فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (30)

{ ربك } مالكك ووليك ومصلحك

{ للملائكة } للخلق النورانيين سكان السماء جند الله المطيعين

{ جاعل } خالق . { خليفة } يخلف من كان قبله في الأرض

{ يسفك } يصب . { نسبح } ننزهك عما لا يليق بصفاتك .

{ نقدس } نعظمك ونمجدك ونطهر ذكرك عما لا يليق بك .

{ وإذ قال ربك } امتن الله تعالى بأن خلق علوي الكون وسفليه وسخره لنا ثم امتن بتكريمه لأبي البشر لآدم عليه السلام وتشريفه لكل بني جنسنا وإذ{[196]} قد تكون مسبوقة بجملة مقدرة أي : وابتدأ خلقكم إذا قال أو متعلقة بفعل محذوف ، تقديره : واذكر إذ قال ربك ، أو التقدير : واذكر وقت قول ربك{[197]} { للملائكة } جمع ملك والتاء للمبالغة كعلامة ونسابة .

{ إني جاعل في الأرض خليفة } : إني خالق في هذا الكوكب الأرضي من يخلف الذين كانوا قبل فيها أو خلقا يخلق بعضهم بعضا عن أبي مسعود وابن عباس وأهل التأويل أن المعنى بالخليفة هنا آدم- عليه السلام- وهو خليفة الله في إمضاء أحكامه وأوامره- هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة يسمع له لتجتمع به الكلمة وتنفذ به أحكام الخليفة ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة . . ودليلنا قول الله تعالى : { إني جاعل في الأرض خليفة } ، وقوله تعالى : { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض . . . } {[198]} وقال : { وعد الله الذي آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض . . }{[199]} أي : يجعل منهم خلفاء . . واختلفت فيما يكون به الإمام إماما وذلك ثلاث طرق أحدهما النص ، . . فإذا نص المستخلف على واحد معين كما فعل الصديق أو على جماعة كما فعل عمر وهو الطريق الثاني ويكون التخيير إليهم في تعيين واحد منهم كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في تعيين عثمان ابن عفان رضي الله عنه ، الطريق الثالث إجماع أهل الحل والعقد . . . شرائط الإمام . . . أحد عشر-{[200]} .

{ قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويفسد الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } نقل ابن جرير ؛ وقال بعضهم : إنما قالت الملائكة ما قالت { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } لأن الله أذن لهم في السؤال عن ذلك بعد ما أخبرهم أن ذلك كائن من بني آدم فسألتهم الملائكة فقالت على التعجب منها : فكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم ؟ فأجابهم ربهم : { إني أعلم ما لا تعلمون } يعني أن ذلك كائن منهم . . . قال ، وقال بعضهم ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك فكأنهم قالوا يا رب اخبرنا – مسألة اختبار منهم لا على وجه الإنكار- واختاره ابن جرير لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقا وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها فقالوا : { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } ؟ فإذا كان المراد عبادك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك أي نصلي لك ولا يصدر منا شيء من ذلك وهلا وقع الاقتصار علينا ؟ قال الله تعالى مجيبا لهم عن هذا السؤال { إني أعلم ما لا تعلمون } أي إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد الذي ذكرتموها مالا تعلمون أنتم ، فإني سأجعل فيهم الأنبياء وأرسل فيهم الرسل ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون والعلماء العاملون والخاشعون والمحبون له تبارك وتعالى ، المتبعون رسله صلوات الله وسلامه عليهم جميعا –{[201]}قال ابن جرير : التقديس هو التعظيم والتطهير ومنه . . . سبوح قدوس ، . . : تنزيه له : . . قدوس : طهارة وتعظيم ، وكذلك قيل للأرض مقدسة يعني . . المطهرة فمعنى قول الملائكة : ونحن نسبح بحمدك ننزهك ونبرؤك مما يضيفه إليك أهل الشرك بك { ونقدس لك } ننسبك إلى من هو من صفاتك من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك ، روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : أي الكلام أفضل ؟ ( قال ما اصطفى الله لملائكته : سبحان الله وبحمده ) .


[196]:إذ وإذا حرفا توقيت فإذ للماضي وإذا للمستقبل وقد توضع إحداهما قرب الأخرى وقال المبرد: إذا جاء [إذ] مع مستقبل كان معناه ماضيا نحو قوله (وإذ يمكر بك) (وإذ تقول للذى أنعم الله عليه): معناه إذ مكروا وإذا قلت وإذا جاء [إذا] مع الماضي كان معناه مستقبلا كقوله تعالى {فإذا جاءت الطامة} {فإذا جاءت الصاخة} {وإذا جاء نصر الله} أي يجيء.
[197]:وذلك كقوله سبحانه: (واذكر أخا عاد إذ أنذر...) أي وقت إنذاره على أنه بدلا من أخا عاد لأن الذكر في ذلك الوقت ممتنع.
[198]:سورة ص من الآية 26.
[199]:سورة النور من الآية 55.
[200]:ما بين العارضتين مما أورد صاحب الجامع لأحكام القرآن وقد ساق بحثا في عشر صفحات ونقل فيه إجماع الصحابة على تقديم الصديق ثم إن الصديق لما حضرته الوفاة عهد إلى عمر في الإمامة ثم ذكر ما ادعاه الإمامية من أحقية علي بالخلافة قبل الشيخين وأبطل مدعاهم بأدلة ومنها الإجماع ورد على ما احتجوا به إذ طعن فيه أبو داود السجستاني وأبو حاتم الرازي ثم أشار إلى أن عقد الإمامة لا يشترط فيه جماعة كبيرة ونقل الإجماع على ذلك كما تكلم في أمر الشهادة على عقد الإمامة وفي نصب المفضول مع وجود الفاضل إذا خفيت الفتنة وهل يعزل بفسق أم بكفر؟ وساق ثلاثة أحاديث صحيحة تعضد القول بأنه لا يعزل إلا بالكفر ووجوب البيعة ومنع إقامة إمامين أو أكثر وألا ينصر الخارجي وإن أظهر العدالة على إمام فاسق إلا ظهرت عدالة الخارجي وعدله واتفق على خلع الأول ثم ختم البحث المستفيض بقوله: وأما معاوية فلم يدع الإمامة لنفسه وإنما ادعى ولاية الشام بتولية من قبله من الأئمة...ا. ه.
[201]:ما بين العارضتين من تفسير القرآن العظيم لأبي الفداء إسماعيل ابن كثير.