مدنية كلها إلا قوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } [ الآية : 3 ] فإنها نزلت ب " عرفات " .
قال القرطبي{[1]} : روي أنها نزلت منصرف الرسول صلى لله عليه وسلم من " الحديبية " .
وذكر النقاش عن أبي سلمة أنه قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من " الحديبية " قال يا علي ، أشعرت أنه نزلت علي سورة المائدة ، ونعمت الفائدة{[2]} .
قال ابن العربي : هذا حديث موضوع [ لا يحل لمسلم اعتقاده ]{[3]} أما إنا نقول : سورة المائدة ، ونعمت الفائدة ، فلا نؤثره عن أحد ، ولكنه كلام حسن .
وقل ابن عطية : وهذا عندي لا يشبه كلام النبي صلى الله عليه وسلم وروي عنه صلى الله عليه وسلم [ أنه ]{[4]} قال : " سورة المائدة تدعى في ملكوت الله المنقذة ، تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب " {[5]} .
ومن هذه السورة ما نزل في حجة الوداع ، ومنها ما أنزل عام الفتح ، وهو قوله : { ولا يجرمنكم شنئان قوم } [ الآية : 2 ] ، وكل ما أنزل من القرآن بعد الهجرة فهو مدني ، سواء نزل ب " المدينة " أو في سفر .
والمكي [ هو ] ما نزل قبل الهجرة ، وهي مائة وعشرون آية وألفان وثمانمائة وأربع كلمات ، وإحدى عشر ألف وتسعمائة وثلاثون حرفا .
روي عن أبي ميسرة ، قال :المائدة آخر ما نزل ، ليس فيها منسوخ{[6]} .
قال أبو ميسرة : أنزل الله تعالى في هذه السورة ثمانية عشر حكما ، لم ينزلها في غيرها ، [ وهي ]{[7]} قوله سبحانه : { والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع } ، { وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام } ، { وما علمتم من الجوارح مكلبين } ، { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } ، { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } .
وتمام الطهر في قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة } ، { والسارق والسارقة } و{ لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } إلى قوله : { عزيز ذو انتقام } الآية ، و{ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } [ وقوله تعالى : { شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت } قال القرطبي : وفريضة تاسعة عشرة وهي قوله عز وجل : ]{[8]} { وإذا ناديتم إلى الصلاة }{[9]} ليس للأذان ذكر في القرآن إلا في هذه السورة .
أما ما جاء في سورة " الجمعة " مخصوص بالجمعة ، وهو في هذه السورة عام في جميع الصلاة .
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم [ أنه ]{[10]} قرأ [ سورة ]{[11]} المائدة في حجة الوداع ، وقال : " يا أيها الناس ، إن سورة المائدة من آخر ما نزل ، فأحلوا حلالها ، وحرموا حرامها " {[12]} .
وقال الشعبي{[13]} : لم ينسخ من هذه السورة غير قوله : { ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد } الآية .
{ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } بالعقود أي : بالعهود ، ويقال : وَفَّى بالعهد ، وأوفى به .
قال الزَّجَّاج : هي أوكد العهود{[10494]} ، ويقال : عاقدت فلاناً ، وعقدت عليه ، أي : ألزمته ذلك باستيثاق ، وأصله من عقد الشيء بغيره ، ووصله به كما يعقد الحبل بالحبل .
فالعهد إلزام ، والعقد التزام على سبيل الإحكام ، ولما كان الإيمان هو المعرفة بالله تعالى وصفاته وأحكامه ، وكان من جملة أحكامه أنه يجب على الخَلْقِ إظهار الانقياد لله تعالى في جميع تكاليفه وأوامره ونواهيه - أمر بالوفاء بالعقود ، أي : أنكم التزمتم بإيمانكم أنواع العقود والطاعة بتلك العقود .
قال القرطبي{[10495]} : هذه الآية مما تلوح فصاحتها{[10496]} وكثرة معانيها على قلة ألفاظها ، لكل بصير بالكلام ؛ فإنها{[10497]} تضمنت خمسة أحكام :
الأول : الأمر بالوفاء بالعقود .
الثاني : تحليل بهيمة الأنعام .
الثالث : استثناء ما يلي بعد ذلك .
الرابع : استثناء حال الإحرام فيما يُصَادُ .
الخامس : ما تقتضيه الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم .
وحكى النقاش أن أصحاب الكندي ، قالوا له : أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن ، فقال : نعم أعمل مثل بعضه فاحتجب أياماً كثيرة ، ثم خرج ، فقال : والله ما أقدر ، ولا يطيق هذا أحد ، إني فتحت المصحف فخرجت سورة " المائدة " ، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ، ونهى عن النكث ، وحلل تحليلاً عاماً ، ثم استثنى استثناء بعد استثناء ، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين [ ولا ]{[10498]} يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد .
واختلفوا في هذه العقود ، فقال ابن جريج : هذا خطاب لأهل الكتاب{[10499]} ، يعني : { يا أيها الذين آمنوا } بالكتب المتقدمة أوفوا بالعهود ، التي عهدتها عليكم في شأن محمد - عليه الصلاة والسلام - وهو قوله : { وَإِذَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 187 ] .
وقال قتادة : أراد بها الحِلْفَ الذي تعاقدوا عليه في الجاهلية{[10500]} .
وقال ابن عباس : هي عهود الإيمان والقرآن .
قال ابن عباس : " أوفوا بالعقود " أي : بما أحل وبما حرم ، وبما فرض ، وبما حَدَّ في جميع الأشياء كذلك ، قاله مجاهد وغيره{[10501]} .
وقال ابن شهاب{[10502]} [ الدين ]{[10503]} : قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه لعمرو بن حَزْم حين بعثه إلى " نجران " ، وفي صدره : هذا بيان للناس من الله ورسوله ، { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } الآية ، فكتب الآيات فيها ، إلى قوله : { إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }{[10504]} ، والمقصود أداء التكاليف فعلاً وتركاً .
وإنما [ سميت التكاليف عقوداً لأنه - تعالى - ربطها بعبادته كما يربط الشيء بالشيء بالحبل ]{[10505]} الموثق .
وقيل : هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم .
قال الشافعي{[10506]} : إذا نذر صوم [ يوم ]{[10507]} العيد ، أو نذر ذبح الولد لغى .
وقال أبو حنيفة رحمه الله : بل يصح ، واحتج بقوله : " أوفوا بالعقود " وبقوله : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 ] ، وبقوله : { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ } [ الإنسان : 7 ] { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ } [ البقرة : 177 ] ولقوله عليه الصلاة والسلام : " أوفِ بنَذْرِكَ " .
وقال الشافعي : هذا نذر معصية ، فيكون لغواً ؛ لقوله عليه السلام : " لا نذر في معصية الله " {[10508]} .
وقال أبو حنيفة : خيار المجلس غير ثابت ؛ لأن البيع والشراء قد انعقدا ، فحرم الفسخ لقوله تعالى : { أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } .
وقال الشافعي : يثبت ؛ لأن هذا العموم [ قد خص بقوله عليه الصلاة والسلام : " المتبايعان بالخيار كل واحد منهما ما لم يتفرقا " .
وقال أبو حنيفة : الجمع بين الطلقات ]{[10509]} حرام ؛ لأن النكاح عقد ، فوجب أن يحرم رفعه لقوله تعالى : { أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } تُرك العمل به في الطلقة الواحدة بالإجماع ، فيبقى فيما عداها على الأصل .
وقال الشافعي : ليس بحرام لتخصيص هذا العموم بالقياس ، وهو أنه لو حرم الجمع لما نفذ ، وقد نفذ فلا يحرم .
قوله سبحانه : { أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } لما قرر أولاً جميع التكاليف من حيث الجملة ، شرع في ذكرها من حيث التفصيل .
والبهيمة كل ذات أربع في البر والبحر [ وقيل{[10510]} : ما أبهم من جهة نقص النطق والفهم .
قالوا وأصله : كل حي لا عقل له فهو بهيمة ]{[10511]} من قولهم : استبهم الأمر على فلان إذا أشكل ، وهذا البابُ مُبْهم ، أي : مسدود الطريق ، ثم اختص هذا الاسم بذوات الأربع ، وكل ما كان على وزن " فعيل " أو " فعيلة " حلقي العين ، جاز في فائه الكسر إتباعاً لعينه ، نحو : بهيمة ، وشعيرة ، وصغيرة ، وبحيرة{[10512]} .
والأنعام هي الإبل والبقر والغنم ، قال تعالى : { وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ } [ النحل : 5 ] إلى قوله : { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا } [ النحل : 8 ] وقال تعالى : { مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعاماً } [ يس : 71 ] إلى قوله : { فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } [ يس : 72 ] وقال : { وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً } [ الأنعام : 142 ] .
وقال الواحدي{[10513]} : لا يدخل في اسم الأنعام الحافر ؛ لأنه مأخوذ من نعومة الوطء{[10514]} ، وقد تقدم في " آل عمران " .
فإن قيل : البهيمة اسم جنس ، والأنعام اسم نوع ، فقوله : " بهيمة الأنعام " يجري مجرى قول القائل : حيوان الإنسان ، فالحيوان إن قلنا{[10515]} إن المراد بالبهيمة وبالأنعام شيء واحد ، فإضافة البهيمة إلى الأنعام [ إما للبيان ]{[10516]} فهو كقولك : خاتم فضّة ، أي : من فضّة ، ومعناه [ أنَّ ]{[10517]} البهيمة من الأنعام ، أو للتأكيد كقولنا : نفس الشيء وذاته وعينه .
وإن قلنا : المراد بالبهيمة شيء ، والأنعام شيء آخر ، ففيه وجهان :
أحدهما : أن المراد من بهيمة الأنعام الظباء وبقر الوحش ونحوها ، كأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ، ويدانيها من جنس البهائم في الاجترار ، فأضيف الاجترار إلى الأنعام لحصول المشابهة .
والثاني : أن المراد ببهيمة{[10518]} الأنعام أجنة الأنعام ، روي عن ابن عباس [ - رضي الله عنهما - ] أن بقرة ذبحت ، فوجد في بطنها{[10519]} جنين ، فأخذ ابن عباس بذنبه ، وقال : هذا من بهيمة الأنعام{[10520]} .
وعن ابن عمر أنها أجنة الأنعام{[10521]} ، وذكاته ذكاة أمه ، ومثله عن الشعبي .
وذهب أكثر أهل العلم إلى تحليله ؛ لما روى أبو سعيد ، قال : " قلنا : يا رسول الله : " نَنْحَرُ الناقة ، ونذبح البقرة والشاة ، فنجد في بطنها الجنين ، أنلقيه أم نأكله " ؟ قال : " كُلُوهُ إنْ شِئْتُمْ ، فإنَّ ذكاتَه ذكاة أمِّهِ " {[10522]} " وشرط بعضهم الإشعار .
فإن قيل : لو قال : أحلت لكم الأنعام ، لكان الكلام تاماً ؛ كقوله تعالى في آية أخرى : { وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ } [ الحج : 30 ] فما فائدة زيادة لفظ " البهيمة " هنا ؟
[ الجواب : إن قلنا : إن بهيمة الأنعام هي الأجنة ]{[10523]} فالجواب : ما تقدم من الإضافة ، أعني{[10524]} إضافة بهيمة الأنعام .
فإن قيل : لِمَ أفرد " البهيمة " وجمع لفظ " الأنعام " ؟
قالت الثنوية{[10525]} : ذبح الحيوان إيلامٌ ، والإيلام قبيح ، والقبيح لا يرضى به الإله الرحيم الحكيم{[10526]} ، فيمتنع أن يكون الذبح حلالاً مباحاً بحكم الله ، وتحقيق ذلك{[10527]} أن هذه الحيوانات ليس لها قدرة على الدفع عن أنفسها ، ولا لها لسان تحتج به على من قصد إيلامها ، وإيلام من بلغ في العجز إلى هذا الحد أقبح .
وعند هذه الشبهة افترق المسلمون فرقاً كثيرة :
فقالت المكرمية{[10528]} : لا نسلم أن هذه الحيوانات تتألم{[10529]} عند الذبح ، بل لَعَلَّ تعالى يرفع عنها ألم الذبح ، وهذا مكابرة للضروريات .
وقالت المعتزلة : لا نسلم أن الإيلام قبيح مطلقاً ، بل إنما يقبح إذا لم لم يكن مسبوقاً بجناية ، ولا ملحوقاً بعوض .
وهاهنا الله تعالى عوض هذه الجنايات بأعواض شريفة ، فخرج هذا الذبح عن كونه ظُلْماً .
ويدلُّ على صحة ما قلناه أن ما تقرر في العقول أنه يحسن تحمل{[10530]} ألَم الفَصْد والحجامة لطلب الصحة ، فإذا حَسُنَ تحمُّل الألم القليل لأجل المنفعة العظيمة ، فكذا القول في الذبح .
وقال أهل السُّنة : إن الإذن في ذبح الحيوانات تصرف من الله تعالى في ملكه والمالك لا اعتراض عليه إذا تصرف في ملك نفسه ، والمسألة طويلة .
قال بعضهم{[10531]} : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } مجمل ؛ لأن الإحْلال إنما يضاف إلى الأفعال ، وهاهنا أضيف إلى الذات ، فتعذر إجراؤه على ظاهره ، فلا بُدَّ من إضمار فعل ، وليس إضمار الأفعال أولى من بعض ، فيحتمل{[10532]} أن يكون المراد إحلال الانتفاع بجلدها ، أو بعظمها ، أو صوفها ، أو لحمها ، أو المراد إحلال الانتفاع بالأكل{[10533]} ، فصارت الآية مجملة ، إلا أن قوله تعالى : { وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } [ النحل : 5 ] دل على أن المراد بقوله : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ } إباحة الانتفاع من كل هذه الوجوه ، والله أعلم .
[ قوله { إلا ما يتلى عليكم } هذا مستثنى من " بهيمة الأنعام " والمعنى : ما يتلى عليكم تحريمه ]{[10534]} وذلك قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } [ المائدة : 3 ] إلى قوله :
{ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } [ المائدة : 3 ] .
والثاني : أنه منقطع حسب ما فُسر به المتلوُّ عليهم ، كما سيأتي بيانه .
وعلى تقدير كونه [ استثناء ]{[10535]} متصلاً يجوز في محلّه وجهان :
أظهرهما : أنه منصوب ؛ لأنه استثناء متصل من موجب ، ويجوز أن يرفع على أنه نعت ل " بهيمة " على ما قرر في علم النحو .
ونقل ابن عطيَّة عن الكوفيين وجهين آخرين
أحدهما : أنه يجوز رفعه على البدل من " بهيمة " .
والثاني : أن " لا " حرف عطف ، وما بعدها عطف على ما قبلها ، ثم قال : وذلك لا يجوز عند البصريين إلا من نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس ، نحو : جاء الرجال إلا زيد ، كأنك قلت : غير زيد ، وقوله : وذلك ظاهره أنه مُشارٌ به إلى الوجهين : البدل والعطف .
وقوله : إلا من نكرة غير ظاهر ؛ لأن البدل لا يجوز ألبتة من موجب عند أحد من الكوفيين [ والبصريين .
ولا يُشترط في البدل التوافقُ تعريفاً وتنكيراً وأما العطف فذكره بعض الكوفيين ]{[10536]} .
وأما الذي اشترط البصريون فيه التنكير ، أو ما قاربه ، فإنما اشترطوه في النعت ب " إلاَّ " فيُحتمل{[10537]} أنه اختلط على أبي محمد شرط النعت ، فجعله شرطاً في البدل ، هذا كله إذا أريد بالمتلوِّ عليهم تحريمه في قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } [ المائدة : 3 ] إلى آخره .
وإن أريد به الأنعامُ والظباء وبقرُ الوحش وحُمره ، فيكون منقطعاً بمعنى " لكن " عند البصريين ، وبمعنى " بل " عند الكوفيين .
وسيأتي بيان هذا المنقطع [ بأكثر من هذا ]{[10538]} في نصب " غير " .
قوله : " غَيْرَ " في نصبه خمسة أوجه :
أحدها : أنه حال من الضمير المجرور في " لكم " ، وهذا قول الجمهور ، وإليه ذهب الزمخشري ، وابن عطية وغيرهما .
وقد ضعف هذا الوجه بأنه يلزم منه تقييدُ إحلال بهيمة الأنعام لهم بحال كونهم غَيْرَ محلِّي الصيد ، وهم حرم ؛ إذْ يصير معناه : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } [ في حال كون انتفاء كونكم تحلون الصيد ، وأنتم حرم ، والغرض أنهم قد أحلت لهم بهيمة الأنعام ]{[10539]} في هذه الحال وفي غيرها ، هذا إذا أريد ببهيمة الأنعام نفسها .
وأما إذا عني بها الظباء ، وحُمُر{[10540]} الوحش ، وبقره على ما فسَّره بعضهم ، فيظهر للتقييد بهذه الحالة فائدة ؛ إذ يصير المعنى " أحلّت لكم " هذه الأشياء حال انتفاء كونكم تحلُّون الصيد وأنتم حرم ، فهذا{[10541]} معنى صحيح ، ولكن التركيب [ الذي قدرته لك ]{[10542]} فيه قَلَقٌ ولو أريد هذا المعنى من الآية الكريمة لجاءت به على أحسن تركيب وأفصحه .
القول الثاني : وهو قول الأخفش وجماعة أنه حال من فاعل " أوفوا " ، والتقدير : أوفوا بالعقود في حال انتفاء كونكم محلِّين الصيد وأنتم حُرم ، وقد ضعفوا هذا المذهب{[10543]} من وجهين :
الأول : أنه يلزم [ منه ]{[10544]} الفَصْلُ بين الحال وصاحبها بجملة أجنبية ، ولا يجوز الفَصْل إلا بجمل الاعتراض ، وهذه الجملة وهي قوله : { أحلَّت لكم بهيمة الأنعام } ليست اعتراضية ، بل هي منشئة أحكاماً ومبينة لها .
وجملة الاعتراض إنما تفيد تأكيداً وتسْديداً .
والثاني : أنه يلزم تقييد الأمر بإيفاء{[10545]} العقود بهذه الحالة ، ويصير التقدير ؛ كما تقدم ، فإذا اعتبرنا مَفْهُومه يصير المعنى : فإذا انتفت هذه الحال فلا توفوا بالعقود ، والأمر ليس كذلك فإنهم مأمورون بالإيفاء بالعقود على كل حال من إحرام وغيره .
الوجه الثاني : أنه منصوب على الحال من الضمير المجرور في " عليكم " [ أي ]{[10546]} : لا [ ما ]{[10547]} يتلى عليكم ، حال انتفاء كونكم محلّين الصيد ، وهو ضعيف أيضاً بما تقدم من أن المتلو عليهم لا يتقيد بهذا الحال دون غيرها ، بل هو متلو عليهم في هذه الحال ، وفي غيرها .
الوجه الرابع : أنه حال من الفاعل المقدر يعني الذي حُذِفَ ، وأقيم المفعول مقامه في قوله تعالى : { أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ } ، فإن التقدير عنده : أحل الله لكم بهيمة الأنعام غير محلي لكم الصيد وأنتم حرم ، فحذف الفاعل ، وأقام المفعول مقامه ، وترك الحال من الفاعل باقية .
الأول : أن الفاعل المنوب عنه صار نَسْياً{[10548]} مَنْسياً غير ملتفت{[10549]} إليه ، نَصُّوا على ذلك ، لو قلت : أنزل الغيث مجيباً لدعائهم ، وتجعل مجيباً حال من الفاعل المنوب عنه ؛ فإن التقدير : أنزل الله الغيث حال إجابته لدعائهم ، لم يجز ، فكذلك هذا ، ولا سيما إذا قيل : بأن بنية الفعل المبني للمفعول بنية مستقلة غير محلولة{[10550]} من بنية مبنية للفاعل كما هو قول الكوفيين ، وجماعة من البصريين .
الثاني : أنه يلزم منه [ التقييد بهذه الحال إذا عُني بالأنعام الثمانية الأزواج ، وتقييد إحلاله تعالى لهم هذه الثمانية الأزواج بحال انتفاء إحلاله الصيد وهم حرم والله تعالى قد أحل لهم هذه مطلقاً ]{[10551]} .
الثالث : أنه كتب " مُحلّي " بصيغة الجمع ، فكيف يكون حالاً من الله تعالى ، وكأن هذا القائل زعم أن{[10552]} اللفظ " محل " من غير ياء ، وسيأتي ما يشبه هذا القول .
الوجه الخامس{[10553]} : أنه منصوب على الاستثناء المكرر ، يعني أنه هو وقوله : " إلا ما يتلى [ عليكم ]{[10554]} " مستثنيان من شيء واحد ، وهو بهيمة الأنعام .
نقل ذلك بعضهم عن البصريين ، قال : والتقدير : إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد ، وأنتم محرمون ، بخلاف قوله تعالى : { إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } [ الذاريات : 32 ] على ما سيأتي بيانه .
قال هذا القائل : ولو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإحرام ؛ لأنه مستثنى من الإباحة ، وهذا وجه ساقط ، فإذاً معناه : أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلِّي الصيد وأنتم حرم إلا ما يتلى عليكم سوى الصيد . انتهى .
وقال أبو حيان : إنما عرض الإشكال من جعلهم غير محلّي الصيد حالاً من المأمورين بإيفاء العقود ، أو من المحلّل وهو الله تعالى ، أو من المتلو عليهم وغرَّهم في ذلك كونه كتب " مُحِلِّي " بالياء ، وقدروه هم أنه اسم [ فاعل ]{[10555]} من " أحَلَّ " وأنه مضاف إلى " الصيد " إضافة اسم الفاعل المتعدي إلى المفعول ، وأنه جمع حذف منه النون للإضافة ، وأصله غير محلِّين الصيد{[10556]} ، إلا في قول من{[10557]} جعله [ حالاً ]{[10558]} من الفعل{[10559]} المحذوف ، فإنه لا يقدر حذف نون ، بل حذف تنوين ، وإنما يزول الإشكال ويتضح المعنى بأن يكون قوله : " محلي الصيد " من باب قولهم : حِسَان النِّسَاء ، والمعنى : النساء الحسان ، فكذلك [ هذا ]{[10560]} أصله غير الصيد المُحلّ ، [ والمحل ]{[10561]} صفة للصيد لا للناس ، ولا للفاعل المحذوف .
ووصف الصيد أنه " محل " على وجهين :
أحدهما : أن يكون معناه دخل في الحل{[10562]} ، كما تقول : أحَلَّ الرجل إذا دخل في الحِلِّ ، وأحرم{[10563]} إذا دخل في الحرمِ .
والوجه الثاني : أن يكون معناه صار ذا حلٍّ أي : حلالاً بتحليل الله تعالى ، وذلك أن الصيد على قسمين : حلال وحرام .
ولا يختص الصيد في لغة العرب بالحلال ، لكنه يختصُّ به شرعاً ، وقد تجوزت العرب ، فأطلقت الصيد على ما لا يُوصَفُ بحلّ ولا حُرْمة .
لَيْثٌ بِعَثَّرَ يَصْطَادُ الرِّجَالَ إذَا *** مَا اللَّيْثُ كَذَّبَ عَنْ أقْرَانِهِ صَدَقَا{[10564]}
وَقَدْ ذَهَبَتْ سَلْمَى بِعَقْلِكَ كُلِّهِ *** فَهَلْ غَيْرُ صَيْدٍ أحْرَزَتْهُ حَبَائِلُهْ{[10565]}
وقول امرئ القيس : [ المتقارب ]
وَهِرٌّ تَصِيدُ قُلُوبِ الرِّجَالِ *** وَأفْلَتَ مِنْهَا ابْنُ عمْرٍو حُجُرْ{[10566]}
ومجيءُ " أفْعَلَ " على الوجهين المذكورين كثيرٌ في لِسَانِ العربِ ، فَمِنْ مجيءِ " أفْعَلَ " لبلوغ{[10567]} المكان ، ودخوله قولُهم : أحْرَم الرجلُ ، وأعْرَقَ ، وأشْأمَ ، وأيْمَنَ ، وأتهم ، وأنْجَدَ ، إذا بلغ هذه الأماكنَ ، وحَلَّ بها .
ومن مَجِيء " أفْعَل " بمعنى صار{[10568]} ذا كذا قولُهُمْ : أعْشَبَتِ الأرضُ وأبْقَلَتْ ، وأغَدَّ البعير{[10569]} وألْبَنَتِ الشاة ، وغيرُها ، وأجْرَتِ الكلبُ ، وأصْرَمَ النخل ، وأتْلَتِ{[10570]} الناقةُ ، وأحْصَدَ الزرعُ وأجْرَبَ الرجلُ ، وأنْجبتِ المرأةُ .
وإذا تَقَرَّرَ أنَّ الصيدَ بوَصْفٍ بكونه مُحلاً باعتبار أحد الوجهين المذكورين من كونه بلغ الحلّ أو صار ذا حِلٍّ ، اتَّضَحَ كَوْنُهُ استثناءً ثانياً ، ولا يكون استثناءً من استثناء ؛ إذ لا يمكنُ ذلك لتناقضِ الحُكْم ؛ لأنَّ المستثنى من المحلل{[10571]} مُحرَّمٌ ، [ والمستثنى من المحرم محلل ]{[10572]} بل إنْ كان المعني بقوله : بهيمةَ الأنعامِ الأنعام أنفسها ، فيكون استثناءً منقطعاً وإنْ كان المرادُ الظِّبَاءَ ، وبَقَر الوحْشِ وحُمُرَهُ{[10573]} ، فيكون استثناءً متصلاً على أحد تَفْسِيري المحل ، استثنى الصَّيدَ الذي بلغ الحلّ في حالِ كونِهِم ، مُحْرِمينَ .
فإنْ قُلْتَ : ما فائدةُ هذا الاستثناء بَعْد بُلُوغِ الحل ، والصيدُ الذي في الحرم لا يحلّ أيضاً ؟
قُلْتُ : الصيدُ الذي في الحرمِ لا يَحِلُّ للمحرم ولا لِغَيْر المحْرِمِ ، وإنَّما يحَلّ لِغَيْرِ المحرِمِ الصيدُ الذي في الحلّ ، فنبَّهَ بأنَّهُ إذَا كَان الصيدُ [ الذي ]{[10574]} في الحّل يَحْرمُ على المُحْرم - وإنْ كان حَلالاً لِغَيْرِه - فأحْرَى أن يحرم عليه الصيدُ الذي هو بالحَرَمِ ، وعلى هذا التفسير [ يكون ]{[10575]} قوله : { إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } إنْ كان المرادُ بِهِ ما جاء بعده مِنْ قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ } [ المائدة : 3 ] الآية استثناءً منقطعاً ؛ إذْ لا تختصُّ الميْتَةُ وما ذُكِر معها بالظِّبَاءِ ، وبقرِ الوحشِ وحُمُرِه{[10576]} ، فيَصيرُ التقديرُ : لكِنْ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ أي : تحريمُهُ فهو مُحرَّمٌ{[10577]} وإنْ كانَ المُرادُ ببهيمة الأنْعامِ [ الأنعام ]{[10578]} والوحوش ، فيكون الاستثناءانِ راجعيْن إلى المجموع{[10579]} على التَّفْصِيلِ ، فيَرْجِع { مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } إلى " ثَمَانِيَة " الأزْوَاجِ ، ويرجِعُ { غَيْرَ مُحِلِّي الصّيدِ } إلى الوحوشِ ؛ إذْ لا يمكنُ أنْ يكون الثَّانِي استثناءً من الاستثناءِ الأوَّلِ ، وإذا لم يمكنْ ذلك ، وأمْكَنَ رُجُوعُهُ{[10580]} إلى الأوّلِ بوجهٍ{[10581]} ما رجع إلى الأولِ .
وقد نَصَّ النحويونَ : أنَّه إذا لَمْ يمكنْ استثناء بَعْضِ المستثنيات مِنْ بَعْض جُعِل الكُلّ مُسْتثنى من الأوَّل ، نحو : قام القومُ إلا زيداً إلا عمْراً إلا بَكْراً ، فإن قلت ما ذكرته من هذا التخريجِ الغريبِ ، وهو كونُ المحلّ مِنْ صفة الصَّيْدِ ، لا مِنْ صِفَة النّاسِ ، ولا مِنْ صِفَة الفاعلِ المحذوفِ يَأبَاهُ رَسْمُهُ في المصْحَف " محلّي " بالياء ، ولو كان مِنْ صِفَةِ الصَّيدِ دُونَ الناسِ لكُتبَ " مُحِلّ " من غير ياءٍ ، وكون القُرَّاءِ وَقَفُوا عليه بالياء أيضاً يأبى ذلك .
قلتُ : لا يعكّر ذلك على هذا التخريج ؛ لأنَّهم قَدْ رَسَمُوا في المصحفِ الكريمِ أشياء تخالِفُ النُّطْقَ بها ككتابتهم : { لأَذْبَحَنَّهُ } [ النمل : 21 ] ، { وَلأَوْضَعُواْ } [ التوبة : 47 ] ، ألفاً بَعْد لامِ الألف وكتابتهم { بِأَيْيْدٍ } [ الذاريات : 47 ] بياءين بعد الهمزة وكتابتهم " أولئك " {[10582]} بزيادة واوِ ونَقْصِ ألف بَعْدَ اللاَّمِ ، وكِتَابتِهِمْ : " الصَّالِحَاتِ " [ ونحوه ]{[10583]} بسُقُوطِ العَيْن إلى غير ذلك .
وأمَّا وقْفُهم عليه بالياء فلا يجُوزُ ؛ إذْ لا يُوقَفُ على المضافِ دُونَ المضافِ إليه .
وإنْ وقف واقفٌ فإنَّما يكونُ بقَطْعِ نَفَسِ واختيار .
على أنَّه يمكنُ تَوْجِبهُ كتابتِهِ بالياء والوقفِ عَلَيْه بها ، وهو أن لُغَةَ " الأزْد " {[10584]} يَقفونَ فيها على " بزيدٍ ، بزيدي " بإبدال التَّنْوين ياءً ، فَكُتِبَ " مُحِلّي " على الوقف على هذه اللُّغَةِ - بالياءِ ، وهذا توجيه شُذُوذٍ رَسْمِيّ ، ورسمُ المصحفِ ممّا لا يقاسُ عليه ، انتهى .
قال شهابُ الدين : وهذا الذي ذَكَرَهُ ، وأجازه ، وغَلَّطَ النَّاسَ فيه لَيْسَ بشيء ، وما ذكره من تَوجيه ثُبُوتِ الياءِ خَطّاً ووَقْفاً ، فَخَطَأٌ محض ؛ لأنه على تقدير تَسْلِيم ذلك في تلك اللُّغَةِ ، فأيْنَ التنوينُ الذي في " مُحِلّ " ؟ وكيف يكونُ فيه تنوينٌ ، وهو مضافٌ حَتّى يقول : إنَّه قد يُوجَّهُ بلُغَةِ " الأزْدِ " ؟
وما ذكره مِنْ كونه يَحْتَمِلُ مِمَّا يكونون قَدْ كتبوه كما كتبوا تلك الأمثلة المذكورة ، فَشَيءٌ لا يُعَوَّلُ عليه ؛ لأنّ خَطّ المصحفِ سُنَّة متبعة لا يقاسُ عليها ، فكيفَ يقول : يحتمل أن يقاسَ هذا على تلك الأشياء ؟
وأيضاً فإنهم لم يُعْرِبُوا [ غَيْر ]{[10585]} إلاَّ حالاً ، حتّى نقل بعضُهم الإجْماعَ على ذلك .
وإنما اختلفُوا في صاحِبِ الحالِ ، فقوله : إنه استثناءٌ ثانٍ مع هذه الأوجه الضَّعيفةِ خَرْقٌ للإجماع إلا ما تقدَّم نقْلُهُ عن بعضهِم منْ أنَّه استثناءٌ ثانٍ{[10586]} ، وعَزَاهُ للبصريين{[10587]} ، لكِنْ لا على هذا المَدْرَكِ الذي ذكره الشيخ .
وقديماً وحديثاً اسْتَشْكَلَ النَّاسُ هذه الآية .
وقال ابن عَطِيَّة : وقد خلطَ{[10588]} الناسُ في هذا الموضع في نصب " غَيْرَ " وقدَّرُوا تَقْدِيماتٍ وتَأخِيراتٍ ، وذلك كُلُّه غيرُ مُرضٍ ؛ لأنَّ الكلام على اطّرادِهِ ، فيمكنُ اسْتِثْناء بعد استثناءٍ .
وهذه الآيةُ مِمّا اتضحَ لِلْفُصَحاء{[10589]} والبُلغَاءِ فَصَاحَتُها وبلاغَتُها ، حتى يُحكَى أنَّهُ قِيلَ لِلْكنديّ : أيّها الحكيمُ ، اعْمَلْ لَنَا مِثْلَ هذا القرآنِ ، فقال : نَعَمْ أعمل لَكُمْ مِثْلَ بعضه ، فَاحْتَجَبَ أيَّاماً كثيرةً ، ثُمّ خرج فقال : والله لا يَقْدِرُ أحدٌ على ذلك ، إنّني فتحتُ [ سورة ]{[10590]} من المصحف فخرجتْ{[10591]} سورةُ " المائدة " ، فإذا هو قَدْ نَطَقَ بالوَفَاءِ ، ونَهَى عن النّكثِ ، وحَلَّل تَحْلِيلاً عامّاً ، ثم اسْتَثْنَى استثناءً بعد استثناءٍ ، ثُمَّ أخبر عَنْ قُدْرتِهِ وحِكْمته في سَطْريْنِ .
والجمهورُ على نَصْبِ " غَيْرَ " ، وقرأ ابنُ أبي عَبْلَةَ{[10592]} برفعه ، وفيه وجهان :
أظهرُهُمَا : أنّه نعتٌ ل " بهيمة الأنعام " والمَوْصُوفُ ب " غير " لا يلزمُ فيه أنْ يكونَ مُمَاثِلاً لما بَعْدها [ في جنسه ]{[10593]} تقولُ : مررتُ بِرَجُلٍ غَيْرِ حِمَارٍ ، هكذَا قالُوه ، وفيه نظر ، ولَكِنْ ظاهرُ هذه القراءةِ يَدُلُّ لهم .
والثاني : أنَّهُ نعتٌ للضمير في " يُتْلَى " .
قال ابنُ عَطِيَّة : لأنَّ { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ } في المَعْنَى بمنزلةِ غَيْرِ مُسْتَحَلٍّ إذَا كان صَيْداً ، وفيه تكلُّفٌ ، والصيدُ في الأصلِ مصدرُ : صَادَ يَصِيدُ ويُصَاد ، ويُطْلَقُ على المَصِيدِ ، كدِرْهَمٍ ضَرْبِ الأميرِ .
وهو في الآية الكريمةِ يَحْتَملُ الأمرين أي من كونه بَاقِياً على مَصْدرِيَّته ، كأنَّهٌ قيل : أحِلّ لَكُمْ بهيمَةُ الأنْعَام ، غَيْرَ مُحِلّينَ الاصْطِيادَ وَأنْتُم مُحْرِمُونَ ، ومَنْ كونِهِ وَاقِعاً مَوْقِعَ المفعول أيْ : غَيْر مُحلِّينَ الشَّيْءَ [ المصيد ]{[10594]} وأنتم محرمون .
وقوله : " وَأنْتُمْ حُرُم " مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ في محلِّ نَصْبٍ على الحال ، وما هو صاحبُ هذه الحالِ ؟
فقال الزَّمَخْشَرِيُّ : هِيَ حَال عَنْ " محلّي الصيد " ، كأنه قِيلَ : أحْلَلْنَا لكم بعضَ الأنعامِ في حالِ امْتناعِكُم مِنَ الصيد ، وأنْتُمُ مُحْرِمُونَ ، لِئَلاّ نَتحرَّج عليكم .
قال أبو حَيّان : وقد بَيَّنَا فسادَ هذا القولِ بأنَّ الأنعامَ مُبَاحَةٌ ، مُطْلقاً لا بالتَّقْييدِ بهذا الحالِ .
قال شهاب الدين : وهذا الرَّدُ لَيْسَ بشيءٍ ؛ لأنَّه [ إذا ]{[10595]} أحَلَّ لهم بعضَ الأنعامِ في حالِ امتناعِهِمْ مِنَ الصيد ، فأن يحلَّها لهم وهم غير مُحْرِمين بطريق الأوْلَى و " حُرُم " جمع " حَرَام " بمعنى مُحْرم .
فَقُلْتُ لَهَا : فِيئي إليكِ فإنَّني *** حَرَامٌ وإنِّي بَعْدَ ذَاكَ لَبِيبُ{[10596]}
أيْ : مُلَبٍّ{[10597]} ، وأحْرَمَ إذا{[10598]} دَخَل في الحَرَمِ ، أو في الإحْرَامِ .
وقال مَكيُ بنُ أبي طالب : هو في موضع نَصْبٍ على الحال [ من ]{[10599]} المضمر في " مُحِلّي " ، وهذا هو الصحيحُ .
و [ أما ]{[10600]} ما ذكره الزَّمَخْشَرِيُّ ، فلا يَظْهَرُ فيه مجيءُ الحالِ من المضاف إليه في غير المواضع المستثناة{[10601]} .
وقرأ يَحْيَى بنُ وثَّاب{[10602]} ، وإبراهيم والحسن " حُرْم " بسكون الراء .
وقال أبو الحسن البصريُّ : هي لغة " تَمِيم " يَعْنِي يُسَكِّنون ضمة " فُعُل " جمعاً ، نحو : " رُسْل " . قد تقدم كلامُ المعربين في الآية الكريمة .
قال المفسرون : معنى الآيةِ ، أحِلَّتْ لَكُم الأنعامُ كُلُّها ، إلا ما كان منها وَحْشِيًّا ؛ [ فإنه صَيْدٌ ]{[10603]} لا يَحِلُّ لكم في حال الإحرامِ ، وقوله : { إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } استثناءٌ مُجْمل ، واستثناءُ المجمل من الكلام المفصل يجعلُ ما بقي بعد الاستثناء مُجْملاً ، إلاَّ أن المفسرِينَ أجْمعوا على أنّ المرادَ من هذا الاستثناءِ هو قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } [ المائدة : 3 ] ووجهُ هذا أن قوله { أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ } يقتضي إحْلاَلَها لهم على جميع الوجوهِ ، ثُمَّ بيَّن أنّها إنْ كانت مَيْتةً أو موقُوذةً أو مُتردِّيةً أو نَطيحةً أو افترسها السبعُ أو ذُبِحت على غير اسم الله فهي مُحرمةٌ .
وقوله : { غَيْرَ مُحِلِّي الصّيد } معناه : أنه لما أحلّ بهيمة الأنعامِ ، ذكر الفرقَ بين صيدها وغيره ، فبيَّن أنَّ كُلَّ ما كان صَيْداً ، فإنّه حلالٌ في الإحلالِ دُونَ الإحرامِ ، وما لم يكنْ صيداً فإنّه حلالٌ في الحاليْنِ جَمِيعاً .
وظاهرُ هذه الآيةِ يَقْتضِي أنّ الصيد مُطْلقاً حَرَامٌ على المُحْرم ، [ إلاَّ أنَّه تعالى أباح في آيةٍ أخْرَى أنّ الصيدَ المحرَّمَ على المحْرِم ]{[10604]} إنَّما هو صيدُ البَرِّ لا صيدَ البحرِ ، بقوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً } [ المائدة : 96 ] فبيَّن ذلك الإطلاق .
ثم قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } أيْ أنَّ الله تعالى أباح الأنعامَ في جميع الأحوالِ ، وأباح الصيد في بعضِ الأحوالِ دُون بعضٍ ، فلو قال قائلٌ : ما السببُ في هذا التفصيل والتَّخْصيصِ ، كان جوابهُ : أنَّه تعالى مالك{[10605]} الأشياءِ وخالقها{[10606]} فلا اعْتراضَ عليه في حُكْمه .