روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَلَوۡ أَنَّهُمۡ أَقَامُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِم مِّن رَّبِّهِمۡ لَأَكَلُواْ مِن فَوۡقِهِمۡ وَمِن تَحۡتِ أَرۡجُلِهِمۚ مِّنۡهُمۡ أُمَّةٞ مُّقۡتَصِدَةٞۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ سَآءَ مَا يَعۡمَلُونَ} (66)

{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة } أي وفوا حقهما بمراعاة ما فيهما من الأحكام التي من جملتها شواهد نبوته صلى الله عليه وسلم ومبشرات بعثته ، وليس المراد مراعاة جميع ما فيهما من الأحكام منسوخة كانت أو غيرها ، فإن ذلك ليس من الإقامة في شيء { والإنجيل وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ } من القرآن المجيد المصدق لما بين يديه كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما واختاره الجبائي وغيره ، وقيل : المراد بالموصول كتب أنبياء بني إسرائيل ككتاب شعيا وكتاب حزقيل وكتاب حبقوق وكتاب دانيال فإنها مملوءة بالبشائر بمبعثه صلى الله عليه وسلم ، واختاره أبو حيان ، ويجوز أن يراد به ما يعم ذلك والقرآن العظيم ، وإنزال الكتاب إلى أحد مجرد وصوله إليه ، وإيجاب العمل به وإن لم يكن الوحي نازلاً عليه ، والتعبير عن القرآن بذلك العنوان للإيذان بوجوب إقامته عليهم لنزوله اليهم وللتصريح ببطلان ما كانوا يدعونه من عدم نزوله إلى بني إسرائيل ، وتقديم { إِلَيْهِمُ } لما مر آنفاً ، وفي إضافة الرب إلى ضميرهم مزيد لطف بهم في الدعوة إلى الإقامة .

/ { لاَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } أي لأعطتهم السماء مطرها وبركتها والأرض نباتها وخيرها ، كما قال سبحانه : { لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } [ الأعراف : 96 ] قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد ، وقيل : المراد لانتفعوا بكثرة ثمار الأشجار وغلال الزروع ، وقيل : بما يهدل من الثمار من رءوس الأشجار وما يتساقط منها على الأرض ، وقيل : بما يأتيهم من كبرائهم وملوكهم وما يعطيه لهم سفلتهم وعوامهم ، وقيل : المراد المبالغة في شرح السعة والخصب لا تعيين الجهتين كأنه قيل : لأكلوا من كل جهة ، وجعله الطبرسي نظير قولك : فلان في الخير من قرنه إلى قدمه أي يأتيه الخير من كل جهة يلتمسه منها ، والمراد بالأكل الانتفاع مطلقاً ، وعبر عن ذلك به لكونه أعظم الانتفاعات ويستتبع سائرها ، ومفعول أكلوا محذوف لقصد التعميم أو للقصد إلى نفس الفعل كما في قولك : فلان يعطي ويمنع ، و ( من ) في الموضعين لابتداء الغاية .

وسنشير إن شاء الله تعالى في باب الإشارة إلى سر ذكر الأرجل ، وفي الشرطية الأولى ترغيب بأمر أخروي ، وفي الثانية ترغيب بأمر دنيوي وتنبيه على أن ما أصاب أولئك الفجرة من الضنك والضيق إنما هو من شؤم جناياتهم لا لقصور في فيض الفياض ، وتقديم الترغيب بالأمر الأخروي لأنه أهم إذ به النجاة السرمدية والنعيم المقيم ، وخولف بين العبارتين ، فقيل : أولاً : { واتقوا لَفَتَحْنَا } [ المائدة : 65 ] وثانياً : { أَقَامُواْ } ذا وذا سلوكاً لطريق البلاغة قيل : ويشبه أن يكون { مَا } في الشرطية الثانية إشارة إلى ما جرى على بني قريظة .

وبني النضير من قطع نخيلهم وإفساد زروعهم وإجلائهم عن أوطانهم ، فكأنه قيل في حقهم : لو أنهم أقاموا لأقاموا في ديارهم وانتفعوا بنخيلهم وزروعهم لكنهم تعدوا عن الإقامة فحرموا وتاهوا في مهامه الضنك إذ ظلموا ، وفرق بعضهم بين الشرطيتين بأن الأولى متحققة اللزوم في أهل الكتاب إلى يوم القيامة إذ لا شبهة في أنه إذا آمن كتابي واتقى كَفَّرَ الله تعالى عنه سيئاته وأدخله جل شأنه في رحمته سواء في ذلك معاصر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره ، ولا كذلك الشرطية الثانية فإن الظاهر اختصاص تحقق اللزوم في المعاصر إذ نرى كثيراً من أهل الكتاب اليوم بمعزل عن الإقامة المذكورة قد وسع عليه أكثر مما وسع على كثير ممن أقام ، ونرى الكثير أيضاً منهم يقيم التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ويؤمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه اللائق وهو في ضنك من العيش قبل ولا يتغير حاله ، وربما كان في رفاهية حتى إذا أقام وقفت به سفينة العيش فوقع في حيص بيص ، وجعلها كالشرطية الأولى ، وحمل التوسعة على ما هو أعم من التوسعة الصورية الظاهرة والتوسعة المعنوية الباطنية كأن يرزقهم سبحانه القناعة والرضا بما في أيديهم فيكون عندهم كالكثير وإن كان قليلاً لا أظنه يأخذ محلاً من فؤادك ولا أحسبه حاسماً لما يقال ، والقول بأنها كالأولى إلا أن الملازمة بين إقامتهم بأسرهم ما تقدم وانتفاعهم كذلك أي لو أنهم كلهم أقاموا التوراة الخ لأكلوا كلهم من فوقهم الخ لا لو أقام بعضهم لا أراه إلا منكراً من القول وزوراً . وذكر بعض المحققين أن بعضاً فسر قوله سبحانه : { لاَكَلُواْ } الخ بقوله : لوسع عليهم الرزق ، وفسر التوسعة بأوجه ذكرها ، ولم يجعله شاملاً لرزق الدارين ، ولو حمل على الترقي ، وتفصيل ما أجمل في الأول شرطاً وجزاءاً لكان وجهاً انتهى ، وبهذا الوجه أقول وإليه أتوجه ، وإني أراه كالمتعين إلا أن الشرطيتين عليه ليستا سواء ، والإشكال فيه باق من وجه ولا مخلص عنه على ما أرى إلا بالذهاب إلى اختلاف الشرطيتين ، ولعل النوبة تفضي إن شاء الله تعالى إلى تحقيق ما يتعلق بهذا المقام فتدبر

{ مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ } أي طائفة عادلة غير غالية ولا مقصرة كما روي عن الربيع وهم الذين أسلموا منهم وتابعوا النبي صلى الله عليه وسلم كما قال مجاهد والسدي وابن زيد واختاره الجبائي ، وأولئك كعبد الله بن سلام وأضرابه من اليهود وثمانية وأربعون من النصارى ، وقيل : المراد بهم النجاشي وأصحابه رضي الله تعالى عنهم ، والجملة مستأنفة مبنية على سؤال نشأ من مضمون الشرطيتين المصدرتين بحرف الامتناع الدالتين على انتفاء الإيمان والإتقاء والإقامة المذكورات كأنه قيل : هل كلهم مصرُّون على عدم الإيمان وأخويه ؟ فقيل : { مِنْهُمْ } الخ ، وتفسير الاقتصاد بالتوسط في العداوة بعيد ، { وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ } وهم الأجلاف المتعصبون ككعب بن الأشرف وأشباهه والروم .

{ سَاء مَا يَعْمَلُونَ } من العناد والمكابرة وتحريف الحق والإعراض عنه . وقيل : من الإفراط في العداوة { وَكَثِيرٌ } مبتدأ ، و { مِنْهُمْ } صفته ، و { سَاء } كبئس للذم .

وعن بعض النحاة أن فيها معنى التعجب كقضو زيد أي ما أقضاه ، فالمعنى هنا ما أسوأ عملهم ، وبعضهم يقول : هي لمجرد الذم والتعجب مأخوذ من المقام ، وتمييزها محذوف ، و { مَا } موصولة فاعل لها أي ساء عملاً الذي يعملونه ، ويجوز أن تكون { مَا } نكرة في موضع التمييز ، والجملة الإنشائية خبر للمبتدأ ، والكلام في ذلك شهير .

( هذا ومن باب الإشارة ) :{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة } بتحقق علوم الظاهر والقيام بحقوق تجليات الأفعال والمحافظة على أحكامها في المعاملات { والإنجيل } بتحقق علوم الباطن والقيام بحقوق تجليات الصفات والمحافظة على أحكامها في المكاشفات { وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ } من علم المبدأ والمعاد وتوحيد الملك والملكوت من عالم الربوبية الذي هو عالم الأسماء { لاَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ } أي لرزقوا من العالم الروحاني العلوم الإلهية والحقائق العقلية والمعارف الحقانية { وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } أي من العالم السفلي الجسماني العلوم الطبيعية والإدراكات الحسية ، وبالأول : يهتدون إلى معرفة الله تعالى ومعرفة الملك والجبروت ، وبالثاني : يهتدون إلى معرفة عالم الملك ، فيعرفون الله تعالى إذا تم لهم الأمران باسمه الباطن والظاهر بل بجميع الأسماء والصفات ، وللطيبي هنا كلام طيب يصلح لهذا الباب ، فإنه قال بعد أن حكى عن البعض أنه قال في { لأكلوا } الخ : أي لوسع عليهم خير الدارين ، وقلت : هذا في حق من عدد سيآتهم من أهل الكتاب إذا أقاموا مجرد حدود التوراة والإنجيل ، فما ظنك بالعارف السالك إذا قمع هوى النفس وانكمش من هذا العالم إلى معالم القدس معتصماً بحبل الله تعالى وسنة حبيبه صلى الله عليه وسلم فإنه تعالى يفيض على قلبه سجال فضائله وسحائب بركاته ، فكمن فيه كمون الأمطار في الأرض ، فتظهر ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه . وفي تعليق الأكل من فوق ومن تحت الأرجل على الإقامة بما ذكر ، واختصاص { مِنْ } الابتدائية ما يلوح إلى معنى قوله عليه الصلاة والسلام : " من عمل بما علم ورثه الله تعالى علم ما لم يعلم "

لأنهم إذا أقاموا العمل بكتاب الله سبحانه استنزل ذلك من فوقهم البركات ، فإذا استجدوا العمل لتلك البركات المنزلة وقاموا عليها بثبات أقدامهم الراسخة استنزل ذلك لهم من الله عز وجل بركات هي أزكى من الأولى ، فلا يزال العلم والعمل يتناوبان إلى أن ينتهي السالك إلى مقام القرب ومنازل العارفين ، وفي ذكر الأرجل إشارة إلى حصول ثبات القدم ورسوخ العلم ، وفي اقترانها مع تحت دلالة على مزيد الثبات وأنهم من الراسخين المقتبسين علومهم من مشكاة النبوة دون المتزلزلين الذين أخذوا علومهم من الأوهام ، ولذا كتب بعض العارفين بهذه الآية إلى الإمام إرشاداً له إلى معرفة طريق أهل الله عز شأنه انتهى . وقد وجه بعض أهل العبارة ممن هو مني في موضع التاج من الرأس لا زال باقياً ذكر الأرجل هنا بأنه للإشارة إلى أن المراد بقوله سبحانه : { مِن تَحْتِ أَرْجُلُهُمْ } الأمور السفلية الحاصلة بالسعي والاكتساب كما أن المراد بقوله تعالى : { مّن فَوْقِهِمْ } الأمور الحاصلة بمجرد الفيض ، وحينئذٍ يقوى الطباق بين المتعاطفين . ولعلك تستنبط مما ذكره الطيبي غير هذا الوجه مما يوافق أيضاً مشرب أهل الظاهر ، فتدبر { مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ } ، قيل : عادلة واصلة إلى توحيد الأسماء والصفات { وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ } [ المائدة : 66 ] وهم المحجوبون بالكلية الذين لن يصلوا إلى توحيد الأفعال بعد فضلاً عن توحيد الصفات ، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل .