المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{قَالَ إِنَّهُۥ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٞ لَّا ذَلُولٞ تُثِيرُ ٱلۡأَرۡضَ وَلَا تَسۡقِي ٱلۡحَرۡثَ مُسَلَّمَةٞ لَّا شِيَةَ فِيهَاۚ قَالُواْ ٱلۡـَٰٔنَ جِئۡتَ بِٱلۡحَقِّۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفۡعَلُونَ} (71)

قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ( 71 )

{ ذلول } : مذللة بالعمل والرياضة ، تقول بقرة مذللة بيِّنة الذِّل بكسر الذال ، ورجل ذلول بين الذُّل بضم الذال( {[782]} ) ، و { ذلول } نعت ل { بقرة } ، أو على إضمار هي ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : «لا ذلولَ » بنصب اللام( {[783]} ) .

و { تثير الأرض } ، معناه بالحراثة ، وهي عند قوم جملة في موضع رفع على صفة البقرة ، أي لا ذلول مثيرة ، وقال قوم { تثير } فعل مستأنف ، والمعنى إيجاب الحرث وأنها كانت تحرث ولا تسقي( {[784]} ) ، ولا يجوز أن تكون هذه الجملة في موضع الحال ، لأنها من نكرة( {[785]} ) ، و { تسقي الحرث } معناه بالسانية( {[786]} ) أو غيرها من الآلات ، و { الحرث } ما حرث وزرع .

و { مسلمة } بناء مبالغة( {[787]} ) من السلامة ، قال ابن عباس وقتادة وأبو العالية : معناه من العيوب( {[788]} ) ، وقال مجاهد : معناه من الشيات والألوان ، وقال قوم : معناه من العمل .

و { لا شية فيها } : أي لا خلاف في لونها هي صفراء كلها لا بياض فيها ولا حمرة ولا سواد قاله ابن زيد وغيره ، والموشي المختلط الألوان ، ومنه وشي الثوب ، تزيينه بالألوان ، ومنه الواشي لأنه يزين كذبه بالألوان من القول ، والثور الأشيه الذي فيه بلقة ، يقال فرس أبلق ، وكبش أخرج ، وتيس أبرق ، وكلب أبقع ، وثور أشيه ، كل ذلك بمعنى البلقة( {[789]} ) .

وهذه الأوصاف في البقرة سببها أنهم شددوا فشدد الله عليهم ، ودين الله يُسْرٌ ، والتعمق في سؤال الأنبياء عليهم السلام مذموم( {[790]} ) .

وقصة( {[791]} ) وجود هذه البقرة على ما روي ، أن رجلاً من بني إسرائيل ولد له ابن ، وكانت له عجلة ، فأرسلها في غيضة ، وقال : اللهم إني قد استودعتك هذه العجلة لهذا الصبي ، ومات الرجل ، فلما كبر الصبي قالت له أمه : إن أباك قد استودع الله عجلةً لك ، فاذهب فخذها ، فذهب فلما رأته البقرة جاءت إليه حتى أخذ بقرنيها ، وكانت مستوحشة ، فجعل يقودها نحو أمه ، فلقيه بنو إسرائيل ، ووجدوا بقرته على الصفة التي أمروا بها ، وروت طائفة أنه كان رجل من بني إسرائيل براً بأبيه فنام أبوه يوماً وتحت رأسه مفاتيح مسكنهما ، فمر به بائع جوهر فسامه فيه بستين ألفاً ، فقال له ابن النائم : اصبر حتى ينتبه أبي ، وأنا آخذه منك بسبعين ألفاً ، فقال له صاحب الجوهر : نبه أباك وأنا أعطيكه بخمسين ألفاً ، فداما كذلك حتى بلغه مائة ألف ، وانحط صاحب الجوهر إلى ثلاثين ألفاً ، فقال له ابن النائم : والله لا اشتريته منك بشيء براً بأبيه ، فعوضه الله منه أن وجدت البقرة عنده ، وقال قوم : وجدت عند عجوز تعول يتامى كانت البقرة لهم ، إلى غير ذلك من اختلاف في قصتها ، هذا معناه ، فلما وجدت البقرة ساموا صاحبها ، فاشتط عليهم ، وكانت قيمتها - على ما روي عن عكرمة - ثلاثة دنانير ، فأتوا به موسى عليه السلام ، وقالوا : إن هذا اشتط علينا ، فقال لهم : أرضوه في ملكه ، فاشتروها منه بوزنها مرة ، قاله عبيدة السلماني( {[792]} ) ، وقيل بوزنها مرتين ، وقال السدي : بوزنها عشر مرات ، وقال مجاهد : كانت لرجل يبر أمه ، وأخذت منه بملء جلدها دنانير ، وحكى مكي : أن هذه البقرة نزلت من السماء ، ولم تكن من بقر الأرض ، وحكى الطبري عن الحسن أنها كانت وحشية .

و { الآن } مبنيٌّ على الفتح ولم يتعرف بهذه الألف واللام ، ألا ترى أنها لا تفارقه في الاستعمال ، وإنما بني لأنه ضمن معنى حرف التعريف ، ولأنه واقع موقع المبهم( {[793]} ) ، إذ معناه هذا الوقت ، هو عبارة عما بين الماضي والمستقبل ، وقرىء «قالوا الآن » بسكون اللام وهمزة بعدها ، «وقالوا الان » بمدة على الواو وفتح اللام دون همز ، «وقالوا الآن » بحذف الواو من اللفظ دون همز ، «وقالوا ألآن » بقطع الألف الأولى وإن كانت ألف وصل ، كما تقول «يا الله » .

و { جئت بالحق } معناه - عند من جعلهم عصاة( {[794]} )- بينت لنا غاية البيان ، و { جئت بالحق } الذي طلبناه ، لا إنه كان يجيء قبل ذلك بغير حق ، ومعناه عند ابن زيد - الذي حمل محاورتهم على الكفر- : الآن صدقت . وأذعنوا في هذه الحال حين بين لهم أنها سائمة ، وقيل إنهم عيّنوها مع هذه الأوصاف ، وقالوا : هذه بقرة فلان ، وهذه الآية تعطي أن الذبح أصل في البقر ، وإن نحرت أجزت( {[795]} ) .

وقوله تعالى : { وما كادوا( {[796]} ) يفعلون } عبارة عن تثبطهم في ذبحها ، وقلة مبادرتهم إلى أمر الله تعالى ، وقال محمد بن كعب القرظي : كان ذلك منهم لغلاء البقرة وكثرة ثمنها ، وقال غيره : كان ذلك خوف الفضيحة في أمر القتال ، وقيل : كان ذلك للمعهود من قلة( {[797]} ) انقيادهم وتعنتهم على الأنبياء .


[782]:- يقال في الدواب: ذَلُول – وفي بني آدم: دَليل – بعير دَلُول أي بين الذِّل بالكسر، ورجل ذَليل أي بين الذُّل بالضم، وذلك كله فرق لغوي بينهما، والذِّل بالكسر معناه السهولة والانقياد والذُّل بالضم معناه الضعف والهوان، وقد يوصف الإنسان بذلول كالدابة، وذلك ما صنعه ابن عطية رحمه الله ولكنه مراعاة الفرق بينهما أحسن وأفضل.
[783]:- أي على أنها نافية والخبر محذوف، أي لا ذلول هناك- وأبو عبد الرحمن هو: عبد الله ابن حبيب بن رُبَيِّعة بضم المهملة وكسر التحتانية بينهما موحدة مفتوحة السلمي المقرئ الكوفي- عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود- وعنه إبراهيم النخعي وسعيد بن جبير، أقرأ القرآن أربعين سنة وإليه انتهت القراءة تجويدا أو ضبطا ومات سنة 85هـ وقبل سنة 74هـ.
[784]:- رأي غير واضح، إذ لو كانت تثير الأرض لكانت مذللة، والله سبحانه قد نفى عنها ذلك بقوله: (لا ذلول).
[785]:- إن كان يعني بالنكرة (بقرة) فهي نكرة موصوفة، والنكرة الموصوفة يجيء منها الحال، وإن عنى بها (لاذلول) فذلك هو قول الجمهور ولكن في كتاب سيبويه ما يدل على مجيء الحال من النكرة وإن كان الإتباع أفضل، أنظر تفسير أبي (ح).
[786]:- السانية (بالنون): وهي الناقة التي يستقى عليها، وفي المثل: "سير السواني سفر لا ينقطع" ويقال: سنت الناقة تسنو سناوة وسناية إذا سقت الأرض.
[787]:- ليس التضعيف هنا من أجل المبالغة، وإنما هو تضعيف النقل والتعدية كما هو معلوم في علم العربية. تقول: سلِم زيد وإن أردت تعديته تقول سلمته، وفرح زيد وفرحته، وهكذا والله أعلم.
[788]:- هذا التفسير أولى وأنسب بالمقام، وأما السلامة في العمل ومن اختلاط الألوان فقد وقع النص عليهما في الآية الكريمة.
[789]:- البُلْقة: سواد وبياض يقال: بلق الفرس بَلَقا وبُلقة: كان فيه سواد وبياض. فهو أبلق، وهي بلقاء وجمعه بُلق، قال أبو حيان رحمه الله "وليس الأشْيَهُ مأخوذا من (الشِّيَةِ) لاختلاف المادتين" – وأقول: إن أهل اللغة وذكروا في مادة (وشى).
[790]:- في الحديث الصحيح: "وإنما أهلك من قبلكم كثرة مسائلهم، واختلاف على أنبيائهم"، وفي حديث سعد بن أبي وقاص المتفق عليه: "أعظم الناس جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم لأجل مسألته".
[791]:- ذكر في هذه القصة ثلاث روايات، والذي يظهر أن ذلك مأخوذ من الإسرائليات وذلك مما يجوز نقله ولكن لا نصدق ولا نكذب ولا نعتمد إلا على ما روي برواية مقبولة وصحيحة.
[792]:- هو عبيدة بن عمرو بالفتح أو ابن قيس السلماني أو عمرو الكوفي التابعي الكبير، أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يره، فهو من المخضرمين، أخذ القراءة عرضا عن ابن مسعود رضي الله عنه، وعن علي، توفي سنة 72هـ.
[793]:- أي ولوقوعه موقع اسم الإشارة إذ معناه: هذا الوقت الحاضر.
[794]:- سبق عند تفسير قوله تعالى: (قالوا أتتخذنا هزوا) أن من الناس من حمل قولهم هذا على الكفر، ومن الناس من حمله على المعصية، ومراد بن عطية رحمه الله تطبيق هذه الآية على التأويلين السابقين.
[795]:- في مختصر المالكية للشيخ خليل رحمه الله عاطفا على الوجوب: "ونحر الإبل، وذبح غيره إن قدر وجازا للضرورة إلا البقر فيندب الذبح"
[796]:- اختلف في معنى هذه الكلمة فقال بعضهم: (كاد) من أفعال المقاربة، لها حكم سائر الأفعال في النفي والإثبات- وقال بعضهم: (كاد) لها شأن ليس لغيرها من الأفعال- فإنها إذا أثبتت نفت وإذا نفت أثبتت- وقال بعضهم، ومنهم ابن مالك: إذا استعملت مثبتة اقتضت نفي خبرها وإذا استعملت منفية اقتضت نفيه بطريق الأولى- و اعتذر عن مثل قوله تعالى: (قذبحوها وما كادوا يفعلون)، بأن هذا وارد على كلامين متباينين: أي فعلت كذا بعد أن لم أكن مقاربا له، بل كان آيسا منه فهما كلامان مقصود بهما أمران متباينان- والصحيح من هذا الخلاف أنها فعل يقتضي المقاربة ولها حكم سائر الأفعال، ونفي الخبر لم يستفد من لفظها ووضعها فإنها لم توضع لنفيه، وإنما استفيد من لوازم معناها، فإنها إذا اقتضت مقاربة الفعل لم يكن واقعا فيكون منفيا باللزوم، وأما إن استعملت منفية فإن كانت في كلام واحد فهي لنفي المقاربة كما إذا قلت: لا يكاد البطال ينجح، وإن كانت في كلامين كما هنا اقتضت وقوع الفعل بعد أن لم يكن مقاربا بل كان آيسا منه كما قال ابن مالك رحمه الله. وبعد فسبحان من فاوت بين عباده في الإدراك الفهم، وفي المعرفة والعلم- قال لابراهيم عليه السلام: اذبح ولدك، فتله للجبين وقال لبني إسرائيل: اذبحوا بقرة فذبحوها وما كادوا يفعلون.
[797]:- هذا القول يقرب من القول الأول وهو الذي يظهر والله أعلم.