جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري  
{وَلَوۡ أَنَّهُمۡ أَقَامُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِم مِّن رَّبِّهِمۡ لَأَكَلُواْ مِن فَوۡقِهِمۡ وَمِن تَحۡتِ أَرۡجُلِهِمۚ مِّنۡهُمۡ أُمَّةٞ مُّقۡتَصِدَةٞۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ سَآءَ مَا يَعۡمَلُونَ} (66)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَلَوْ أَنّهُمْ أَقَامُواْ التّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رّبّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مّنْهُمْ أُمّةٌ مّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ } . .

يعني تعالى ذكره بقوله : ولَوْ أنّهُمْ أقامُوا التّورَاةَ والإنْجِيلَ ولو أنهم عملوا بما في التوراة والإنجيل ، وَما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبّهِمْ يقول : وعملوا بما أنزل إليهم من ربهم من الفرقان الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم .

فإن قال قائل : وكيف يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، مع اختلاف هذه الكتب ونسخ بعضها بعضا ؟ قيل : وإن كانت كذلك في بعض أحكامها وشرائعها ، فهي متفقة في الأمر بالإيمان برسل الله والتصديق بما جاءت به من عند الله فمعنى إقامتهم التوراة والإنجيل وما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم تصديقهم بما فيها والعمل بما هي متفقة فيه وكلّ واحد منها في الخبر الذي فرض العمل به .

وأما معنى قوله : لاَءَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أرْجُلِهِمْ فإنه يعني : لأنزل الله عليهم من السماء قطرها ، فأنبتت لهم به الأرض حبها ونباتها فأخرج ثمارها .

وأما قوله : وَمِنْ تَحْتِ أرْجُلِهِمْ فإنه يعني تعالى ذكره : لأكلوا من بركة ما تحت أقدامهم من الأرض ، وذلك ما تخرجه الأرض من حبها ونباتها وثمارها ، وسائر ما يؤكل مما تخرجه الأرض .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ولَوْ أنّهُمْ أقامُوا التّورَاةَ والإنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ يعني : لأرسل السماء عليهم مدرارا . وَمِنْ تَحْتِ أرْجُلِهِمْ : تخرج الأرض بركتها .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ولَوْ أنّهُمْ أقامُوا التّورَاةَ والإنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أرْجُلِهِمْ يقول : إذا لأعطتهم السماء بركتها والأرض نباتها .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : ولَوْ أنّهُمْ أقامُوا التّورَاةَ والإنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أرْجُلِهِمْ يقول : لو عملوا بما أنزل إليهم مما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنزلنا عليهم المطر فأنبت الثمر .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ولَوْ أنّهُمْ أقامُوا التّورَاةَ والإنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبّهِمْ أما إقامتهم التوراة : فالعمل بها ، وأما ما أنزل إليهم من ربهم : فمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه . يقول : لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أرْجُلِهِمْ أما من فوقهم : فأرسلت عليهم مطرا ، وأما من تحت أرجلهم ، يقول : لأنبتّ لهم من الأرض من رزقي ما يغنيهم .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : لاَءَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أرْجُلِهِمْ قال : بركات السماء والأرض . قال ابن جريج : لأكلوا من فوقهم المطر ، ومن تحت أرجلهم من نبات الأرض .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أرْجُلِهِمْ يقول : لأكلوا من الرزق الذي ينزل من السماء ، ومِنْ تَحْتِ أرْجُلِهِمْ يقول : من الأرض .

وكان بعضهم يقول : إنما أريد بقوله : لاَءَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أرْجُلِهِمْ التوسعة ، كما يقول القائل : هو في خير من فَرْقه إلى قدمه . وتأويل أهل التأويل بخلاف ما ذكرنا من هذا القول ، وكفى بذلك شهيدا على فساده .

القول في تأويل قوله تعالى : مِنْهُمْ أُمّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ .

يعني تعالى ذكره بقوله : مِنْهُمْ أُمّةٌ : منهم جماعة . مُقْتَصِدَةٌ يقول : مقتصدة في القول في عيسى ابن مريم قائلة فيه الحقّ إنه رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، لا غالية قائلة إنه ابن الله ، تعالى عما قالوا من ذلك ولا مقصرة قائلة هو لغير رشدة . وكَثِيرٌ مِنْهُمْ يعني من بني إسرائيل من أهل الكتاب ، اليهود والنصارى . ساءَ ما يَعْمَلُونَ يقول : كثير منهم سيىء عملهم ، وذلك أنهم يكفرون بالله ، فتكذّب النصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم وتزعم أن المسيح ابن الله ، وتكذّب اليهود بعيسى وبمحمد صلى الله عليهما ، فقال الله تعالى فيهم ذامّا لهم : ساءَ ما يَعْمَلُونَ في ذلك من فعلهم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : مِنْهُمْ أُمّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وهم مسلمة أهل الكتاب وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، قال : حدثنا عبد الله بن كثير ، أنه سمع مجاهدا يقول : تفرّقت بنو إسرائيل فرقا ، فقالت فرقة : عيسى هو ابن الله ، وقالت فرقة : هو الله ، وقالت فرقة : هو عبد الله وروحه وهي المقتصدة ، وهي مسلمة أهل الكتاب .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال الله : مِنْهُمْ أُمّةٌ مُقْتَصِدَةٌ : يقول : على كتابه وأمره . ثم ذمّ أكثر القوم ، فقال : وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : مِنْهُمْ أُمّةٌ مُقْتَصِدَةٌ يقول : مؤمنة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : مِنْهُمْ أُمّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ قال : المقتصدة أهل طاعة الله . قال : وهؤلاء أهل الكتاب .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، في قوله : مِنْهُمْ أُمّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ قال : فهذه الأمة المقتصدة الذين لا هم فسقوا في الدين ولا هم غلوْا . قال : والغلوّ : الرغبة ، والفسق : التقصير عنه .