ثم ساق القرآن مثلا مشاهداً يدل على نصر الله - تعالى - لأوليائه وخذلانه لأعدائه ، فقال : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين } .
والمراد بالآية هنا العلامة والبرهان والشاهد على صدق الشىء المخبر عنه .
والفئة - كما يقول القرطبي - الجماعة من الناس ، وسميت الجماعة من الناس فئة لأنها يفاء إليها ، أي يرجع إليها في وقت الشدة ، ولا خلاف في أن الإشارة بهاتين الفئتين هي إلى يوم بدر . ثم قال : ويحتمل أن يكون المخاطب بهذه الآية جميع المؤمنين ، ويحتمل أن يخاطب بها جميع الكفار ، ويحتمل أن يخاطب بها يهود المدينة ، وبكل احتمال منها قد قال قوم . وفائدة الخطاب للمؤمنين تثبيت النفوس وتشجيعها ، حتى يقدموا على مثليهم وأمثالهم كما قد وقع .
والمعنى : قد كان لكم أيها الناس علامة عظيمة ، ودلالة واضحة على أن الكافرين سيغلبون والمؤمنين سينصرون بما جرى في غزوة بدر ، فقد رأيتم كيف أن الله - تعالى - قد نصر المؤمنين مع قلة عددهم ، وهزم الكافرين مع كثرة عددهم وعددعم . ولقد كان المؤمنون يرون أعداءهم أكثر منهم عددا وعدة ومع ذلك لم يهابوهم ولم يجبنوا عن لقائهم ، بل أقدموا على قتالهم بإيمان وشجاعة فرزقهم الله النصر على أعدائهم .
ووصف - سبحانه - الفئة المؤمنة بأنها تقاتل في سبيل الله ، على سبيل المدح لها ، والإعلاء من شأنها ، وبيان الغاية السامية التي من أجلها قاتلت ، ومن أجلها تم لها النصر فهي لم تقاتل لأجل عرض من أعراض الدنيا وإنما قاتلت لإعلاء كلمة الله ونصرة الحق .
ووصف الفئة الأخرى بأنها كافرة ؛ لأنها لم تؤمن بالحق ، ولم تتبع الطريق المستقيم ، بل كفرت بكل ما يصلحها في دينها ودنياها .
ولم يصفها بالقتال كما وصف الفئة المؤمنة . إسقاطا لقتال تلك الفئة الكافرة عن درجة الاعتبار ، وإيذانا بأن الرعب الذي ألقاه الله في قلوبهم عند لقائهم للمؤمنين ، جعلهم بأنهم ليسوا أهلا لأن يوصفوا بالقتال .
هذا وللعلماء أقوال في المراد من قوله - تعالى - { يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين } وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذه الأقوال فقال : { يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ } أي : يرى المشركون المسلمين مثلى عدد المشركين أي قريبا من ألفين ، أو مثلى عدد المسلمين أي ستمائة ونيفا وعشرين . أراهم الله إياهم مع قلتهم أضعافهم ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم . وكان ذلك مددا لهم من الله كما أمدهم بالملائكة . والدليل عليه قراءة نافع " ترونهم " بالتاء ، أي ترون يا مشركي قريش المسلمين مثلى فئتكم الكافرة ، أو مثلى أنفسهم . فإن قلت فهذا مناقض لقوله في سورة الأنفال { وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ } قلت : قللوا أولا في أعينهم حتى اجترؤا عليهم : فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا ، فكان التقليل والتكثير في حالين مختلفين . . . وتقليلهم تارة وتكثيرهم تارة أخرى في أعينهم أبلغ في القدرة وإظهار الآية . وقيل : يرى المسلمون المشركين مثلى المسلمين على ما قرر عليه أمرهم من مقاومة الواحد الاثيني في قوله { فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } بعدما كلفوا أن يقاوم الواحد العشرة في قوله - تعالى - { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } والذى نراه أن الرأى الذى عبر عنه صاحب الكشاف بقوله : وقيل : يرى المسلمون المشركين مثل المسلمين . . . إلخ هذا الرأى هو أقرب الأقوال إلى الصواب ؛ لأن المسلمين في غزوة بدر كانوا أقل عددا وعدة من المشركين ، ولأن التعبير بقوله - تعالى - { رَأْيَ العين } يفيد أن رؤية هذه الكثرة من المشركين كانت رؤية بصرية بالمشاهدة ، وليست بالتقدير أو التخيل ، وهذا يتحقق في رؤية المؤمنين للمشركين :
فإن قيل : إن المشركين في بدر كانوا ثلاثة أمثال المؤمنين تقريبا - كما حكى لنا التاريخ - ولم يكونوا مثليهم أي ضعفهم ؟
فالجواب على ذلك أن هذا التقدير للمشركين من جانب المؤمنين كان تقديراً تقريبيا وليس تقديرا عدديا ، فثلاثة الأمثال قد ترى رأى العين مثلين أو نقول : إن المراد بكلمة مثلين مجرد التكرار وليس المراد بها التثنية على الحقيقة ، كما في قوله - تعالى - { فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } فالمراد تكرار النظر مرة ومرات وليس المراد التحديد بكرتين .
وقد رجح ابن جرير الطبرى هذا الرأى ، فقد قال بعد سرده لجملة من أقوال العلماء : وأولى هذه القراءات بالصواب : قراءة من قرأ { يَرَوْنَهُمْ } بمعنى : وأخرى كافرة يراهم المسلمون مثليهم ، يعني : مثلى عدد المسلمين ، لتقليل الله إياهم في أعينهم في حال . فكان حزرهم إياهم كذلك . . ثم قال : وأما قوله : { رَأْيَ العين } فإنه مصدر رأيته يقال رأيته رأياً ورؤية ، ويقال هو منى رأى العين ، ورأى العين - بالنصب والرفع - يراد حيث يقع عليه بصرى .
. فمعنى ذلك : يرونهم حيث تلحقهم أبصارهم وتراهم عيونهم مثليهم " .
وقوله - تعالى - { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ } . . إلخ من تمام القول المأمور به جىء به لتقرير وتحقيق ما قبله . و { كَانَ } هنا ناقصة ، و { آيَةٌ } اسمها ، وترك التأنيث في - كان - لوجود الفاصل بينها وبين اسمها ، ولأن المرفوع بها وهو اسمها مجازى التأنيث أو باعتبار أن الآية برهان ودليل . وقوله { لَكُمْ } خبر كان . وقوله { فِئَةٌ } خبر لمبتدأ محذوف أى . إحداهما فئة تقاتل في سبيل الله . وقوله { وأخرى } نعت لمقدر أى وفئة أخرى كافرة . والجملة مستأنفة لتقرير " ما في الفئتين من الآية " ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله { والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار } .
أى : والله - تعالى - يؤيد بنصره من يشاء نصره وفوزه ، فهو القادر على أن يجعل الفئة القليلة تغلب الفئة الكثيرة ، لاراد لمشيئته ولا معقب لحكمه وإن الذين يغترون بقوتهم وحدها ، ويغترون بما بين أيديهم من أموال وعتاد ورجال ، ولا يعملون حسابا للقدر ، الذي يجريه الله على حسب مشيئته وإرادته هؤلاء الذين غرهم بالله الغرور ، تداهمهم الهزيمة من حيث لا يحتسبون ، وقد يفجؤهم الخسران والخذلان من الطريق الذى توهموا فيه الكسب والانتصار .
لذا أمر الله - تعالى- عباده بالاعتبار والاتعاظ فقال : { إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار } واسم الإشارة ذلك يعود إلى المذكور الذى رأوه وشاهدوه وهو أن الفئة القليلة المؤمنة غلبت الفئة الكثيرة الكافرة .
والعبرة - الاعتبار والاتعاظ وأصله من العبو وهو النفور من أحد الجانبين إلى الآخر ، وسمى الاتعاظ عبرة ، لأن المعتبر المتعظ يعبر عن الجهل إلى العلم ، ومن الهلاك إلى النجاة .
أى : إن في ذلك الذي شاهده الناس وعاينوه من انتصار الفئة القليلة التي تقاتل في سبيل الله ، على الفئة الكثيرة التي تقاتل في سبيل الطاغوت ، لعبرة عظيمة ، ودلالة واضحة ، لأصحاب المدارك السليمة والعقول الواعية التي تفهم الأمور على حقيقتها ، وتؤمن بأن الله - تعالى - قادر على كل شيء ، أما أصحاب القلوب المطموسة والنفوس المغرورة بقوتها . فهي عن الاعتبار والاتعاظ بمعزل .
قال الفخر الرازي ما ملخصه : " واعلم أن العلماء ذكروا في تفسير كون تلك الواقعة آية بينة وعبرة واضحة - وجوها : منها أن المسلمين كان قد اجتمع فيهم من أسباب الضعف عن المقاومة أمور منها قلة العدد ، وأنهم خرجوا غير قاصدين للحرب فلم يتأهبوا ، ومنه قلة السلاح ، ومنها أنها كانت ابتداء غارة في الحرب لأنها أول غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم وكان قد حصل للمشركين أضداد هذه المعاني من الكثرة والتأهب وغير ذلك ومع هذا فقد انتصر المؤمنون ، ولما كان ذلك خارجا عن العادة كان معجزا " .
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد أنذرت الكافرين بسوء العاقبة إذا ما استمروا على كفرهم ، وساقت لهم ما يؤيد ذلك من واقع ما شاهدوه ، وبشرت المؤمنين بنصر الله لهم ، وحثنهم على الاتعاظ والاعتبار ، لأن من شأن المعتبرين أن يكونوا مراقبين لله - تعالى - ومنفذين لأوامره ، ومبتعدين عن نواهيه ، ومن كان كذلك كان الله معه بنصره وتأييده .
( قد كان لكم آية في فئتين التقتا : فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة ، يرونهم مثليهم رأي العين . والله يؤيد بنصره من يشاء . إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) . .
وقوله تعالى : ( يرونهم مثليهم رأي العين ) يحتمل تفسيرين : فإما أن يكون ضمير( يرون ) راجعا إلى الكفار ، وضمير( هم ) راجعا إلى المسلمين ، ويكون المعنى أن الكفار على كثرتهم كانوا يرون المسلمين القليلين( مثليهم ) . . وكان هذا من تدبير الله حيث خيل للمشركين أن المسلمين كثرة وهم قلة ، فتزلزلت قلوبهم وأقدامهم .
وإما أن يكون العكس ، ويكون المعنى أن المسلمين كانوا يرون المشركين ( مثليهم ) هم - في حين أن المشركين كانوا ثلاثة أمثالهم - ومع هذا ثبتوا وانتصروا .
والمهم هو رجع النصر إلى تأييد الله وتدبيره . . وفي هذا تخذيل للذين كفروا وتهديد . كما أن فيه تثبيتا للذين آمنوا وتهوينا من شأن أعدائهم فلا يرهبونهم . . وكان الموقف - كما ذكرنا في التمهيد للسورة - يقتضي هذا وذاك . . وكان القرآن يعمل هنا وهناك . .
وما يزال القرآن يعمل بحقيقته الكبيرة . وبما يتضمنه من مثل هذه الحقيقة . . إن وعد الله بهزيمة الذين يكفرون ويكذبون وينحرفون عن منهج الله ، قائم في كل لحظة . ووعد الله بنصر الفئة المؤمنة - ولو قل عددها - قائم كذلك في كل لحظة . وتوقف النصر على تأييد الله الذي يعطيه من يشاء حقيقة قائمة لم تنسخ ، وسنة ماضية لم تتوقف .
وليس على الفئة المؤمنة إلا أن تطمئن إلى هذه الحقيقة ؛ وتثق في ذلك الوعد ؛ وتأخذ للأمر عدته التي في طوقها كاملة ؛ وتصبر حتى يأذن الله ؛ ولا تستعجل ولا تقنط إذا طال عليها الأمد المغيب في علم الله ، المدبر بحكمته ، المؤجل لموعده الذي يحقق هذه الحكمة .
( إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) . .
ولا بد من بصر ينظر وبصير تتدبر ، لتبرز العبرة ، وتعيها القلوب . وإلا فالعبرة تمر في كل لحظة في الليل والنهار !