لقد كانت نتيجته الإجابة من الله - تعالى - لعبده زكريا ، فقد قال - تعالى - { فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى } .
أى : فنادت الملائكة زكريا - عليه السلام - وهو قائم يصلي في المحراب ، يناجى ربه ويسبح بحمده بأن الله قد استجاب دعاءك ويبشرك بغلام اسمه يحيى ، لكى تقر به عينك ويسر به قلبك .
والتعبير بالفاء في قوله { فَنَادَتْهُ } يشعر بأن الله - تعالى - فضلا منه وكرما قد استجاب لزكريا دعاءه بعد فترة قليلة من ذا الدعاء الخاشع ، إذ الفاء تفيد التعقيب .
ويرى فريق من المفسرين أن الذي ناداه هو جبريل وحده ، ومن الجائز فى العربية أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع .
قال ابن جرير : كما يقال في الكلام : خرج فلان على بغال البريد وإنما ركب بغلا واحداً وركب السفن وإنما ركب سفينة واحدة وكما يقال : ممن سمعت هذا ؟ فيقال : من الناس ، وإنما سمعه من رجل واحد ، وقد قيل : إن منه قوله - تعالى - { الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } والقائل كان فيما ذكر واحد . ويرى فريق آخر منهم أن الذى نادى زكريا وبشره بمولوده يحيى ، جمع من الملائكة لأن الآية صريحة فى أن هذا النداء قد صدر من جمع لا من واحد ، ولأن صدوره من جمع يناسب هذه البشارة العظيمة ، فقد جرت العادة في أمثال هذه البشارات العظيمة أن يقوم بها جمع لا واحد ، ولا شك أن حالة زكريا وحالة زوجه تستدعيان عددا من المبشرين لإدخال السرور على هذين الشخصين اللذين كادا يفقدان الأمل في إنجاب الذرية .
وقد رجح هذا الاتجاه ابن جرير فقال " وأما الصواب من القول في تأويله فأن يقال : إن الله - جل ثناؤه - أخبر أن الملائكة نادته ، والظاهر من ذلك أنها جماعة من الملائكة دون الواحد ، جبريل واحد فلا يجوز أن يحمل تأويل القرآن إلا على الأظهر الأكثر من الكلام المستعمل في ألسن العرب دون الأقل ما وجدنا إلى ذلك سبيلا ، ولم تضطرنا حاجة إلى صرف ذلك إلى أنه بمعنى واحد فيحتاج له إلى طلب المخرج بالخفي من الكلام والمعاني " .
وقوله { وَهُوَ قَائِمٌ } جملة حالية من مفعول النداء ، و " يصلى " حال من الضمير المستكن فى قائم أو حال أخرى من مفعول النداء على القول بجواز تعدد الحال ، وقوله { فِي المحراب } متعلق بيصلى . والمراد بالمحراب هنا المسجد ، أو المكان الذى يقف فيه الإمام في مقدمة المسجد .
وقرأ جمهور القراء : { أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ } بفتح همزة أن - على أنه في محل جر بباء محذوفه . أى : نادته الملائكة بأن الله يبشرك بيحيى .
وقرأ ابن عامر وحمزة : { أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ } - بكسر الهمزة - على تضمين النداء معنى القول ، أى : قالت له الملائكة إن الله يبشرك بيحيى .
وقوله : { بيحيى } متعلق بيبشرك ، وفي الكلام مضاف أى يبشرك بولادة يحيى ، لأن الذوات ليست متعلقا للبشارة .
وفى اقتران التبشير بالتسمية بيحيى ، إشعار بأن ذلك المولود سيحيا اسمه وذكره بعد موته ، وبذلك تتحقق الإجابة لدعاء زكريا تحققا تاما ، فقد حكى القرآن عنه في سورة مريم أنه قال : { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ واجعله رَبِّ رَضِيّاً } قال الجمل : و " يحيى ، فيه قولان :
أحدهما : وهو المشهور عند أهل التفسير أنه منقول من الفعل المضارع ، وقد سموا بالأفعال كثيراً نحو يعيش ويعمر . . وعلى هذا فهو ممنوع من الصرف للعملية ووزن الفعل ، نحو يزيد ويشكر وتغلب .
والثاني : أنه أعجمي لا اشتقاق له ، وهذا هو الظاهر ، فامتناعه من الصرف للعلمية والعجمة " .
ثم وصف الله - تعالى - يحيى - عليه السلام - بأربع صفات كريمة فقال : { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين } .
فالصفة الأولى : من صفات يحيى - عليه السلام - أنه كان { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله } وللعلماء في تفسير هذه الجملة الكريمة اتجاهان :
أما الاتجاه الأول فيرى أصحابه - وهم جمهور العلماء - أن المراد بكلمة الله هو عيسى - عليه السلام - لأنه كان يسمى بذلك أى أن يحيى كان مصدقا بعيسى ومؤمنا بأنه رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه .
وقد كان يحيى معاصرا لعيسى . وكانت بينهما قرابة قوية إذ أن والدة يحيى كانت أختا لأم مريم وقيل إن أم يحيى كانت أختا لمريم .
وأما الاتجاه الثانى فيرى أصحابه أن المراد بكلمة الله كتابه ، أى أن يحيى من صفاته الطيبة أنه كان مصدقا بكتاب الله وبكلامه ، وذلك لأن الكلمة قد تطلق ويراد منها الكلام ، والعرب تقول أنشد فلان كلمة أى قصيدة ، وقال كلمة أى خطبة .
ويبدو لنا أن الاتجاه الأول أقرب إلى الصواب ، لأن القرآن قد وصف عيسى بأنه كلمة الله في أكثر من موضع فيه ومن ذلك قوله - تعالى -
{ ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بالله وَرُسُلِهِ } وقوله تعالى - { يامريم إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ } ولأن فى التعبير عن عيسى الذى صدقه يحيى - بأنه كلمة من الله ، إشعاراً بأن ولادتهما متقاربة من حيث الزمن ، وإيماء إلى أن زكريا - عليه السلام - قد أوتى علماً بأن المسيح عهده قريب ، وأن يحيى - عليه السلام - سيعيش حتى يدرك عيسى .
وقوله { مُصَدِّقاً } منصوب على الحال المقدرة من يحيى ، أى على الحال التي سيكون عليها في المستقبل ، والمراد بهذا التصديق الإيمان بعيسى - كما سبق أن أشرنا - قيل : هو أول من آمن بعيسى وصدق أنه كلمة الله وروح منه .
و " من " في قوله { مِّنَ الله } للابتداء . والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لكلمة ، أى مصدقاً بكلمة كائنة من الله - تعالى - .
والصفة الثانية : من صفات يحيى عبر عنها القرآن بقوله " وسيدا " والسيد - كما يقول القرطبي - الذى يسود قومه وينتهى إلى قوله . وأصله سيود يقال : فلان أسود من فلان على وزن أفعل من السيادة ، ففيه دلالة على تسمية الإنسان سيدا . وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبني قريظة عندما دخل سعد بن معاذ - " قوموا إلى سيدكم " وفى الصحيحين أنه قال فى الحسن " إن ابني هذا سيد ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " .
والمراد أن يحيى - عليه السلام - من صفاته أنه سيكون سيدا ، أى يفوق غيره في الشرف والتقوى وعفة النفس ، بأن يكون مالكا لزمامها ، ومسيطرا على أهوائها .
والصفة الثالثة : من صفاته عبر عنها القرآن بقوله : { وَحَصُوراً } وأصل الحصر : المنع والحبس .
يقال حصرني الشيء وأحصرني إذا حبسني .
والمراد أن يحيى - عليه السلام - من صفاته أنه سيكون حابسا نفسه عن الشهوات ، حتى لقد قيل عنه إنه امتنع عن الوزاج وهو قادر على ذلك - زهادة منه واستعفافا ، وليس صحيحا ما قيل من أنه كان لا يأتى النساء لعدم قدرته على ذلك .
قال ابن كثير : وقد قال القاضى عياض في كتابه الشفاء : اعلم أن ثناء الله على يحيى بأنه كان { وَحَصُوراً } معناه أنه معصوم من الذنوب ، أى لا يأتيها كأنه حصور عنها . وقيل : مانعا نفسه من الهشوات ، وقيل ليست له شهوة في النساء وقد بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص ، وإنما الفضل في كونها موجودة ثم يمنعها إما بمجاهدة كعيسى أو بكفاية من الله - تعالى - كيحيى - عليه السلام - ثم هى في حق من قدر عليها وقام بالواجب فيها ولم تشغله عن ربه : درجة عليا وهى درجة درجة نبينا صلى الله عليه وسلم الذى لم تشغله كثرتهن عن عبادة ربه ، بل زاده ذلك عبادة بتحصينهن وهدايته لهن . . . والمقصود أن مدح يحيى بأنه حصور ليس معناه أنه لا يأتى النساء ، بل معناه أنه معصوم من الفواحش والقاذورات ، ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم حيث قال : { هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً } كأنه قال ولداً له ذرية ونسل وعقب .
أما الوصف الرابع : من أوصاف يحيى - عليه السلام - فهو قوله - تعالى - { وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين } وفى هذا الوصف بشارة ثانية لزكريا بأن ابنه سيكون من الأنبياء الذى اصطفاهم الله لتبليغ دعوته إلى الناس ، وهذه البشارة أسمى وأعلى من الأولى التى أخبره الله فيها بولادة يحيى ، لأن النبوة منزلة لا تعدلها منزلة في الشرف والفضل .
{ فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي فِي الْمِحْرَابِ أَنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ مّنَ اللّهِ وَسَيّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مّنَ الصّالِحِينَ }
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة وبعض أهل الكوفة والبصرة : { فَنَادَتْهُ المَلائِكَةُ } على التأنيث بالتاء ، يراد بها : جمع الملائكة ، وكذلك تفعل العرب في جماعة الذكور إذا تقدمت أفعالها أنثت أفعالها ولاسيما الأسماء التي في ألفاظها التأنيث كقولهم : جاءت الطلحات .
وقد قرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة بالياء ، بمعنى : فناداه جبريل فذكروه للتأويل ، كما قد ذكرنا آنفا أنهم يؤنثون فعل الذكر للفظ ، فكذلك يذكّرون فعل المؤنث أيضا للفظ . واعتبروا ذلك فيما أرى بقراءة يذكر أنها قراءة عبد الله بن مسعود ، وهو ما :
حدثني به المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد أن قراءة ابن مسعود : «فناداه جبريل وهو قائم يصلي في المحراب » .
وكذلك تأوّل قوله : { فَنَادَتْهُ المَلائِكَةُ } جَماعة مِنْ أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { فَنَادَتْهُ المَلائِكَةُ } وهو جبريل أو : قالت الملائكة ، وهو جبريل { أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى } .
فإن قال قائل : وكيف جاز أن يقال على هذا التأويل : { فَنَادَتْهُ المَلائِكَةُ } والملائكة جمع لا واحد ؟ قيل : ذلك جائز في كلام العرب بأن تخبر عن الواحد بمذهب الجمع ، كما يقال في الكلام : خرج فلان على بغال البرد ، وإنما ركب بغلاً واحدا ، وركب السفن ، وإنما ركب سفينة واحدة ، وكما يقال : ممن سمعت هذا الخبر ؟ فيقال : من الناس ، وإنما سمعه من رجل واحد¹ وقد قيل : إن منه قوله : { الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ } ، والقائل كان فيما ذكر واحدا ، وقوله : { وَإذَا مَسّ النّاسَ ضُرّ } ، والناس بمعنى واحد ، وذلك جائز عندهم فيما لم يقصد فيه قصد واحد .
وإنما الصواب من القول عندي في قراءة ذلك أنهما قراءتان معروفتان ، أعني التاء والياء ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، وذلك أنه لا اختلاف في معنى ذلك باختلاف القرائين ، وهما جميعا فصيحتان عند العرب ، وذلك أن الملائكة إن كان مرادا بها جبريل كما روي عن عبد الله فإن التأنيث في فعلها فصيح في كلام العرب للفظها إن تقدمها الفعل ، وجائز فيه التذكير لمعناها . وإن كان مرادا بها جمع الملائكة فجائز في فعلها التأنيث ، وهو من قبلها للفظها ، وذلك أن العرب إذا قدمت على الكثير من الجماعة فعلها أنثته ، فقالت : قالت النساء ، وجائز التذكير في فعلها بناء على الواحد إذا تقدم فعله ، فيقال : قال الرجال .
وأما الصواب من القول في تأويله ، فأن يقال : إن الله جلّ ثناؤه ، أخبر أن الملائكة نادته ، والظاهر من ذلك أنها جماعة من الملائكة دون الواحد وجبريل واحد ، فلن يجوز أن يحمل تأويل القرآن إلا على الأظهر الأكثر من الكلام المستعمل في ألسن العرب ، دون الأقلّ ما وجد إلى ذلك سبيل ، ولم يضطرنا حاجة إلى صرف ذلك إلى أنه بمعنى واحد ، فيحتاج له إلى طلب المخرج بالخفيّ من الكلام والمعاني .
وبما قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة من أهل العلم ، منهم قتادة والربيع بن أنس وعكرمة ومجاهد وجماعة غيرهم . وقد ذكرنا ما قالوا من ذلك فيما مضى .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ قائمٌ يُصَلّي فِي المِحْرَابِ أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى } .
وتأويل قوله { وَهُوَ قائِمٌ } : فنادته الملائكة في حال قيامه مصليا . فقوله : { وَهُوَ قَائِمٌ } خبر عن وقت نداء الملائكة زكريا¹ وقوله : { يُصَلّي } في موضع نصب على الحال من القيام ، وهو رفع بالياء . وأما المحراب : فقد بينا معناه ، وأنه مقدم المسجد .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : { أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ } ، فقرأته عامّة القرّاء : { أنّ اللّهَ } بفتح الألف من «أن » بوقوع النداء عليها بمعنى فنادته الملائكة بذلك . وقرأه بعض قرّاء أهل الكوفة : «إنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ » بكسر الألف بمعنى : قالت الملائكة : إن الله يبشرك ، لأن النداء قول¹ وذكروا أنها في قراءة عبد الله : «فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب يا زكريا إن الله يبشرك »¹ قالوا : إذا بطل النداء أن يكون عاملاً في قوله : «يا زكريا » ، فباطل أيضا أن يكون عاملاً في «إن » .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا : { أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ } بفتح أن بوقوع النداء عليه ، بمعنى : فنادته الملائكة بذلك ، وليست العلة التي اعتلّ بها القارئون بكسر إن ، من أن عبد الله كان يقرؤها كذلك ، وذلك أن عبد الله إن كان قرأ ذلك كذلك ، فإنما قرأها بزعمهم . وقد اعترض ب«يا زكريا » بين «إن » وبين قوله : «فنادته » ، وإذا اعترض به بينهما ، فإن العرب تعمل حينئذ النداء في «أنّ » ، وتبطله عنها . أما الإبطال ، فإنه بطل عن العمل في المنادى قبله ، فأسلكوا الذي بعده مسلكه في بطول عمله . وأما الإعمال ، فلأن النداء فعل واقع كسائر الأفعال . وأما قراءتنا فليس نداء زكريا ب«يا زكريا » ، معترضا به بين «أن » وبين قوله : «فنادته » ، وإذا لم يكن ذلك بينهما ، فالكلام الفصيح من كلام العرب إذ نصبت بقول : ناديت اسم المنادى ، وأوقعوه عليه أن يوقعوه كذلك على «أنّ » بعده وإن كان جائزا إبطال عمله ، فقوله : «نادته » ، قد وقع على مكنيّ زكريا¹ فكذلك الصواب أن يكون واقعا على «أنّ » وعاملاً فيها ، مع أن ذلك هو القراءة المستفيضة في قراءة أمصار الإسلام ، ولا يعترض بالشاذّ على الجماعة التي تجيء مجيء الحجة .
وما قوله : { يُبَشّرُكَ } فإن القرّاء اختلفت في قراءته ، فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة : { أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ } بتشديد الشين وضمّ الياء على وجه تبشير الله زكريا بالولد ، من قول الناس : بشّرت فلانا البشرى بكذا وكذا ، أي أتته بشارات البشرى بذلك .
وقرأ ذلك جماعة من قرّاء الكوفة وغيرهم : «أنّ اللّهَ يَبْشُرُكَ » بفتح الياء وضمّ الشين وتخفيفها ، بمعنى : أن الله يسرّك بولد يهبه لك ، من قول الشاعر :
بَشَرْتُ عِيالي إذْ رأيْتُ صَحِيفَةً *** أتَتْكَ مِنَ الحَجّاجِ يُتْلَى كِتابُها
وقد قيل : إن «بَشَرت » لغة أهل تهامة من كنانة وغيرهم من قريش ، وأنهم يقولون : بَشَرت فلانا بكذا فأنا أَبْشُرُه بَشْرا ، وهل أنت باشرٌ بكذا ؟ وينشد لهم البيت في ذلك :
وإذَا رأيْتُ الباهِشِينَ إلى العُلا *** غُبْرا أكُفّهُمْ بقاعٍ مُمْحِلِ
فأعِنْهُمُ وَابْشَرْ بِمَا بَشِرُوا بِهِ *** وَإذَا هُمُ نَزَلُوا بِضَنْكٍ فانْزِلِ
فإذا صاروا إلى الأمر ، فالكلام الصحيح من كلامهم بلا ألف ، فيقال : ابْشَرْ فلانا بكذا ، ولا يكادون يقولون : بشّره بكذا ، ولا أبْشِرْه .
وقد رُوي عن حميد بن قيس أنه كان يقرأ : «يُبْشِركَ » بضم الياء وكسر الشين وتخفيفها . وقد :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، عن معاد الكوفي ، قال : من قرأ «يبشّرهم » مثقلة ، فإنه من البشارة ، ومن قرأ «يَبْشُرُهم » مخففة بنصب الياء ، فإنه من السرور ، يسرّهم .
والقراءة التي هي القراءة عندنا في ذلك ضم الياء وتشديد الشين ، بمعنى التبشير ، لأن ذلك هي اللغة السائرة ، والكلام المستفيض المعروف في الناس ، مع أن جميع قرّاء الأمصار مجمعون في قراءة : { فبم تبشّرون } على التشديد . والصواب في سائر ما في القرآن من نظائره أن يكون مثله في التشديد وضم الياء .
وأما ما رُوي عن معاذ الكوفي من الفرق بين معنى التخفيف والتشديد في ذلك ، فلم نجد أهل العلم بكلام العرب يعرفونه من وجه صحيح ، فلا معنى لما حكي من ذلك عنه ، وقد قال جرير بن عطية :
يا بِشْرُ حُقّ لِبشْرِكَ التّبْشِيرُ *** هَلاّ غَضِبتَ لَنا وأنْتَ أمِيرُ
فقد علم أنه أراد بقوله «التبشير » : الجمال والنضارة والسرور ، فقال «التبشير » ولم يقل «البشر » ، فقد بين ذلك أن معنى التخفيف والتثقيل في ذلك واحد .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : { أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى } قال : بشرته الملائكة بذلك .
( وأما قوله : { بِيَحْيَى } فإنه اسم أصله يَفْعَل ، من قول القائل : حي فلان فهو يحيا ، وذلك إذا عاش فيحيى «يَفْعَل » من قولهم «حيي » . وقيل : إن الله جلّ ثناؤه سماه بذلك لأنه يتأوّل اسمه أحياه بالإيمان . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى } يقول : عبد أحياه الله بالإيمان .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة قوله : { أنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى } قال : إنّمَا سمي يحيى ، لأن الله أحياه بالإيمان .
القول في تأويل قوله تعالى : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : إن الله يبشرك يا زكريا بيحيى ابنا لك ، { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ الله } يعني بعيسى ابن مريم . ونصب قوله
«مصدّقا » على القطع من يحيى ، لأن «مصدقا » نعت له وهو نكرة ، و«يحيى » غير نكرة .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطفاوي ، قال : حدثنا محمد بن ربيعة ، قال : حدثنا النضر بن عربيّ ، عن مجاهد قال : قالت امرأة زكريا لمريم : إني أجد الذي في بطني يتحرّك للذي في بطنك ، قال : فوضعت امرأة زكريا يحيى ، ومريم عيسى . ولذا قال : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } قال يحيى : مصدّق بعيسى .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن الرقاشي في قول الله : { يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } قال : مصدّقا بعيسى ابن مريم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا سليمان ، قال : حدثنا أبو هلال ، قال : حدثنا قتادة في قوله : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } قال : مصدّقا بعيسى .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } يقول : مصدّق بعيسى ابن مريم ، وعلى سننه ومنهاجه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } يعني عيسى ابن مريم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } يقول : مصدّقا بعيسى ابن مريم ، يقول : على سننه ومنهاجه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } قال : كان أوّل رجل صدّق عيسى وهو كلمة من الله وروح .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } يصدّق بعيسى .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { إنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } فإن يحيى أوّل من صدّق بعيسى ، وشهد أنه كلمة من الله ، وكان يحيى ابن خالة عيسى ، وكان أكبر من عيسى .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قوله : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } قال عيسى ابن مريم : هو الكلمة من الله اسمه المسيح .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : أخبرني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : قوله : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } قال : كان عيسى ويحيى ابني خالة ، وكانت أم يحيى تقول لمريم : إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك ، فذلك تصديقه بعيسى ، سجوده في بطن أمه ، وهو أوّل من صدّق بعيسى وكلمة عيسى ، ويحيى أكبر من عيسى .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { إنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } قال : الكلمة التي صدّق بها عيسى .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : لقيَتْ أمّ يحيى أمّ عيسى ، وهذه حامل بيحيى وهذه حامل بعيسى ، فقالت امرأة زكريا : يا مريم استشعرت أني حبلى ، قالت مريم : استشعرت أني أيضا حبلى . قالت امرأة زكريا : فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك . فذلك قوله : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قول الله : { إنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } قال : مصدّقا بعيسى ابن مريم .
وقد زعم بعض أهل العلم بلغات العرب من أهل البصرة أن معنى قوله : { مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ } بكتاب من الله ، من قول العرب : أنشدني فلان كلمة كذا ، يراد به قصيدة كذا . جهلاً منه بتأويل الكلمة ، واجتراءً على ترجمة القرآن برأيه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَسَيّدا } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وَسَيّدا } : وشريفا في العلم والعبادة ، ونصب «السيد » عطفا على قوله «مصدّقا » .
وتأويل الكلام : إن الله يبشرك بيحيى مصدّقا بهذا وسيدا ، والسيد : الفَيْعِل ، من قول القائل : ساد يسود . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَسَيّدا } : إي والله ، لسيد في العبادة والحلم والعلم والورع .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مسلم ، قال : حدثنا أبو هلال ، قال : حدثنا قتادة في قوله : { وَسَيّدا } قال : السيد لا أعلمه إلا قال في العلم والعبادة .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة ، قال : السيد : الحليم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن شريك ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير : { وَسَيّدا } قال : الحليم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير : { وَسَيّدا } قال : السيد : التقيّ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ { وَسَيّدا } قال : السيد : الكريم على الله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، قال : زعم الرقاشي أن السيد : الكريم على الله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك في قول الله عزّ وجلّ : { وَسَيّدا } قال : السيد : الحليم التقيّ .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { وَسَيّدا } قال : يقول : تقيا حليما .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان في قوله : { وَسَيدا } قال : حليما تقيا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، عن ابن زيد في قوله : { وَسَيّدا } قال : السيد : الشريف .
حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا بقية بن الوليد ، عن عبد الملك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب في قول الله عزّ وجلّ : { وَسَيّدا } قال : السيد : الفقيه العالم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَسَيّدا } قال : يقول : حليما تقيا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن عكرمة : { وَسَيّدا } قال : السيد الذي لا يغلبه الغضب .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَحَصُورا وَنَبِيّا مِنَ الصّالِحِينَ } .
يعني بذلك : ممتنعا من جماع النساء من قول القائل : حصرت من كذا أحصر : إذا امتنع منه¹ ومنه قولهم : حصر فلان في قراءته : إذا امتنع من القراءة فلم يقدر عليها ، وكذلك حصر العدوّ : حبسهم الناس ومنعهم إياهم التصرّف ، ولذلك قيل للذي لا يُخرِج مع ندمائه شيئا : حصور ، كما قال الأخطل :
وَشارِبٍ مُرْبِحٍ بالكأْسِ نادَمَنِي *** لا بالحَصُورِ ولا فِيها بسَوّارِ
ويروى «بسّار » . ويقال أيضا للذي لا يخرج سرّه ويكتله حصور ، لأنه يمنع سرّه أن يظهر ، كما قال جرير :
وَلَقَدْ تَسَقّطَنِي الوُشاةُ فصادَفُوا *** حَصِرا بِسِرّكِ يا أُمَيْمَ ضَنِينا
وأصل جميع ذلك واحد ، وهو المنع والحبس .
وبمثل الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن خلف ، قال : حدثنا حماد بن شعيب ، عن عاصم ، عن زرّ ، عن عبد الله في قوله : { وَسَيّدا وَحَصُورا } قال : الحصور : الذي لا يأتي النساء .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب أنه قال ثني ابن العاص ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «كُلّ بَنِي آدَمَ يَأْتِي يَوْمَ القِيامَةِ وَلَهُ ذَنْبٌ ، إلاّ ما كانَ مِنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيّا » ، قال : ثم دلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يده إلى الأرض ، فأخذ عويدا صغيرا ، ثم قال : «وَذَلكَ أنّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ما للرّجالِ إلاّ مِثْلَ هَذَا العودِ ، وبذلك سماه الله سيدا وحصورا » .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا أنس بن عياض ، عن يحيى بن سعيد ، قال : سمعت سعيد بن المسيب ، يقول : ليس أحد إلا يلقى الله يوم القيامة ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا ، كان حصورا ، معه مثل الهدبة .
حدثنا أحمد بن الوليد القرشي ، قال : حدثنا عمر بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، قال : قال ابن العاص إما عبد الله ، وإما أبوه : ما أحد يلقى الله إلا وهو ذو ذنب ، إلا يحيى بن زكريا . قال : وقال سعيد بن المسيب : { وَسَيّدا وَحَصُورا } قال : الحصور : الذي لا يغشى النساء ، ولم يكن ما معه إلا مثل هدبة الثوب .
حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا بقية بن الوليد ، عن عبد الملك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب في قوله : { وَحَصُورا } قال : الحصور¹ الذي لا يشتهي النساء ، ثم ضرب بيده إلا الأرض فأخذه نواة فقال : ما كان معه إلا مثل هذه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، قال : الحصور : الذي لا يأتي النساء .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن سعيد ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد ، مثله .
حدثني عبد الرحمن بن الأسود ، قال : حدثنا محمد بن ربيعة ، قال : حدثنا النضر بن عربي ، عن مجاهد : { وَحَصُورا } قال : الذي لا يأتي النساء .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الحصور : لا يقرب النساء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، قال : زعم الرقاشي : الحصور : الذي لا يقرب النساء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك : الحصور : الذي لا يولد له ، وليس له ماء .
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله :
{ وَحَصُورا } قال : هو الذي لا ماء له .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا سويد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَحَصُورا } كنا نحدّث أن الحصور الذي لا يقرب النساء .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا سليمان ، قال : حدثنا أبو هلال ، قال : حدثنا قتادة في قوله : { وَسَيّدا وَحَصُورا } قال : الحصور : الذي لا يأتي النساء .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : الحصور : الذي لا ينزل الماء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، عن ابن زيد : { وَحَصُورا } قال : الحصور : الذي لا يأتي النساء .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَحَصُورا } قال : الحصور : الذي لا يريد النساء .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن : { وَحَصُورا } قال : لا يقرب النساء .
وأما قوله : { وَنَبِيّا مِنَ الصالِحِينَ } فإنه يعني : رسولاً لربه إلى قومه ، ينبئهم عنه بأمره ونهيه ، وحلاله وحرامه ، ويبلغهم عنه ما أرسله به إليهم . ويعني بقوله : { مِنَ الصّالِحِينَ } من أنبيائه الصالحين . وقد دللنا فيما مضى على معنى النبوّة وما أصلها بشواهد ذلك ، والأدلة الدالة على الصحيح من القول فيه بما أغنى عن إعادته .
{ فنادته الملائكة } أي من جنسهم كقولهم زيد يركب الخيل . فإن المنادي كان جبريل وحده . وقرأ حمزة والكسائي " فناداه " بالإمالة والتذكير . { وهو قائم يصلي في المحراب } أي قائما في الصلاة ، و{ يصلي } صفة قائم أو خبر أو حال آخر أو حال من الضمير في قائم . { أن الله يبشرك بيحيى } أي بأن الله . وقرأ نافع وابن عامر بالكسر على إرادة القول ، أو لأن النداء نوع منه . وقرأ حمزة والكسائي ( يبشرك ) ، و{ يحيى } اسم أعجمي وإن جعل عربيا فمنع صرفه للتعريف ووزن الفعل . { مصدقا بكلمة من الله } أي بعيسى عليه السلام ، سمي بذلك لأنه وجد بأمره تعالى دون أب فشابه البدعيات التي هي عالم الأمر ، أو بكتاب الله ، سمي كلمة كما قيل كلمة الحويدرة لقصيدته . { وسيدا } يسود قومه ويفوقهم وكان فائقا للناس كلهم في أنه ما هم بمعصية قط . { وحصورا } مبالغا في حبس النفس عن الشهوات والملاهي . روي أنه مر في صباه بصبيان فدعوه إلى اللعب فقال ما للعب خلقت . { ونبيا من الصالحين } ناشئا منهم أو كائنا من عداد من لم يأت كبيرة ولا صغيرة .
ثم قال تعالى : { فنادته الملائكة } وترك محذوف كثير دل ما ذكر عليه ، تقديره فقبل الله دعاءه ووهبه يحيى وبعث الملك أو الملائكة بذلك إليه فنادته ، وذكر أنه كان بين دعائه والاستجابة له بالبشارة أربعون سنة ، وذكر جمهور المفسرين : أن المنادي المخبر إنما كان جبريل وحده وهذا هو العرف في الوحي إلى الأنبياء ، وقال قوم : بل نادت ملائكة كثيرة حسبما تقتضيه ألفاظ الآية ، وقد وجدنا الله تعالى بعث ملائكة إلى لوط وإلى إبراهيم عليه السلام وفي غير ما قصة ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود وقراءته «فناداه جبريل وهو قائم يصلي » ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وأبو عمرو : «فنادته » بالتاء «الملائكة » ، وقرأ حمزة والكسائي «فناداه الملائكة » بالألف وإمالة الدال ، قال أبو علي : من قرأ بالتاء فلموضع الجماعة والجماعة ممن يعقل في جمع التكسير تجري مجرى ما لا يعقل ، ألا ترى أنك تقول : هي الرجال كما تقول : هي الجذوع وهي الجمال ، ومثله : { قالت الأعراب }{[3130]} .
قال الفقيه الإمام : ففسر أبو علي على أن المنادي ملائكة كثيرة ، والقراءة بالتاء على قول من يقول : المنادي جبريل وحده متجهة على مراعاة لفظ الملائكة ، وعبر عن جبريل بالملائكة إذ هو منهم ، فذكر اسم الجنس كما قال تعالى :
{ الذين قال لهم الناس }{[3131]} قال أبو علي : ومن قرأ «فناداه الملائكة » ، فهو كقوله تعالى : { وقال نسوة في المدينة }{[3132]} .
قال القاضي : وهذا على أن المنادي كثير ، ومن قال إنه جبريل وحده كالسدي وغيره فأفرد الفعل مراعاة للمعنى ، وعبر عن جبريل عليه السلام بالملائكة إذ هو اسم جنسه ، وقوله تعالى : { فنادته } عبارة تستعمل في التبشير وفيما ينبغي أن يسرع به وينهى إلى نفس السامع ليسر به فلم يكن هذا من الملائكة إخباراً على عرف الوحي بل نداء كما نادى الرجل الأنصاري كعب بن مالك من أعلى الجبل{[3133]} ، وقوله تعالى : { وهو قائم } جملة في موضع الحال ، و { يصلي } صفة لقائم ، و { المحراب } في هذا الموضع موقف الإمام من المسجد ، وقرأ ابن عامر وحمزة : «إن الله » بكسر الألف ، قال أبو علي : وهذا على إضمار القول ، كأنه قال { فنادته الملائكة } فقالت وهذا كقوله تعالى : { فدعا ربه أني مغلوب }{[3134]} على قراءة من كسر الألف ، وقال بعض النحاة : كسرت بعد النداء والدعاء لأن النداء والدعاء أقوال ، وقرأ الباقون بفتح الألف من قوله : { أن الله يبشرك } قال أبو علي : المعنى فنادته بأن الله فلما حذف الجار منها وصل الفعل إليها فنصبها ، ف «إن » في موضع نصب ، وعلى قياس قول الخليل في موضع جر ، وفي قراءة عبد الله «في المحراب ، يا زكرياء إن الله » ، قال أبو علي : فقوله «يا زكرياء » في موضع نصب بوقوع النداء عليه ، ولا يجوز فتح الألف في «إن » على هذه القراءة لأن نادته قد استوفت مفعوليها أحدهما الضمير ، والآخر المنادى ، فإن فتحت «إن » لم يبق لها شيء متعلق به ، قال أبو علي : وكلهم قرأ { في المحراب } بفتح الراء إلا ابن عامر فإنه أمالها ، وأطلق ابن مجاهد القول في إمالة ابن عامر الألف من محراب ولم يخص به الجر من غيره ، وقال غير ابن مجاهد : إنما نميله في الجر فقط .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : «يبشرك » ، بضم الياء وفتح الباء والتشديد في كل القرآن إلا في «عسق » فإنهما قرآ { ذلك الذي يبشر الله عباده }{[3135]} بفتح الياء ، وسكون الباء ، وضم الشين ، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر ، «يبشِّرك بشد الشين المكسورة في كل القرآن ، وقرأ حمزة «يبشُر » خفيفاً بضم الشين مما لم يقع{[3136]} في كل القرآن إلا قوله تعالى ، { فبم تبشرون }{[3137]} وقرأ الكسائي «يبشر »
مخففة في خمسة مواضع في آل عمران في قصة زكرياء وقصة مريم وفي سورة بني إسرائيل والكهف ، ويبشر المؤمنين ، وفي «عسق »{ يبشر الله عباده } ، قال غير واحد من اللغويين : في هذه اللفظة ثلاث لغات ، بشّر بشد الشين ، وبشر بتخفيفها{[3138]} ، وأبشر يبشر إبشاراً ، وهذه القراءات كلها متجهة فصيحة مروية ، وفي قراءة عبد الله بن مسعود «يُبشِرك » بضم الياء وتخفيف الشين المكسورة من - أبشر- وهكذا قرأ في كل القرآن .
و { يحيى } اسم سماه الله به قبل أن يولد ، قال أبو علي : هو اسم بالعبرانية صادف هذا البناء ، والمعنى من العربية ، قال الزجاج : لا ينصرف لأنه إن كان أعجمياً ففيه التعريف والعجمة ، وإن كان عربياً فالتعريف ووزن الفعل ، وقال قتادة : سماه الله يحيى لأنه أحياه بالإيمان { مصدقاً } نصب على الحال وهي مؤكدة بحسب حال هؤلاء الأنبياء عليهم السلام ، وقوله تعالى : { بكلمة من الله } ، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن والسدي وغيرهم ، «الكلمة » هنا يراد بها عيسى ابن مريم .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : وسمى الله تعالى عيسى كلمة إذ صدر عن كلمة منه تعالى لا بسبب إنسان آخر كعرف البشر ، وروى ابن عباس : أن امرأة زكرياء قالت لمريم وهما حاملتان : إني أجد ما في بطني يتحرك لما في بطنك ، وفي بعض الروايات ، يسجد لما في بطنك{[3139]} قال ، فذلك تصديقه .
قال الفقيه أبو محمد : أي أول التصديق ، وقال بعض الناس : { بكلمة من الله } ، معناه بكتاب من الله الإنجيل وغيره من كتب الله فأوقع المفرد موقع الجمع ، فكلمة اسم جنس ، وعلى هذا النظر سمت العرب القصيدة الطويلة كلمة{[3140]} ، وقوله تعالى : { وسيداً } قال فيه قتادة : أي والله سيد في الحلم والعبادة والورع ، وقال مرة : معناه في العلم والعبادة ، وقال ابن جبير : { وسيداً } أي حليماً ، وقال مرة : السيد التقي وقال الضحاك : { وسيداً } أي تقياً حليماً ، وقال ابن زيد : السيد الشريف ، وقال ابن المسيب : السيد الفقيه العالم ، وقال ابن عباس : { وسيداً } يقول ، تقياً حليماً ، وقال عكرمة : السيد الذي لا يغلبه الغضب .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه كل من فسر من هؤلاء العلماء المذكورين السؤدد بالحلم فقد أحرز أكثر معنى السؤدد ومن جرد تفسيره بالعلم والتقى ونحوه فلم يفسر بحسب كلام العرب ، وقد تحصل العلم ليحيى عليه السلام بقوله عز وجل { مصدقاً بكلمة من الله } وتحصل التقى بباقي الآية ، وخصه الله بذكر السؤدد الذي هو الاحتمال في رضى الناس على أشرف الوجوه دون أن يوقع في باطل ، هذا لفظ يعم السؤدد ، وتفصيله أن يقال : بذل الندى ، وهذا هو الكرم وكف الأذى ، وهنا هي العفة بالفرج واليد واللسان واحتمال العظائم ، وهنا هو الحلم وغيره من تحمل الغرامات وجبر الكسير والإفضال على المسترفد ، والإنقاذ من الهلكات ، وانظر أن النبي عليه السلام قال : أنا سيد ولد آدم ولا فخر يجمع الله الأولين والآخرين ، وذكر حديث الشفاعة{[3141]} في إطلاق الموقف ، وذلك منه احتمال في رضى ولد آدم فهو سيدهم بذلك ، وقد يوجد من الثقات{[3142]} العلماء من لا يبرز في هذه الخصال ، وقد يوجد من يبرز في هذه فيسمى سيداً وإن قصر في كثير من الواجبات أعني واجبات الندب والمكافحة في الحق وقلة المبالاة باللائمة ، وقد قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه : ما رأيت أحداً أسود من معاوية بن أبي سفيان قيل له ، وأبو بكر وعمر ؟ قال : هما خير من معاوية ومعاوية أسود منهما ، فهذه إشارة إلى أن معاوية برز في هذه الخصال ما لم يواقع محذوراً ، وأن أبا بكر وعمر كانا من الاستضلاع بالواجبات وتتبع ذلك من أنفسهما وإقامة الحقائق على الناس بحيث كانا خيراً من معاوية ومع تتبع الحقائق وحمل الناس على الجادة وقلة المبالاة برضاهم والوزن بقسطاس الشريعة تحريراً ينخرم كثير من هذه الخصال التي هي السؤدد ويشغل الزمن عنها ، والتقى والعلم والأخذ بالأشد أوكد وأعلى من السؤدد ، أما إنه يحسن بالتقي العالم أن يأخذ من السؤدد بكل ما لا يخل بعلمه وتقاه ، وهكذا كان يحيى عليه السلام ، وليس هذا الذي يحسن بواجب ولا بد ، كما ليس التتبع والتحرير في الشدة بواجب ولا بد ، وهما طرفا خير حفتهما الشريعة ، فمن صائر إلى هذا ومن صائر إلى هذا ، ومثال ذلك ، حاكم صليب معبس فظ على من عنده أدنى عوج لا يعتني في حوائج الناس ، وآخر بسط الوجه بسام يعتني فيما يجوز ، ولا يتتبع ما لم يرفع إليه وينفذ الحكم مع رفق بالمحكوم عليه فهما طريقان حسنان .
وقوله تعالى : { وحصوراً } أصل هذه اللفظة الحبس والمنع ، ومنه الحصير لأنه يحصر من جلس عليه ومنه سمي السجن حصيراً وجهنم حصيراً ، ومنه حصر العدو وإحصار المرض والعذر ، ومنه قيل للذي لا ينفق مع ندمائه حصور ، قال الأخطل{[3143]} : [ البسيط ]
وشارِب مرْبح بالْكَأْسِ نَادَمني . . . لا بالحصورِ وَلاَ فِيها بِسَوَّارِ{[3144]}
ويقال للذي يكتم السر حصور وحصر ، قال جرير{[3145]} : [ الكامل ]
وَلَقَدْ تَسَاقَطَني الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا . . . حَصِراً بسرِّكِ يا أميمُ ضَنِينَا{[3146]}
وأجمع من يعتدّ بقوله من المفسرين على أن هذه الصفة ليحيى عليه السلام إنما هي الامتناع من وطء النساء إلا ما حكى مكي من قول من قال : إنه الحصور عن الذنوب أي لا يأتيها ، وروى ابن المسيب عن ابن العاصي { إما عبد الله وإما أبوه } عن النبي عليه السلام ، أنه قال : «كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكرياء » ، قال : ثم دلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى الأرض فأخذ عويداً صغيراً ، ثم قال : «وذلك أنه لم يكن له ما للرجال إلا مثل هذا العود ، ولذلك سماه الله سيداً وحصوراً »{[3147]} ، وقال ابن مسعود «الحصور » العنين ، وقال مجاهد وقتادة : «الحصور » الذي لا يأتي النساء ، وقال ابن عباس والضحاك : الحصور الذي لا ينزل الماء .
قال القاضي : ذهب بعض العلماء إلى أن حصر يحيى عليه السلام كان لأنه لم يكن له إلا مثل الهدبة ، وذهب بعضهم إلى أن حصره كان لأنه كان عنيناً لا يأتي النساء وإن كانت خلقته غير ناقصة ، وذهب بعضهم إلى أن حصره كان بأنه يمسك نفسه تقى وجلداً في طاعة الله وكانت به القدرة على جماع النساء ، قالوا : وهذا أمدح له وليس له في التأويلين الأولين مدح ، إلا بأن الله يسر له شيئاً لا تكسب له فيه ، وباقي الآية بيّن ، وروي من صلاحه عليه السلام أنه كان يعيش من العشب وأنه كان كثير البكاء من خشية الله حتى خدد الدمع في وجهه طرقاً وأخاديد .