{ يا أيها الذين ءامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ في المجالس } الخ أو لما نهى عز وجل عما هو سبب للتباغض والتنافر أمر سبحانه بما هو سبب لتواد والتوافق أي إذا قال لكم قائل كائناً من كان : توسعوا فليفسح بعضكم عن بعض في المجالس ولا تتضاموا فيها ، من قولهم : افسح عني أي تنح ، والظاهر تعلق { المجالس } بتفسحوا ، وقيل : متعلق بقيل .
وقرأ الحسن . وداود بن أبي هند . وقتادة . وعيسى تفاسحوا وقرأ الأخيران . وعاصم في المجالس ، والجمهور في المجلس بالإفراد ، فقيل : على إرادة الجنس لقراءة الجمع ، وقيل : على إرادة العهد ، والمراد به مجلسه صلى الله عليه وسلم ، والجمع لتعدده باعتبار من يجلس معه عليه الصلاة والسلام فإن لكل أحد منهم مجلساً ، وفي أخبار سبب النزول ما يؤيد كلا ، أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان «كان صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة في الصفة وفي المكان ضيق وكان عليه الصلاة والسلام يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء ناس من أهل بدر منهم ثابت بن قيس بن شماس وقد سبقوا إلى المجالس فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فرد النبي صلى الله عليه وسلم ثم سلم على القوم فردوا عليهم فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفسحوا لهم فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لبعض من حوله : قم يا فلان ويا فلان فأقام نفراً مقدار من قدم فشق ذلك عليهم وعرفت كراهيته وفي جوههم ، وقال المنافقون : ما عدل بإقامة من أخد مجلسه وأحب قربه لمن تأخر عن الحضور فأنزل الله تعالى هذه الآية { ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ } » الخ ، وكان ذلك ممن لم يفسح تنافساً في القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغبة فيه ولا تكاد نفس تؤثر غيرها بذلك .
وقال الحسن . ويزيد بن أبي حبيب : كان الصحابة يتشاحون في مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في الشهادة فنزلت { ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ } الخ ، والأكثرون على أنها نزلت لما كان عليه المؤمنون من التضام في مجلسه صلى الله عليه وسلم والضنة بالقرب منه وترك التفسح لمقبل ؛ وأياً ما كان فالحكم مطرد في مجلسه عليه الصلاة والسلام ومصاف القتال وغير ذلك ، وقرئ في المجلس بفتح اللام ، فإما أن يراد به ما أريد بالمكسور والفتح شاذ في الاستعمال ، وإما أن يراد به المصدر ، والجار متعلق بتفسحوا أي إذا قيل لكم توسعوا في جلوسكم ولا تضايقوا فيه { فافسحوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ } أي في رحمته .
أو في منازلكم في الجنة . أو في قبوركم . أو في صدوركم . أو في رزقكم أقوال .
وقال بعضهم : المراد يفسح سبحانه لكم في كل ما تريدون الفسح فيه أي مما ذكر وغيره ، وأنت تعلم أن الفسح يختلف المراد منه باختلاف متعلقاته كالمنازل والرزق والصدر فلا تغفل { وَإِذَا قِيلَ انشزوا } أي انهضوا للتوسعة على المقبلين { فَانشُزُواْ } فانهضوا ولا تتثبطوا ، وأصله من النشز وهو المرتفع من الأرض فإن مريد التوسعة على المقبل يرتفع إلى فوق فيتسع الموضع ، أو لأن النهوض نفسه ارتفاع قال الحسن . وقتادة . والضحاك : المعنى إذا دعيتم إلى قتال أو صلاة أو طاعة فأجيبوا ، وقيل : إذا دعيتم إلى القيام عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فقوموا ، وهذا لأنه عليه الصلاة والسلام كان يؤثر أحياناً الانفراد في أمر الإسلام أو لأداء وظائف تخصه صلى الله عليه وسلم لا تتأتى أو لا تكمل بدون الانفراد ، وعمم الحكم فقيل : إذا قال صاحب مجلس لمن في مجلسه : قوموا ينبغي أن يجاب ، وفعل ذلك لحاجة إذا لم يترتب عليه مفسدة أعظم منها مما لا نزاع في جوازه ، نعم لا ينبغي لقادم أن يقيم أحداً ليجلس في مجلسه ، فقد أخرج مالك . والبخاري . ومسلم . والترمذي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ولكن تفسحوا وتوسعوا » .
وقرأ الحسن . والأعمش . وطلحة . وجمع من السبعة انشزوا فانشزوا بكسر الشين منهما .
{ يَرْفَعِ الله الذين ءامَنُواْ مِنكُمْ } جواب الأمر كأنه قيل : إن تنشزوا يرفع عز وجل المؤمنين منكم في الآخرة جزاءاً للامتثال { والذين أُوتُواْ العلم } الشرعي { درجات } أي كثيرة جليلة كما يشعر به المقام ، وعطف الذين أوتوا العلم على { الذين كَفَرُواْ } من عطف الخاص على العام تعظيماً لهم بعدّهم كأنهم جنس آخر ، ولذا أعيد الموصول في النظم الكريم ، وقد أخرج الترمذي . وأبو داود . والدارمي عن أبي الدرداء مرفوعاً «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب » وأخرج الدارمي عن عمر بن كير عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام فبينه وبين النبيين درجة » وعنه صلى الله عليه وسلم : «بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة » وعنه عليه الصلاة والسلام «يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء . ثم العلماء . ثم الشهداء » فأعظم بمرتبة بين النبوة والشهادة بشهادة الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ، وعن ابن عباس " خير سليمان عليه السلام بين العلم والملك والمال فاختار العلم فأعطاه الله تعالى الملك والمال تبعاً له " .
وعن الأحنف «كاد العلماء يكونوا أرباباً » وكل عز لم يوطد بعلم فإلى ذل ما يصير ، وعن بعض الحكماء : ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم ؟ وأي شيء فاته من أدرك العلم ؟ والدال على فضل العلم والعلماء أكثر من أن يحصى ، وأرجى حديث عندي في فضلهم ما رواه الإمام أبو حنيفة في مسنده عن ابن مسعود قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يجمع الله العلماء يوم القيامة فيقول : إني لم أجعل حكمتي في قلوبكم إلا وأنا أريد بكم الخير اذهبوا إلى الجنة فقد غفرت لكم على ما كان منكم " .
وذكر العارف الياس الكوراني أنه أحد الأحاديث المسلسلة بالأولية ، ودلالة الآية على فضلهم ظاهرة بل أخرج ابن المنذر عن ابن مسعود أنه قال : ما خص الله تعالى العلماء في شيء من القرآن ما خصهم في هذه الآية فضل الله الذين آمنوا وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم بدرجات وجعل بعضهم العطف عليه للتغاير بالذات بحمل { الذين كَفَرُواْ } على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم ، وفي رواية أخرى عنه يا أيها الذين آمنوا افهموا معنى هذه الآية ولترغبكم في العلم فإن الله تعالى يرفع المؤمن العالم فوق الذي لا يعلم .
وادعى بعضهم أن في كلامه رضي الله تعالى عنه إشارة إلى أن الذين أوتوا معمول لفعل محذوف والعطف من عطف الجمل أي ويرفع الله تعالى الذي أوتوا العلم خاصة درجات ، ونحوه كلام ابن عباس ، فقد أخرج عنه ابن المنذر . والبيهقي في المدخل . والحاكم وصححه أنه قال في الآية : يرفع الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤتوا العلم درجات .
وقال بعض المحققين : لا حاجة إلى تقدير العامل ، والمعنى على ذلك من غير تقدير ، واختار الطيبي التقدير وجعل الدرجات معمولاً لذلك المقدر ، وقال : يضمر للمذكور أحط منه مما يناسب المقام نحو أن يقال : يرفع الله الذين آمنوا في الدنيا بالنصر وحسن الذكر أو يرفعهم في الآخرة بالإيواء إلى ما لا يليق بهم من غرف الجنات ، ويرفع الذين أوتوا العلم درجات تعظيماً لهم ، وجوز كون المراد بالموصولين واحداً والعطف لتنزيل تغاير الصفات بمنزلة تغاير الذات ، فالمعنى يرفع الله المؤمنين العالمين درجات ، وكون العطف من عطف الخاص على العام هو الأظهر ، وفي الانتصاف في الجزاء برفع الدرجات مناسبة للعمل المأمور به وهو التفسح في المجالس وترك ما تنافسوا فيه من الجلوس في أرفعها وأقربها من النبي صلى الله عليه وسلم فلما كان الممتثل لذلك يخفض نفسه عما يتنافس فيه من الرفعة امتثالاً وتواضعاً جوزي على تواضعه برفع الدرجات كقوله : " من تواضع لله تعالى رفعه الله تعالى " ثم لما علم سبحانه أن أهل العلم بحيث يستوجبون عند أنفسهم وعند الناس ارتفاع مجالسهم خصهم بالذكر عند الجزاء ليسهل عليهم ترك ما لهم من الرفعة في المجلس تواضعاً لله عز وجل .
وقيل : إنه تعالى خص أهل العلم ليسهل عليهم ترك ما عرفوا بالحرص عليه من رفعة المجالس وحبهم للتصدير ، وهذا من مغيبات القرآن لما ظهر من هؤلاء في سائر الاعصار من التنافس في ذلك .
والخفاجي أدرج هذا في نقل كلام صاحب الانتصاف وكلامه على ما سمعته أوفق بالأدب مع أهل العلم ، ولا أظن بالذين أوتوا العلم المذكورين في الآية أنهم كالعلماء الذين عرّض بهم الخفاجي ، نعم إنه عليه الرحمة صادق فيما قال بالنسبة إلى كثير من علماء رخر الزمان كعلماء «زمانه وكعلماء زماننا لكن كثير من هؤلاء إطلاق اسم العالم على أحدهم مجاز لا تعرف علاقته ، ومع ذلك قد امتلأ قلبه من حب الصدر وجعل يزاحم العلماء حقيقة عليه ولم يدر أن محله لو أنصف العجز ، هذا واستدل غير واحد بالآية على تقديم العالم ولو بأهلياً على الجاهل ولو هاشمياً شيخاً ، وهو بناء على ما تقدم من معناها لدلالتها على فضل العالم على غيره من المؤمنين وأن الله تعالى يرفعه يوم القيامة عليه ، ويجعل منزلته فوق منزلته فينبغي أن يكون محله في مجالس الدنيا فوق محل الجاهل .
وقال الجلال السيوطي في كتاب الأحكام قال قوم : معنى الآية يرفع الله تعالى المؤمنين العلماء منكم درجات على غيرهم فلذلك أمر بالتفسح من أجلهم ، ففيه دليل على رفع العلماء في المجالس والتفسح لهم عن المجالس الرفيعة انتهى .
وهذا المعنى الذي نقله ظاهر في أن المعاطفين متحدان بالذات والعطف لجعل تغاير الصفات بمنزلة تغاير الذات وهو احتمال بعيد ، ويظهر منه أيضاً أنه ظن رفع يرفع على أن الجملة استئناف وقع جواباً عن السؤال عن علة الأمر السابق مع أن الأمر ليس كذلك ، ويحتمل أنه علم مجزوم في جواب الأمر لكن لم يعتبر كون الرفع درجات جزاءه الامتثال على نحو كون الفسح قبله جزاءه فتأمله { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } تهديد لمن لم يمتثل بالأمر واستكره ، وقرئ بما يعملون بالياء التحتانية .