اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَفَجَّرۡنَا ٱلۡأَرۡضَ عُيُونٗا فَٱلۡتَقَى ٱلۡمَآءُ عَلَىٰٓ أَمۡرٖ قَدۡ قُدِرَ} (12)

قوله : «وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ » قرأ عبد الله وأبو حيوة وعَاصِم - في روايةٍ - وفَجَرْنا مخففاً{[53971]} . والباقون مثقلاً .

وقوله : «عُيُوناً » فيه أوجه :

أشهرها : أنه تمييز أي فَجَّرْنَا عُيُونَ الأَرْضِ ، فنقله من المفعولية إلى التمييز كما نقل من{[53972]} الفاعلية . ومنعه بعضهم على ما سيأتي .

وقوله : { وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً } أبلغ من فَجَّرْنَا عُيُونَ الأَرْضِ ، لما ذكر في نظيره مراراً{[53973]} .

الثاني : أنه منصوب على البدل من الأرض ، ويُضْعِفُ هذا خلوّه من الضمير ، فإِنه بدل بعض من كل ويجاب عنه بأنه محذوف أي عيوناً منها كقوله : «الأُخْدُودِ النَّارِ » ، فالنار بدل اشتمال ولا ضمير فهو مقدر .

الثالث : أنه مفعول ثان ؛ لأنه ضمن فَجَّرْنَا معنى صَيَّرْنَاهَا بالتفجير عُيُوناً .

الرابع : أنها{[53974]} حال ، وفيه تجوز حذف مضاف أي ذَات عُيُونٍ ، وكونها حالاً مقدرةً{[53975]} لا مقارنةً{[53976]} . قال ابن الخطيب : قوله { وفجرنا الأرض عيوناً } فيه من البلاغة ما ليس في قول القائل : وَفجَّرْنا من الأرض عيوناً .

وقال : وفجرنا الأرض عيوناً ، ولم يقل : فَفَتَحْنَا السَّمَاءَ أبواباً ؛ لأن السماء أعظمُ من الأرض وهي للمبالغة ، وقال : أبواب السماء ولم يقل : أنابيب ولا منافذ ولا مَجَاري . أما قوله تعالى : { فَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً } فلا غنى عنه لأن قول القائل : فجرنا من الأرض عيوناً يكون حقيقة لا مبالغة فيه ويكون في صحة ذلك القول أن يحصل في الأرض عيونٌ ثلاثٌ ولا يصلح مع هذا في السَّمَاءِ ومِيَاهِهَا{[53977]} .

فصل

قال ابن الخطيب : العُيُون جمع عَيْنٍ وهي حقيقية في العين التي هي آلة الإبصار ومجاز في غيرها أما في عيون الماء فلأنها تشبه العين الناظرة التي يخرج منها الدمع ، لأن الماء الذي في العين كالدمع الذي في العين وهو مجاز مشهور صار غالباً حتى لا يفتقر إلى قرينةٍ عند الاستعمال فكما لا يحمل اللفظ على العين الناظرة إلا بقرينة كذلك لا يحمل على الفَوَّارَةِ{[53978]} إلا بقرينة ، مثل شَرِبْتُ مِنَ العَيْنِ واغْتَسَلْتُ مِنْهَا ونحوه .

فإِن قيل : من أين علمت أن العين حقيقة في الناظرة ؟ .

قلنا : لأن الأفعال أخذت منه ، ولم تؤخذ من اليُنْبُوع ، فيقال : عَانَهُ يَعِينُهُ إذا أصابه بالعين وعَايَنهُ مُعَايَنَةً وعِيَاناً{[53979]} .

قال عُبَيْدُ بْنْ عُمَيْرٍ : أوحى الله تعالى إلى الأرض أن تُخْرِجَ ماءها فتفجرت بالعيون وأي عين تأخرت غضب عليها فجعل ماءها مُرًّا إلى يوم القيامة .

قوله : «فَالتَقَى المَاءُ » لما كان المراد بالماء الجنس صَحَّ أن يقال : فَالْتَقَى الماءُ كأنه قال : فالتقى ماءُ السماء وماءُ الأرض . وهذه قراءة العامة . وقرأ الحسن والجَحْدَريُّ ومُحَمَّد بن كَعْب وتروى عن أمير المؤمنين أيضاً{[53980]} : «المَاءَانِ » تثنية والهمزة سالمة أي النوعان منه ماء السماء وماء الأرض ؛ لأن الالتقاء إنما يكون بين اثنين . وقرأ الحسن أيضاً : «المَاوَانِ » بقلبها واواً ، وهي لغةَ طيِّىءٍ{[53981]} . قال الزمخشري كقولهم : عِلْبَاوَانِ{[53982]} ، يعني أنه شبه الهمزة المنقلبة عن هاء بهمزة الإِلحاق .

وروي عنه أيضاً المَايَان{[53983]} بقلبها ياء ، وهي أشدُّ مما قبلها{[53984]} .

قوله : «قَدْ قُدِرَ » العامة على التخفيف . وقرأ ابن مِقْسِم وأبو حيوة بالتشديد . هما لغتان قرئ بهما في قوله : { قَدَّرَ فهدى } [ الأعلى : 3 ] { فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ } [ الفجر : 16 ] كما سيأتي .

فصل

قيل : معنى قد قدر أي حال قدرها الله كما شاء قضى عليهم في أُمّ الكتاب . وقال مقاتل : قدَّر الله أن يكون الماءانِ سواءً ، فكانا على ما قَدَّره . وقيل : على مَقَادِير ؛ وذلك لأن المفسّرين اختلفوا ، فمنهم من قال كان ماء السماء أكثر ، ومنهم من قال : ماء الأرض . ومنهم من قال : كانا متساوِيَيْن ، فقال على مقدار كان وقال قتادة : قدر لهم إذا كفروا أن يغرقوا .

قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يقال : التقى الماء أي اجتمع على أمر هلاكهم وهو كأنه مقدور ( مقدر ){[53985]} . وفيه رد على المنجِّمين الذين يقولون : إن الطوفان كان بسبب اجتماع الكواكب السبعة في برج مائيّ والغرق لم يكن مقصوداً بالذات وإنما ذلك أمر لزم من الطوفان الواجب وقوعه ، فرد الله عليهم بأنه لم يكن ذلك إلا لأمر قد قُدِرَ ، ويدل عليه أن الله تعالى أوحى إلى نوح بأنهم مُغْرَقُونَ{[53986]} .


[53971]:البحر المحيط 8/177 وهي شاذة.
[53972]:كقول الله عز وجل في سورة مريم: {واشتعل الرأس شيباً} من الآية 4 منها.
[53973]:لأنه يكون حقيقة لا مبالغة فيه، ويكفي في صحة ذلك القول أن يجعل في الأرض عيوبا ثلاثة، ولا يصح مع هذا في السماء إلا قول القائل: فأنزلنا من السماء ماء أو مياها. وانظر تفسير الإمام 15/38.
[53974]:وقال بهذه الأوجه الإعرابية ناقلا إياها أبو حيّان في البحر 8/177 عدا وجه البدل.
[53975]:والحال المقدرة هي المستقبلة كمررتُ برجل معه صقر صائدا به غدا أي مقدّرا ذلك. وهذا لا يصح مع الآية الكريمة.
[53976]:أما المقارنة وهي الغالبة في أقسام الحال باعتبار الزمان كـ {وهذا بعلي شيخا}. والمحَلية؛ وهي الماضية كجاء زيد أمسٍ راكباً.
[53977]:بالمعنى من تفسير الرازي 15/38.
[53978]:أي التي تفور.
[53979]:بالمعنى من الرازي 15/39.
[53980]:لعله عليّ كرم الله وجهه. وانظر البحر 8/177، والقرطبي 17/132 وابن خالويه 174، والكشاف 4/37 وهي قراءات شاذة غير متواترة.
[53981]:الكشاف المرجع السابق.
[53982]:الكشاف المرجع السابق.
[53983]:المراجع السابقة عدا القرطبي والكشاف.
[53984]:فالمعروف أن الهمزة المنقلبة عن أصل في التثنية والجمع السالم تبقى أو تقلب واوا فقط كما يقال: بناءان وبناوان وعلباءان وعلباوان في همزة الإلحاق أيضا.
[53985]:زيادة من (أ).
[53986]:وانظر تفسير الفخر الرازي 15/39.