تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل}، فعملوا بما فيهما من أمر الرجم والزنا وغيره، ولم يحرفوه عن مواضعه في التوراة التي أنزلها الله عز وجل، فأما في الإنجيل، فنعت محمد صلى الله عليه وسلم، وأما في التوراة، فنعت محمد صلى الله عليه وسلم، والرجم والدماء وغيرها، ولم يحرفوها عن مواضعها، {و} أقاموا ب {وما أنزل إليهم من ربهم} في التوراة والإنجيل من نعت محمد صلى الله عليه وسلم، ومن إيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولم يحرفوا نعته، {لأكلوا من فوقهم}، يعني المطر، {ومن تحت أرجلهم}، يعني من الأرض: النبات، ثم قال عز وجل: {منهم أمة مقتصدة}، يعني عصبة عادلة في قولها من مؤمني أهل التوراة والإنجيل، فأما أهل التوراة، فعبد الله بن سلام وأصحابه، وأما أهل الإنجيل، فالذين كانوا على دين عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، ثم قال سبحانه: {وكثير منهم}، يعني من أهل الكتاب، يعني كفارهم، {ساء ما يعملون}: بئس ما كانوا يعملون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"ولَوْ أنّهُمْ أقامُوا التّورَاةَ والإنْجِيلَ": ولو أنهم عملوا بما في التوراة والإنجيل، "وَما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبّهِمْ": وعملوا بما أنزل إليهم من ربهم من الفرقان الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم.
فإن قال قائل: وكيف يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، مع اختلاف هذه الكتب ونسخ بعضها بعضا؟ قيل: وإن كانت كذلك في بعض أحكامها وشرائعها، فهي متفقة في الأمر بالإيمان برسل الله والتصديق بما جاءت به من عند الله، فمعنى إقامتهم التوراة والإنجيل وما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، تصديقهم بما فيها والعمل بما هي متفقة فيه وكلّ واحد منها في الخبر الذي فرض العمل به.
"لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أرْجُلِهِمْ": لأنزل الله عليهم من السماء قطرها، فأنبتت لهم به الأرض حبها ونباتها فأخرج ثمارها.
"وَمِنْ تَحْتِ أرْجُلِهِمْ": لأكلوا من بركة ما تحت أقدامهم من الأرض، وذلك ما تخرجه الأرض من حبها ونباتها وثمارها، وسائر ما يؤكل مما تخرجه الأرض...
"مِنْهُمْ أُمّةٌ": منهم جماعة. "مُقْتَصِدَةٌ": مقتصدة في القول في عيسى ابن مريم قائلة فيه الحقّ إنه رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، لا غالية قائلة إنه ابن الله، تعالى عما قالوا من ذلك ولا مقصرة قائلة هو لغير رشدة. "وكَثِيرٌ مِنْهُمْ": من بني إسرائيل من أهل الكتاب، اليهود والنصارى. "ساءَ ما يَعْمَلُونَ": كثير منهم سيئ عملهم، وذلك أنهم يكفرون بالله، فتكذّب النصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم وتزعم أن المسيح ابن الله، وتكذّب اليهود بعيسى وبمحمد صلى الله عليهما، فقال الله تعالى فيهم ذامّا لهم: "ساءَ ما يَعْمَلُونَ "في ذلك من فعلهم.
عن مجاهد: "مِنْهُمْ أُمّةٌ مُقْتَصِدَةٌ "وهم مسلمة أهل الكتاب "وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ".
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ} فيه تأويلان: أحدهما: مقتصدة على أمر الله تعالى. الثاني: عادلة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
المقتصد الواقف على حدِّ الأمر؛ لا يُقَصِّر فيُنْقِص، ولا يجاوزُ فيزيد.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ولو أنهم أقاموا التوراة} أي أظهروا أحكامها فهي كإقامة السوق وإقامة الصلاة، وذلك كله تشبيه بالقائم من الناس، إذ هي أظهر هيئات المرء، وقوله تعالى: {والإنجيل} يقتضي دخول النصارى في لفظ {أهل الكتاب} في هذه الآية، وقوله تعالى: {وما أنزل إليهم من ربهم} معناه من وحي وسنن على ألسنة الأنبياء...
{منهم أمة مقتصدة} معنى الاقتصاد في اللغة: الاعتدال في العمل من غير غلو ولا تقصير، وأصله القصد، وذلك لأن من عرف مطلوبه فإنه يكون قاصدا له على الطريق المستقيم من غير انحراف ولا اضطراب، أما من لم يعرف موضع مقصوده فإنه يكون متحيرا، تارة يذهب يمينا وأخرى يسارا، فلهذا السبب جعل الاقتصاد عبارة عن العمل المؤدي إلى الغرض، ثم في هذه الأمة المقتصدة قولان: أحدهما: أن المراد منها الذين آمنوا من أهل الكتاب: كعبد الله ابن سلام من اليهود، والنجاشي من النصارى، فهم على القصد من دينهم، وعلى المنهج المستقيم منه، ولم يميلوا إلى طرفي الإفراط والتفريط. والثاني: المراد منها الكفار من أهل الكتاب الذين يكونون عدولا في دينهم، ولا يكون فيهم عناد شديد ولا غلظة كاملة.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} إقامة التوراة والإنجيل: العمل بهما على أقوم الوجوه وأحسنها، سواء فيه عمل النفس وهو الإيمان والإذعان، وعمل القوى والجوارح. أي لو أقاموا ما في التوراة والإنجيل المنزلين من قبل بنور التوحيد والفضائل، المبشرين بالنبي الذي يأتي من أبناء أخيهم إسماعيل... وأقاموا بعد ذلك ما نزل إليهم من ربهم على لسان هذا النبي الذي بشرت به كتبهم وهو الفرقان الذي أكمل به الدين – لو أقاموا جميع ذلك ولم يفرقوا بين رسل الله وكتبه- لوسع الله عليهم بالتبع لذلك ما يهمهم من موارد الرزق، فأكلوا من الثمرات والبركات التي تنتج من أمطار السماء ونبات الأرض، وتمتعوا بما وعد الله به هذا النبي وأمته من سعة الملك.
وقيل إن المراد بما أنزل إليهم من ربهم سائر ما أوحاه الله تعالى إلى أنبيائهم من أمر الدين وآدابه والبشارة بالنبي الأخير صلى الله عليه وآله وسلم كزبور داود وحكم سليمان وكتب دنيال وأشيعا وغيرهما عليهم السلام، وفي مجلدات المنار بيان لكثير من هذه البشارات. وإقامة هذه الكتب من أسباب الصلاح والإصلاح، فلو أقامها قبل البعثة المحمدية أهل الكتاب، لما غلب عليهم ما عزاه المؤرخون إليهم من الطغيان والفساد، ولما عاندوا النبي المبشرة به ذلك العناد. ذلك بأنهم لم يقيموها ولا تدبروها، وإنما كان الدين عندهم أماني يتمنونها، وبدعا وتقاليد يتوارثونها. فهم بين غلو وتقصير، وإفراط وتفريط. والمراد أن دهماءهم وسوادهم الأعظم كان كذلك كما يعلم من تواريخهم وتواريخ غيرهم. ومن دقة القرآن وعدله، وتمحيص الحقيقة في ذلك بقوله:
{مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ} أي منهم جماعة معتدلة في أمر الدين، لا تغلو بالإفراط ولا تهمل بالتقصير. قيل هم العدول في دينهم، وقيل هم الذين أسلموا منهم. والمعتدلون لا تخلو منهم أمة. ولكنهم يكثرون في طور صح الأمة وارتقائها، ويقلون في طور فسادها وانحطاطها – وهل تهلك الأمم إلا بكثرة الذين يعملون السوء من الأشرار، وقلة الذين يعملون الصالحات من الأخيار؟ -وهؤلاء المعتدلون في الأمم هم الذين يسبقون إلى صلاح وإصلاح يقوم به المجددون من الأنبياء في عصورهم، ولما جاء الإصلاح الإسلامي على لسان خاتم النبيين والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم قبله المقتصدون من أهل الكتاب ومن غيرهم، فكانوا مع إخوانهم العرب من المجددين للتوحيد والفضائل والآداب، والمحيين للعلوم والفنون والعمران، فهل يعتبر المسلمون بذلك الآن، ويعودون إلى إقامة القرآن، وأخذ الحكمة من حيث يجدونها، وعدد الإصلاح والسيادة من حيث يرونها، أم يفتأون يسلكون بدينهم مع عدم إقامة كتابه، والتبجح بفضائل نبيهم على تركهم لسنته وآدابه؟
روى ابن أبي حاتم عن جبير بن نفير أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يوشك أن يرفع العلم) قلت: كيف وقد قرأنا القرآن وعلمناه أبناءنا؟ فقال: (ثكلتك أمك يا ابن نفير) إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة، أو ليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى؟ فما أغنى عنهم حين تركوا أمر الله)؟ ثم قرأ {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل} الآية. وأخرج أحمد وابن ماجه من طريق ابن أبي الجعد عن زياد بن لبيد قال: ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيئا فقال: (ذلك عند ذهاب العلم) قلنا يا رسول الله: وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ قال: (ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل و ينتفعون مما فيهما بشيء) اه من الدر المنثور.
والشاهد فيه أن العبرة بالعمل بما في الكتب الإلهية والاهتداء بهدايتها. وقد كان أهل الكتاب في ذلك العصر أبعد ما كانوا عن هداية دينهم مع شدة عصبيتهم الجنسية له، كما هو شأن المسلمين اليوم، على أن عصبيتهم الجنسية له قد ضعفت أيضا واستبدل كثير منهم جنسية اللغة أو الوطن.
ولا يمنعنا من الاعتبار بهذا الحديث ما علل به من الضعف وانقطاع السند والقلب والاختلاف، لأننا لا نريد أن نثبت به حقيقة ولا حكما شرعيا لا دليل عليهما سواه. وهو لا يدل على سلامة التوراة والإنجيل من التحريف بالزيادة والنقصان، لأنهما على ثبوت ذلك يشملان على التوحيد والهداية إلى البر والتقوى، ولكن أهلهما لا يقيمون ذلك، فالحجة عليهما قائمة على حال. وقد عملت أن هذا الحديث تثبت به العبرة، ولكن لا تقوم به حجة. وقد أشار الحافظ في ترجمة زياد بن لبيد من الإصابة إلى مخرجيه وعلله عندهم، ومنه يعلم قصور ما اكتفى به السيوطي في الدر المنثور.
تنبيه: إن الشهادة لبعض أهل الكتاب بالقصد والاعتدال في هذه الآية له نظائر في آيات أخرى كقوله تعالى: {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} [الأعراف: 159] وقوله: {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك} [آل عمران: 75] – الآية – وغير ذلك. ولو أن هذا القرآن وحي من الله لما وجدت فيه مثل هذه الشهادة، لأن الإنسان مهما كان عادلا فاضلا لا يرى الفضيلة المستترة في خصومه الذين يناوئونه ويحاربونه فيشهد لهم بها، بل أكثر الناس يعمي عن محاسن عدوه الظاهرة المستفيضة، وإن رأى شيئا منها يظن أنه نفاق وخداع...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإنهم لو كانوا حققوا في حياتهم الدنيا منهج الله الممثل في التوراة والإنجيل وما أنزله الله إليهم من التعاليم -كما أنزلها الله بدون تحريف ولا تبديل- لصلحت حياتهم الدنيا، ونمت وفاضت عليهم الأرزاق، ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم من فيض الرزق، ووفرة النتاج وحسن التوزيع، وصلاح أمر الحياة.. ولكنهم لا يؤمنون ولا يتقون ولا يقيمون منهج الله -إلا قلة منهم في تاريخهم الطويل مقتصدة غير مسرفة على نفسها (وكثير منهم ساء ما يعملون). وهكذا يبدو من خلال الآيتين أن الإيمان والتقوى وتحقيق منهج الله في واقع الحياة البشرية في هذه الحياة الدنيا، لا يكفل لأصحابه جزاء الآخرة وحده- وإن كان هو المقدم وهو الأدوم -ولكنه كذلك يكفل صلاح أمر الدنيا، ويحقق لأصحابه جزاء العاجلة.. وفرة ونماء وحسن توزيع وكفاية.. يرسمها في صورة حسية تجسم معنى الوفرة والفيض في قوله: (لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم)..
وهكذا يتبين أن ليس هنالك طريق مستقل لحسن الجزاء في الآخرة؛ وطريق آخر مستقل لصلاح الحياة في الدنيا، إنما هو طريق واحد، تصلح به الدنيا والآخرة، فإذا تنكب هذا الطريق فسدت الدنيا وخسرت الآخرة.. هذا الطريق الواحد هو الإيمان والتقوى وتحقيق المنهج الإلهي في الحياة الدنيا..
وهذا المنهج ليس منهج اعتقاد وإيمان وشعور قلبي وتقوى فحسب، ولكنه كذلك- وتبعا لذلك -منهج حياة إنسانية واقعية، يقام، وتقام عليه الحياة.. وإقامته- مع الإيمان والتقوى -هي التي تكفل صلاح الحياة الأرضية، وفيض الرزق، ووفرة النتاج، وحسن التوزيع، حتى يأكل الناس جمعيا- في ظل هذا المنهج -من فوقهم ومن تحت أرجلهم.
إن المنهج الإيماني للحياة لا يجعل الدين بديلا من الدنيا؛ ولا يجعل سعادة الآخرة بديلا من سعادة الدنيا، ولا يجعل طريق الآخرة غير طريق الدنيا.. وهذه هي الحقيقة الغائمة اليوم في أفكار الناس وعقولهم وضمائرهم وأوضاعهم الواقعية.
لقد افترق طريق الدنيا وطريق الآخرة في تفكير الناس وضميرهم وواقعهم، بحيث أصبح الفرد العادي- وكذلك الفكر العام للبشرية الضالة -لا يرى أن هنالك سبيلا للالتقاء بين الطريقين. ويرى على العكس أنه إما أن يختار طريق الدنيا فيهمل الآخرة من حسابه؛ وإما أن يختار طريق الآخرة فيهمل الدنيا من حسابه؛ ولا سبيل إلى الجمع بينهما في تصور ولا واقع.. لأن واقع الأرض والناس وأوضاعهم في هذه الفترة من الزمان توحي بهذا..
حقيقة: إن أوضاع الحياة الجاهلية الضالة البعيدة عن الله، وعن منهجه للحياة، اليوم تباعد بين طريق الدنيا وطريق الآخرة، وتحتم على الذين يريدون البروز في المجتمع، والكسب في مضمار المنافع الدنيوية، أن يتخلوا عن طريق الآخرة؛ وأن يضحوا بالتوجيهات الدينية والمثل الخلقية؛ والتصورات الرفيعة والسلوك النظيف، الذي يحض عليه الدين. كما تحتم على الذين يريدون النجاة في الآخرة أن يتجنبوا تيار هذه الحياة وأوضاعها القذرة، والوسائل التي يصل بها الناس في مثل هذه الأوضاع إلى البروز في المجتمع، والكسب في مضمار المنافع، لأنها وسائل لا يمكن أن تكون نظيفة ولا مطابقة للدين والخلق، ولا مرضية لله سبحانه..
ولكن.. تراها ضربة لازب! ترى أنه لا مفر من هذا الحال التعيس؟ ولا سبيل إلى اللقاء بين طريق الدنيا وطريق الآخرة؟
كلا.. إنها ليست ضربة لازب! فالعداء بين الدنيا والآخرة؛ والافتراق بين طريق الدنيا وطريق الآخرة، ليس هو الحقيقة النهائية التي لا تقبل التبديل.. بل إنها ليست من طبيعة هذه الحياة أصلا. إنما هي عارض ناشى ء من انحراف طارئ!
إن الأصل في طبيعة الحياة الإنسانية أن يلتقي فيها طريق الدنيا وطريق الآخرة؛ وأن يكون الطريق إلى صلاح الآخرة هو ذاته الطريق إلى صلاح الدنيا. وأن يكون الإنتاج والنماء والوفرة في عمل الأرض هو ذاته المؤهل لنيل ثواب الآخرة كما أنه هو المؤهل لرخاء هذه الحياة الدنيا؛ وأن يكون الإيمان والتقوى والعمل الصالح هي أسباب عمران هذه الأرض كما أنها هي وسائل الحصول على رضوان الله وثوابه الأخروي..
هذا هو الأصل في طبيعة الحياة الإنسانية.. ولكن هذا الأصل لا يتحقق إلا حين تقوم الحياة على منهج الله الذي رضيه للناس.. فهذا المنهج هو الذي يجعل العمل عبادة، وهو الذي يجعل الخلافة في الأرض وفق شريعة الله فريضة. والخلافة عمل وإنتاج، ووفرة ونماء، وعدل في التوزيع يفيض به الرزق على الجميع من فوقهم ومن تحت أرجلهم، كما يقول الله في كتابه الكريم.
إن التصور الإسلامي يجعل وظيفة الإنسان في الأرض هي الخلافة عن الله، بإذن الله، وفق شرط الله.. ومن ثم يجعل العمل المنتج المثمر، وتوفير الرخاء باستخدام كل مقدرات الأرض وخاماتها ومواردها- بل الخامات والموارد الكونية كذلك -هو الوفاء بوظيفة الخلافة. ويعتبر قيام الإنسان بهذه الوظيفة- وفق منهج الله وشريعته حسب شرط الاستخلاف -طاعة لله ينال عليها العبد ثواب الآخرة؛ بينما هو بقيامه بهذه الوظيفة على هذا النحو يظفر بخيرات الأرض التي سخرها الله له؛ ويفيض عليه الرزق من فوقه ومن تحت رجليه، كما يصور التعبير القرآني الجميل!
ووفق التصور الإسلامي يعتبر الإنسان الذي لا يفجر ينابيع الأرض، ولا يستغل طاقات الكون المسخرة له، عاصيا لله، ناكلا عن القيام بالوظيفة التي خلقه الله لها، وهو يقول للملائكة: (إني جاعل في الأرض خليفة). وهو يقول كذلك للناس: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه)، ومعطلا لرزق الله الموهوب للعباد.. وهكذا يخسر الآخرة لأنه خسر الدنيا!
والمنهج الإسلامي- بهذا -يجمع بين العمل للدنيا والعمل للآخرة في توافق وتناسق. فلا يفوت على الإنسان دنياه لينال آخرته، ولا يفوت عليه آخرته لينال دنياه. فهما ليسا نقيضين ولا بديلين في التصور الإسلامي.
هذا بالقياس إلى جنس الإنسان عامة، وبالقياس إلى الجماعات الإنسانية التي تقوم في الأرض على منهج الله.. فأما بالقياس إلى الأفراد فإن الأمر لا يختلف.. إذ أن طريق الفرد وطريق الجماعة- في المنهج الإسلامي -لا يختلفان ولا يتصادمان ولا يتعارضان.. فالمنهج يحتم على الفرد أن يبذل أقصى طاقته الجسمية والعقلية في العمل والإنتاج؛ وأن يبتغي في العمل والإنتاج وجه الله، فلا يظلم ولا يغدر ولا يغش ولا يخون، ولا يأكل من سحت، ولا يحتجز دون أخيه المحتاج في الجماعة شيئا يملكه- مع الاعتراف الكامل له بملكيته الفردية لثمرة عمله والاعتراف للجماعة بحقها في ماله في حدود ما فرض الله وما شرع -والمنهج يسجل للفرد عمله- في هذه الحدود ووفق هذه الاعتبارات -عبادة لله يجزيه عليها بالبركة في الدنيا وبالجنة في الآخرة.. ويربط المنهج بين الفرد وربه رباطا أقوى بالشعائر التعبدية التي يفرضها عليه؛ ليستوثق بهذا الرباط من تجدد صلته بالله في اليوم الواحد خمس مرات بالصلاة، وفي العام الواحد ثلاثين يوما بصوم رمضان، وفي العمر كله بحج بيت الله. وفي كل موسم أو في كل عام بإخراج الزكاة..
ومن هنا قيمة هذه الفرائض التعبدية في المنهج الإسلامي. إنها تجديد للعهد مع الله على الارتباط بمنهجه الكلي للحياة. وهي قربى لله يتجدد معها العزم على النهوض بتكاليف هذا المنهج، الذي ينظم أمر الحياة كلها، ويتولى شئون العمل والإنتاج والتوزيع والحكم بين الناس في علاقاتهم وفي خلافاتهم. ويتجدد معها الشعور بعون الله ومدده على حمل التكاليف التي يتطلبها النهوض بهذا المنهج الكلي المتكامل، والتغلب على شهوات الناس وعنادهم وانحرافهم وأهوائهم حين تقف في الطريق.. وليست هذه الشعائر التعبدية أمورا منفصلة عن شئون العمل والإنتاج والتوزيع والحكم والقضاء، والجهاد لإقرار منهج الله في الأرض، وتقرير سلطانه في حياة الناس.. إنما الإيمان والتقوى والشعائر التعبدية شطر المنهج، المعين على أداء شطره الآخر.. وهكذا يكون الإيمان والتقوى وإقامة منهج الله في الحياة العملية سبيلا للوفرة والفيض. كما بعد الله الناس في هاتين الآيتين الكريمتين..
إن التصور الإسلامي، وكذلك المنهج الإسلامي المنبثق منه، لا يقدم الحياة الآخرة بديلا من الحياة الدنيا- ولا العكس -إنما يقدمهما معا في طريق واحد، وبجهد واحد. ولكنهما لا يجتمعان كذلك في حياة الإنسان إلا إذا اتبع منهج الله وحده في الحياة- دون أن يدخل عليه تعديلات مأخوذة من أوضاع أخرى لم تنبثق من منهج الله، أو مأخوذة من تصوراته الذاتية التي لم تضبط بهذا المنهج -ففي هذا المنهج وحده يتم ذلك التناسق الكامل.
والتصور الإسلامي- وكذلك المنهج الإسلامي المنبثق منه -لا يقدم الإيمان والعبادة والصلاح والتقوى، بديلا من العمل والإنتاج والتنمية والتحسين في واقع الحياة المادية.. وليس هو المنهج الذي يعد الناس فردوس الآخرة ويرسم لهم طريقه؛ بينما يدع الناس أن يرسموا لأنفسهم الطريق المؤدي إلى فردوس الدنيا- كما يتصور بعض السطحيين في هذا الزمان! -فالعمل والإنتاج والتنمية والتحسين في واقع الحياة الدنيا تمثل في التصور الإسلامي- والمنهج الإسلامي -فريضة الخلافة في الأرض. والإيمان والعبادة والصلاح والتقوى، تمثل الارتباطات والضوابط والدوافع والحوافز لتحقيق المنهج في حياة الناس.. وهذه وتلك معا هي مؤهلات الفردوس الأرضي والفردوس الأخروي معا؛ والطريق هو الطريق، ولا فصام بين الدين والحياة الواقعية المادية كما هو واقع في الأوضاع الجاهلية القائمة في الأرض كلها اليوم. والتي منها يقوم في أوهام الواهمين أنه لا مفر من أن يختار الناس الدنيا أو يختاروا الآخرة، ولا يجمعوا بينهما في تصور أو في واقع.. لأنهما لا تجتمعان..!
إن هذا الفصام النكد بين طريق الدنيا وطريق الآخرة في حياة الناس، وبين العمل للدنيا والعمل للآخرة، وبين العبادة الروحية والإبداع المادي، وبين النجاح في الحياة الدنيا، والنجاح في الحياة الأخرى.. إن هذا الفصام النكد ليس ضريبة مفروضة على البشرية بحكم من أحكام القدر الحتمية! إنما هو ضريبة بائسه فرضتها البشرية على نفسها وهي تشرد عن منهج الله، وتتخذ لنفسها مناهج أخرى من عند أنفسها، معادية لمنهج الله في الأساس والاتجاه..
وهي ضريبة يؤديها الناس من دمائهم وأعصابهم في الحياة الدنيا، فوق ما يؤدونه منها في الآخرة وهو أشد وأنكى..
إنهم يؤدونها قلقا وحيرة وشقاء قلب وبلبلة خاطر، من جراء خواء قلوبهم من طمأنينة الإيمان وبشاشته وزاده وريه، إذا هم آثروا اطراح الدين كله، على زعم أن هذا هو الطريق الوحيد للعمل والإنتاج والعلم والتجربة، والنجاح الفردي والجماعي في المعترك العالمي! ذلك أنهم في هذه الحالة يصارعون فطرتهم، يصارعون الجوعة الفطرية إلى عقيدة تملأ القلب، ولا تطيق الفراغ والخواء. وهي جوعة لا تملؤها مذاهب اجتماعية، أو فلسفية، أو فنية.. على الإطلاق.. لأنها جوعة النزعة إلى إله..
وهم يؤدونها كذلك قلقا وحيدة وشقاء قلب وبلبلة خاطر، إذا هم حاولوا الاحتفاظ بعقيدة في الله، وحاولوا معها مزاولة الحياة في هذا المجتمع العالمي الذي يقوم نظامه كله وتقوم أوضاعه وتقوم تصوراته، وتقوم وسائل الكسب فيه ووسائل النجاح على غير منهج الله، وتتصادم فيه العقيدة الدينية والخلق الديني، والسلوك الديني، مع الأوضاع والقوانين والقيم والموازين السائدة في هذا المجتمع المنكود.
وتعاني البشرية كلها ذلك الشقاء، سواء اتبعت المذاهب المادية الإلحادية، أو المذاهب المادية التي تحاول استبقاء الدين عقيدة بعيدة عن نطام الحياة العملية.. وتتصور- أو يصور لها أعداء البشرية -أن الدين لله، وأن الحياة للناس! وأن الدين عقيدة وشعور وعبادة وخلق، والحياة نظام وقانون وإنتاج وعمل!
وتؤدي البشرية هذه الضريبة الفادحة.. ضريبة الشقاء والقلق والحيرة والخواء.. لأنها لا تهتدي إلى منهج الله الذي لا يفصل بين الدنيا والآخرة بل يجمع؛ ولا يقيم التناقض والتعارض بين الرخاء في الدنيا والرخاء في الآخرة، بل ينسق..
ولا يجوز أن تخدعنا ظواهر كاذبة، في فترة موقوتة، إذ نرى أمما لا تؤمن ولا تتقي، ولا تقيم منهج الله في حياتها، وهي موفورة الخيرات، كثيرة الإنتاج عظيمة الرخاء...
إنه رخاء موقوت، حتى تفعل السنن الثابتة فعلها الثابت. وحتى تظهر كل آثار الفصام النكد بين الإبداع المادي والمنهج الرباني.. والآن تظهر بعض هذه الآثار في صور شتى:
تظهر في سوء التوزيع في هذه الأمم، مما يجعل المجتمع حافلا بالشقاء، وحافلا بالأحقاد، وحافلا بالمخاوف من الانقلابات المتوقعة نتيجة هذه الأحقاد الكظيمة.. وهو بلاء على رغم الرخاء!..
وتظهر في الكبت والقمع والخوف في الأمم التي أرادت أن تضمن نوعا من عدالة التوزيع واتخذت طريق التحطيم والقمع والإرهاب ونشر الخوف والذعر، لإقرار الإجراءات التي تأخذ بها لإعادة التوزيع.. وهو بلاء لا يأمن الإنسان فيه على نفسه ولا يطمئن ولا يبيت ليلة في سلام!
وتظهر في الانحلال النفسي والخلقي الذي يؤدي بدوره- إن عاجلا أو آجلا -إلى تدمير الحياة المادية ذاتها. فالعمل والإنتاج والتوزيع، كلها في حاجة إلى ضمانة الأخلاق. والقانون الأرضي وحده عاجز كل العجز عن تقديم الضمانات لسير العمل كما نرى في كل مكان!
وتظهر في القلق العصبي والأمراض المنوعة التي تجتاح أمم العالم- وبخاصة أشدها رخاء ماديا -مما يهبط بمستوى الذكاء والاحتمال. ويهبط بعد ذلك بمستوى العمل والإنتاج، وينتهي إلى تدمير الاقتصاد المادي والرخاء! وهذه الدلائل اليوم واضحة وضوحا كافيا يلفت الأنظار!
وتظهر في الخوف الذي تعيش فيه البشرية كلها من الدمار العالمي المتوقع في كل لحظة؛ في هذا العالم المضطرب؛ الذي تحوم حوله نذر الحرب المدمرة.. وهو خوف يضغط على أعصاب الناس من حيث يشعرون أو لا يشعرون؛ فيصيبهم بشتى الأمراض العصبية.. ولم ينتشر الموت بالسكتة وانفجار المخ والانتحار كما انتشر في أمم الرخاء!
وتظهر هذه الآثار كلها بصورة متقدمة واضحة في ميل بعض الشعوب إلى الاندثار والدمار- وأظهر الأمثلة الحاضرة تتجلى في الشعب الفرنسي -وليس هذا إلا مثلا للآخرين، في فعل الافتراق بين النشاط المادي والمنهج الرباني؛ وافتراق الدنيا والآخرة، وافتراق الدين والحياة؛ أو اتخاذ منهج للآخرة من عند الله، واتخاذ منهج للدنيا من عند الناس؛ وإيقاع هذا الفصام النكد بين منهج الله وحياة الناس!
وقبل أن ننهي هذا التعليق على التقرير القرآني لتلك الحقيقة الكبيرة، نحب أن نؤكد أهمية التناسق في منهج الله بين الإيمان والتقوى وإقامة المنهج في الحياة الواقعية للناس، وبين العمل والإنتاج والنهوض بالخلافة في الأرض، فهذا التناسق هو الذي يحقق شرط الله لأهل الكتاب- ولكل جماعة من الناس -أن يأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم في الدنيا، وأن تكفر عنهم سيئاتهم ويدخلوا جنات النعيم في الآخرة؛ وأن يجتمع لهم الفردوس الأرضي- بالوفرة والكفاية مع السلام والطمأنينة -وفردوس الآخرة بما فيه من نعيم ورضوان..
ولكننا مع هذا التوكيد لا نحب أن ننسى أن القاعدة الأولى والركيزة الأساسية هي الإيمان والتقوى وتحقيق المنهج الرباني في الحياة الواقعية.. فهذا يتضمن في ثناياه العمل والإنتاج والترقية والتطوير للحياة.. فضلا على أن للصلة بالله مذاقها الذي يغير كل طعوم الحياة؛ ويرفع كل قيم الحياة؛ ويقوم كل موازين الحياة.. فهذا هو الأصل في التصور الإسلامي وفي المنهج الإسلامي، وكل شيء فيه يجيء تبعا له، ومنبثقا منه ومعتمدا عليه.. ثم يتم تمام الأمر كله في الدنيا والآخرة في تناسق واتساق.
وينبغي أن نذكر أن الإيمان والتقوى والعبادة والصلة بالله وإقامة شريعة الله في الحياة.. كل أولئك ثمرته للإنسان، وللحياة الإنسانية. فالله- سبحانه -غني عن العالمين.. وإذا شدد المنهج الإسلامي في هذه الأسس، وجعلها مناط العمل والنشاط؛ ورد كل عمل وكل نشاط لا يقوم عليها، وعده باطلا لا يقبل، وحابطا لا يعيش، وذاهبا مع الريح.. فليس هذا لأن الله سبحانه يناله شيء من إيمان العباد وتقواهم وعبادتهم له وتحقيق منهجه للحياة.. ولكن لأنه- سبحانه -يعلم أن لا صلاح لهم ولا فلاح إلا بهذا المنهاج..
في الحديث القدسي: عن أبى ذر- رضي الله عنه -عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن ربه- تبارك وتعالى -أنه قال:
" يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا.. يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم.. يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم.. يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم.. يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم.. يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني.. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا.. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد، ما نقص ذلك من ملكي شيئا.. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي، إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر.. يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها. فمن وجد خيرا فليحمد الله؛ ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".. [رواه مسلم]
وعلى هذا الأساس ينبغي أن ندرك وظيفة الإيمان والتقوى والعبادة وإقامة منهج الله في الحياة والحكم بشريعة الله.. فهي كلها لحسابنا نحن.. لحساب هذه البشرية.. في الدنيا والآخرة جميعا.. وهي كلها ضروريات لصلاح هذه البشرية في الدنيا والآخرة جميعا..
ونحسب أننا لسنا في حاجة لأن نقول: إن هذا الشرط الإلهي لأهل الكتاب غير خاص بأهل الكتاب. فالشرط لأهل الكتاب يتضمن الإيمان والتقوى وإقامة منهج الله المتمثل في ما أنزل إليهم في التوراة والإنجيل. وما أنزل إليهم من ربهم- وذلك بطبيعة الحال قبل البعثة الأخيرة -فأولى بالشرط الذين أنزل إليهم القرآن..
أولى بالشرط الذين يقولون: إنهم مسلمون.. فهؤلاء هم الذين يتضمن دينهم بالنص: الإيمان بما أنزل إليهم وما أنزل من قبل، والعمل بكل ما أنزل إليهم وما استبقاه الله في شرعهم من شرع من قبلهم.. وهم أصحاب الدين الذي لا يقبل الله غيره من أحد.. وقد انتهى إليه كل دين قبله؛ ولم يعد هناك دين يقبله الله غيره.. أو يقبل من أحد غيره.
فهؤلاء أولى أن يكون شرط الله وعهده لهم.. وهؤلاء أولى أن يرتضوا ما ارتضاه الله منهم، وأن يستمتعوا بما يشرطه الله لهم من تكفير السيئات ودخول الجنة في الآخرة؛ ومن الأكل من فوقهم ومن تحت أرجلهم في الدنيا..
إنهم أولى أن يستمتعوا بما يشرطه الله لهم بدلا من الجوع والمرض والخوف والشظف الذي يعيشون فيه في كل أرجاء الوطن الإسلامي- أو الذي كان إسلاميا بتعبير أصح -وشرط الله قائم؛ والطريق إليه معروف.. لو كانوا يعقلون..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقد أوْمأت الآية إلى أنّ سبب ضيق معاش اليهود هو من غضب الله تعالى عليهم لإضاعتهم التّوراة وكفرهم بالإنجيل وبالقرآن، أي فتحتّمت عليهم النقمة بعد نزول القرآن. ويحتمل أن يكون المراد: لو أقاموا هذه الكتب بعد مجيء الإسلام، أي بالاعتراف بما في التّوراة والإنجيل من التبْشير ببعثة محمّد صلى الله عليه وسلم حتّى يؤمنوا به وبما جاء به، فتكون الآية إشارة إلى ضيق معاشهم بعد هجرة الرسول إلى المدينة. ويؤيّده ما روي في سبب نزول قوله تعالى: {وقالت اليهود الله يد مغلولة} [المائدة: 64] كما تقدّم. ومعنى {لأكلوا مِن فوقهم ومن تحت أرجلهم} تعميم جهات الرزق، أي لرُزقوا من كلّ سبيل، فأكلوا بمعنى رزقوا، كقوله: {وتأكلون التراث أكْلاً لَمَّا} [الفجر: 19]. وقيل: المراد بالمأكول من فوق ثمارُ الشجر، ومن تحت الحُبوبُ والمقاثي، فيكون الأكل على حقيقته، أي لاستمرّ الخصب فيهم. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: {ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتَّقوا لفتحنا عليهم بَركَات من السماء والأرض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} في سورة الأعراف (96). واللام في قوله: {لأكلوا من فوقهم} إلخ مثل اللام في الآية قبلها. {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ}. إنصاف لفريق منهم بعد أن جرت تلك المذامّ على أكثرهم. والمقتصد يطلق على المطيع، أي غيرُ مسرف بارتكاب الذنوب، واقف عند حدود كتابهم، لأنّه يقتصد في سَرف نفسه، ودليل ذلك مقابلته بقوله في الشقّ الآخر {ساء ما يعملون}. وقد علم من اصطلاح القرآن التعبير بالإسراف عن الاسترسال في الذنوب، قال تعالى: {قل يا عبادي الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} [الزمر: 53]، ولذلك يقابل بالاقتصاد، أي الحذر من الذنوب، واختير المقتصد لأنّ المطيعين منهم قبل الإسلام كانوا غير بالغين غاية الطاعة، كقوله تعالى: {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مُقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله} [فاطر: 32]. فالمراد هنا تقسيم أهل الكتاب قبل الإسلام لأنّهم بعد الإسلام قسمان سيّء العمل، وهو من لم يسلم؛ وسابق في الخيرات، وهم الّذين أسلموا مثل عبد الله بن سَلاَم ومخيريق. وقيل: المراد بالمقتصد غير المُفْرطين في بغض المسلمين، وهم الّذين لا آمنوا معهم ولا آذوْهم، وضدّهم هم المسيئون بأعمالهم للمسلمين مثل كعب بن الأشرف. فالأوّلون بغضهم قلبي، والآخرون بغضهم بالقلب والعمل السيّء. ويطلق المقتصد على المعتدل في الأمر، لأنّه مشتقّ من القصد، وهو الاعتدال وعدم الإفراط. والمعنى مقتصدة في المخالفة والتنكّر للمسلمين المأخوذ من قوله: {وليزيدنّ كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربّك طغياناً وكفراً} [المائدة: 68]. والأظهر أن يكون قوله: {ساء} فعلاً بمعنى كان سيّئاً، و {ما يعملون} فاعله.