اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ أُحِلَّتۡ لَكُم بَهِيمَةُ ٱلۡأَنۡعَٰمِ إِلَّا مَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ غَيۡرَ مُحِلِّي ٱلصَّيۡدِ وَأَنتُمۡ حُرُمٌۗ إِنَّ ٱللَّهَ يَحۡكُمُ مَا يُرِيدُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة المائدة

مدنية كلها إلا قوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } [ الآية : 3 ] فإنها نزلت ب " عرفات " .

قال القرطبي{[1]} : روي أنها نزلت منصرف الرسول صلى لله عليه وسلم من " الحديبية " .

وذكر النقاش عن أبي سلمة أنه قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من " الحديبية " قال يا علي ، أشعرت أنه نزلت علي سورة المائدة ، ونعمت الفائدة{[2]} .

قال ابن العربي : هذا حديث موضوع [ لا يحل لمسلم اعتقاده ]{[3]} أما إنا نقول : سورة المائدة ، ونعمت الفائدة ، فلا نؤثره عن أحد ، ولكنه كلام حسن .

وقل ابن عطية : وهذا عندي لا يشبه كلام النبي صلى الله عليه وسلم وروي عنه صلى الله عليه وسلم [ أنه ]{[4]} قال : " سورة المائدة تدعى في ملكوت الله المنقذة ، تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب " {[5]} .

ومن هذه السورة ما نزل في حجة الوداع ، ومنها ما أنزل عام الفتح ، وهو قوله : { ولا يجرمنكم شنئان قوم } [ الآية : 2 ] ، وكل ما أنزل من القرآن بعد الهجرة فهو مدني ، سواء نزل ب " المدينة " أو في سفر .

والمكي [ هو ] ما نزل قبل الهجرة ، وهي مائة وعشرون آية وألفان وثمانمائة وأربع كلمات ، وإحدى عشر ألف وتسعمائة وثلاثون حرفا .

روي عن أبي ميسرة ، قال :المائدة آخر ما نزل ، ليس فيها منسوخ{[6]} .

قال أبو ميسرة : أنزل الله تعالى في هذه السورة ثمانية عشر حكما ، لم ينزلها في غيرها ، [ وهي ]{[7]} قوله سبحانه : { والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع } ، { وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام } ، { وما علمتم من الجوارح مكلبين } ، { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } ، { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } .

وتمام الطهر في قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة } ، { والسارق والسارقة } و{ لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } إلى قوله : { عزيز ذو انتقام } الآية ، و{ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } [ وقوله تعالى : { شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت } قال القرطبي : وفريضة تاسعة عشرة وهي قوله عز وجل : ]{[8]} { وإذا ناديتم إلى الصلاة }{[9]} ليس للأذان ذكر في القرآن إلا في هذه السورة .

أما ما جاء في سورة " الجمعة " مخصوص بالجمعة ، وهو في هذه السورة عام في جميع الصلاة .

روي عن النبي صلى الله عليه وسلم [ أنه ]{[10]} قرأ [ سورة ]{[11]} المائدة في حجة الوداع ، وقال : " يا أيها الناس ، إن سورة المائدة من آخر ما نزل ، فأحلوا حلالها ، وحرموا حرامها " {[12]} .

وقال الشعبي{[13]} : لم ينسخ من هذه السورة غير قوله : { ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد } الآية .

وقال بعضهم : نسخ منها : " وآخران من غيركم " .

{ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } بالعقود أي : بالعهود ، ويقال : وَفَّى بالعهد ، وأوفى به .

قال الزَّجَّاج : هي أوكد العهود{[10494]} ، ويقال : عاقدت فلاناً ، وعقدت عليه ، أي : ألزمته ذلك باستيثاق ، وأصله من عقد الشيء بغيره ، ووصله به كما يعقد الحبل بالحبل .

فالعهد إلزام ، والعقد التزام على سبيل الإحكام ، ولما كان الإيمان هو المعرفة بالله تعالى وصفاته وأحكامه ، وكان من جملة أحكامه أنه يجب على الخَلْقِ إظهار الانقياد لله تعالى في جميع تكاليفه وأوامره ونواهيه - أمر بالوفاء بالعقود ، أي : أنكم التزمتم بإيمانكم أنواع العقود والطاعة بتلك العقود .

فصل في الكلام على فصاحة الآية

قال القرطبي{[10495]} : هذه الآية مما تلوح فصاحتها{[10496]} وكثرة معانيها على قلة ألفاظها ، لكل بصير بالكلام ؛ فإنها{[10497]} تضمنت خمسة أحكام :

الأول : الأمر بالوفاء بالعقود .

الثاني : تحليل بهيمة الأنعام .

الثالث : استثناء ما يلي بعد ذلك .

الرابع : استثناء حال الإحرام فيما يُصَادُ .

الخامس : ما تقتضيه الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم .

وحكى النقاش أن أصحاب الكندي ، قالوا له : أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن ، فقال : نعم أعمل مثل بعضه فاحتجب أياماً كثيرة ، ثم خرج ، فقال : والله ما أقدر ، ولا يطيق هذا أحد ، إني فتحت المصحف فخرجت سورة " المائدة " ، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ، ونهى عن النكث ، وحلل تحليلاً عاماً ، ثم استثنى استثناء بعد استثناء ، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين [ ولا ]{[10498]} يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد .

فصل في الخطاب في الآية

واختلفوا في هذه العقود ، فقال ابن جريج : هذا خطاب لأهل الكتاب{[10499]} ، يعني : { يا أيها الذين آمنوا } بالكتب المتقدمة أوفوا بالعهود ، التي عهدتها عليكم في شأن محمد - عليه الصلاة والسلام - وهو قوله : { وَإِذَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 187 ] .

وقال آخرون : هو عام .

وقال قتادة : أراد بها الحِلْفَ الذي تعاقدوا عليه في الجاهلية{[10500]} .

وقال ابن عباس : هي عهود الإيمان والقرآن .

قال ابن عباس : " أوفوا بالعقود " أي : بما أحل وبما حرم ، وبما فرض ، وبما حَدَّ في جميع الأشياء كذلك ، قاله مجاهد وغيره{[10501]} .

وقال ابن شهاب{[10502]} [ الدين ]{[10503]} : قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه لعمرو بن حَزْم حين بعثه إلى " نجران " ، وفي صدره : هذا بيان للناس من الله ورسوله ، { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } الآية ، فكتب الآيات فيها ، إلى قوله : { إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }{[10504]} ، والمقصود أداء التكاليف فعلاً وتركاً .

وإنما [ سميت التكاليف عقوداً لأنه - تعالى - ربطها بعبادته كما يربط الشيء بالشيء بالحبل ]{[10505]} الموثق .

وقيل : هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم .

فصل في فقه الآية

قال الشافعي{[10506]} : إذا نذر صوم [ يوم ]{[10507]} العيد ، أو نذر ذبح الولد لغى .

وقال أبو حنيفة رحمه الله : بل يصح ، واحتج بقوله : " أوفوا بالعقود " وبقوله : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 ] ، وبقوله : { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ } [ الإنسان : 7 ] { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ } [ البقرة : 177 ] ولقوله عليه الصلاة والسلام : " أوفِ بنَذْرِكَ " .

وقال الشافعي : هذا نذر معصية ، فيكون لغواً ؛ لقوله عليه السلام : " لا نذر في معصية الله " {[10508]} .

وقال أبو حنيفة : خيار المجلس غير ثابت ؛ لأن البيع والشراء قد انعقدا ، فحرم الفسخ لقوله تعالى : { أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } .

وقال الشافعي : يثبت ؛ لأن هذا العموم [ قد خص بقوله عليه الصلاة والسلام : " المتبايعان بالخيار كل واحد منهما ما لم يتفرقا " .

وقال أبو حنيفة : الجمع بين الطلقات ]{[10509]} حرام ؛ لأن النكاح عقد ، فوجب أن يحرم رفعه لقوله تعالى : { أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } تُرك العمل به في الطلقة الواحدة بالإجماع ، فيبقى فيما عداها على الأصل .

وقال الشافعي : ليس بحرام لتخصيص هذا العموم بالقياس ، وهو أنه لو حرم الجمع لما نفذ ، وقد نفذ فلا يحرم .

قوله سبحانه : { أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } لما قرر أولاً جميع التكاليف من حيث الجملة ، شرع في ذكرها من حيث التفصيل .

والبهيمة كل ذات أربع في البر والبحر [ وقيل{[10510]} : ما أبهم من جهة نقص النطق والفهم .

قالوا وأصله : كل حي لا عقل له فهو بهيمة ]{[10511]} من قولهم : استبهم الأمر على فلان إذا أشكل ، وهذا البابُ مُبْهم ، أي : مسدود الطريق ، ثم اختص هذا الاسم بذوات الأربع ، وكل ما كان على وزن " فعيل " أو " فعيلة " حلقي العين ، جاز في فائه الكسر إتباعاً لعينه ، نحو : بهيمة ، وشعيرة ، وصغيرة ، وبحيرة{[10512]} .

والأنعام هي الإبل والبقر والغنم ، قال تعالى : { وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ } [ النحل : 5 ] إلى قوله : { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا } [ النحل : 8 ] وقال تعالى : { مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعاماً } [ يس : 71 ] إلى قوله : { فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } [ يس : 72 ] وقال : { وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً } [ الأنعام : 142 ] .

وقال الواحدي{[10513]} : لا يدخل في اسم الأنعام الحافر ؛ لأنه مأخوذ من نعومة الوطء{[10514]} ، وقد تقدم في " آل عمران " .

فإن قيل : البهيمة اسم جنس ، والأنعام اسم نوع ، فقوله : " بهيمة الأنعام " يجري مجرى قول القائل : حيوان الإنسان ، فالحيوان إن قلنا{[10515]} إن المراد بالبهيمة وبالأنعام شيء واحد ، فإضافة البهيمة إلى الأنعام [ إما للبيان ]{[10516]} فهو كقولك : خاتم فضّة ، أي : من فضّة ، ومعناه [ أنَّ ]{[10517]} البهيمة من الأنعام ، أو للتأكيد كقولنا : نفس الشيء وذاته وعينه .

وإن قلنا : المراد بالبهيمة شيء ، والأنعام شيء آخر ، ففيه وجهان :

أحدهما : أن المراد من بهيمة الأنعام الظباء وبقر الوحش ونحوها ، كأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ، ويدانيها من جنس البهائم في الاجترار ، فأضيف الاجترار إلى الأنعام لحصول المشابهة .

والثاني : أن المراد ببهيمة{[10518]} الأنعام أجنة الأنعام ، روي عن ابن عباس [ - رضي الله عنهما - ] أن بقرة ذبحت ، فوجد في بطنها{[10519]} جنين ، فأخذ ابن عباس بذنبه ، وقال : هذا من بهيمة الأنعام{[10520]} .

وعن ابن عمر أنها أجنة الأنعام{[10521]} ، وذكاته ذكاة أمه ، ومثله عن الشعبي .

وذهب أكثر أهل العلم إلى تحليله ؛ لما روى أبو سعيد ، قال : " قلنا : يا رسول الله : " نَنْحَرُ الناقة ، ونذبح البقرة والشاة ، فنجد في بطنها الجنين ، أنلقيه أم نأكله " ؟ قال : " كُلُوهُ إنْ شِئْتُمْ ، فإنَّ ذكاتَه ذكاة أمِّهِ " {[10522]} " وشرط بعضهم الإشعار .

فإن قيل : لو قال : أحلت لكم الأنعام ، لكان الكلام تاماً ؛ كقوله تعالى في آية أخرى : { وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ } [ الحج : 30 ] فما فائدة زيادة لفظ " البهيمة " هنا ؟

[ الجواب : إن قلنا : إن بهيمة الأنعام هي الأجنة ]{[10523]} فالجواب : ما تقدم من الإضافة ، أعني{[10524]} إضافة بهيمة الأنعام .

فإن قيل : لِمَ أفرد " البهيمة " وجمع لفظ " الأنعام " ؟

فالجواب : إرادة للجنس .

فصل في الرد على شبهة الثنوية

قالت الثنوية{[10525]} : ذبح الحيوان إيلامٌ ، والإيلام قبيح ، والقبيح لا يرضى به الإله الرحيم الحكيم{[10526]} ، فيمتنع أن يكون الذبح حلالاً مباحاً بحكم الله ، وتحقيق ذلك{[10527]} أن هذه الحيوانات ليس لها قدرة على الدفع عن أنفسها ، ولا لها لسان تحتج به على من قصد إيلامها ، وإيلام من بلغ في العجز إلى هذا الحد أقبح .

وعند هذه الشبهة افترق المسلمون فرقاً كثيرة :

فقالت المكرمية{[10528]} : لا نسلم أن هذه الحيوانات تتألم{[10529]} عند الذبح ، بل لَعَلَّ تعالى يرفع عنها ألم الذبح ، وهذا مكابرة للضروريات .

وقالت المعتزلة : لا نسلم أن الإيلام قبيح مطلقاً ، بل إنما يقبح إذا لم لم يكن مسبوقاً بجناية ، ولا ملحوقاً بعوض .

وهاهنا الله تعالى عوض هذه الجنايات بأعواض شريفة ، فخرج هذا الذبح عن كونه ظُلْماً .

ويدلُّ على صحة ما قلناه أن ما تقرر في العقول أنه يحسن تحمل{[10530]} ألَم الفَصْد والحجامة لطلب الصحة ، فإذا حَسُنَ تحمُّل الألم القليل لأجل المنفعة العظيمة ، فكذا القول في الذبح .

وقال أهل السُّنة : إن الإذن في ذبح الحيوانات تصرف من الله تعالى في ملكه والمالك لا اعتراض عليه إذا تصرف في ملك نفسه ، والمسألة طويلة .

فصل

قال بعضهم{[10531]} : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } مجمل ؛ لأن الإحْلال إنما يضاف إلى الأفعال ، وهاهنا أضيف إلى الذات ، فتعذر إجراؤه على ظاهره ، فلا بُدَّ من إضمار فعل ، وليس إضمار الأفعال أولى من بعض ، فيحتمل{[10532]} أن يكون المراد إحلال الانتفاع بجلدها ، أو بعظمها ، أو صوفها ، أو لحمها ، أو المراد إحلال الانتفاع بالأكل{[10533]} ، فصارت الآية مجملة ، إلا أن قوله تعالى : { وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } [ النحل : 5 ] دل على أن المراد بقوله : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ } إباحة الانتفاع من كل هذه الوجوه ، والله أعلم .

[ قوله { إلا ما يتلى عليكم } هذا مستثنى من " بهيمة الأنعام " والمعنى : ما يتلى عليكم تحريمه ]{[10534]} وذلك قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } [ المائدة : 3 ] إلى قوله :

{ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } [ المائدة : 3 ] .

وفي هذا الاستثناء قولان :

أحدهما : أنه متصل .

والثاني : أنه منقطع حسب ما فُسر به المتلوُّ عليهم ، كما سيأتي بيانه .

وعلى تقدير كونه [ استثناء ]{[10535]} متصلاً يجوز في محلّه وجهان :

أظهرهما : أنه منصوب ؛ لأنه استثناء متصل من موجب ، ويجوز أن يرفع على أنه نعت ل " بهيمة " على ما قرر في علم النحو .

ونقل ابن عطيَّة عن الكوفيين وجهين آخرين

أحدهما : أنه يجوز رفعه على البدل من " بهيمة " .

والثاني : أن " لا " حرف عطف ، وما بعدها عطف على ما قبلها ، ثم قال : وذلك لا يجوز عند البصريين إلا من نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس ، نحو : جاء الرجال إلا زيد ، كأنك قلت : غير زيد ، وقوله : وذلك ظاهره أنه مُشارٌ به إلى الوجهين : البدل والعطف .

وقوله : إلا من نكرة غير ظاهر ؛ لأن البدل لا يجوز ألبتة من موجب عند أحد من الكوفيين [ والبصريين .

ولا يُشترط في البدل التوافقُ تعريفاً وتنكيراً وأما العطف فذكره بعض الكوفيين ]{[10536]} .

وأما الذي اشترط البصريون فيه التنكير ، أو ما قاربه ، فإنما اشترطوه في النعت ب " إلاَّ " فيُحتمل{[10537]} أنه اختلط على أبي محمد شرط النعت ، فجعله شرطاً في البدل ، هذا كله إذا أريد بالمتلوِّ عليهم تحريمه في قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } [ المائدة : 3 ] إلى آخره .

وإن أريد به الأنعامُ والظباء وبقرُ الوحش وحُمره ، فيكون منقطعاً بمعنى " لكن " عند البصريين ، وبمعنى " بل " عند الكوفيين .

وسيأتي بيان هذا المنقطع [ بأكثر من هذا ]{[10538]} في نصب " غير " .

قوله : " غَيْرَ " في نصبه خمسة أوجه :

أحدها : أنه حال من الضمير المجرور في " لكم " ، وهذا قول الجمهور ، وإليه ذهب الزمخشري ، وابن عطية وغيرهما .

وقد ضعف هذا الوجه بأنه يلزم منه تقييدُ إحلال بهيمة الأنعام لهم بحال كونهم غَيْرَ محلِّي الصيد ، وهم حرم ؛ إذْ يصير معناه : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } [ في حال كون انتفاء كونكم تحلون الصيد ، وأنتم حرم ، والغرض أنهم قد أحلت لهم بهيمة الأنعام ]{[10539]} في هذه الحال وفي غيرها ، هذا إذا أريد ببهيمة الأنعام نفسها .

وأما إذا عني بها الظباء ، وحُمُر{[10540]} الوحش ، وبقره على ما فسَّره بعضهم ، فيظهر للتقييد بهذه الحالة فائدة ؛ إذ يصير المعنى " أحلّت لكم " هذه الأشياء حال انتفاء كونكم تحلُّون الصيد وأنتم حرم ، فهذا{[10541]} معنى صحيح ، ولكن التركيب [ الذي قدرته لك ]{[10542]} فيه قَلَقٌ ولو أريد هذا المعنى من الآية الكريمة لجاءت به على أحسن تركيب وأفصحه .

القول الثاني : وهو قول الأخفش وجماعة أنه حال من فاعل " أوفوا " ، والتقدير : أوفوا بالعقود في حال انتفاء كونكم محلِّين الصيد وأنتم حُرم ، وقد ضعفوا هذا المذهب{[10543]} من وجهين :

الأول : أنه يلزم [ منه ]{[10544]} الفَصْلُ بين الحال وصاحبها بجملة أجنبية ، ولا يجوز الفَصْل إلا بجمل الاعتراض ، وهذه الجملة وهي قوله : { أحلَّت لكم بهيمة الأنعام } ليست اعتراضية ، بل هي منشئة أحكاماً ومبينة لها .

وجملة الاعتراض إنما تفيد تأكيداً وتسْديداً .

والثاني : أنه يلزم تقييد الأمر بإيفاء{[10545]} العقود بهذه الحالة ، ويصير التقدير ؛ كما تقدم ، فإذا اعتبرنا مَفْهُومه يصير المعنى : فإذا انتفت هذه الحال فلا توفوا بالعقود ، والأمر ليس كذلك فإنهم مأمورون بالإيفاء بالعقود على كل حال من إحرام وغيره .

الوجه الثاني : أنه منصوب على الحال من الضمير المجرور في " عليكم " [ أي ]{[10546]} : لا [ ما ]{[10547]} يتلى عليكم ، حال انتفاء كونكم محلّين الصيد ، وهو ضعيف أيضاً بما تقدم من أن المتلو عليهم لا يتقيد بهذا الحال دون غيرها ، بل هو متلو عليهم في هذه الحال ، وفي غيرها .

الوجه الرابع : أنه حال من الفاعل المقدر يعني الذي حُذِفَ ، وأقيم المفعول مقامه في قوله تعالى : { أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ } ، فإن التقدير عنده : أحل الله لكم بهيمة الأنعام غير محلي لكم الصيد وأنتم حرم ، فحذف الفاعل ، وأقام المفعول مقامه ، وترك الحال من الفاعل باقية .

وهذا الوجه فيه ضعف من وجوه :

الأول : أن الفاعل المنوب عنه صار نَسْياً{[10548]} مَنْسياً غير ملتفت{[10549]} إليه ، نَصُّوا على ذلك ، لو قلت : أنزل الغيث مجيباً لدعائهم ، وتجعل مجيباً حال من الفاعل المنوب عنه ؛ فإن التقدير : أنزل الله الغيث حال إجابته لدعائهم ، لم يجز ، فكذلك هذا ، ولا سيما إذا قيل : بأن بنية الفعل المبني للمفعول بنية مستقلة غير محلولة{[10550]} من بنية مبنية للفاعل كما هو قول الكوفيين ، وجماعة من البصريين .

الثاني : أنه يلزم منه [ التقييد بهذه الحال إذا عُني بالأنعام الثمانية الأزواج ، وتقييد إحلاله تعالى لهم هذه الثمانية الأزواج بحال انتفاء إحلاله الصيد وهم حرم والله تعالى قد أحل لهم هذه مطلقاً ]{[10551]} .

الثالث : أنه كتب " مُحلّي " بصيغة الجمع ، فكيف يكون حالاً من الله تعالى ، وكأن هذا القائل زعم أن{[10552]} اللفظ " محل " من غير ياء ، وسيأتي ما يشبه هذا القول .

الوجه الخامس{[10553]} : أنه منصوب على الاستثناء المكرر ، يعني أنه هو وقوله : " إلا ما يتلى [ عليكم ]{[10554]} " مستثنيان من شيء واحد ، وهو بهيمة الأنعام .

نقل ذلك بعضهم عن البصريين ، قال : والتقدير : إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد ، وأنتم محرمون ، بخلاف قوله تعالى : { إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } [ الذاريات : 32 ] على ما سيأتي بيانه .

قال هذا القائل : ولو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإحرام ؛ لأنه مستثنى من الإباحة ، وهذا وجه ساقط ، فإذاً معناه : أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلِّي الصيد وأنتم حرم إلا ما يتلى عليكم سوى الصيد . انتهى .

وقال أبو حيان : إنما عرض الإشكال من جعلهم غير محلّي الصيد حالاً من المأمورين بإيفاء العقود ، أو من المحلّل وهو الله تعالى ، أو من المتلو عليهم وغرَّهم في ذلك كونه كتب " مُحِلِّي " بالياء ، وقدروه هم أنه اسم [ فاعل ]{[10555]} من " أحَلَّ " وأنه مضاف إلى " الصيد " إضافة اسم الفاعل المتعدي إلى المفعول ، وأنه جمع حذف منه النون للإضافة ، وأصله غير محلِّين الصيد{[10556]} ، إلا في قول من{[10557]} جعله [ حالاً ]{[10558]} من الفعل{[10559]} المحذوف ، فإنه لا يقدر حذف نون ، بل حذف تنوين ، وإنما يزول الإشكال ويتضح المعنى بأن يكون قوله : " محلي الصيد " من باب قولهم : حِسَان النِّسَاء ، والمعنى : النساء الحسان ، فكذلك [ هذا ]{[10560]} أصله غير الصيد المُحلّ ، [ والمحل ]{[10561]} صفة للصيد لا للناس ، ولا للفاعل المحذوف .

ووصف الصيد أنه " محل " على وجهين :

أحدهما : أن يكون معناه دخل في الحل{[10562]} ، كما تقول : أحَلَّ الرجل إذا دخل في الحِلِّ ، وأحرم{[10563]} إذا دخل في الحرمِ .

والوجه الثاني : أن يكون معناه صار ذا حلٍّ أي : حلالاً بتحليل الله تعالى ، وذلك أن الصيد على قسمين : حلال وحرام .

ولا يختص الصيد في لغة العرب بالحلال ، لكنه يختصُّ به شرعاً ، وقد تجوزت العرب ، فأطلقت الصيد على ما لا يُوصَفُ بحلّ ولا حُرْمة .

كقوله : [ البسيط ]

لَيْثٌ بِعَثَّرَ يَصْطَادُ الرِّجَالَ إذَا *** مَا اللَّيْثُ كَذَّبَ عَنْ أقْرَانِهِ صَدَقَا{[10564]}

وقول الآخر : [ الطويل ]

وَقَدْ ذَهَبَتْ سَلْمَى بِعَقْلِكَ كُلِّهِ *** فَهَلْ غَيْرُ صَيْدٍ أحْرَزَتْهُ حَبَائِلُهْ{[10565]}

وقول امرئ القيس : [ المتقارب ]

وَهِرٌّ تَصِيدُ قُلُوبِ الرِّجَالِ *** وَأفْلَتَ مِنْهَا ابْنُ عمْرٍو حُجُرْ{[10566]}

ومجيءُ " أفْعَلَ " على الوجهين المذكورين كثيرٌ في لِسَانِ العربِ ، فَمِنْ مجيءِ " أفْعَلَ " لبلوغ{[10567]} المكان ، ودخوله قولُهم : أحْرَم الرجلُ ، وأعْرَقَ ، وأشْأمَ ، وأيْمَنَ ، وأتهم ، وأنْجَدَ ، إذا بلغ هذه الأماكنَ ، وحَلَّ بها .

ومن مَجِيء " أفْعَل " بمعنى صار{[10568]} ذا كذا قولُهُمْ : أعْشَبَتِ الأرضُ وأبْقَلَتْ ، وأغَدَّ البعير{[10569]} وألْبَنَتِ الشاة ، وغيرُها ، وأجْرَتِ الكلبُ ، وأصْرَمَ النخل ، وأتْلَتِ{[10570]} الناقةُ ، وأحْصَدَ الزرعُ وأجْرَبَ الرجلُ ، وأنْجبتِ المرأةُ .

وإذا تَقَرَّرَ أنَّ الصيدَ بوَصْفٍ بكونه مُحلاً باعتبار أحد الوجهين المذكورين من كونه بلغ الحلّ أو صار ذا حِلٍّ ، اتَّضَحَ كَوْنُهُ استثناءً ثانياً ، ولا يكون استثناءً من استثناء ؛ إذ لا يمكنُ ذلك لتناقضِ الحُكْم ؛ لأنَّ المستثنى من المحلل{[10571]} مُحرَّمٌ ، [ والمستثنى من المحرم محلل ]{[10572]} بل إنْ كان المعني بقوله : بهيمةَ الأنعامِ الأنعام أنفسها ، فيكون استثناءً منقطعاً وإنْ كان المرادُ الظِّبَاءَ ، وبَقَر الوحْشِ وحُمُرَهُ{[10573]} ، فيكون استثناءً متصلاً على أحد تَفْسِيري المحل ، استثنى الصَّيدَ الذي بلغ الحلّ في حالِ كونِهِم ، مُحْرِمينَ .

فإنْ قُلْتَ : ما فائدةُ هذا الاستثناء بَعْد بُلُوغِ الحل ، والصيدُ الذي في الحرم لا يحلّ أيضاً ؟

قُلْتُ : الصيدُ الذي في الحرمِ لا يَحِلُّ للمحرم ولا لِغَيْر المحْرِمِ ، وإنَّما يحَلّ لِغَيْرِ المحرِمِ الصيدُ الذي في الحلّ ، فنبَّهَ بأنَّهُ إذَا كَان الصيدُ [ الذي ]{[10574]} في الحّل يَحْرمُ على المُحْرم - وإنْ كان حَلالاً لِغَيْرِه - فأحْرَى أن يحرم عليه الصيدُ الذي هو بالحَرَمِ ، وعلى هذا التفسير [ يكون ]{[10575]} قوله : { إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } إنْ كان المرادُ بِهِ ما جاء بعده مِنْ قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ } [ المائدة : 3 ] الآية استثناءً منقطعاً ؛ إذْ لا تختصُّ الميْتَةُ وما ذُكِر معها بالظِّبَاءِ ، وبقرِ الوحشِ وحُمُرِه{[10576]} ، فيَصيرُ التقديرُ : لكِنْ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ أي : تحريمُهُ فهو مُحرَّمٌ{[10577]} وإنْ كانَ المُرادُ ببهيمة الأنْعامِ [ الأنعام ]{[10578]} والوحوش ، فيكون الاستثناءانِ راجعيْن إلى المجموع{[10579]} على التَّفْصِيلِ ، فيَرْجِع { مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } إلى " ثَمَانِيَة " الأزْوَاجِ ، ويرجِعُ { غَيْرَ مُحِلِّي الصّيدِ } إلى الوحوشِ ؛ إذْ لا يمكنُ أنْ يكون الثَّانِي استثناءً من الاستثناءِ الأوَّلِ ، وإذا لم يمكنْ ذلك ، وأمْكَنَ رُجُوعُهُ{[10580]} إلى الأوّلِ بوجهٍ{[10581]} ما رجع إلى الأولِ .

وقد نَصَّ النحويونَ : أنَّه إذا لَمْ يمكنْ استثناء بَعْضِ المستثنيات مِنْ بَعْض جُعِل الكُلّ مُسْتثنى من الأوَّل ، نحو : قام القومُ إلا زيداً إلا عمْراً إلا بَكْراً ، فإن قلت ما ذكرته من هذا التخريجِ الغريبِ ، وهو كونُ المحلّ مِنْ صفة الصَّيْدِ ، لا مِنْ صِفَة النّاسِ ، ولا مِنْ صِفَة الفاعلِ المحذوفِ يَأبَاهُ رَسْمُهُ في المصْحَف " محلّي " بالياء ، ولو كان مِنْ صِفَةِ الصَّيدِ دُونَ الناسِ لكُتبَ " مُحِلّ " من غير ياءٍ ، وكون القُرَّاءِ وَقَفُوا عليه بالياء أيضاً يأبى ذلك .

قلتُ : لا يعكّر ذلك على هذا التخريج ؛ لأنَّهم قَدْ رَسَمُوا في المصحفِ الكريمِ أشياء تخالِفُ النُّطْقَ بها ككتابتهم : { لأَذْبَحَنَّهُ } [ النمل : 21 ] ، { وَلأَوْضَعُواْ } [ التوبة : 47 ] ، ألفاً بَعْد لامِ الألف وكتابتهم { بِأَيْيْدٍ } [ الذاريات : 47 ] بياءين بعد الهمزة وكتابتهم " أولئك " {[10582]} بزيادة واوِ ونَقْصِ ألف بَعْدَ اللاَّمِ ، وكِتَابتِهِمْ : " الصَّالِحَاتِ " [ ونحوه ]{[10583]} بسُقُوطِ العَيْن إلى غير ذلك .

وأمَّا وقْفُهم عليه بالياء فلا يجُوزُ ؛ إذْ لا يُوقَفُ على المضافِ دُونَ المضافِ إليه .

وإنْ وقف واقفٌ فإنَّما يكونُ بقَطْعِ نَفَسِ واختيار .

على أنَّه يمكنُ تَوْجِبهُ كتابتِهِ بالياء والوقفِ عَلَيْه بها ، وهو أن لُغَةَ " الأزْد " {[10584]} يَقفونَ فيها على " بزيدٍ ، بزيدي " بإبدال التَّنْوين ياءً ، فَكُتِبَ " مُحِلّي " على الوقف على هذه اللُّغَةِ - بالياءِ ، وهذا توجيه شُذُوذٍ رَسْمِيّ ، ورسمُ المصحفِ ممّا لا يقاسُ عليه ، انتهى .

قال شهابُ الدين : وهذا الذي ذَكَرَهُ ، وأجازه ، وغَلَّطَ النَّاسَ فيه لَيْسَ بشيء ، وما ذكره من تَوجيه ثُبُوتِ الياءِ خَطّاً ووَقْفاً ، فَخَطَأٌ محض ؛ لأنه على تقدير تَسْلِيم ذلك في تلك اللُّغَةِ ، فأيْنَ التنوينُ الذي في " مُحِلّ " ؟ وكيف يكونُ فيه تنوينٌ ، وهو مضافٌ حَتّى يقول : إنَّه قد يُوجَّهُ بلُغَةِ " الأزْدِ " ؟

وما ذكره مِنْ كونه يَحْتَمِلُ مِمَّا يكونون قَدْ كتبوه كما كتبوا تلك الأمثلة المذكورة ، فَشَيءٌ لا يُعَوَّلُ عليه ؛ لأنّ خَطّ المصحفِ سُنَّة متبعة لا يقاسُ عليها ، فكيفَ يقول : يحتمل أن يقاسَ هذا على تلك الأشياء ؟

وأيضاً فإنهم لم يُعْرِبُوا [ غَيْر ]{[10585]} إلاَّ حالاً ، حتّى نقل بعضُهم الإجْماعَ على ذلك .

وإنما اختلفُوا في صاحِبِ الحالِ ، فقوله : إنه استثناءٌ ثانٍ مع هذه الأوجه الضَّعيفةِ خَرْقٌ للإجماع إلا ما تقدَّم نقْلُهُ عن بعضهِم منْ أنَّه استثناءٌ ثانٍ{[10586]} ، وعَزَاهُ للبصريين{[10587]} ، لكِنْ لا على هذا المَدْرَكِ الذي ذكره الشيخ .

وقديماً وحديثاً اسْتَشْكَلَ النَّاسُ هذه الآية .

وقال ابن عَطِيَّة : وقد خلطَ{[10588]} الناسُ في هذا الموضع في نصب " غَيْرَ " وقدَّرُوا تَقْدِيماتٍ وتَأخِيراتٍ ، وذلك كُلُّه غيرُ مُرضٍ ؛ لأنَّ الكلام على اطّرادِهِ ، فيمكنُ اسْتِثْناء بعد استثناءٍ .

وهذه الآيةُ مِمّا اتضحَ لِلْفُصَحاء{[10589]} والبُلغَاءِ فَصَاحَتُها وبلاغَتُها ، حتى يُحكَى أنَّهُ قِيلَ لِلْكنديّ : أيّها الحكيمُ ، اعْمَلْ لَنَا مِثْلَ هذا القرآنِ ، فقال : نَعَمْ أعمل لَكُمْ مِثْلَ بعضه ، فَاحْتَجَبَ أيَّاماً كثيرةً ، ثُمّ خرج فقال : والله لا يَقْدِرُ أحدٌ على ذلك ، إنّني فتحتُ [ سورة ]{[10590]} من المصحف فخرجتْ{[10591]} سورةُ " المائدة " ، فإذا هو قَدْ نَطَقَ بالوَفَاءِ ، ونَهَى عن النّكثِ ، وحَلَّل تَحْلِيلاً عامّاً ، ثم اسْتَثْنَى استثناءً بعد استثناءٍ ، ثُمَّ أخبر عَنْ قُدْرتِهِ وحِكْمته في سَطْريْنِ .

والجمهورُ على نَصْبِ " غَيْرَ " ، وقرأ ابنُ أبي عَبْلَةَ{[10592]} برفعه ، وفيه وجهان :

أظهرُهُمَا : أنّه نعتٌ ل " بهيمة الأنعام " والمَوْصُوفُ ب " غير " لا يلزمُ فيه أنْ يكونَ مُمَاثِلاً لما بَعْدها [ في جنسه ]{[10593]} تقولُ : مررتُ بِرَجُلٍ غَيْرِ حِمَارٍ ، هكذَا قالُوه ، وفيه نظر ، ولَكِنْ ظاهرُ هذه القراءةِ يَدُلُّ لهم .

والثاني : أنَّهُ نعتٌ للضمير في " يُتْلَى " .

قال ابنُ عَطِيَّة : لأنَّ { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ } في المَعْنَى بمنزلةِ غَيْرِ مُسْتَحَلٍّ إذَا كان صَيْداً ، وفيه تكلُّفٌ ، والصيدُ في الأصلِ مصدرُ : صَادَ يَصِيدُ ويُصَاد ، ويُطْلَقُ على المَصِيدِ ، كدِرْهَمٍ ضَرْبِ الأميرِ .

وهو في الآية الكريمةِ يَحْتَملُ الأمرين أي من كونه بَاقِياً على مَصْدرِيَّته ، كأنَّهٌ قيل : أحِلّ لَكُمْ بهيمَةُ الأنْعَام ، غَيْرَ مُحِلّينَ الاصْطِيادَ وَأنْتُم مُحْرِمُونَ ، ومَنْ كونِهِ وَاقِعاً مَوْقِعَ المفعول أيْ : غَيْر مُحلِّينَ الشَّيْءَ [ المصيد ]{[10594]} وأنتم محرمون .

وقوله : " وَأنْتُمْ حُرُم " مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ في محلِّ نَصْبٍ على الحال ، وما هو صاحبُ هذه الحالِ ؟

فقال الزَّمَخْشَرِيُّ : هِيَ حَال عَنْ " محلّي الصيد " ، كأنه قِيلَ : أحْلَلْنَا لكم بعضَ الأنعامِ في حالِ امْتناعِكُم مِنَ الصيد ، وأنْتُمُ مُحْرِمُونَ ، لِئَلاّ نَتحرَّج عليكم .

قال أبو حَيّان : وقد بَيَّنَا فسادَ هذا القولِ بأنَّ الأنعامَ مُبَاحَةٌ ، مُطْلقاً لا بالتَّقْييدِ بهذا الحالِ .

قال شهاب الدين : وهذا الرَّدُ لَيْسَ بشيءٍ ؛ لأنَّه [ إذا ]{[10595]} أحَلَّ لهم بعضَ الأنعامِ في حالِ امتناعِهِمْ مِنَ الصيد ، فأن يحلَّها لهم وهم غير مُحْرِمين بطريق الأوْلَى و " حُرُم " جمع " حَرَام " بمعنى مُحْرم .

قال : [ الطويل ]

فَقُلْتُ لَهَا : فِيئي إليكِ فإنَّني *** حَرَامٌ وإنِّي بَعْدَ ذَاكَ لَبِيبُ{[10596]}

أيْ : مُلَبٍّ{[10597]} ، وأحْرَمَ إذا{[10598]} دَخَل في الحَرَمِ ، أو في الإحْرَامِ .

وقال مَكيُ بنُ أبي طالب : هو في موضع نَصْبٍ على الحال [ من ]{[10599]} المضمر في " مُحِلّي " ، وهذا هو الصحيحُ .

و [ أما ]{[10600]} ما ذكره الزَّمَخْشَرِيُّ ، فلا يَظْهَرُ فيه مجيءُ الحالِ من المضاف إليه في غير المواضع المستثناة{[10601]} .

وقرأ يَحْيَى بنُ وثَّاب{[10602]} ، وإبراهيم والحسن " حُرْم " بسكون الراء .

وقال أبو الحسن البصريُّ : هي لغة " تَمِيم " يَعْنِي يُسَكِّنون ضمة " فُعُل " جمعاً ، نحو : " رُسْل " . قد تقدم كلامُ المعربين في الآية الكريمة .

قال المفسرون : معنى الآيةِ ، أحِلَّتْ لَكُم الأنعامُ كُلُّها ، إلا ما كان منها وَحْشِيًّا ؛ [ فإنه صَيْدٌ ]{[10603]} لا يَحِلُّ لكم في حال الإحرامِ ، وقوله : { إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } استثناءٌ مُجْمل ، واستثناءُ المجمل من الكلام المفصل يجعلُ ما بقي بعد الاستثناء مُجْملاً ، إلاَّ أن المفسرِينَ أجْمعوا على أنّ المرادَ من هذا الاستثناءِ هو قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } [ المائدة : 3 ] ووجهُ هذا أن قوله { أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ } يقتضي إحْلاَلَها لهم على جميع الوجوهِ ، ثُمَّ بيَّن أنّها إنْ كانت مَيْتةً أو موقُوذةً أو مُتردِّيةً أو نَطيحةً أو افترسها السبعُ أو ذُبِحت على غير اسم الله فهي مُحرمةٌ .

وقوله : { غَيْرَ مُحِلِّي الصّيد } معناه : أنه لما أحلّ بهيمة الأنعامِ ، ذكر الفرقَ بين صيدها وغيره ، فبيَّن أنَّ كُلَّ ما كان صَيْداً ، فإنّه حلالٌ في الإحلالِ دُونَ الإحرامِ ، وما لم يكنْ صيداً فإنّه حلالٌ في الحاليْنِ جَمِيعاً .

وظاهرُ هذه الآيةِ يَقْتضِي أنّ الصيد مُطْلقاً حَرَامٌ على المُحْرم ، [ إلاَّ أنَّه تعالى أباح في آيةٍ أخْرَى أنّ الصيدَ المحرَّمَ على المحْرِم ]{[10604]} إنَّما هو صيدُ البَرِّ لا صيدَ البحرِ ، بقوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً } [ المائدة : 96 ] فبيَّن ذلك الإطلاق .

ثم قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } أيْ أنَّ الله تعالى أباح الأنعامَ في جميع الأحوالِ ، وأباح الصيد في بعضِ الأحوالِ دُون بعضٍ ، فلو قال قائلٌ : ما السببُ في هذا التفصيل والتَّخْصيصِ ، كان جوابهُ : أنَّه تعالى مالك{[10605]} الأشياءِ وخالقها{[10606]} فلا اعْتراضَ عليه في حُكْمه .


[1]:في النسختين تقدم. وندم تصحيح من الرازي. وانظر تصحيح ذلك وغيره في تفسير الإمام 28/117.
[2]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/605) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
[3]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/612، 613) عن ابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي والضحاك. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (/605) عن أبي عبد الرحمن السلمي وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[4]:أخرجه البخاري (4/301)، كتاب: فضل ليلة القدر، باب: التماس ليلة القدر في السبع الأواخر رقم (2015)، ومسلم (2/822)، كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر والحث على طلبها... رقم (205- 1165).
[5]:تقدم.
[6]:سقط من: ب.
[7]:تقدم.
[8]:ينظر: تفسير القرطبي (20/93).
[9]:سقط من: ب.
[10]:الجامع لأحكام القرآن 20/91.
[11]:سقط في ب.
[12]:سقط في ب.
[13]:ستأتي في "المؤمنون" 1 وينظر: شرح الطيبة 4/ 145.
[10494]:في ب: العقود.
[10495]:ينظر القرطبي 6/23.
[10496]:في أ: خصائصها.
[10497]:في أ: لأنها.
[10498]:سقط في ب.
[10499]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (9/454) عن ابن جريج، وينظر تفسير القرطبي 6/24.
[10500]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/447) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة.
[10501]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (9/452-453) عن ابن عباس ومجاهد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/447) عن ابن عباس وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في "شعب الإيمان"، وينظر تفسير القرطبي 6/24.
[10502]:ينظر تفسير القرطبي 6/24.
[10503]:سقط في ب.
[10504]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (9/454) عن ابن شهاب وذكره أيضا الطبري في تاريخه(3/157). والأثر من (السيرة النبوية) لابن هشام (4/241).
[10505]:سقط في أ.
[10506]:ينظر: تفسير الرازي 11/98.
[10507]:سقط في أ.
[10508]:أخرجه أحمد في المسند 6/247، وأخرجه أبو داود في السنن 3/595-596 كتاب الأيمان: باب من رأى عليه كفارة الحديث (3292)، وأخرجه الترمذي في السنن 4/103-104 كتاب النذور والأيمان: باب ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نذر في معصية الحديث 1525 واللفظ له، وأخرجه النسائي في المجتبى من السنن 7/26، كتاب الأيمان باب كفارة النذر.
[10509]:سقط في أ.
[10510]:ينظر: تفسير الرازي 11/98.
[10511]:سقط في أ.
[10512]:في ب: وتحريره.
[10513]:ينظر تفسير الرازي 11/99.
[10514]:في ب: النعومة حمولة.
[10515]:ينظر: تفسير الرازي 11/99.
[10516]:سقط في أ.
[10517]:سقط في ب.
[10518]:في أ: بهيمة.
[10519]:في أ: بظنها.
[10520]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (9/456) عن ابن عباس.
[10521]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (9/456) عن ابن عمر.
[10522]:أخرجه أحمد في المسند 3/31، 53، وأبو داود في السنن 3/252-253، كتاب الأضاحي: باب ما جاء في ذكاة الجنين. وابن ماجه في السنن 2/167 كتاب الذبائح: باب ذكاة الجنين ذكاة أمه الحديث (3199).
[10523]:سقط في أ.
[10524]:في أ وإن قلنا: إن البهيمة غير الأجنة.
[10525]:ينظر: تفسير الرازي 11/99.
[10526]:في ب: الحليم.
[10527]:في أ: وتحقق.
[10528]:في أ: البكرية.
[10529]:في أ: نتكلم.
[10530]:سقط في أ.
[10531]:ينظر: تفسير الرازي: 11/99.
[10532]:في أ: فيحمل.
[10533]:في أ: بالكل.
[10534]:سقط في أ.
[10535]:سقط في أ.
[10536]:سقط في أ.
[10537]:في أ: فيجتهد.
[10538]:سقط في أ.
[10539]:سقط في أ.
[10540]:في أ: واحمير.
[10541]:في ب: هذا.
[10542]:سقط في أ.
[10543]:في أ: الوجه.
[10544]:سقط في أ.
[10545]:في أ: بالفاء.
[10546]:سقط في أ.
[10547]:سقط في أ.
[10548]:في ب: شيئا.
[10549]:في أ: متلفت.
[10550]:في أ: محوله.
[10551]:سقط في أ.
[10552]:في أ: لك.
[10553]:في أ: السادس.
[10554]:سقط في ب.
[10555]:سقط في أ.
[10556]:في أ: الصيد.
[10557]:في أ: ابن.
[10558]:سقط في أ.
[10559]:في أ: الفاعل.
[10560]:سقط في أ.
[10561]:سقط في أ.
[10562]:في ب: صار ذا حل.
[10563]:في أ: وأم.
[10564]:لبيت لزهير: نظر: ديوانه(77)، ابن يعيش 1/61، البحر 3/431 المنصف 3/121، الكشاف 4/469، الدر المصون 1/478.
[10565]:ينظر: البحر المحيط 3/431، الدر المصون 1/478.
[10566]:ينظر: ديوانه 95، البحر المحيط 3/431، الدر المصون 2/478.
[10567]:في ب: قبل بلوغ.
[10568]:في أ: طار.
[10569]:في أ: وأعز البعير.
[10570]:في ب: وأبليت.
[10571]:في أ: المحل.
[10572]:سقط في أ.
[10573]:في أ: وحماره.
[10574]:سقط في أ.
[10575]:سقط في أ.
[10576]:في أ: وحماره.
[10577]:في أ: محرام.
[10578]:سقط في أ.
[10579]:في أ: مجموع.
[10580]:في أ: رجوعها.
[10581]:في أ: ترجع.
[10582]:في أ: ويبدأ.
[10583]:سقط في أ.
[10584]:في أ: الأردء.
[10585]:سقط في أ.
[10586]:في ب: بأن.
[10587]:في أ: بعض البصريين.
[10588]:في ب: غلط.
[10589]:في ب: تعرف الفصحاء.
[10590]:سقط في ب.
[10591]:في أ: فخرج.
[10592]:ينظر: المحور الوجيز 2/145، والبحر المحيط 3/433، والدر المصون 2/480.
[10593]:سقط في أ.
[10594]:سقط في أ.
[10595]:سقط في أ.
[10596]:البيت للمخبل السعدي: ينظر: أمالي ابن الشجري 1/174، أمالي القالي 2/171، الخزانة 1/270، اللسان(لبب)، البحر 3/433، الدر المصون 1/480.
[10597]:في أ: ملت.
[10598]:في أ: أي.
[10599]:سقط في أ.
[10600]:سقط في ب.
[10601]:وحق صاحب الحال ألا يكون مجرورا بالإضافة، كما لا يكون صاحب الخبر؛ لأن المضاف إليه مكمل للمضاف وواقع منه موقع التنوين، فإن كان المضاف بمعنى الفعل حسن جعل المضاف إليه صاحب الحال؛ لأنه في المعنى فاعل أو مفعول نحو: إليه مرجعكم جميعا، وعرفت قيام زيد مسرعا وجوز بعض البصريين وصاحب البسيط مجيء الحال من المضاف إليه مطلقا، وخرجوا عليه. إن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين، وقوله: خلق الحديد مضاعفا يتلهب* وجوزه الأخفش، وابن مالك إن كان المضاف جزء ما أضيف إليه أو مثل جزئه، نحو: ما في صدورهم من غل إخوانا، ملة إبراهيم حنيفا، لأنه لو استغني به عن المضاف وقيل: ونزعنا ما فيهم إخوانا، واتبع إبراهيم حنيفا لصح ورده أبو حيان، وقال: إن النصب في "إخوانا" على المدح، و"حنيفا" حال من ملة بمعنى: دين أو من الضمير في اتبع قال وإنما لم يجز الحال من المضاف إليه لما تقرر من أن العامل في الحال هو العامل في صاحبها، وعامل المضاف إليه اللام أو الإضافة، وكلاهما لا يصلح أن يعمل في الحال، وفي مجيء الحال من المنادى مذاهب. ينظر: همع الهوامع 1/240.
[10602]:ينظر: المحور الوجيز 2/145، والدر المصون 2/480.
[10603]:سقط في ب.
[10604]:سقط في ب.
[10605]:في ب: خالق.
[10606]:في ب: ومالكها.