التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَلَوۡ أَنَّهُمۡ أَقَامُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِم مِّن رَّبِّهِمۡ لَأَكَلُواْ مِن فَوۡقِهِمۡ وَمِن تَحۡتِ أَرۡجُلِهِمۚ مِّنۡهُمۡ أُمَّةٞ مُّقۡتَصِدَةٞۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ سَآءَ مَا يَعۡمَلُونَ} (66)

( 1 ) مقتصدة : معتدلة في مواقفها أو مستقيمة ، أو قليلة الانحراف .

{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( 65 ) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ( 1 ) وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ ( 66 ) } ( 65 – 66 ) .

في الآيتين :

( 1 ) تقرير استدراكي بأن أهل الكتاب لو آمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم واتقوا الله في سيرتهم لنالوا رضاء الله وجناته وغفرانه لسيئاتهم . وبأنهم لو اتبعوا التوراة والإنجيل وأقاموا أحكامها واتبعوا كذلك ما أنزل إليهم من ربهم لا تسع عليهم الرزق ، ولأتاهم من كل جهة أو من فوقهم بما ينزل عليهم من مطر ومن تحتهم بما ينبت الله من متنوع النبات .

( 2 ) وتقرير آخر بواقع حالهم من أن أعمال الكثيرين منهم وأخلاقهم سيئة معوجة منحرفة عما أنزل الله تعالى ، وليس فيهم إلا القليل الذين يسيرون بقصد واعتدال . وعدم الغلو في المواقف أو يسيرون سيرا مستقيما .

تعليق على الآية :

{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ . . . . . . . . . . . . . . . } الخ

والآية التالية لها وما فيهما من صور وتلقين

لم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيتين والمتبادر الواضح أنهما متصلتان بالآيات السابقة لهما سياقا وموضوعا .

ومع أن موضوع الحديث القريب هم اليهود ، فقد جاء الكلام في الآيتين عن أهل الكتاب وشملتا بذكر الإنجيل النصارى كما هو ظاهر . والذي نرجحه أن ذلك كما هو في الآيات السابقة من قبيل الاستطراد . ولا سيما أن مقام الكلام يتحمل التعميم ، كما يدرك ذلك عند إنعام النظر .

والمتبادر أن الآيتين قد احتوتا ردا على شكوى اليهود من الضيق بعد السعة والعسر بعد اليسر التي عبروا عنها بتلك الكلمة البذيئة في حق الله التي حكتها عنهم الآية ( 64 ) . فما وقع هو ناشئ عن انحرافهم واعوجاجهم . وليس بسبب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما زعموا ، ولو أنهم آمنوا كما آمن الناس وأقاموا أحكام كتب الله لا تسع عليهم الرزق ودرت عليهم الخيرات فضلا عما ينالونه من غفران الله لسيئاتهم وحسن جزائه الأخروي .

ومن المؤولين من صرف جملة : { وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ } إلى القرآن ومنهم من صرفها إلى كتب الله السابقة . والقول الأول معزو إلى ابن عباس . ونحن نراه الأوجه ؛ لأن ما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو منزل إلى الناس جميعا وأهل الكتاب من الجملة . ويعضد هذا الآية الأولى من الآيتين التي تقرر بأنهم لو آمنوا لكفر الله عنهم سيئاتهم ؛ حيث إن المقصود إيمانهم برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن ويعضده ذكر التوراة والإنجيل قبل الجملة ، وتعضده أيضا الآيتان ( 15 ، 16 ) من هذه السورة ؛ حيث خوطب فيهما أهل الكتاب بأنه قد جاءهم من الله نور وكتاب مبين . وبهذا يزول ما يرد من إشكال في لوم أهل الكتاب على عدم إقامتهم التوراة والإنجيل وإيذانهم بأنهم لو أقاموا لحسنت حالتهم . فالمطلوب منهم أو الواجب عليهم أن يقيموها ويقيموا في الوقت نفسه أحكام ما أنزل إليهم بواسطة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو القرآن .

وقد يرد إشكال آخر ، فما دام أن الدعوة الإسلامية موجهة إليهم ، وفي حال إيمانهم بها تكون الشريعة الإسلامية التي تقوم على القرآن والسنة النبوية القولية والفعلية هي شريعتهم ، فكيف يؤمرون والحالة هذه بإقامة التوراة والإنجيل ؟ وجوابا على هذا نقول : إن الآية قد جاءت في معرض التنديد لتقول لأهل الكتاب : إن ما أصابهم من ضيق وعسر إنما أصابهم لأنهم أيضا لم يقيموا أحكام كتبهم ويتبعوا وصاياها ، ومن جملة ذلك الإيمان برسالة النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم الواردة صفته في التوراة والإنجيل على ما شرحناه في سياق آية سورة الأعراف ( 157 ) التي تذكر ذلك .

ومن المؤولين من أول جملة : { أمة مقتصدة } بمعنى طائفة مؤمنة مسلمة .

وقالوا : إنها تعني الذين آمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من اليهود والنصارى . ومنهم من أولها بمعنى معتدلة في موقفها غير مغالية في عدائها ومناوئتها وانحرافها ( 1 ){[823]} . وكلا التأويلين وجيه ، غير أن هناك بعض آيات فيها استثناء وفيها تنويه بالمؤمنين منهم على سبيل الاستدراك مثل آيات سورة آل عمران ( 113 – 115 ) والنساء ( 46 ) و ( 162 ) والمائدة ( 13 ) مما قد يرجح الرأي الأول على الثاني . والله أعلم .


[823]:انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن. ومنهم من أورد القولين.