مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قَالَ إِنَّهُۥ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٞ لَّا ذَلُولٞ تُثِيرُ ٱلۡأَرۡضَ وَلَا تَسۡقِي ٱلۡحَرۡثَ مُسَلَّمَةٞ لَّا شِيَةَ فِيهَاۚ قَالُواْ ٱلۡـَٰٔنَ جِئۡتَ بِٱلۡحَقِّۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفۡعَلُونَ} (71)

ثم أجاب الله تعالى عن سؤالهم بقوله تعالى : { إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض } وقوله : { لا ذلول } صفة لبقرة بمعنى بقرة غير ذلول بمعنى لم تذلل للكراب وإثارة الأرض ولا هي من البقر التي يسقى عليها فتسقي الحرث و«لا » الأولى للنفي والثانية مزيدة لتوكيد الأولى ، لأن المعنى لا ذلول تثير وتسقي على أن الفعلين صفتان لذلول كأنه قيل لا ذلول مثيرة وساقية ، وجملة القول أن الذلول بالعمل لا بد من أن تكون ناقصة فبين تعالى أنها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث لأن هذين العملين يظهر بهما النقص .

أما قوله تعالى : { مسلمة } ففيه وجوه :

( أحدها ) : من العيوب مطلقا . ( وثانيها ) : من آثار العمل المذكور . ( وثالثها ) : مسلمة أي وحشية مرسلة عن الحبس . ( ورابعها ) : مسلمة من الشية التي هي خلاف لونها أي خلصت صفرتها عن اختلاط سائر الألوان بها ، وهذا الرابع ضعيف وإلا لكان قوله : { لا شية فيها } تكرارا غير مفيد ، بل الأولى حمله على السلامة من العيوب واللفظ يقتضي ذلك لأن ذلك يفيد السلامة الكاملة عن العلل والمعايب ، واحتج العلماء به على جواز استعمال الظاهر مع تجويز أن يكون الباطن بخلافه لأن قوله : { مسلمة } إذا فسرناها بأنها مسلمة من العيوب فذلك لا نعلمه من طريق الحقيقة إنما نعلمه من طريق الظاهر .

أما قوله تعالى : { لا شية فيها } فالمراد أن صفرتها خالصة غير ممتزجة بسائر الألوان لأن البقرة الصفراء قد توصف بذلك إذا حصلت الصفرة في أكثرها فأراد تعالى أن يبين عموم ذلك بقوله : { لا شية فيها } روي أنها كانت صفراء الأظلاف صفراء القرون ، والوشي خلط لون بلون . ثم أخبر الله تعالى عنهم بأنهم وقفوا عند هذا البيان واقتصروا عليه فقالوا : { الآن جئت بالحق } أي الآن بانت هذه البقرة عن غيرها لأنها بقرة عوان صفراء غير مذللة بالعمل .

قال القاضي : قوله تعالى : { الآن جئت بالحق } كفر من قبلهم لا محالة لأنه يدل على أنهم اعتقدوا فيما تقدم من الأوامر أنها ما كانت حقه ، وهذا ضعيف لاحتمال أن يكون المراد الآن ظهرت حقيقة ما أمرنا به حتى تميزت من غيرها فلا يكون كفرا .

أما قوله تعالى : { فذبحوها وما كادوا يفعلون } فالمعنى فذبحوا البقرة وما كادوا يذبحونها ، وههنا بحث : وهو أن النحويين ذكروا «لكاد » تفسيرين . ( الأول ) : قالوا : إن نفيه إثبات وإثباته نفي . فقولنا : كاد يفعل كذا معناه قرب من أن يفعل لكنه ما فعله وقولنا : ما كاد يفعل كذا معناه قرب من أن يفعل لكنه فعله . ( والثاني ) : وهو اختيار الشيخ عبد القاهر [ الجرجاني ] النحوي أن كاد معناه المقاربة فقولنا كاد يفعل معناه قرب من الفعل وقولنا ما كاد يفعل معناه ما قرب منه وللأولين أن يحتجوا على فساد هذا الثاني بهذه الآية لأن قوله تعالى : { وما كادوا يفعلون } معناه وما قاربوا الفعل ونفي المقاربة من الفعل يناقض إثبات وقوع الفعل ، فلو كان كاد للمقاربة لزم وقوع التناقض في هذه الآية .

وههنا أبحاث :

البحث الأول : روي أنه كان في بني إسرائيل شيخ صالح له عجلة فأتى بها الغيضة وقال : اللهم إني استودعتكها لابني حتى تكبر وكان برا بوالديه فشبت وكانت من أحسن البقر وأسمنها فتساوموها اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء مسكها ذهبا وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير ، وكانوا طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة .

البحث الثاني : روي عن الحسن أن البقرة تذبح ولا تنحر وعن عطاء أنها تنحر ، قال : فتلوت الآية عليه فقال : الذبح والنحر سواء ، وحكي عن قتادة والزهري إن شئت نحرت وإن شئت ذبحت وظاهر الآية يدل على أنهم أمروا بالذبح وأنهم فعلوا ما يسمى ذبحا والنحر وإن أجزأ عن الذبح فصورته مخالفة لصورة الذبح ، فالظاهر يقتضي ما قلناه حتى لو نحروا ولا دليل يدل على قيامه مقام الذبح لكان لا يجزي .

البحث الثالث : اختلفوا في السبب الذي لأجله ما كادوا يذبحون ، فعن بعضهم لأجل غلاء ثمنها وعن آخرين أنهم خافوا الشهرة والفضيحة ، وعلى كلا الوجهين ، فالإحجام عن المأمور به غير جائز ، أما الأول : فلأنهم لما أمروا بذبح البقرة المعينة ، وذلك الفعل ما كان يتم إلا بالثمن الكثير وجب عليهم أداؤه لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب إلا أن يدل الدليل على خلافه ، وإنما لا يلزم المصلي أن يتطهر بالماء إذا لم يجده إلا بغلاء من حيث الشرع ، ولولاه للزم ذلك إذا وجب التطهر مطلقا . وأما الثاني : وهو خوف الفضيحة فذاك لا يرفع التكليف ، فإن القود إذا كان واجبا عليه لزمه تسليم النفس من ولي الدم إذا طالب وربما لزمه التعريف ليزول الشر والفتنة وربما لزمه ذلك لتزول التهمة في القتل عن القوم الذين طرح القتيل بالقرب منهم ، لأنه الذي عرضهم للتهمة فيلزمه إزالتها فكيف يجوز جعله سببا للتثاقل في هذا الفعل .

البحث الرابع : احتج القائلون بأن الأمر للوجوب بهذه الآية ، وذلك لأنه لم يوجد في هذه الصورة إلا مجرد الأمر ، ثم إنه تعالى ذم التثاقل فيه والتكاسل في الاشتغال بمقتضاه ، وذلك يدل على أن الأمر للوجوب . قال القاضي : إذا كان الغرض من المأمور إزالة شر وفتنة دل ذلك على وجوبه وإنما أمر تعالى بذبحها لكي يظهر القاتل فتزول الفتنة والشر المخوف فيهم ، والتحرز عن هذا الجنس الضار واجب ، فلما كان العلاج إزالته بهذا الفعل صار واجبا وأيضا فغير ممتنع أن في تلك الشريعة أن التعبد بالقربان لا يكون إلا سبيل الوجوب ، فلما تقدم علمهم بذلك كفاهم مجرد الأمر . وأقول : حاصل هذين السؤالين يرجع إلى حرف واحد وهو أنا وإنا كنا لا نقول إن الأمر يقتضي الوجوب فلا نقول : إنه ينافي الوجوب أيضا فلعله فهم الوجوب ههنا بسبب آخر سوى الأمر ، وذلك السبب المنفصل إما قرينة حالية وهي العلم بأن دفع المضار واجب ، أو مقالية وهي ما تقدم بيانه من أن القربان لا يكون مشروعا إلا على وجه الوجوب . والجواب : أن المذكور مجرد قوله تعالى : { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } فلما ذكر الذم والتوبيخ على ترك الذبح المأمور به علمنا أن منشأ ذلك هو مجرد ورود الأمر به لما ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علة لذلك الحكم .

البحث الخامس : احتج القائلون بأن الأمر يفيد الفور بهذه الآية ، قالوا : لأنه ورد التعنيف على ترك المأمور به عند ورود الأمر المجرد فدل على أنه للفور .