فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{قَالَ إِنَّهُۥ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٞ لَّا ذَلُولٞ تُثِيرُ ٱلۡأَرۡضَ وَلَا تَسۡقِي ٱلۡحَرۡثَ مُسَلَّمَةٞ لَّا شِيَةَ فِيهَاۚ قَالُواْ ٱلۡـَٰٔنَ جِئۡتَ بِٱلۡحَقِّۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفۡعَلُونَ} (71)

{ قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول } أي ليست مذللة والذلول التي يذللها العمل { تثير الأرض } أي تقلبها للزراعة { ولا تسقي الحرث } أي ليست بسانية يعني من النواضح التي يسني عليها ويسقي الزرع ، وحرف النفي الآخر توكيد للأول أي هذه بقرة غير مذللة بالحرث ولا بالنضج ، لهذا قال الحسن كانت البقرة وحشية ، وقال قوم إن قوله تثير فعل مستأنف والمعنى إيجاب الحرث لها والنضح بها والأول أرجح لأنها لو كانت مثيرة ساقية لكانت مذللة ريضة وقد نفى الله ذلك عنها .

{ مسلمة } أي بريئة من العيوب ، والمسلمة هي التي لا عيب فيها وقيل مسلمة من العمل وهو ضعيف لأن الله سبحانه قد نفى ذلك عنها ، والتأسيس خير من التأكيد ، والإفادة أولى من الإعادة { لاشية فيها } أي لا لون فيها غير لونها ، والشية مأخوذة من وشي الثوب إذا نسج على لونين مختلفين ، وثور موشى : في وجهه وقوائمه سواد ويقال ثور أشيه وفرس أبلق وكبش أخرج وتيس أبرق وغراب أبقع ، كل ذلك بمعنى أبلق والمراد أن هذه البقرة خالصة الصفرة ليس في جسمها لمعة من لون آخر ، فلما سمعوا هذه الأوصاف التي لا يبقى بعدها ريب ولا يخالج سامعها شك ، ولا تحتمل الشركة بوجه من الوجوه أقصروا من غوايتهم وانتبهوا من رقدتهم ، وغرقوا بمقدار ما أوقعهم فيه تعنتهم من التضييق عليهم .

{ قالوا الآن جئت بالحق } أي أوضحت لنا الوصف وبينت لنا الحقيقة التي يجب الوقوف عندها ، فحصلوا تلك البقرة الموصوفة بتلك الصفات ، قيل { أل } في الآن للتعريف الحضوري وقيل زائدة لازمة { فذبحوها } وامتثلوا الأمر الذي كان يسيرا فعسروه وكان واسعا فضيقوه .

{ وما كادوا يفعلون } ما أمروا به لما وقع منهم من التثبط والتعنت وعدم المبادرة فكان ذلك مظنة للاستعباد محلا للمجيء بعبارة مشعرة بالتثبط والتعنت الكائن منهم ، وقيل أنهم كادوا يفعلون لعدم وجدان البقرة المتصفة بهذه الأوصاف ، وقيل لارتفاع ثمنها ، وقيل لخوف انكشاف أمر المقتول والأول أرجح .

وقد استدل جماعة من المفسرين والأصوليين بهذه الآية على جواز النسخ قبل إمكان الفعل ، وليس ذلك عندي بصحيح لوجهين :

{ الأول } أن هذه الأوصاف ، المزيدة بسبب تكرار السؤال هي من باب التقييد للمأمور به لا من باب النسخ ، وبين البابين بون يعيد كما هو مقرر في علم الأصول .

{ الثاني } أما لو سلمنا أن هذا من باب النسخ لا من باب التقييد لم يكن فيه دليل على ما قالوه فإنه قد كان يمكنهم بعد الأمر الأول أن يعمدوا إلى بقرة من عرض البقر فيذبحوها ثم كذلك بعد الوصف بكونها جامعة بين الوصف بالعوان والصفرة ، ولا دليل يدل على أن هذه المحاورة بينهم وبين موسى عليه السلام واقعة في لحظة واحدة ، بل الظاهر أن هذه الأسئلة المتعنتة كانوا يتواطؤون عليها ويديرون الرأي بينهم في أمرها ثم يريدونها ، وأقل الأحوال الاحتمال القادح في الاستدلال .

وعن عبيدة السلماني قال كان رجل من بني إسرائيل عقيما لا يولد له وكان له مال كثير وكان ابن أخيه وارثه فقتله ثم احتمله ليلا فوضعه على باب رجل منهم ، ثم أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا وركب بعضهم إلى بعض ، فقال ذو الرأي منهم علام يقتل بعضكم بعضا ، وهذا رسول الله فيكم ، فأتوا موسى فذكروا ذلك له فقال { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } الآية قال فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة ، ولكنهم شددوا فشدد عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها فقال والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهبا ، فأخذوها بملء جلدها ذهبا فذبحوها فضربوه ببعضها فقام ، فقالوا من قتلك ، فقال هذا لابن أخيه ، ثم مال ميتا فلم يعط من ماله شيئا ولم يورث قاتل بعده .

وعن ابن عباس أن القتيل وجد بين قريتين وأن البقرة كانت لرجل كان يبر أباه فاشتروها بوزنها ذهبا ، وقد روي في هذا قصص مختلفة لا يتعلق بها كثير فائدة .

وفي القصة أحكام منها الاستدلال بقوله { إن الله يأمركم } على أن الآمر لا يدخل في عموم الأمر فإن موسى لم يدخل في الأمر بدليل قوله { فذبحوها } ومنها الاستدلال على أن السنة في البقرة الذبح ، ومنها الاستدلال على جواز ورود الأمر مجملا وتأخير بيانه ، ومنها دلالة قوله لا فارض ولا بكر وقوله مسلمة على جواز الاجتهاد واستعمال غالب الظن في الأحكام لأن ذلك لا يعلم إلا بالاجتهاد ، ومنها المستهزئ يستحق سمة الجهل ، ومنها دلالة قوله { إن شاء الله } على الاستثناء في الأمور ، ومنها دليل أهل السنة في الأمر لا يستلزم المشيئة ، ومنها الدلالة على حصر الحيوان بالوصف وجواز السلم فيه ، ومنها دلالة قوله { فافعلوا ما تؤمرون } على أن الأمر على الفوز ويدل على ذلك أنه استقصرهم حين لم يبادروا إلى فعل ما أمرهم به وقال فذبحوها وما كادوا يفعلون .