نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{قَالَ إِنَّهُۥ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٞ لَّا ذَلُولٞ تُثِيرُ ٱلۡأَرۡضَ وَلَا تَسۡقِي ٱلۡحَرۡثَ مُسَلَّمَةٞ لَّا شِيَةَ فِيهَاۚ قَالُواْ ٱلۡـَٰٔنَ جِئۡتَ بِٱلۡحَقِّۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفۡعَلُونَ} (71)

{ قال إنه يقول إنها } أي هذه البقرة التي أطلتم التعنت في أمرها { بقرة لا ذلول } {[3108]}من الذل وهو حسن الانقياد - قاله الحرالي ثم وصف الذلول بقوله{[3109]} { تثير الأرض } أي {[3110]}يتجدد منها إثارتها{[3111]} بالحرث{[3112]} كل وقت{[3113]} من الإثارة {[3114]}قال الحرالي{[3115]} : وهي إظهار الشيء من الثرى ، كأنها تخرج الثرى من محتوى{[3116]} اليبس ؛ ولما كان الذل وصفاً لازماً عبر في وصفها بانتفائه{[3117]} بالاسم المبالغ فيه ، أي ليس الذل وصفاً لازماً لها لا أنها بحيث لا يوجد منها ذل أصلاً ، فإنها لو كانت كذلك كانت{[3118]} وحشية لا يقدر عليها أصلاً{[3119]} .

ولما كان لا يتم وصفها بانتفاء الذل إلا بنفي السقي عنها وكان أمراً يتجدد ليس هو صفة لازمة كالذل عبر فيه بالفعل وأصحبه لا عطفاً على الوصف لا على تثير لئلا يفسد المعنى ، فقال واصفاً للبقرة : { ولا تسقي الحرث } أي لا يتجدد منها سقيه بالسانية كل وقت ، ويجوز أن يكون إثبات لا فيه تنبيهاً على حذفها قبل تثير ، فيكون الفعلان المنفيان تفسيراً على سبيل الاستئناف للاذلول ، وحذف لا قبل تثير لئلا يظن أنه معها وصف لذلول فيفسد المعنى ، والمراد أنها لم{[3120]} تذلل بحرث ولا سقي ومعلوم من القدرة على ابتياعها وتسلمها للذبح أنها ليست في غاية الإباء{[3121]} كما آذن به الوصف بذلول{[3122]} ، كل ذلك لما في التوسط من الجمع لأشتات الخير .

{ مسلّمة } أي من العيوب { لا شية{[3123]} } أي علامة { فيها } تخالف لونها {[3124]}بل هي صفراء كلها حتى قرنها وظلفها{[3125]} { قالوا الآن } أي في هذا الحد من الزمان الكائن الفاصل بين الماضي والآتي .

{ جئت بالحق }{[3126]} أي الأمر الثابت المستقر{[3127]} البين من بيان وصف البقرة فحصلوها{[3128]} ، { فذبحوها } أي فتسبب عما تقدم كله أنهم ذبحوها { وما كادوا } أي قاربوا قبل هذه المراجعة الأخيرة{[3129]} { يفعلون } {[3130]} ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : لو ذبحوا بقرة ما لأجزأتهم لكنهم شددوا في السؤال فشدد الله عليهم - يعني أنهم كلفوا بالأسهل فشددوا فنسخ بالأشق ، وهو دليل جواز النسخ قبل الفعل{[3131]} ، أو يقال إنه لما كان السبت إنما وجب عليهم وابتلوا بالتشديد فيه باقتراحهم له وسؤالهم إياه بعد إبائهم للجمعة كما يأتى إن شاء الله تعالى بيانه عند قوله تعالى ( إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه{[3132]} }[ النحل : 124 ] كان أنسب الأشياء تعقيبه بقصة البقرة التي ما شدد عليهم في أمرها إلا لتعنتهم فيه وإبائهم لذبح أيّ بقرة تيسرت ، ويجوز أن يقال إنه لما كان من جملة ما استخفوا به السبت المسارعة إلى إزهاق ما لا يحصى من الأرواح الممنوعين منها من الحيتان وكان في قصة البقرة التعنت والتباطؤ عن إزهاق نفس واحدة{[3133]} أمروا بها تلاه بها .

ومن أحاسن المناسبات أن في كل من آيتي القردة والبقرة تبديل حال الإنسان بمخالطة لحم بعض الحيوانات{[3134]} العجم ، ففي الأولى إخراسه بعد نطقه بلحم السمك ، وفي الثانية إنطاقه بعد خرسه بالموت بلحم البقر ، ولعل تخصيص لحم البقر{[3135]} بهذا الأمر لإيقاظهم من رقدتهم وتنبيههم من غفلتهم عن عظيم قدرة الله تعالى لينزع من قلوبهم التعجب من خوار العجل الذي عبدوه .

وقال الإمام أبو الحسن الحرالي : وفي ذلك تشامّ{[3136]} بين أحوالهم في اتخاذهم العجل وفي طلبهم ذلك ، وفي كل ذلك مناسبة بين طباعهم وطباع البقرة المخلوقة للكدّ وعمل الأرض التي معها التعب والذل والتصرف فيما هو من الدنيا توغلاً فيها وفيه نسمة{[3137]} مطلبهم ما تنبت الأرض الذي هو أثر الحرث - يعني الذي أبدلوا الحطة به وهو حبة{[3138]} في شعرة ، فكأنهم بذلك أرضيون ترابيون لا تسمو طباع أكثرهم إلى الأمور الروحانية العلوية ، فإن جبلة كل نفس تناسب ما تنزع إليه وتلهج به من أنواع الحيوان . { جعل{[3139]} لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً }[ الشورى : 11 ] - انتهى .


[3108]:وقال صاحب المدارك: "لا ذلول" صفة لبقرة بمعنى بقرة غير ذلول يعني لم تذلل للكراب وإثارة الأرض "ولا تسقي الحرث" ولا هي من النواضح التي يسني عليها لسقي الحروث، ولا الأولى نافية والثانية مزيدة لتوكيد الأولى لأن المعنى لا ذلول تثير الأرض أي تقلبها للزراعة وتسقى الحرث على أن الفعلين صفتان لذلول كأنه قيل لا ذلول مثيرة وساقية – انتهى.
[3109]:ليست في ظ. وفي م: الذل – مكان: الذلول.
[3110]:ليست في ظ.
[3111]:ليست في ظ.
[3112]:ليست في ظ.
[3113]:ليست في ظ.
[3114]:ليست في ظ.
[3115]:ليست في ظ.
[3116]:في م: موضع.
[3117]:في م: بالانتقامة.
[3118]:ليس في م.
[3119]:قال أبو حيان: "لا ذلول" صفة للبقرة على أنه من الوصف بالمفرد و "تثير الأرض" صفة لذلول وهي صفة داخلة في حيز النفي، والمقصود نفي إثارتها الأرض أي لا تثير فتذل فهو من باب: على لاحب لا يهتدي بمناره اللفظ نفى الذل والمقصود نفى الإثارة فينتفي كونها ذلولا، ولا تسقي الحرث نفى معادل لقوله: لا ذلول والجملة صفة، والصفتان منفيتان من حيث المعنى كما أن لا تسقي منفى من حيث المعنى أيضا. وقال الحس: كانت تلك البقرة وحشية ولهذا وصفت بأنها لا تثير الأرض بالحرث ولا يسني عليها فتسقي. قال الزمخشري: لا ذلول صفة لبقرة بمعنى بقرة غير ذلول يعني لم تذلل للحرث، وإثارة الأرض ولا هي من النواضح التي يسني عليها بسقي الحروث، ولا الأولى للنفي والثانية مزيدة لتوكيد الأولى لأن المعنى لا ذلول تثير وتسقي على أن الفعلين صفتان والثانية مزيدة لتوكيد الأولى لأن المعنى لا ذلول نثير وتسقي على أن الفعلين صفتان لذلول كأنه قيل: لا ذلول مثيرة وساقية – انتهى كلامه.
[3120]:في مد: لا .
[3121]:ليست في ظ.
[3122]:ليست في ظ.
[3123]:وفي البحر المحيط: أي لا بياض – قاله السدي أولا وضح وهو الجمع بين لونين من سواد وبياض، أولا عيب فيها، أولا لون يخالف لونها من سواد أو بياض، أولا سواد في الوجه والقوائم وهو الشية في البقر، يقال ثور موشي إذا كان في وجهه وقوائمه سواد. قال ابن عطية: والثور الأشيه الذي ظهر بلقه، يقال فرس أبلق وكبش أخرج وتيس أبرق وكلب أبقع وثور أشيه، كل ذلك بمعنى البلقة – انتهى. وليس الأشيه مأخوذا من الشية لاختلاف المادتين.
[3124]:ليست في ظ، وفي م: صفا – مكان: صفراء.
[3125]:ليست في ظ: وفي م: صفا – مكان: صفراء.
[3126]:قال أبو حيان: ومعنى "بالحق" بحقيقة نعت البقرة وما بقي فيها أشكال.
[3127]:ليست في ظ.
[3128]:ليست في ظ.
[3129]:في البيضاوي: لتطويلهم وكثرة مراجعاتهم أو لخوف الفضيحة في ظهور القاتل أو لغلاء ثمنها إذ روى أن شيخا صالحا منهم كان له عجلة فأتى بها الغيضة وقال: اللهم إني أستودعكها لابني حتى يكبر، فشبت وكانت وحيدة بتلك الصفات فساوموها اليتيم وأمه حتى اشتروها بملاء مسكها ذهبا وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير والمعنى أنهم ما قاربوا أن يفعلوا حتى انتهت سؤالاتهم وانقطعت تعللاتهم ففعلوا كالمضطر الملتجئ إلى الفعل – انتهى كلامه.
[3130]:ليست في ظ وفي م: العهد – مكان الفعل.
[3131]:ليست في ظ، وفي م: العهد – مكان الفعل.
[3132]:سورة 16 آية 124.
[3133]:زيد في مد: و.
[3134]:في م:الحيوان.
[3135]:ليس في م.
[3136]:في ظ: تشاوم.
[3137]:كذا وبهامش م: لعله نسيبة
[3138]:في ظ: حيه – كذا.
[3139]:في الأصول: خلق راجع سورة 42 آية 11.