قوله تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ }{[30355]} الآية .
قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة : نزلت في قوم من الأعراب كانوا يقدمون المدينة مهاجرين من باديتهم ، فكان أحدهم إذا قدم المدينة فصحَّ بها جسمه ، ونتجت فرسه مهراً حسناً ، وولدت امرأته غلاماً ، وكثر ماله قال : هذا دين حسن ، وقد أصبت فيه خيراً واطمأن إليه ، وإن أصابه مرض وولدت امرأته جارية وأجهضت رماكه{[30356]} ، وقَلَّ مالُه قال ما أصبت منذ دخلت هذا الدين إلا شراً فينقلب عن دينه ، وذلك الفتنة ، فأنزل الله تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ{[30357]} } . قال أكثر المفسرين : أي : على شك ، وأصله من حرف الشيء ، وهو طرفه{[30358]} . وقيل : على انحراف ، أو على طرف الدين لا في وسطه كالذي يكون في طرف العسكر إن رأى خيراً ثبت وإلا فرَّ{[30359]} . و «عَلَى حَرْف » حال من فاعل «يَعْبُد » أي : متزلزلاً{[30360]} .
ومعنى «عَلَى حَرْفٍ » أي على شك أو على انحراف أو على طرف الدين لا في وسطه .
لما بين{[30361]} حال المظهرين للشرك المجادلين فيه أعقبه بذكر المنافقين فقال : { وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ } ، وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم لا على سكون وطمأنينة ، كالذي يكون على طرف العسكر ، فإن أحس بغنيمة قرّ وإلا فَرّ ، وهذا هو المراد بقوله { فَإن أصَابَهُ خير{[30362]} اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجه } . {[30363]}
قال الحسن : هو المنافق يعبد الله بلسانه دون قلبه ، { فإن أصابه خير } صحة في جسمه وسَعَة في معيشته «اطمأن به » وسكن إليه ، { وإن أصابته فتنة } بلاء في جسده وضيق في معيشته{[30364]} { انقلب على وجهه } ارتد ورجع إلى ما كان عليه من الكفر . {[30365]}
الأول : ما تقدم {[30366]} .
والثاني : قال الضحاك : نزلت في المؤلفة قلوبهم منهم عيينة بن بدر والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس ، قال بعضهم لبعض ندخل في دين محمد فإن أصابنا خير{[30367]} عرفنا أنه حق ، وإن كان غير ذلك عرفنا أنه باطل {[30368]} .
الثالث : قال أبو سعيد الخدري : أسلم رجل من اليهود ، فذهب بصره وماله وولده{[30369]} ، فقال : يا رسول الله أقلني فإني ما أصبت من ديني هذا خيراً ذهب بصري ومالي وولدي . فقال عليه السلام{[30370]} : «إنَّ الإسْلاَمَ لاَ يُقَالُ ، إنَّ الإسْلاَمَ يَسْبِكُ كَمَا تَسْبِكُ النَّارُ خَبَثَ الحَدِيد والذَّهَبَ والفِضَّةَ » ونزلت هذه الآية{[30371]} . وهاهنا إشكال ، وهو أن المفسرين أجمعوا على أن هذه السور مكيَّة إلا ست آيات ذكروها أولها { هذان خَصْمَانِ اختصموا } [ الحج : 19 ] إلى قوله { صِرَاطِ الحميد }{[30372]} [ الحج : 24 ] ولم يعدوا هذه الوقائع ( التي ذكروها في سبب نزول هذه الآية مع أنهم يقولون{[30373]} إن هذه الوقائع ){[30374]} إنما كانت بالمدينة كما تقدم النقل عنهم . فإن قيل : كيف قال : { وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقلب } والخير أيضاً فِتْنَةٌ ، لأنه امتحان . قال تعالى : { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً }{[30375]} [ الأنبياء : 35 ] .
فالجواب : مثل هذا كثيرٌ في اللغة ، لأن النعمة بلاء وابتلاء قال تعالى { فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ }{[30376]} [ الفجر : 15 ] ولكن إنما يطابق اسم البلاء على ما يثقل على الطبع ، والمنافق ليس عنده الخير إلا{[30377]} الخير الدنيوي ، وليس عنده الشر إلا الشر الدنيوي ، لأنه لا دين له ؛ فلذلك وردت الآية على ما يعتقده{[30378]} . فإن قيل : إذا كانت الآية في المنافق فما معنى{[30379]} قوله { انقلب على وَجْهِهِ } وهو في الحقيقة لم يسلم حتى ينقلب .
فالجواب{[30380]} أنه أظهر بلسانه خلاف ما كان أظهره ، فصار يذم الدين عند الشدة وكان من قبل يمدحه وذلك انقلاب على الحقيقة{[30381]} . فإن قيل : مقابل الخير هو الشر فلما قال { فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ } كان يجب أن يقول : وَإِنْ أَصَابَهُ شَرٌّ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ{[30382]} .
فالجواب : لما كانت الشدة ليست بقبيحة لم يقل تعالى : وإن أصابه شرٌّ بل وصفه بما لا يفيد فيه القبح {[30383]} .
قوله : { خَسِرَ الدنيا والآخرة } قرأ العامة «خسر » فعلاً ماضياً ، وهو يحتمل ثلاثة أوجه :
الاستئناف{[30384]} ، والحالية من فاعل «انْقَلَبَ »{[30385]} ، ولا حاجة إلى إضمار ( قد ) على الصحيح {[30386]} .
والبدلية من قوله «انقلب » كما أبدل المضارع من مثله في قوله { يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ }{[30387]} [ الفرقان : 68 – 69 ] .
وقرأ مجاهد والأعرج وابن محيصن والجحدري في آخرين «خَاسِر » بصيغة اسم الفاعل منصوب على الحال{[30388]} ، وهو توكيد كون الماضي في قراءة العامة حالاً وقرئ برفعه ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن يكون فاعلاً ب «انقلب » ، ويكون من وضع الظاهر موضع المضمر ، أي : انقلب خاسر الدنيا والآخرة ، والأصل : انقلب هو{[30389]} .
الثاني : أنه{[30390]} خبر مبتدأ محذوف ، أي هو خاسر{[30391]} .
وهذه القراءة تؤيد الاستئناف في قراءة المضي على التخريج الثاني . وحق من قرأ «خاسر » رفعاً ونصباً أن يجر «الآخرة » لعطفها على «الدنيا » المجرورة بالإضافة . ويجوز أن يبقى النصب فيها ، إذ يجوز أن تكون الدنيا منصوبة ، وإنما حذف التنوين من «خاسر » لالتقاء الساكنين نحو قوله :
وَلاَ ذَاكِرَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلا{[30392]} *** . . .
معنى خسرانه الدنيا هو أن يخسر العز والكرامة وإصابة الغنيمة وأهلية الشهادة والإمامة والقضاء ، ولا{[30393]} يبقى ماله ودمه مصوناً ، وأما خسران الآخرة فيفوته الثواب الدائم ، ويحصل له العقاب الدائم ، و { ذلك هُوَ الخسران المبين }{[30394]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.