه ومنافاته للشرع .

وقوله : { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } استثناء مما يدل عليه النهي لا تواعدوهن مواعدة ما إلا مواعدة معروفة غير منكرة شرعاً ، وهي ما تكون بطريق التلويح والتعريض .

وفي قوله سبحانه : { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } بيان لما جبلت عليه النفس البشرية من ميل فطري بين الرجال والنساء ، والإِسلام لا ينكر هذا الميل وإنما يهذبه ويقومه ويصقله بآدابه الحميدة ، وتعاليمه السامية .

وقوله : { ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } استدراك على محذوف دل عليه { سَتَذْكُرُونَهُنَّ } أي : فاذكروهن { ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } .

قال القرطبي ما ملخصه : واختلف العلماء في المراد بالسر في قوله - تعالى - : { ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } فقيل معناه نكاحاً ، أي لا يقل الرجل لهذه المعتدة تزوجيني بل يعرض إن أراد ، ولا يأخذ ميثاقها وعهدها ألا تنكح غيره في استسرار وخفية . هذا قول جمهور أهل العلم . و " سراً " على هذا التأويل نصب على الحال أي مسرين - وسمي النكاح سراً لأن مسببه الذي هو الوطء ما يسر - وقيل السر الزنا ، أي لا يكونن من كم مواعدة على الزنا في العدة ثم التزوج بعدها . أي لا تواعدوهن زنا . واختاره الطبري . ومنه قول الأعشى :

فلا تقربن جارة إن سرها . . . عليك حرام فانكحن أو تأبداً

أي : " فتزوجها أو ابتعد عنها . وقيل السر الجماع "

والذي تطمئن إليه النفس أن كلمة ( سرا ) صفة لموصوف محذوف أي لا تواعدهن وعدا سرية ، يقال فيها كل ما ينهى عنه أو يستحيا منه في العلن ، لقبه أو لأن أوانه لم يحن بعد ، إذ السرية ، أو الخلوة بين الرجل والمرأة لا تؤمن مزالقها .

وفي الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما " وأن المراد بقوله : { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } هو التعريض بالخطبة ، وإظهار المودة بطريقة لا تفضى إلى محرم .

قال صاحب الكشاف في قوله : { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } وهو أن تعرّضوا ولا تصرحوا .

فإن قلت بم يتعلق حرف الاستثناء ؟ قلت : بلا تواعدوهن . أي لا تواعدوهن مواعدة قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة : أي لا تواعدوهن إلا بالتعريض .

ثم قال - تعالى - : { وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ } .

العزم : القطع والتصميم ، يقال عزم على الشيء إذا صمم وعقد القلب على فعله ، وهو يتعدى بعلى وبنفسه فيقال : عزم اليء وعزم عليه .

وعقدة النكاح : الارتباط الموثق به . وأصل العقد الشد ، والعهود والأنكحة تسمى عقودا لأنها تقعد وتوثق كما يوثق بالحبل .

والمراد بالكتاب هنا الأمر المكتوب المفروض وهو العدة التي حدد الله لها وقتاً معيناً .

والأجل : هو نهاية المدة التي قررها الشرع للعدة .

والمعنى : لا يسوغ لكم يا معشر الرجال الراغبين في الزواج من النساء اللائي فارقهن أزواجهن أن تعقدوا العزم نهائياً في أثناء العدة على أن تتموا الزواج بعدها ، بأن تحول الخطبة من التعريض إلى التصريح ، أو تبتوا في أمر الزواج بتاً قاطعاً بمواعدة أو نحوها ، إذ العاقل لا يستعجل أمرا قبل حلول وقته ، وإنما الذي يسوغ لكلم أن تتموا عقد الزواج بعد انتهاء العدة وبعد أن يكون جو الأحزان قد فتر وجفت حدته .

والنهي عن العزم على عقد النكاح نهي بالأولى عن إبرامه وتنفيذه ، لأن العزم على الفعل يتقدمه ، فإذا نهى عنه كان الفعل أنهى ، فهو كالنهي عن الاقتراب من حدود الله في قوله : { حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا } وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد أباحت شيئين ، ونهت عن شيئين : أباحت التعريض بالخطبة للمرأة أثناء عدتها ، كما أباحت إخفاء هذه الرغبة في الأنفس وحديثها بها . ويشهد لذلك قوله - تعالى - : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ } ونهت عن المواعدة سراً إلا أن يقولوا قولا معروفاً عن طريق التعريض ، أو أن يسار الرجل المرأة بالقول المعروف الذي أباحه الشرع وارتضته العقول السليمة ، والأخلاق الفاضلة ، بأن يعدها في السر بالإِحسان إليها والاهتمام بشأنها والتكفل بمصالحها حتى يصير ذكر هذه الأشياء الجميلة مؤكداً لذلك التعريض . أما الشيء الثاني الذي نهت عنه فهو العزم على عقدة النكاح قبل انقضاء العدة . ويشهد لهذا قوله - تعالى - : { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ } .

وبعد هذه الأوامر والنواهي ختم الله - تعالى - الآية بقوله : { واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في أَنْفُسِكُمْ فاحذروه واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ } .

أي : اعلموا أيها الناس أن الله - تعالى - يعلم ما يجول في نفوسكم من خير أو شر ، وما تهجس به خطرات قلوبكم من مقاصد واتجاهات ، فاحذروا أن تقصدوا ما هو شر ، أو تفعلوا ما هو منكر ، واعلموا أنه - تعالى - غفور لمن تاب وعمل صالحاً ، حليم لا يعاجل الناس بالعقوبة ، ولا يؤاخذهم إلا بما كسبوا .

فالجملة الكريمة تحذير وتبشير ، وترغيب وترهيب ، لكي لا يتجاسر الناس على ارتكاب ما نهي الله عنه ، ولا ييأسوا من رحمته متى تابوا وأنابوا .

هذا ، وقد أجمع العلماء أنها تصير محرمة عليه تحريماً مؤبداً ، ولا يحل له نكاحها ركلك لأنه استحل ما لا يحل فعوقب بحرمانه ، كالقاتل يعاقب بحرمانه من ميراث المقتول . وقيل : يفسخ النكاح ويفرق بينهما فإذا انتهت العدة حلت له ولم يتأبد التحريم . ولكل فريق أدلته المبسوطة في كتب الفقه .

وبذلك تكون الآية الكريمة قد أرشدت الناس إلى ما يقره الشرع ، ويرتضيه الخلق الكريم ، ونهتهم عما يتنافى مع تعاليم الإِسلام بأسلوب حكيم جمع بين الشدة واللين ، والخوف والرجاء ، حتى يثوب المخطئون إلى رشدهم ويقلعوا عن خطئهم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا عَرَّضۡتُم بِهِۦ مِنۡ خِطۡبَةِ ٱلنِّسَآءِ أَوۡ أَكۡنَنتُمۡ فِيٓ أَنفُسِكُمۡۚ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ سَتَذۡكُرُونَهُنَّ وَلَٰكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّآ أَن تَقُولُواْ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗاۚ وَلَا تَعۡزِمُواْ عُقۡدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ ٱلۡكِتَٰبُ أَجَلَهُۥۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ فَٱحۡذَرُوهُۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٞ} (235)

221

هذا شأن المرأة . . ثم يلتفت السياق إلى الرجال الراغبين فيها في فترة العدة ؛ فيوجههم توجيها قائما على أدب النفس ، وأدب الاجتماع ، ورعاية المشاعر والعواطف ، مع رعاية الحاجات والمصالح :

( ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم ) . .

إن المرأة في عدتها ما تزال معلقة بذكرى لم تمت ، وبمشاعر أسرة الميت ، ومرتبطة كذلك بما قد يكون في رحمها من حمل لم يتبين ، أو حمل تبين والعدة معلقة بوضعه . . وكل هذه الاعتبارات تمنع الحديث عن حياة زوجية جديدة . لأن هذا الحديث لم يحن موعده ، ولأنه يجرح مشاعر ، ويخدش ذكريات .

ومع رعاية هذه الاعتبارات فقد أبيح التعريض - لا التصريح - بخطبة النساء . أبيحت الإشارة البعيدة التي تلمح منها المرأة أن هذا الرجل يريدها زوجة بعد انقضاء عدتها .

وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن التعريض مثل أن يقول : إني أريد التزويج . وإن النساء لمن حاجتي . ولوددت أنه تيسر لي امرأة صالحة " . .

كذلك أبيحت الرغبة المكنونة التي لا يصرح بها لا تصريحا ولا تلميحا . لأن الله يعلم أن هذه الرغبة لا سلطان لإرادة البشر عليها :

( علم الله أنكم ستذكرونهن ) . .

وقد أباحها الله لأنها تتعلق بميل فطري ، حلال في أصله ، مباح في ذاته ، والملابسات وحدها هي التي تدعو إلى تأجيل اتخاذ الخطوة العملية فيه . والإسلام يلحظ ألا يحطم الميول الفطرية إنما يهذبها ، ولا يكبت النوازع البشرية إنما يضبطها . ومن ثم ينهى فقط عما يخالف نظافة الشعور ، وطهارة الضمير :

( ولكن لا تواعدوهن سرا ) . .

لا جناح في أن تعرضوا بالخطبة ، أو أن تكنوا في أنفسكم الرغبة ، ولكن المحظور هو المواعدة سرا على الزواج قبل انقضاء العدة . ففي هذا مجانبة لأدب النفس ، ومخالسة لذكرى الزوج ، وقلة استحياء من الله الذي جعل العدة فاصلا بين عهدين من الحياة .

( إلا أن تقولوا قولا معروفا ) . .

لا نكر فيه ولا فحش ، ولا مخالفة لحدود الله التي بينها في هذا الموقف الدقيق :

( ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله ) . .

ولم يقل : ولا تعقدوا النكاح . . إنما قال : ( ولا تعزموا عقدة النكاح ) . . زيادة في التحرج . . فالعزيمة التي تنشىء العقدة هي المنهي عنها . . وذلك من نحو قوله تعالى : ( تلك حدود الله فلا تقربوها ) . . توحي بمعنى في غاية اللطف والدقة .

( واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه ) . .

وهنا يربط بين التشريع وخشية الله المطلع على السرائر . فللهواجس المستكنة وللمشاعر المكنونة هنا قيمتها في العلاقات بين رجل وامرأة . تلك العلاقات الشديدة الحساسية ، العالقة بالقلوب ، الغائرة في الضمائر . وخشية الله ، والحذر مما يحيك في الصدور أن يطلع عليه الله هي الضمانة الأخيرة ، مع التشريع ، لتنفيذ التشريع .

فإذا هز الضمير البشري هزة الخوف والحذر ، فصحا وارتعش رعشة التقوى والتحرج ، عاد فسكب فيه الطمأنينة لله ، والثقة بعفو الله ، وحلمه وغفرانه :

( واعلموا أن الله غفور حليم ) . .

غفور يغفر خطيئة القلب الشاعر بالله ، الحذر من مكنونات القلوب . حليم لا يعجل بالعقوبة فلعل عبده الخاطىء أن يتوب .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا عَرَّضۡتُم بِهِۦ مِنۡ خِطۡبَةِ ٱلنِّسَآءِ أَوۡ أَكۡنَنتُمۡ فِيٓ أَنفُسِكُمۡۚ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ سَتَذۡكُرُونَهُنَّ وَلَٰكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّآ أَن تَقُولُواْ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗاۚ وَلَا تَعۡزِمُواْ عُقۡدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ ٱلۡكِتَٰبُ أَجَلَهُۥۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ فَٱحۡذَرُوهُۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٞ} (235)

يقول تعالى : { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أن تُعَرّضوا بخطبة النساء في عدتهن من وفاة أزواجهن من غير تصريح . قال الثوري وشعبة وجرير وغيرهم ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ } قال : التعريض أن تَقُول : إني أريد التزويج ، وإني أحب امرأة من أمرها ومن أمرها - يعرض لها بالقول بالمعروف - وفي رواية : وددت أن الله رزقني امرأة ونحو هذا . ولا يَنْصِبُ للخِطْبة . وفي رواية : إني لا أريد أن أتزوج غيرَك إن شاء الله ، ولوددت أني وجدت امرأة صالحة ، ولا ينصب لها ما دامت في عدتها . ورواه البخاري تعليقًا ، فقال : قال لي طلق بن غَنَّام ، عن زائدة ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ } هو أن يقول : إني أريد التزويج ، وإن النساء لمن حاجتي ، ولوددت أنه تَيَسَّر لي امرأة صالحة{[4037]} .

وهكذا قال مجاهد ، وطاوس ، وعكرمة ، وسعيد بن جُبير ، وإبراهيم النخَعي ، والشعبي ، والحسنُ ، وقتادة ، والزهري ، ويزيد بن قُسَيط ، ومقاتل بن حيَّان ، والقاسم بن محمد ، وغير واحد من السلف والأئمة في التعريض : أنه يجوز للمتوفى عنها زوجها من غير تصريح لها بالخطبة . وهكذا حكم المطلقة المبتوتة يجوز التعريض لها ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس ، حين طلقها زوجها أبو عَمْرو بن حَفْص : آخر ثلاث تطليقات . فأمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم ، وقال لها : " فإذا حَلَلْت فآذنيني " . فلما حلَّتْ خطب عليها أسامة بن زيد مولاه ، فزَوّجها إياه{[4038]} .

فأما المطلقة الرجعية : فلا خلاف في أنه لا يجوز لغير زوجها التصريح بخطبتها ولا التعريض لها ، والله أعلم .

وقوله : { أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ } أي : أضمرتم في أنفسكم خطْبَتَهُنّ {[4039]} وهذا كقوله تعالى : { وَرَبُّكَ{[4040]} يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } [ القصص : 69 ] وكقوله : { وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ } [ المتحنة : 1 ] ولهذا قال : { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } أي : في أنفسكم ، فرفع الحرج عنكم في ذلك ، ثم قال : { وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا } قال أبو مِجْلَز ، وأبو الشعثاء - جابر بن زيد - والحسن البصري ، وإبراهيم النخعي وقتادة ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، وسليمان التيمي ، ومقاتل بن حيان ، والسدي : يعني الزنا . وهو معنى رواية العَوفي عن ابن عباس ، واختاره ابن جرير .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا } لا تقل لها : إني عاشق ، وعاهديني ألا تتزوجي غيري ، ونحو هذا . وكذا رُوي عن سعيد بن جُبير ، والشعبي ، وعكرمة ، وأبي الضحى ، والضحاك ، والزهري ، ومجاهد ، والثوري : هو أن يأخذ ميثاقها ألا تتزوج غيره ، وعن مجاهد : هو قول الرجل للمرأة : لا تفوتيني بنفسك ، فإني ناكحك .

وقال قتادة : هو أن يأخذ عهد المرأة ، وهي في عدتها ألا تنكح غيره ، فنهى الله عن ذلك وقدم فيه ، وأحل الخطبة والقول بالمعروف .

وقال ابن زيد : { وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا } هو أن يتزوجها في العدة سرًا ، فإذا حلت أظهر ذلك .

وقد يحتمل أن تكون الآية عامة في جميع ذلك ؛ ولهذا قال : { إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا } قال{[4041]} ابن عباس ، ومجاهد وسعيد بن جبير ، والسدي ، والثوري ، وابن زيد : يعني به : ما تقدم من إباحة التعريض . كقوله : إني فيك لراغب . ونحو ذلك .

وقال محمد بن سيرين : قلت لعَبِيدة : ما معنى قوله : { إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا } ؟ قال : يقول لوليها : لا تسبِقْني بها ، يعني : لا تزوجها حتى تُعلمني . رواه ابن أبي حاتم .

وقوله : { وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } يعني : ولا تعقدوا العقد بالنكاح حتى تنقضي العدة . قال ابن عباس ، ومجاهد ، والشعبي ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، وأبو مالك ، وزيد بن أسلم ، ومقاتل بن حيان ، والزهري ، وعطاء الخراساني ، والسدي ، والثوري ، والضحاك : { حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } يعني : حتى تنقضي العدة .

وقد أجمع العلماء على أنه لا يصح العقد في مدة العدة . واختلفوا فيمن تزوج امرأة في عدتها فدخل بها ، فإنه يفرق بينهما ، وهل تحرم عليه أبدا ؟ على قولين : الجمهور على أنها لا تحرم عليه ، بل له أن يخطبها إذا انقضت عدتها . وذهب الإمام مالك إلى أنها تحرم عليه على التأبيد . واحتج في ذلك بما رواه عن ابن شهاب ، وسليمان بن يسار : أن عمر ، رضي الله عنه ، قال : أيما امرأة نكحت في عدتها ، فإن زوجها الذي تزوجها{[4042]} لم يدخل بها ، فرق بينهما ، ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول ، ثم كان الآخر خاطبا من الخطاب ، وإن كان دخل بها فرق بينهما ، ثم اعتدت بقية عدتها من الأول{[4043]} ثم اعتدت من الآخر ، ثم لم ينكحها أبدًا{[4044]} .

قالوا : ومأخذ هذا : أن الزوج لما استعجل ما أجل الله ، عوقب بنقيض قصده ، فحرمت عليه على التأبيد ، كالقاتل يحرم{[4045]} الميراثَ . وقد روى الشافعي هذا الأثر عن مالك . قال البيهقي : وذهب إليه في القديم ورجع عنه في الجديد ، لقول علي : إنها تحل له .

قلت : ثم هو{[4046]} منقطع عن عمر . وقد روى الثوري ، عن أشعث ، عن الشعبي ، عن مسروق :

أن عمر رجع عن ذلك وجعل لها مهرها ، وجعلهما يجتمعان .

وقوله : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ } توعدهم على ما يقع في ضمائرهم من أمور النساء ، وأرشدهم إلى إضمار الخير دون الشر ، ثم لم يُؤْيِسْهُم من رحمته ، ولم يُقْنطهم من عائدته ، فقال : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ }{[4047]} .


[4037]:صحيح البخاري برقم (5124).
[4038]:رواه مسلم في صحيحه برقم (1480).
[4039]:في جـ، أ، و: "من خطبتهن".
[4040]:في جـ: "والله" وهو خطأ.
[4041]:في جـ: "وقال".
[4042]:في جـ، أ، و: "زوجها التي تزوج بها".
[4043]:في جـ: "من زوجها الأول".
[4044]:الموطأ (2/535).
[4045]:في جـ: "يحرم عليه".
[4046]:في جـ: "قلت وهو".
[4047]:في جـ، أ، و: "غفور حليم" وهو الصواب.